لا شك فيه أن القانون المدني يتميز عن غيره من فروع القانون الخاص بأنه يمثل الشريعة العامة لباقي القوانين التي تفرعت عنه، فهو بمثابة العمود الفقري لها لكونه يشتمل في عمقه على نظرية عامة للالتزامات صالحة للتطبيق كلما كان هناك فراغ أو نقص في جانب من الجوانب القانونية التي تهم الفروع المنبثقة عن القانون المدني، كالقانون التجاري، والقانون الاجتماعي والقانون العقاري)1 .
ويتضمن القانون المدني في إطار معناه الواسع كلا من الروابط القانونية الشخصية ذات الطابع المالي التي تتمثل أساسا في مجموع الالتزامات على اختلاف أنواعها، وذلك فضلا عن الالتزامات المالية ذات الطابع العيني التي تهدف في أصلها إلى إنشاء حق عيني أصلي أو تبعي كالالتزامات الناقلة للملكية أو التي تهدف إلى توثيق الضمان العيني كالرهونات والامتيازات مثلا.
فما هو الأصل التاريخي لقانون الالتزامات والعقود؟ وما هي مكوناته؟ وهل يجب تعديل هذا القانون أم إلغاؤه؟
على هدي ما سبق، وانسجاما مع الموضوع فقد ارتأيت أن أتناول تحليل هذا الأخير ضمن مطلبين اثنين، أخصص أولاهما لتحديد الظرف التاريخي لوضع قانون الالتزامات والعقود ومكوناته،على أن اترك المطلب الثاني لمناقشة مدى فعالية نص مر على وضعه قرن من الزمن، أمام التطورات المجتمعية.
المطلب الأول:
يعتبر قانون الالتزامات والعقود المغربي إرثا موروثا عن الحماية الفرنسية إذ تم وضعه في فترة حاسمة من تاريخ المغرب عندما كانت فرنسا أحوج إلى المؤسسات القانونية التي تعضد بها سلطانها السياسي، فقد تم وضع هذا القانون بتاريخ (12 غشت 1913) في عهد السلطان مولاي يوسف 2 وبذلك أصبح يشكل ما يسمى بالقانون المدني الوضعي إلى جانب القانون الإسلامي وقانون الأعراف المحلية الذين كانا يطبقان في مغرب ما قبل الحماية3 .
وقانون الالتزامات والعقود المغربي في الواقع ما هو إلا صورة طبق الأصل للمجلة التونسية للالتزامات والعقود التي تم وضعها من طرف الحماية الفرنسية بتونس سنة 1906 مع اختلاف بسيط بينهما إذ أن هناك بعض النصوص التي توجد بالمدونة التونسية وليس لها ما يقابلها في (ق.ل.ع) المغربي أو العكس.
وبالرجوع إلى الأصول والمنابع التي استقى منها واضعوا (ق.ل.ع) مصادره العلمية فإننا نجد أن هؤلاء كانوا في حيرة من أمرهم(من بينتهم الفقيه المحامي "سانتيانا" " SANTILLANA"
الذي يرجع إليه الفضل في صياغة مشروع مدونة المجلة التونسية للالتزامات والعقود وعندما انتهى منه عرضه على لجنة مصغرة تتكون من خمسة علماء أربعة منهم فرنسيون والخامس ينتمي لجامعة الزيتونة وبذلك تم التوصل إلى إدراج بعض القواعد ذات الطابع الإسلامي في هذه المدونة، ولم يتردد الفقيهان بيرج
"BERGE"
وتيسييه
"TEISSIER"
عندما كانا عضوين في اللجنة المصغرة المكلفة بوضع قانون الالتزامات والعقود المغربي من اعتماد نفس الأفكار والنهج الذين كانا سائدين لدى أعضاء اللجنة التونسية المصغرة 4) خصوصا في هذا الظرف المواكب لبداية بسط الحماية على المغرب إذ أن تعارض مصالح المعمرين مع الأهالي دفع بأعضاء لجنة مراجعة الأعمال التحضيرية لهذا القانون إلى التفكير في إقحام بعض القواعد الفقهية الإسلامية ضمن هذا القانون حتى يحصل التوازن بين هذه المصالح المتعارضة (ويشهد بهذا التوفيق بين المصالح ما قاله وزيرا الخارجية والعدل الفرنسيان عند تقديمهما نصوص قانون الالتزامات والعقود لرئيس الجمهورية الفرنسية
"POINCARE"
من أن الأوربيين سيجدون في هذا الظهير قواعد مستقاة من قوانينهم الوطنية في حين أن الأهالي سوف لن يجدوا فيه ما يجرح شعورهم الديني مادامت نصوصه غير مخالفة للقانون التونسي الذي لا يتعارض بدوره مع أحكام الشريعة الإسلامية 5)، وهكذا جاء (ق.ل.ع) خليطا من القواعد بعضها نابع من مدونة نابليون التي يرجع تاريخ وضعها إلى سنة 1804 والبعض الآخر مستورد من المدونات الجرمانية واللاتينية في حين تم اقتباس جزء منها من الفقهين المالكي والحنفي والأعراف المحلية التي كانت سائدة آنذاك.
أما عن مضمون قانون الالتزامات والعقود فإنه يشتمل على 1250 فصلا بما في ذلك النصوص المكررة والملغاة وهي موزعة في مجملها على كتابين اثنين يتناول أولهما النظرية العامة للالتزامات (من الفصل الأول إلى غاية الفصل 477) بينما تناول الثاني فصول بعض العقود المسماة وقد خصص لها المشرع ما يقرب من ثلثي نصوص المدونة (من الفصل 478 إلى غاية الفصل الأخير
إلا أنه بالرغم من ذلك كله وجهت لهذا القانون انتقادات كثيرة، فكيف ذلك؟
المطلب الثاني:
لاشك فيه أن المغرب يواجه تحديات للانخراط والاندماج في التغييرات التي يعرفها العالم في إطار التحولات السياسية والاقتصادية، خاصة خلال العشرية الأخيرة.
في مقابل ذلك يرى البعض أن البلاد لن تواكب هذه التغييرات بالسرعة المنشودة ما لم يتم تفادي تيار التأليه القانوني، وطائلتهم في ذلك بعض القوانين التي مر عليها قرابة القرن من الزمن، ويقصد بذل على الخصوص قانون الالتزامات والعقود نظرا لأهميته، فهو بمثابة الشريعة العامة لباقي القوانين.
وأمام هذه الأهمية البالغة التي يتمتع بها قانون الالتزامات والعقود تعالت عدة أصوات مطالبة بضرورة تحيينه، فمن اللا منطق أن قانون مر على خروجه حيز التنفيذ قرن من الزمن، يحقق الغاية المنشودة منه خلال هذه الفترة كاملة.
بل الأمر يمس حتى القضاء، فبالرغم من المرونة التي عرفتها بعض المبادئ التقليدية في ميدان القانون المدني، كمبدأ " العقد شريعة المتعاقدين" ومبدأ"القوة الملزمة للعقد" ومبدأ "ّنسبية آثار العقد" إلا أن هذه المبادئ لا زالت محتفظة بصلابتها في إطار قانون الالتزامات والعقود المغربي، الأمر الذي يصعب على القاضي مهمة الفصل في المنازعات التي تمس هذه المبادئ، هذا من جهة.
من جهة أخرى هناك تيار ثاني يدافع على استقرار قانون الالتزامات والعقود وبقائه كما هو عليه، وحججهم في ذلك أنه من الصعب أن نفرد قانونا بديلا مثل قانون الالتزامات والعقود الحالي، ثم أن صمود قانون الالتزامات والعقود هذه المدة كاملة ما هو إلا دليل قوي على أنه لا زال صالح بفضل مقتضياته، ولا ينقصه إلا بعض التعديلات الجزئية التي لا تفرغه من محتواه.
ختاما أرى بأن قانون الالتزامات والعقود هو قانون يصعب صعوبة كبيرة إلغاؤه كليا نظرا لصعوبة إفراد مجموعة قانونية تواكب التطورات بالشكل المنشود الذي واكبها به القانون الحالي.
وأنا مع الاتجاه الثاني الذي يقيم على أن الإصلاح الواجب إلحاقه بقانون الالتزامات والعقود، هو إصلاح جزئي يتمثل في تعديل بعض النصوص بعينها، إلى إشعار آخر تصبح فيه الظروف ملائمة أكثر لإيجاد بديل لهذا القانون الشامخ
الهوامش
1
شرح قانون الالتزامات والعقود الذي أعدته وزارة العدل ص 17
2
مصادر الالتزامات، الكتاب الأول نظرية العقد، د عبد القادر العرعاري.
3
Blanc (p) "code annoté des obligations et contrats" T :1 éd. ALMADARISS CASA 1981 P :8
4
كلمة الأستاذ (سانتيانا) مقرر اللجنة التي تألفت لإعداد مشروع القانون المدني التونسي وهي منشورة في ديباجة مجلة الالتزامات والعقود التونسية.
5
عبد الواحد بلقيز ، الحيازة في القانون الخاص المغربي، أطروحة دكتوراه- طبعة 1968- ص: 11 وما يليها.
تاريخ التوصل: 30 أكتوبر2011
تاريخ النشر:31 أكتوبر2011
ويتضمن القانون المدني في إطار معناه الواسع كلا من الروابط القانونية الشخصية ذات الطابع المالي التي تتمثل أساسا في مجموع الالتزامات على اختلاف أنواعها، وذلك فضلا عن الالتزامات المالية ذات الطابع العيني التي تهدف في أصلها إلى إنشاء حق عيني أصلي أو تبعي كالالتزامات الناقلة للملكية أو التي تهدف إلى توثيق الضمان العيني كالرهونات والامتيازات مثلا.
فما هو الأصل التاريخي لقانون الالتزامات والعقود؟ وما هي مكوناته؟ وهل يجب تعديل هذا القانون أم إلغاؤه؟
على هدي ما سبق، وانسجاما مع الموضوع فقد ارتأيت أن أتناول تحليل هذا الأخير ضمن مطلبين اثنين، أخصص أولاهما لتحديد الظرف التاريخي لوضع قانون الالتزامات والعقود ومكوناته،على أن اترك المطلب الثاني لمناقشة مدى فعالية نص مر على وضعه قرن من الزمن، أمام التطورات المجتمعية.
المطلب الأول:
يعتبر قانون الالتزامات والعقود المغربي إرثا موروثا عن الحماية الفرنسية إذ تم وضعه في فترة حاسمة من تاريخ المغرب عندما كانت فرنسا أحوج إلى المؤسسات القانونية التي تعضد بها سلطانها السياسي، فقد تم وضع هذا القانون بتاريخ (12 غشت 1913) في عهد السلطان مولاي يوسف 2 وبذلك أصبح يشكل ما يسمى بالقانون المدني الوضعي إلى جانب القانون الإسلامي وقانون الأعراف المحلية الذين كانا يطبقان في مغرب ما قبل الحماية3 .
وقانون الالتزامات والعقود المغربي في الواقع ما هو إلا صورة طبق الأصل للمجلة التونسية للالتزامات والعقود التي تم وضعها من طرف الحماية الفرنسية بتونس سنة 1906 مع اختلاف بسيط بينهما إذ أن هناك بعض النصوص التي توجد بالمدونة التونسية وليس لها ما يقابلها في (ق.ل.ع) المغربي أو العكس.
وبالرجوع إلى الأصول والمنابع التي استقى منها واضعوا (ق.ل.ع) مصادره العلمية فإننا نجد أن هؤلاء كانوا في حيرة من أمرهم(من بينتهم الفقيه المحامي "سانتيانا" " SANTILLANA"
الذي يرجع إليه الفضل في صياغة مشروع مدونة المجلة التونسية للالتزامات والعقود وعندما انتهى منه عرضه على لجنة مصغرة تتكون من خمسة علماء أربعة منهم فرنسيون والخامس ينتمي لجامعة الزيتونة وبذلك تم التوصل إلى إدراج بعض القواعد ذات الطابع الإسلامي في هذه المدونة، ولم يتردد الفقيهان بيرج
"BERGE"
وتيسييه
"TEISSIER"
عندما كانا عضوين في اللجنة المصغرة المكلفة بوضع قانون الالتزامات والعقود المغربي من اعتماد نفس الأفكار والنهج الذين كانا سائدين لدى أعضاء اللجنة التونسية المصغرة 4) خصوصا في هذا الظرف المواكب لبداية بسط الحماية على المغرب إذ أن تعارض مصالح المعمرين مع الأهالي دفع بأعضاء لجنة مراجعة الأعمال التحضيرية لهذا القانون إلى التفكير في إقحام بعض القواعد الفقهية الإسلامية ضمن هذا القانون حتى يحصل التوازن بين هذه المصالح المتعارضة (ويشهد بهذا التوفيق بين المصالح ما قاله وزيرا الخارجية والعدل الفرنسيان عند تقديمهما نصوص قانون الالتزامات والعقود لرئيس الجمهورية الفرنسية
"POINCARE"
من أن الأوربيين سيجدون في هذا الظهير قواعد مستقاة من قوانينهم الوطنية في حين أن الأهالي سوف لن يجدوا فيه ما يجرح شعورهم الديني مادامت نصوصه غير مخالفة للقانون التونسي الذي لا يتعارض بدوره مع أحكام الشريعة الإسلامية 5)، وهكذا جاء (ق.ل.ع) خليطا من القواعد بعضها نابع من مدونة نابليون التي يرجع تاريخ وضعها إلى سنة 1804 والبعض الآخر مستورد من المدونات الجرمانية واللاتينية في حين تم اقتباس جزء منها من الفقهين المالكي والحنفي والأعراف المحلية التي كانت سائدة آنذاك.
أما عن مضمون قانون الالتزامات والعقود فإنه يشتمل على 1250 فصلا بما في ذلك النصوص المكررة والملغاة وهي موزعة في مجملها على كتابين اثنين يتناول أولهما النظرية العامة للالتزامات (من الفصل الأول إلى غاية الفصل 477) بينما تناول الثاني فصول بعض العقود المسماة وقد خصص لها المشرع ما يقرب من ثلثي نصوص المدونة (من الفصل 478 إلى غاية الفصل الأخير
إلا أنه بالرغم من ذلك كله وجهت لهذا القانون انتقادات كثيرة، فكيف ذلك؟
المطلب الثاني:
لاشك فيه أن المغرب يواجه تحديات للانخراط والاندماج في التغييرات التي يعرفها العالم في إطار التحولات السياسية والاقتصادية، خاصة خلال العشرية الأخيرة.
في مقابل ذلك يرى البعض أن البلاد لن تواكب هذه التغييرات بالسرعة المنشودة ما لم يتم تفادي تيار التأليه القانوني، وطائلتهم في ذلك بعض القوانين التي مر عليها قرابة القرن من الزمن، ويقصد بذل على الخصوص قانون الالتزامات والعقود نظرا لأهميته، فهو بمثابة الشريعة العامة لباقي القوانين.
وأمام هذه الأهمية البالغة التي يتمتع بها قانون الالتزامات والعقود تعالت عدة أصوات مطالبة بضرورة تحيينه، فمن اللا منطق أن قانون مر على خروجه حيز التنفيذ قرن من الزمن، يحقق الغاية المنشودة منه خلال هذه الفترة كاملة.
بل الأمر يمس حتى القضاء، فبالرغم من المرونة التي عرفتها بعض المبادئ التقليدية في ميدان القانون المدني، كمبدأ " العقد شريعة المتعاقدين" ومبدأ"القوة الملزمة للعقد" ومبدأ "ّنسبية آثار العقد" إلا أن هذه المبادئ لا زالت محتفظة بصلابتها في إطار قانون الالتزامات والعقود المغربي، الأمر الذي يصعب على القاضي مهمة الفصل في المنازعات التي تمس هذه المبادئ، هذا من جهة.
من جهة أخرى هناك تيار ثاني يدافع على استقرار قانون الالتزامات والعقود وبقائه كما هو عليه، وحججهم في ذلك أنه من الصعب أن نفرد قانونا بديلا مثل قانون الالتزامات والعقود الحالي، ثم أن صمود قانون الالتزامات والعقود هذه المدة كاملة ما هو إلا دليل قوي على أنه لا زال صالح بفضل مقتضياته، ولا ينقصه إلا بعض التعديلات الجزئية التي لا تفرغه من محتواه.
ختاما أرى بأن قانون الالتزامات والعقود هو قانون يصعب صعوبة كبيرة إلغاؤه كليا نظرا لصعوبة إفراد مجموعة قانونية تواكب التطورات بالشكل المنشود الذي واكبها به القانون الحالي.
وأنا مع الاتجاه الثاني الذي يقيم على أن الإصلاح الواجب إلحاقه بقانون الالتزامات والعقود، هو إصلاح جزئي يتمثل في تعديل بعض النصوص بعينها، إلى إشعار آخر تصبح فيه الظروف ملائمة أكثر لإيجاد بديل لهذا القانون الشامخ
الهوامش
1
شرح قانون الالتزامات والعقود الذي أعدته وزارة العدل ص 17
2
مصادر الالتزامات، الكتاب الأول نظرية العقد، د عبد القادر العرعاري.
3
Blanc (p) "code annoté des obligations et contrats" T :1 éd. ALMADARISS CASA 1981 P :8
4
كلمة الأستاذ (سانتيانا) مقرر اللجنة التي تألفت لإعداد مشروع القانون المدني التونسي وهي منشورة في ديباجة مجلة الالتزامات والعقود التونسية.
5
عبد الواحد بلقيز ، الحيازة في القانون الخاص المغربي، أطروحة دكتوراه- طبعة 1968- ص: 11 وما يليها.
تاريخ التوصل: 30 أكتوبر2011
تاريخ النشر:31 أكتوبر2011