يرتكز نظام الحكم في المغرب على عدة خصوصيات تميزه عن غيره من الأنظمة السياسة الأخرى، حيث يشكل هذا النظام تجربة مختلفة على مستوى الفكر السياسي، وعلى مستوى النظم السياسية والقانونية بالنظر إلى طبيعته العقدية والى بنيته الداخلية لمفهوم السلطة، التي تتأسس على نظام سياسي منفرد بقيادة الملك، نظام يتكون حسب البعض من طابقين، طابق علوي يستمد جذوره من القانون العام الإسلامي، وطابق سفلي يرتكز على الاستفادة من الدستورانية الغربية. (1)
هذه الخصوصيات جعلت الملك يحظى بمكانة سامية في النسق الدستوري للنظام السياسي المغربي، ويتمتع بصلاحيات واسعة في كافة المجالات بما فيها ما هو متعلق بالتدبير الشأن الخارجي للدولة، وقد كرست هذه الوضعية مختلف الدساتير التي عرفتها المملكة بدءا بأول دستور 1962، إلى دستور 2011 المعمول به حاليا.
ومن هذا المنطلق، فإن دراسة صلاحيات المؤسسة الملكية على المستوى الخارجي، تقتضي منا أولا الحديث عن المرتكزات والأسس التي تستند عليها هذه المؤسسة الدستورية في المجال الخارجي (المبحث الأول)،ثم الانتقال إلى إبراز الاختصاصات التي تتمتع بها في هذا الميدان(المبحث الثاني).
المبحث الأول: المرتكزات التي يقوم عليها الدور الملكي في السياسة الخارجية المغربية.
تنقسم المحددات والأسس التي يرتكز عليها الدور الملكي في عملية صنع القرار الخارجي إلى محددات دينية، وأخرى قانونية. وتبعا لدلك فإننا سنعالج في المطلب الأول الأسس العقدية التي يستوحي منها الملك سلطاته في هذا المجال. أما المطلب الثاني سنخصصه لدراسة الأسس القانونية والدستورية من خلال قراءة معمقة ومتصفحة للدستور المغربي.
المطلب الأول: الأسس العقدية والدينية.
يعتبر الدين الإسلامي أحد المكونات الأساسية للأمة المغربية فقد اقترن وجود هذه الأخيرة بانتشار الإسلام ،فعندما تكونت الدولة -الأمة في المغرب-وجدت أن الدين الإسلامي أحد أبرز عوامل تجمعها وتكوينها، وهو الأمر الذي كرسته مختلف دساتير المغرب بكون الدين الإسلامي هو دين الدولة الرسمي، وان الإسلام هو عامل وحدة الشعب واستقرار الدولة.(2)
مما يجعل من الإسلام العمود الفقري للنظام السياسي المغربي، ورافد مهم يستمد منه الملك سلطاته سوءا على المستوى الداخلي أو الخارجي، فالملك باعتباره أميرا للمؤمنين مبايعا من قبل المغاربة، والممثل الأسمى للدولة وهو حامي حمى الدين(3)–والإمارة والبيعة صفتان مستمدتان من دور الخليفة في ظل الدولة الإسلامية-، يعطيه مكانة سامية داخل النظام السياسي المغربي تتجاوز النص الدستوري، وتتحداه لتفرض على الفاعلين السياسيين اعتبار الملك فوق المساءلة والمحاسبة،مما يجعل منه مبادرا في المجال الخارجي وممثلا للأمة وفاعلا أساسيا من أجل الحفاظ على الأمن الخارجي للجماعة المسلمة.
فقد شكل هذا الأمر سندا قويا على أحقية الملك في تدبير كل ما هو مرتبط بالمجال الخارجي خصوصا في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يحد من صلاحيات باقي الفاعلين الآخرين (الوزير الأول ووزير الشؤون الخارجية) على المستوى الخارجي إلا بعد الامتثال للقواعد التي تحكم النظام السياسي المغربي.(4) فقد جعل الملك الحسن الثاني من الجانب الديني إضافة إلى المنطوق الدستوري مرتكزا لسلطاته في السياسة الخارجية، وسندا إضافيا للتأكيد على أحقيته التاريخية في التسيير والتدبير منذ أول خطاب له بعد اعتلائه العرش في 3 مارس1961 قائلا:"وإنني أعاهد الله وأعاهدكم على أن أضطلع بمسؤولياتي، وأؤدي واجبي طبق مبادئ الإسلام وقيمه السامية ... كما أعاهد الله وأعاهدكم على أن أدافع عن حوزة التراب الوطني واستقلاله وسيادته..."(5) ،وختم الخطاب بأية من القرآن." واعتصموا بحبل الله جميعا"، "ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم".(6)
كما أن الممارسة السياسية للعاهل المغربي محمد السادس لم تخرج عن هذا الإطار، فمنذ أن اعتلى عرش المملكة رسميا في 30 يوليوز1999حافظ على المكانة الاعتبارية والمادية لهذه المؤسسة، وتكريسها من الناحية الواقعية والقانونية في كل ما له صلة بالشؤون الخارجية للبلاد، والأدوار المنوطة بها على المستوى الخارجي(7) على الرغم من ظهور بعض البوادر الإيجابية لبداية عهد جديد قوامه الانفتاح اتجاه إشراك فاعلين جدد في السياسة الخارجية، خصوصا فيما يتعلق بتدبير قضية الصحراء المغربية التي احتكرتها وزارة الداخلية في عهد إدريس البصري بإشراك الأحزاب ولو بشكل محدود وأيضا وزارة الخارجية والتعاون.(8)
إن الطابع المركزي لسلطة اتخاذ القرار، والحضور الدائم والتواجد القوي في مختلف دواليب الشأن الخارجي دبلوماسيا كان أم عسكريا، لا يمليه المنطوق الدستوري فقط، والذي يدخل السياسة الخارجية المغربية ضمن اختصاصات الملك، بل يستحضره كذلك الإرث السلطاني للدولة الذي يجعل من الملك المحرك الأول والأخير للجهاز الدبلوماسي المغربي، كما أن تكريس إسلامية السلطة في ممارسة الحكم، واعتبار ملك المغرب حاملا لصفة أمير المؤمنين، يجعل منه الفاعل الاستراتيجي في المجال الخارجي، ويؤكد بشكل صريح الدور الريادي للمؤسسة الملكية في المجال الخارجي مبادرة وتمثيلا وتفعيلا.
ومنه، فان المتأمل للنظام السياسي المغربي، والمكانة السامية التي تعتليها المؤسسة الملكية داخله، يدرك جيدا على أن هذه المؤسسة قد وظفت الشرعية الدينية بشكل عاقل من أجل توسيع صلاحياتها على المستوى الخارجي، على اعتبار أن توفر الشرعية الدينية تخول صلاحيات واسعة لهذه المؤسسة في ممارسة السلطة في المجال الخارجي، كما أنها تزكي النصوص الدستورية التي تمنح للملك أيضا سلطات مهمة، بالإضافة إلى أنها تزيد من درجة تحكم الملك في تدبير القضايا الخارجية للمغرب.(9)
من هنا يأتي التأكيد على ضرورة الفهم المسبق لخصوصيات النظام المغربي، والعوامل المتحكمة في قواعد لعبته السياسية ولفهم كذلك، لماذا تهيمن فيه سلطة على أخرى، ومؤسسة على أخرى، لابد لنا من تحديد منزلة الملك، و تموقعه داخل النظام السياسي المغربي.(10)
المطلب الثاني: الأسس القانونية الدستورية.
إذا كانت المقتضيات الدينية التي أشرنا إليها سابقا تشكل بالنسبة لمتولي سدة الحكم في المغرب مصدرا يستلهم منها سلطاته على المستوى الخارجي، فان النصوص الدستورية جاءت هي الأخرى لتكرس هذا الدور الريادي الذي يضطلع به الملك في المجال الخارجي.
إن المكانة الهامة والأساسية التي تعتليها المؤسسة الملكية داخل النظام السياسي المغربي، مكنتها من التربع على قمة المؤسسات الدستورية المغربية، وخولت لها صلاحيات دستورية واسعة في كافة المجالات.
وانطلاقا من هذه المكانة يمكن دراسة الملكية في البناء الدستوري المغربي، من خلال الوقوف على اختصاصاتها المتعلقة بتوجيه السلوك الخارجي للدولة من الزاوية القانونية.
فقد تضمن الدستور الجديد (دستور2011) مقتضيات ذات الصلة بالعلاقات الدولية تتجلى أساسا في مضامين ديباجته التي تعلن: " إن المملكة المغربية دولة إسلامية، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها .... وإدراك منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وبصفتها دولة افريقية فإنها تجعل من بين أهدافها تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية ولاسيما مع بلدان الساحل والصحراء، كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم، وذلك من خلال حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء.(11)
لقد افتتح المشرع المغربي تصدير الوثيقة الدستورية بكون المملكة المغربية، دولة إسلامية تتمتع بالسيادة الكاملة، وان الإسلام الدين الرسمي للدولة، كما أن شعار المملكة " الله الوطن الملك". إذا كانت هذه النصوص تشكل مبدئيا المرجعية النظرية الرسمية لما ينبغي أن تكون عليه السلطة في الدولة، فان الفصل 55 من الدستور يشكل الترجمة العملية لما أتى به الدستور المغربي على مستوى الهيئات والمؤسسات الساهرة على هندسة القرار الدبلوماسي للسياسة الخارجية المغربية.
إن صنع القرار في السياسة الخارجية المغربية وخاصة في ما يتعلق بتحديد خياراتها الإستراتيجية، يبقى مجال محفوظ للملك بحكم طبيعة النظام السياسي المغربي المتميز بقطبية الملك داخله والذي يتسلح في هذا المجال بأسلحة دينية و واقعية و ذاتية كما اشرنا سابقا، فالمتأمل في مضامين الدستور الجديد وخاصة المادة 55 منه، سيلاحظ على أن الملك مازال يحتل مركز الصدارة في الحياة السياسية المغربية، فالملك باعتباره رئيس دولة عصري من الناحية الدستورية لا تنحصر مهامه في رسم معالم وتوجهات هذه السياسة، بل إن اختصاصاته في المجال الخارجي أهم بكثير مما تضمنته نصوص القانون العام المغربي، فهو يضع توجهات السياسة الداخلية والخارجية من خلال رسائله وخطبه التي يوجهها لمجلس النواب.(12) وبعبارة أخرى فان الشؤون الخارجية للملكة تنبع أساسا من الامتيازات الواسعة التي يحظى بها العاهل المغربي على الصعيد الخارجي، فالملك يتمتع بسلطات واختصاصات شاملة وسامية تجعل منه السيد في تدبير وتسير الشؤون الخارجي للمغرب، فهو دبلوماسي واستراتيجي في نفس الوقت.
ويمكن إجمال فصول الدستور التي تنص على المهام المخولة للملك في مجال السياسة الخارجية سوءا تعلق الأمر بدستور 1996 أو دستور 2011 فيما يلي:
الفصل 31 الذي أشار إلى أن الملك هو من يتولى عملية اعتماد السفراء لدى الدول الأجنبية، والمنظمات الدولية، كما انه يعتمد السفراء، وممثلوا المنظمات الدولية. كما أن الملك يقوم طبقا لنفس الفصل بالتوقع على المعاهدات، والمصادقة عليها، غير أنه لا يصادق على المعاهدات، التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون. وتقع المصادقة على المعاهدات التي يمكن أن تكون غير متفقة مع نصوص الدستور، بإتباع المسطرة المنصوص عليها فيما يرجع لتعديله.(13)
لقد ميز الفصل 31 من الدستور الملغى بين نوعين من المعاهدات،معاهدات لا تلزم مالية الدولة، وهي المعاهدات التي يصادق عليها الملك مباشرة، وتصبح سارية بمجرد استكمال إجراءات التصديق عليها. ومعاهدات تلزم مالية الدولة وهي ذالك الصنف من المعاهدات التي لا تصبح ملزمة وذات قيمة قانونية إلا بعد موافقة البرلمان عليها ثم مصادقة الملك. أما فيما يتعلق بالمعاهدات التي تكون غير متفقة مع الدستور، فقد أشارت الفقرة الثالثة من نفس الفصل إلى أن هذا النوع من المعاهدات لا يصبح ملزما إلا بعد إتباع مسطرة التعديل المنصوص عليها في الدستور.
إن ما يمكن ملاحظته من خلال نص المادة 31 هو غموض وعدم وضوح عبارة المعاهدات الملزمة لمالية الدولة، فالمشرع المغربي لم يحدد المعاهدات الملزمة لمالية الدولة، بل تركها مبهمة وفضفاضة إلى حد كبير، بالإضافة إلى ما يمكن مؤاخذته على نص المادة السالفة الذكر هو أن الدستور المغربي لم يتضمن معايير واضحة للتمييز بين المعاهدات الملزمة لمالية الدولة والمعاهدات الغير ملزمة.
ومن فصول الدستور التي تكرس أيضا اعتبار السياسة الخارجية مجالا محفوظا للملك:
الفصل 35 من نفس الدستور الذي ينص على انه: " إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو وقع من الأحداث ما من شأنه أن يمس بسير المؤسسات الدستورية يمكن للملك أن يعلن حالة الاستثناء بظهير شريف بعد استشارة رئيسي مجلسي النواب ومجلس المستشارين ورئيس المجلس الدستوري، وتوجيه خطاب إلى الأمة ويخول بذلك بالرغم من جميع النصوص المخالفة صلاحية اتخاذ جميع الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن حوزة الوطن ويقتضها رجوع المؤسسات الدستورية إلى سيرها العادي، ويتطلبها تسيير شؤون الدولة ".(14)
الفصل 28 الذي يسمح للملك من خلال خطبه الموجهة للأمة، والبرلمان، أن يرسم الخطوط العريضة، والتوجهات الرئيسة للسياسة الخارجية المغربية.(15)
إلى جانب الفصل 30 الذي ينص على أن الملك القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، الأمر الذي يتيح له أن يلعب دورا أساسيا في الدفاع عن حوزة الوطن.(16)
إن هذه النصوص الدستورية تقر بشيء أساسي وهو دور الملك المحوري والمركزي في صناعة، وتدبير، وتسير المجال الخارجي، وان السياسة العامة للدولة بما فيها السياسة الخارجية تدخل ضمن المجال الملكي الخاص. وهو الشيء الذي كرسته مضامين نصوص الدستور الجديد التي حافظت على روح دستور 1996.فقد نص الفصل 55 من دستور 2011على ما يلي:
- يعتمد الملك السفراء لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، ولديه يُعتمد السفراء، وممثلو المنظمات الدولية.
- يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون.
- للملك أن يعرض على البرلمان كل معاهدة واتفاقية أخرى قبل المصادقة عليها...".(17)
بالإضافة إلى الفصل 42 من دستور 2011 والذي يعتبر ضمن قائمة الفصول التي تعزز سلطات الملك في هذا الميدان حيث ينص على أن " الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة..."
كذلك الفصل 49 الذي يشير إلى تداول المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك-بمقتضى الفصل 48-في التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة.(18)
من خلال القراءة الأولية لمواد الدستور، يتبين على أن الدستور الحالي جاء ليعزز سلطات الملك في كافة المجالات بما فيها الخارجية منها، من خلال إعادة الإنتاج للصلاحيات التي كان يتمتع بها في ظل الدساتير السابقة، ومن الملاحظ أيضا على أن الدستور السابق (دستور 1996) قد قيد توقيع الملك فقط على المعاهدات التي يترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، إلا أن دستور 2011 قد وسع من نطاق هذه القيود ليشمل على معاهدات السلم والاتحاد، أو تلك التي تهم رسم الحدود ومعاهدات التجارة، إلى جانب المعاهدات التي يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، بالإضافة إلى المعاهدات التي تمس بحقوق وحرية المواطنين حيث أن الملك لا يكون بمقدوره التوقيع عليها إلا بعد الموافقة عليها بقانون.
المبحث الثاني: اختصاصات الملك في مجال السياسة الخارجية المغربية.
إذا كنا قد تناولنا في المبحث السابق بعض ملامح هيمنة الملك على ممارسة السياسة الخارجية المغربية انطلاقا من المكانة التي يحتلها في الدستور المغربي واستناد إلى التقاليد المغربية الإسلامية العريقة، فإننا سنقوم في هذا المبحث بدراسة هذا المجال الخاص برئيس الدولة من زاوية الاختصاصات المنوطة به، سواء من الناحية الدبلوماسية (المطلب الأول)، أو العسكرية(المطلب الثاني).
المطلب الأول: الاختصاصات الدبلوماسية للملك.
سنتناول في هذا المطلب مسألة الاختصاصات الدستورية للملك في المجال الدبلوماسي من خلال الاضطلاع على مقتضيات المادة 55 من الدستور المغربي مع ربط الاتصال بين مضامينها ومضامين باقي المواد التي تطال مجال السياسة الخارجية.
تختلف الاختصاصات الدبلوماسية لرؤساء الدول باختلاف النظم الدستورية، ولكن جميع الدول وعلى اختلاف نظمها تبقى على بعض الوظائف الدبلوماسية لرؤسائها، وهذا ما يتجلى على صعيد رسم السياسة الخارجية، وإرسال واعتماد السفراء، وعقد المعاهدات والمشاركة في المؤتمرات ولقاءات القمة.(19)
بالرجوع إلى النظام السياسي المغربي، فإن الملك باعتباره الممثل الأسمى للأمة، هو من يتولى تمثيل الدولة المغربية في الخارج كما في الداخل سواء عبر الزيارات التي يقوم بها للدول الأجنبية أو عند استقبال لرؤساء هذه الدول والوفود التي تزور المغرب، أو عبر مشاركته في المؤتمرات أو المحافل الدولية.(20) أو من خلال اللقاءات الثنائية، أو المتعددة الأطراف التي يجريها مع ملوك ورؤساء الدول والحكومات في نطاق المنظمات الإقليمية،والدولية في إطار ما يسمى بلقاءات القمة، أو دبلوماسية القمة.(21)
إن صفة الممثل الأسمى للأمة تتيح للملك سلطة التعامل باسم الدولة، واتخاذ القرارات المتعلق بتصريف شؤونها الخارجية دون أن يترتب على ذلك أية مسؤولية أمام باقي المؤسسات الدستورية الأخرى، اعتبارا لكون شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام،(22) وأيضا لكونه سلطة عليا في البلاد تسمو فوق باقي السلطات.
ومن منطلق أن الملك الممثل الأسمى للدولة ورمز وحدتها والمدافع عن منطلقاتها، كان من اللازم منحه سلطات دستورية تؤهله للقيام بهذا الدور. وفي هذا السياق وكما أشرنا سابقا يمنح الدستور المغربي للملك سلطة اعتماد السفراء والتوقيع والمصادقة على المعاهدات لكن في حدود ما جاء به الفصل 55 من الدستور الذي ينص في فقرته الأولى: " يعتمد الملك السفراء لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، ولديه يُعتمد السفراء، وممثلو المنظمات الدولية." وفي فقرته الثانية على أن "يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها غير انه لا يصادق على معاهدة السلم والاتحاد أو التي تهم رسم الحدود...".(23)
إن المتأمل في أحكام هذا الفصل، يلاحظ على أن الملك هو من يتولى اعتماد السفراء لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية بالإضافة إلى ممثلي المنظمات الدولية، وهذا الاختصاص المخول للعاهل المغربي هو أمر طبيعي في كافة الدول. ففي فرنسا مثلا، فقد أشارت المادة 14 من دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958 إلى أن رئيس الجمهورية هو من يسهر على عملية تعين السفراء والمندوبين فوق العادة للدولة الأجنبية.(24)
الملاحظ من خلال ما سبق على ان الملك وعلى غرار باقي رؤساء الدول يحتكر لنفسه القرار فيما يتعلق بالتمثيل الخارجي للمملكة، وعليه يمكن القول على أن سفراء المغرب في الخارج هم بمثابة سفراء لجلالة الملك ويتحملون المسؤولية أمامه.(25) إضافة إلى ذلك، فإن الملك يختار السفراء بحسب إرادته، وغالب ما يقوم باعتماد هؤلاء السفراء من بين الدبلوماسيين العاملين في وزارة الخارجية بناء على اقتراح من لدن رئيس الحكومة كما أن هذا الاختيار قد يشمل في بعض الأحيان وزراء سابقين أو بعض الشخصيات التي تطال الأوساط الحزبية.(26)
يمكن الوقوف أيضا على اختصاصات الملك في المجال الدبلوماسي من خلال التوقيع على المعاهدات والاتفاقيات الدولية والمصادقة عليها كما هو مبين في الفصل 55 من الدستور. إلا أن المشرع المغربي قد اشترط الحصول على الموافقة البرلمانية قبل إقرار المعاهدات التي تلزم مالية الدولة بالإضافة إلى معاهدات السلم والاتحاد أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة كما أوضحنا سلفا. إن هذه القيود التي فرضها المشرع المغربي على هذا الصنف من المعاهدات،تفقد قوتها على اعتبار الملك له الحق في حل البرلمان أو أحد مجلسيه بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية، وإذن رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين وتوجيه خطاب للأمة وذلك بظهير شريف إلى حين انتخاب برلمان جديد داخل اجل لا يتعدى الشهرين على الأكثر.(27)
المطلب الثاني: الاختصاصات العسكرية.
تمنح مختلف دساتير العالم لرؤسائها سلطات استثنائية لمواجهة الأوضاع الغير عادية، على غرار المادة 16 من الدستور الفرنسي لسنة 1958 والتي تمنح لرئيس الدولة سلطات واسعة تكاد تكون مطلقة، ويصبح حكمه حكما ديكتاتوريا مقنن دستوريا في حالات الاستثناء.(28)
فان الدستور المغربي لسنة 1996 لم يخرج عن هذا الإطار عندما أشار في الفصل 35 منه على انه "إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو وقع من الأحداث ما من شأنه أن يمس بسير المؤسسات الدستورية، يمكن للملك أن يعلن حالة الاستثناء بظهير شريف بعد استشارة رئيس مجلس النواب ومجلس المستشارين ، و رئيس المجلس الدستورية، وتوجيه خطاب إلى الأمة، ويخول بذلك، على الرغم من جميع النصوص المخالفة، صلاحيات اتخاذ تدابير جميع الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن حوزة الوطن، ويقتضيها رجوع المؤسسات الدستورية إلى سيرها العادي أو يتطلبها سير شؤون الدولة ".(29)
هذه المقتضيات التي جاءت بها المادة 35 من دستور 1996، يمكن أن تثير بعض الملاحظات:
إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو وقع من الأحداث ما من شأنه أن يمس بالسير العادي للمؤسسات، فإن الضرورة هنا تقتضي تركيز السلطات بين يدي الملك حتى يتسنى له تدبير البلاد حسب ما تقتضيه الأمور للحفاظ على سلامة الأشخاص والمؤسسات، من أجل القضاء على أسباب الأزمات وإرجاع الأمور إلى نصابها العادي والطبيعي.
وبالتالي فإن الإعلان عن حالة الاستثناء من لدن الملك، تخول له تحويل الحكم ولو بشكل مؤقت إلى ديكتاتورية مقننة دستوريا تسمح له باتخاذ كافة الإجراءات التي يتطلبها الدفاع عن حوزة الوطن، وإرجاع المؤسسات إلى مجراها العادي، غير أن هذه العملية لا يترتب عليها حل للبرلمان بحيث يبقى البرلمان كمؤسسة قائمة ولكن بدون صلاحيات، خلاف لما كان عليه الأمر في دستور 1992 حيث كان الإعلان عن حالة الاستثناء يؤدي إلى حل البرلمان.(30)
كما نص الفصل 30 من نفس الدستور على أن الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، مما يجعل منه المسؤول الأول والأخير عن اتخاذ القرارات العسكرية الكبرى، بالإضافة إلى القرارات المتعلقة بالعزل أو الترقية، وهو اختصاص ملكي خالص يتم توارثه بتوارث العرش، مما يجعل العاهل المغربي محمد السادس يحتفظ لنفسه بهذه السلطات ولا يغيرها.(31)
وعلى غرار الدستور السابق، فإن دستور 2011 لم يخرج في عمومه عن منطوق هذه المواد، بدليل الفصل 53 منه الذي يجعل من الملك أيضا قائد للقوات المسلحة، ويعطيه الحق في التعين في الوظائف العسكرية مع إمكانية تفويض لغيره ممارسة هذا الحق.(32)
كما انه من المعلوم على أن رئاسة المجلس الوزاري تعود للملك طبقا للفصل 48 وليس لرئيس الحكومة الذي يرأس المجلس الحكومي فقط، ومن المعلوم أيضا على أن المجلس الوزاري طبقا للفصل 49 تعرض عليه، وتحدد فيه كل القضايا المتعلقة بالسياسة العامة للدولة، بحيث يقضي هذا الفصل أن تحال على المجلس القضايا التي تهم السياسة العامة للبلاد، الإعلان عن حالة الحصار، إشهار الحرب...،(33) وغيرها من القضايا المتصلة بالسياسة العامة للمملكة.الشيء الذي يكرس على أن الموجه الفعلي للسياسة العامة للبلاد والمتحكم الحقيقي في المشهد السياسي المغربي هو الملك، فالحكومة لا يمكن لها أن تقدم على أية مبادرة للقضايا التي تهم السياسة العامة للبلاد إلا بعد عرضها و مداولتها بالمجلس الوزاري، ومادام أن الحكومة معينة من طرف الملك فليس بوسعها سوى الرضوخ إلى توجيهات هذا الأخير.(34)
خاتمة
نخلص من كل ما سبق إلى القول بأن تدبير الشأن الخارجي للمغرب، ما زال عمليا مجالا محفوظ للملك، خاصة فيما يتعلق بتدبير الملفات الكبرى، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة غياب أطراف دستورية أخرى–الحكومة والبرلمان-تساهم في بلورة القرار الخارجي.
فأين تتجلى مظاهر مساهمة كل من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في بلورة القرار الخارجي للمملكة.
الهوامش
1. المهدي الفحصي، الأنظمة الدستورية الكبرى والنظام الدستوري السياسي المغربي، مكتبة عالم المستقبل، الطبعة الأولى,2010، أكادير، ص 187.
2. محمد رزوكي، تفاعلات السياسة الخارجية المغربية والفاعلين فيها في دستوري 1996-2011دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الماستر، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق سلا.2012، ص19. نقلا عن ميغيل هيرناندو ديلارا مندي، السياسة الخارجية للمغرب، ترجمة: عبد العالي بوركي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى, 2005، ص35.
3. ينص الفصل 19 من دستور 1996 على ما يلي:" الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي. حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة".
4. محمد رزوكي، المرجع السابق الذكر، ص42.
5. المهدي الفحصي، المرجع السابق الذكر، ص 125.
6. الآية 101 – 103 من سورة آل عمران.
7. السعدية لدبس، السياسة الخارجية المغربية على عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس: تغير أم استمرارية، مجلة دعوة الحق، السنة الثانية والخمسون، العدد 393، رجب 1430ه/يوليوز2009م، ص42.
8. محمد رزوكي، المرجع السابق الذكر، ص42.
9. محمد رزوكي، المرجع السابق الذكر، ص44.
10. المهدي الفحصي، المرجع السابق الذكر، ص 120.
11. انظر ديباجة دستور 2011.
12. فاطمة الزهراء هيراث، المملكة المغربية والسياسة الخارجية، مجلة مسالك،العدد 21-22، 2012،ص 44.
13. الفصل 31 من دستور 1996.
14. الفصل 35 من دستور 1996.
15. ينص الفصل 28 من دستور المملكة لسنة 1996 على ما يلي:" للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين، ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش".
16. ينص الفصل 30 من دستور المملكة لسنة 1996 على ما يلي:" الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. وله حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية كماله أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق".
17. الفصل 55 من دستور2011.
18. الفصول 42 و48 و49 من دستور 2011.
19. عبد الواحد الناصر، المشكلات السياسية الدولية ومشكلات التقاطع بين السياسة الدولية والقانون الدولي والتدبير الدبلوماسي، منشورات الزمان، الرباط ، 2009، ص 275.
20. لبابة عاشور، القانون الدبلوماسي والقنصلي، مع دراسة معمقة للأجهزة المختصة في المجال الدبلوماسي في المغرب، الطبعة الأولى، يناير 2008، ص34.
21. عبد الواحد الناصر، القواعد والممارسات الدبلوماسية، الطبعة الأولى 1993، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، ص25.
22. ينص الفصل 46 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 على ما يلي:" شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام. "
23. الفصل 55 من دستور 2011.
24. لمادة 14 من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة 1958.
25. لبابة عاشور، المرجع السابق الذكر، ص 38.
26. الحسان بوقنطار، السياسة الخارجية المغربية، الفاعلون والتفاعلات، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة 2002، ص 39.
27. ينص الفصل 96 من دستور المملكة لسنة 2011 على ما يلي: "للملك، بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية وإخبار رئيس الحكومة ومجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، أن يحل بظهير المجلسين معا أو أحدهما.يقع الحل بعد خطاب يوجهه الملك إلى الأمة.
-ينص الفصل 97 من دستور 2011 على ما يلي: "يتم انتخاب البرلمان الجديد او المجلس الجديد في ظرف شهرين على الأكثر بعد تاريخ الحل.
28. المهدي الفحصي، المرجع السابق الذكر، ص 176.
29. الفصل 35 من دستور 1996.
30. المهدي الفحصي، المرجع السابق الذكر، ص 176-178.
31. محمد رزوكي، المرجع السابق الذكر، ص53.
32. انظر الفصل 53 من دستور 2011.
33. يتم بمقتضى الفصل 99 الدستور المملكة لسنة 2011 اتخاذ قرار إشهار الحرب داخل المجلس الوزاري طباقا للفصل -49-وذلك بعد إحاطة البرلمان علما من لدن الملك.
34. المهدي الفحصي، المرجع السابق الذكر، ص 180.