لعل الكثيرين قد يعتقدون جديا أن دسترة جملة الحقوق و الحريات الأساسية التي يتمتع بها كافة الأشخاص سواء كانت فردية أو جماعية لم تأت بأي منفعة ما دام جاء ذكرها في النسخ السابقة و لكنها في حقيقة الأمر تنطوي على عدة التزامات ذات طبيعة قانونية و سياسية محضة ملقاة على عاتق السلطات العمومية التي لا نعثر فعلا على المقصود بها.
و من وجهة نظرنا البسيطة نرى أن التوجه الذي استقر عليه المشرع المغربي كان صائبا إلى حد كبير على أساس أن صعوبة الإحاطة به تكمن في شموليته مما يجعلنا أمام مفهوم واسع يتضمن معظم أو إن صح التعبير كل الآليات الرسمية و المؤسسات المستقلة أو التابعة للوصاية المباشرة للسلطة الحكومية التنفيذية.
و بما أن مسؤولية التفعيل الأمثل للحقوق التي تحتل مكانة بارزة على مستوى الدستور المغربي الصادر حديثا سنة 2011 تعتبر جسيمة بالنسبة للسلطات العمومية فإن المقام لا يكفي تماما لتحليلها و بالتالي و وعيا منا بالأهمية البالغة التي تكتسيها قضية التشغيل ضمن أولويات الأوراش الكبرى المفتوحة في بلادنا منذ اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش أسلافه المنعمين سيتم الاقتصار على توضيح مختلف ملامح المجهودات الجبارة المبذولة في هذا المجال الحيوي قبل التطرق إلى بعض العوامل التي تقف عائقا في الوقت الراهن في وجه مسلسل النهوض بالتنمية البشرية و تأهيل النسيج الاقتصادي و الاجتماعي.
المحور الأول: رصد ملامح مجهودات السلطات العمومية في مجال التشغيل
لرصد ملامح المجهودات الجبارة التي تقوم بها السلطات العمومية في بلادنا في سبيل ترسيخ الحق الدستوري في الشغل خصوصا فيما يتعلق بفئة الشباب ينبغي التمييز بين نوعين رئيسيين: الأول مرتبط بالقطاع العام أما الثاني فله صلة وثيقة بالقطاع الخاص.
الفرع الأول: حق الشغل في القطاع العام
لا شك في أن الدولة المغربية منذ الحصول على الاستقلال ما فتئت تسخر كل إمكانياتها في سبيل الرفع نسبة التشغيل على صعيد منشاتها و مرافقها العامة من خلال طريقتين:
الفقرة الأولى : التشغيل المباشر
إلى غاية عهد غير بعيد كانت تعتمد السلطات العمومية على هاته الطريقة التي لا تخضع لأي مقياس أو عنصر موضوعي بحيث فرضته بعض الظروف المحلية أو الوطنية أو الإقليمية ليس على المستوى السياسي فقط و إنما أيضا على المستويين الاقتصادي و الاجتماعي.غير أنه في الآونة الحالية يلاحظ تراجع صارخ عن هذا الاختيار بعلة أن الدستور ينص صراحة في فصله 31 على تكافؤ الفرص في ولوج الوظيفة العمومية.
الفقرة الثانية التشغيل بواسطة التباري
توخى الظهير الذي رأى النور لأول مرة عام 1958 و المعدل و المتمم بموجب نصوص قانونية و تنظيمية لاحقة تحقيق مبدأ المساواة على ارض الواقع بين جميع المترشحين للحصول على فرصة شغل عدد المناصب المالية الشاغرة المفتوحة سنويا و الموزعة حسب حاجيات و متطلبات القطاعات الوزارية المعنية و ذلك عن طريق إجراء موحد يتمثل في اجتياز المباراة بشقيها الكتابي و الشفوي.
الفرع الثاني: حق الشغل في القطاع الخاص
حرصت الدولة المغربية على دعم المقاولات و خاصة المتوسطة و الصغرى منها من خلال وضع مناخ الاستثمار الملائم لها و مرد هذا الاهتمام المتزايد إلى المساهمة الايجابية للقطاع الخاص إذ يعد في جوهره إحدى اللبنات التي لا يمكن الاستغناء عنها في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للوطن باعتباره منتجا للثروة و مولدا لمناصب الشغل المباشرة و غير المباشرة باستمرار. و من اجل مساعدة فئات عريضة من الأشخاص لإيجاد عمل قار و لائق في القطاع الخاص عمل المغرب على بلورة و مواكبة مجموعة من المشاريع في إطار الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل الكفاءات أو في إطار وكالات التشغيل المؤقت.
الفقرة الأولى في إطار الوكالة الوطنية لإنعاش الكفاءات و التشغيل
طبقا للقانون المحدث لها تلعب الوكالة الوطنية دورا رياديا في تقديم الدعم و التاطير اللازمين لفئة الشباب حاملي الشهادات الجامعية العليا للحصول على شغل حسب الكفاءة و نوع الدبلوم عبر برنامجي تأهيل و إدماج. و مع الأسف الشديد يعاب على هذين البرنامجين أنهما إقصائيين بامتياز نظرا لوجود بعض الشروط القبلية التي يجب للمترشح الامتثال لها حرفيا. إلى جانب ذلك تعمل الوكالة على تشجيع الشباب حاملي المشاريع الخلاقة على حس المبادرة و الانخراط في مشاريع التشغيل الذاتي (برنامج مقاولتي) التي لم تعط أكلها إلى حد الآن و تظل نتائجه جد متواضعة.
الفقرة الثانية: في إطار وكالات التشغيل المؤقت
بعد الحصول على الإذن المسبق لمزاولة نشاطها المشار إليه في المواد من إلى من مدونة الشغل تغدو وكالات التشغيل المؤقت بمثابة شريك حقيقي للمقاولات الراغبة في الاستفادة من خدماتها بحيث تلبي حاجياتها من خلال البحث المتواصل قصد توفير اليد العاملة المؤهلة أكاديميا و تقنيا لها و بأقل تكلفة.
المحور الثاني: مكامن محدودية مجهودات السلطات العمومية في مجال التشغيل
رغم ضرورة الاعتراف بالمجهودات المبذولة من طرف السلطات العمومية في مجال التشغيل إلا أن بعض العوامل البنيوية و الهيكلية تؤدي إلى محدوديته.
الفرع الأول عدم ملائمة التكوين مع متطلبات سوق الشغل
يرجع السبب الأصلي لعدم ملائمة التكوين لمتطلبات سوق الشغل في الأزمة الخانقة التي تشهدها المنظومة التربوية الجاري بها العمل حاليا الشيء الذي يؤدي حتما إلى تخرج جحافل من حاملي الشهادات العليا دون إيجاد منصب شغل و عليه فالمطلوب من الجامعات و المعاهد التابعة للدولة أو المعاهد الخاصة المأذون لها إضافة إلى المراكز الخاضعة للمكتب الوطني للتكوين المهني إعادة النظر في برامجها البيداغوجية التقليدية التي لم تعد تفي بتاتا بالغرض و الانفتاح على محيطها الخارجي من خلال ربط علاقات تعاقدية و توطيد الشراكات الإستراتيجية معها و الاتجاه نحو القطاعات الأكثر إنتاجية.
الفرع الثاني ضعف و جمود أداء الآليات المختصة في مجال التشغيل
هناك العديد من الآليات التي تندرج ضمن السلطات العمومية التي من المفروض عليها القيام بادوار طلائعية للرفع من نسبة التشغيل و محاربة شبح البطالة الذي يلقي بظلاله على شريحة الشباب بحيث تبقى مجرد هيئات شكلية لا تتوفر سوى على اختصاصات اقتراحية أو استشارية مما تفقدها قيمتها و مثال ذلك ما هو حاصل بالنسبة للمجلس الوطني لإنعاش الشغل و المجالس الجهوية لإنعاش الشغل المتفرعة عنه فكيف إذن يعقل أن نرى هذه الهيئات و غيرها جامدة و ضعيفة المردودية و الأداء مع العلم أن المغرب مقبل قريبا على تطبيق ورش الجهوية الموسعة?
الفرع الثالث عدم استغلال فرصة الأزمة المالية و الاقتصادية
عوض أن تقوم بتشجيع هجرة الأدمغة وهروبها إلى الدول المتقدمة تكنولوجيا و صناعيا يجب على السلطات العمومية استقطاب هذه الفئة للعودة من اجل الاستقرار بالوطن و انجاز المشاريع الاستثمارية الخاصة بها حتى و إن كانت كلفتها باهظة لأن البلاد هي التي ستكون الرابح و المستفيد الأكبر من الأزمة المالية و الاقتصادية التي تمر بها سائر دول المعمور و من جلب رؤوس الأموال من الخارج سيساعد على تحريك عجلة التنمية التي لها انعكاس محمود على ضخ مناصب جديدة في سوق الشغل.