أسس الدستور لفصل واضح للسلط واكد على ذلك عند التطرق للقضاء معتبرا اياه سلطة مستقلة ، مانحا للمجلس الاعلى للسلطة القضائية دورا محوريا في هذه الاستقلالية بالإشراف الكامل على مهنة القضاء ومسار القاضي وبالمقابل خول لهذا الاخير امكانية الطعن في مقرراته والحق في تأسيس جمعيات مهنية مقرونا بحرية التعبير. من البديهي ان الملامح الكبرى للسلطة القضائية –الموصوفة بالاستقلالية في الدستور- ستظهر بصدور القوانين التنظيمية المهيكلة للمجلس الاعلى السلطة القضائية و النظام الاساسي للقضاة في حين ان التشكل النهائي والسليم لهذه السلطة لن يتم الا بملاءمة القوانين بمنهج "التأويل الديمقراطي."
فاذا كان المجلس الاعلى للسلطة القضائية هو محور الاستقلال باعتباره الساهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة فان الحق الدستوري للقضاة في تأسيس جمعيات مهنية من بين اهم اهدافه ، كما نصت عليه مبادئ الامم المتحدة حول استقلال السلطة القضائية ، حماية هذا الاستقلال .
ان استقلال السلطة القضائية لا يكون الا بضمانها على المستويين المؤسساتي - المجلس الاعلى للسلطة القضائية- و الفردي – استقلال مهني مقرون بحق التنظيم - وهو ما يعني ان الدستور يقر لجمعيات القضاة المهنية دورا مساهما لتحقيق هذه الغاية ، ليس فقط كمبدأ دستوري كبير ولكن كتكريس لذلك في الممارسة القضائية في ظل سياق سياسي واجتماعي سمتهما التجاذب والحركية ليس دائما في اتجاه ايجابي او لفائدة تعزيز الاستقلالية.
قام القضاة المغاربة مباشرة بعد دخول الدستور حيز النفاذ بتأسيس نادي قضاة المغرب ، والذي من خلال قانونه الاساسي و عمله خلال السنتين الاخيرتين تظهر بعض ملامح دور الجمعيات المهنية للقضاة1 و التي من المفترض ممارسته امام المجلس الاعلى للسلطة القضائية ومن خلاله ، مهما ضاقت او توسعت اختصاصاته .
يمكن اجمال هذا الدور من خلال ثلاث مهام اساسية ليست بالضرورة جديدة على حقل عمل اي جمعيات مهنية اخرى الا انها جديدة بالنسبة للجسم القضائي المغربي2.
الدفاع
من الطبيعي ان تقوم اية جمعية مهنية بالدفاع عن منخرطيها وتمثيلهم امام المجالس التأديبية- متى رغبوا في ذلك –التي تنظر فيما نسب اليهم كمهنيين من اخلالات تستوجب البت ، وقد بدأ النادي3 في ممارسة هذه المهمة امام المجلس الاعلى للقضاء الحالي في بعض القضايا وان كانت محدودة ، حيث من المتوقع ان يتوسع هذا التمثيل بهيكلة المجلس الاعلى للسلطة القضائية ووعي القضاة المعنيين بأهميته ، فهو يعزز ضمانات المسطرة الـتأديبية ، وبالتالي فلا محيد عن التنصيص على ذلك قانونا باعتبار الامر
ممارسة عادية وطبيعية كما هو حال التجارب الدولية ، كما انه من المحتمل ان يتمسك القضاة بهذا التمثيل حتى في المراحل الاولى من مسطرة التفتيش القضائي مادام قد اصبح المجلس الاعلى للسلطة القضائية صاحب الاختصاص.
فالدفاع عن القضاة وتمثيلهم خلال درجات المسطرة التأديبية أمام المجلس سيعزز من الضمانات الممنوحة للقضاة و يعمق التضامن ويخلق رصيدا للاطار التمثيلي و يساعده على التأطير . بالمقابل هناك بعد آخر لمهمة الدفاع والذي سيكون منوطا بالجمعيات المهنية للقضاة ، وهو الدفاع عن استقلال القضاء والقاضي في مواجهة مختلف القضايا التي يتداولها الراي العام فيصبح القاضي او السلطة القضائية محط اتهام او تأثير .
إنّ المجلس وإنْ كان يسهر على تطبيق ضمانات استقلال القاضي فانه يظهر من خلال الدستور عدم امكانه التصدي لتلك القضايا في الإبان ، ربما في وقت لاحق ، من خلال آرائه و صلاحياته في وضع التقارير واصدار التوصيات عن القضاء ومنظومة العدالة . بالمقابل ستبقى للجمعيات حرية الاثارة الفورية لمختلف محاولات التأثير، التدخل او المس بالاستقلالية تلقائيا ، وكذلك عبر الواجب الذي القاه الدستور على القاضي ، خاصة ان ممارسة هذا الحق من طرف القاضي مفردا ليس بالأمر الهين كما يمكن ان يعتقد البعض فبالرغم من ضمانه دستوريا الا ان تفعيله في الواقع لن يتم الا بنوع من المؤازرة والدعم. من خلال مهمة الدفاع العامة ستتمكن الجمعيات المهنية امام المجلس من تقوية دوره كمطبق لضمان استقلال القاضي الى حماية استقلال السلطة القضائية.
المشاركة
قدم نادي قضاة المغرب مؤخرا مذكرة حول تصوره عن هيكلة المجلس الاعلى للسلطة القضائية ، وهو ما يدخل ضمن مهمة المشاركة العامة في بلورة مفهوم متقدم عن استقلال سلطة القضاء.
ان مهمة المشاركة من المرجح ان تتبلور بشكل أكثر تحديدا بتفاعل مع اختصاصات المجلس عند ابدائه لآرائه حسب الدستور بخصوص العدالة متى طلب منه ذلك او وضع التقارير و اصدار التوصيات ، فهذا الامر لن يستقيم الا بالتشاور العام والموسع وبالانفتاح خصوصا على ممثلي القضاة 4 ، هنا سيكون مطلوبا من الجمعيات المهنية تقديم الاقتراحات ومواكبة حاجيات المهنة وتكثيف الجهد التنظيمي وابراز مظاهر الابتكار لتجد تلك الاقتراحات صداها في ما سيصدر عن المجلس من تقارير و توصيات او اراء ، وهو ما يعني ان الجمعيات المهنية يجب ان تشكل قوة اقتراحية حاضرة امام المجلس مبادرة الى المشاركة او على الاقل جاهزة متى طلب منها ذلك ، خاصة ان تركيبة المجلس متنوعة ، تجد فلسفتها في المشاركة المجتمعية في الشأن القضائي .
ان مشاركة الجمعيات سيتيح للقضاة ايجاد موطئ قدم في صناعة القرار الذي يهم شأنهم - قانون، توجه استراتيجي ، سياسة عامة ...- والذي سيمر بالضرورة عبر المجلس.
إن أقرب ما قام به القضاة ضمن مفهوم المشاركة هذا ودأبوا عليه 5 توظيفهم باعتبارهم خبراء قانون تحت إشراف وزارة العدل التي تبلور التوجهات العامة لكل ما هو قضاء مهنة ومرفقا ، اما الان وقد اصبح للقضاة تمثيل فان ذلك سيعني مشاركة جماعية مستقلة و مؤثرة .
الرصد
الرصد يمر اولا عبر تتبع نشاط المجلس وطريقة اشتغاله ، فالجمعية المهنية للقضاة لابد ان ترصد نشاط المجلس - بعد ان اصبحت تركيبته غير متجانسة - لكشف ما يمكن ان يشكل مكمنا للخلل في عمله الذي يفترض ان يكون منظما ، واضحا بمعايير معروفة ومحددة قانونا ، ثم تبلغه بذلك .مهمة الرصد هذه ستساعد على الرقي بجودة العمل وتمنع التعسف ولا تعني بتاتا التطاول على الاشخاص او المؤسسات .
كما ان الرصد ثانيا ، يعني تغطية مختلف الظواهر السلبية التي تظهر هنا وهناك والتي من المحتمل ان تؤثر على عمل المجلس كمطبق لضمانات استقلال القاضي ، او إثارة الانتباه لسلوكيات قد لا تكون جلية لكنها مؤثرة على استقلال القضاء خاصة ان السلطة السياسية – برلمان وحكومة- في عدة حالات تجد نفسها نتيجة الاحداث المتسارعة في مجال السلطة القضائية من اجل التأثير او الاستقطاب، وبالموازاة فان انفلات الجماهير احيانا من عقالها يؤثر على العدالة في عمقها.
فالرصد الذي ستمارسه الجمعيات سيساعد المجلس كذلك على ايجاد مصادر لآرائه او تقاريره او توصياته و سيجعله بمنأى نسبي عن "السجال العقيم " ، بالمقابل يسكون عليه قبول النقد خصوصا ، المنصب على تدبير الشأن المهني المحض.
ان عملية الرصد الممنهجة والمنتظمة عبر تقارير واحصاءات تساعد الجمعية المهنية على القيام بالمهمتين السابقتين ، وقد سار النادي على هذا النهج نسبيا ، الا انه امام محدودية اختصاصات المجلس الحالي وغموض عمله كانت مهمة الرصد في مجملها عامة او تهم شؤون مهنية اخرى بالرغم من نقد بعض نتائج أشغاله مما حال دون تحقيق الغاية المنشودة ، في حين عمل النادي مثلا على اثارة عدد مهم من الامور الماسة باستقلال القاضي و القضاء...
وفي الاخير يمكن استنتاج أن دور الجمعيات المهنية امام المجلس الاعلى للسلطة القضائية سيكون حاسما لإسماع صوت القضاة داخله ، خاصة أن الاعضاء القضاة المنتخبين بالمجلس ، حسب تراكم التجربة في السنوات الماضية ، ربما سيسير دورهم الرسمي نحو الانصهار مع باقي المكونات الاخرى ، اما المجلس فمرجو منه تأسيس ثقافة الانفتاح والتشارك التي هي كامنة في روح نصوصه الدستورية المؤسسة لتحقيق الهدف الرئيسي والمشترك وهو استقلال السلطة القضائية وحمايته.
الهوامش
1يلاحظ ان باقي الجمعيات المهنية بعضها غير معروف والبعض الاخر يطبع مواقفها الالتباس.
2 أسس القضاة إبان عقد الستينات جمعية مهنية سميت رابطة القضاة تعد بحق رائدة في هذا المجال
3 تفاديا للتكرار فان النادي سيكون اختصارا لنادي قضاة المغرب ، والمجلس : المجلس الاعلى للسلطة القضائية او المجلس الاعلى الحالي حسب السياق، السلطة : السلطة القضائية ، الجمعية او الجمعيات : الجمعيات المهنية للقضاة
4- المشاركة هنا تقتضي وجود جمعيات مهنية تتمتع بالتمثيلية الحقيقية و بأسلوب ديمقراطي في النقاش واتخاذ القرار.
5- تواجد القضاة مثلا في الحوار الذي نظمته وزارة العدل مؤخرا.