يحتل الطب الشرعي أهمية بالغة داخل نظام العدالة الجنائية من حيث قدرته على التأثير على الأحكام و القرارات القضائية . وكذلك من حيث قدرته على التكييف القانوني للجريمة ، ثم التعرف على الحقائق وجمع الأدلة والقرائن، و أيضا في التكييف القانوني للوقائع .
وإذا كانت مجموعة من الدول قد استطاعت أن ترسي منذ مدة، قواعد علمية وعملية للطب الشرعي ليكون في خدمة نظام العدالة ككل، فإن بلادنا مع الأسف ما تزال بعيدة عن ذلك. لذلك كان هذا الموضوع من بين المحاور التي حظيت باهتمام خاص خلال ندوات الحوار الوطني حول الإصلاح الشامل و العميق لمنظومة العدالة، حيث كانت الندوة الجهوية التي انعقدت بمدينة فاس يومي 9 و 10 نوفمبر 2012 حول موضوع" تحديث السياسة الجنائية و تطوير العدالة الجنائية و تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة" مناسبة تم خلالها مناقشة واقع وآفاق ممارسة الطب الشرعي ببلادنا من طرف مختصين، أطباء و قانونيين و حقوقيين و هيئات مهنية[1].
و حيث أن منظومة الطب الشرعي ببلادنا لم تصل الى المستوى الذي يخول لها اقرار نظام قوي للعدالة الجنائية ، فقد سعت وزارة العدل الى سد هذا الفراغ التشريعي مواكبة منها للتطور الحاصل على مستوى التحقيق الجنائي و هكذا قدمتعلى احداث مشروع قانون ينظم ممارسة الطب الشرعي باعتباره أحد المهن المساعدة للقضاء[2] .
و الجدير بالذكر أن هذا القانون قد حدد مهام الطبيب الشرعي و حقوقه وواجباته و الهيئات المعنية بالطب الشرعي. كما أنه عرف المقصود بالطبيب الشرعي و اعتبر أنه يذكر في حكمه :
-الأطباء المتخصصون في الطب الشرعي المسجلون بهذه الصفة في لائحة هيأة الأطباء؛
- الأطباء المتوفرون على تكوين معترف به في مجال الطب الشرعي ؛
- الأشخاص المعنوية العمومية و الخصوصية الحاصلة على ترخيص من طرف المجلس الوطني للطب الشرعي لممارسة مهام الطب الشرعي.
المطلب الأول : التعيين و الاختصاص
الفقرة الأولى : تعيين الطبيب الشرعي
يكون تعيين الطبيب الشرعيبقرار مشترك ما بين الوزارات المعنية بالطب الشرعي، و يمارسون مهامهم بهذه الصفة داخل المستشفيات الجامعية و الجهوية و الإقليمية و كذا داخل مراكز الطب الشرعي التابعة للجماعات الترابية. و لايمارس أطباء القطاع العام و القطاع الخاص مهام الطب الشرعي إلا بناء على ترخيص يسلم من المجلس الوطني للطب الشرعي.
أما عن الطبيب الشرعي الخبير فيقيد الطبيب الشرعي كقاعدة بصفته خبيرا قضائيا في إحدى جداول محاكم الاستئناف و في الجدول الوطني بقرار للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل بناء على اقتراح من المجلس الوطني للطب الشرعي ، وذلك وفقا للكيفيات المحددة في الظهير الشريف رقم 1.01.126 بشأن بتنفيذ القانون رقم 45.00 المتعلق بالخبراء القضائيين. و استثناء من ذلك يمكن تقييد الأطباء المتخصصين في الطب الشرعي المسجلين في لائحة هيأة الأطباء، في جدول الخبراء بمحاكم الاستئناف بغض النظر عن شرط المدة.
و يتم انتداب الطبيب الشرعي للقيام بمهام الطب الشرعي من طرف الوكيل العام للملك أو وكيل الملك أو قاضي التحقيق أو المحكمة كل في حدود اختصاصاته المحددة بمقتضى القانون. و يمكن بمقتضى المادة 23 تعيين أكثر من طبيب شرعي إذا كانت طبيعة المهمة تستوجب ذلك.
الفقرة الثانية : اختصاص الطبيب الشرعي
الملاحظ أن هذا القانون قد تضمن بشكل واضح اختصاصات الطبيب الشرعي حيث أن هذا الأخير يختصبممارسته مهام الطب الشرعي ،خاصة :
- الفحص السريري للأشخاص المصابين لتحديد وصف الإصابات وطبيعتها وأسبابها وتقييم الأضرار البدنية الناتجة عنها وتاريخ حدوثها والوسيلة المستعملة في إحداثها وتحرير شواهد بشأنها؛
- معاينة وفاة الضحايا و التيقن منها و إعطاء الإذن برفع الجثث و نقلها للأماكن المخصصة لها و استصدار شواهد بشأنها؛
- إبداء الرأي الفني في الوقائع المعروضة على القضاء، ولا سيما فيما يتعلق بفحص وتحديد الآثار الناجمة عن الجرائم؛
- تقدير السن بناء على انتداب الجهات القضائية أو الإدارية أو بناء على طلب من كل ذي مصلحة أو في الأحوال التي يتطلبها القانون؛
- فحص الأشخاص الموضوعين رهن الحراسة النظرية أو المحتفظ بهم أو المودعين بمؤسسة تنفيذ العقوبة، لتحديد طبيعة الإصابات اللاحقة بهم وسببها وتاريخها.
- فحص وتشريح الجثث والأشلاء لبيان طبيعة الوفاة وسببها وتاريخها وهوية المتوفي و المساهمة في تحديد ووصف الجروح اللاحقة به ومسبباتها؛
- حضور عملية استخراج جثث الأشخاص المشتبه في وفاتهم من القبور و معاينتها؛
- الانتقال لإجراء المعاينات المفيدة للبحث؛
- تفسير طبي لنتائج الفحوص و التحاليل لمختلف العينات العضوية بما فيها المواد المنوية و الدموية و الشعر و العينات النسيجية للتثبت من طبيعتها و كذا مختلف المواد كالمخدرات و الإفرازات الجسمية و مخلفات إطلاق النار ، و التي تم إنجازها من طرف مختبرات معتمدة و منتدبة لهذا الغرض.
و الجدير بالذكر أن هذه الاختصاصات قد جاءت على سبيل المثال المخصص ، و لم تأت على سبيل الحصر.
أما عن الاختصاص المكاني لممارسة المهنة ،فقد حدده القانون المذكور داخل دائرة محكمة الاستئناف التي تتواجد بها مراكز للطب الشرعي بالوحدات الاستشفائية أو التابعة للجماعات الترابية. مع الاشارة هنا أنه يمكن للسلطات القضائية المختصة انتداب أطباء شرعيين من خارج الدائرة القضائية كلما اقتضت ذلك مصلحة العدالة، أو إذا لم يتوفر أطباء شرعيون بدوائرهم القضائية.
المطلب الثاني : الحقوق و الالتزامات
الفقرة الأولى : حقوق الطبيب الشرعي
لقد متع المشرع الطبيب الشرعي بالاستقلالية في إبداء آرائه الفنية بشأن القضايا التي تعرض عليه ، غير أن هذه الاستقلالية ليست مطلقة ، بل هي مقيدة تحت مراقبة وتأطير المجلس الوطني للطب الشرعي وكذا من طرف الجهة القضائية التي انتدبته لتوضيح النتائج والخلاصات التي توصل إليها.
و يمكن للطبيب الشرعي الاستعانة بذوي الاختصاص في الأمور التقنية والفنية التي تعرض عليه مع الإشارة إلى ذلك في تقريره.
و الملاحظ أن هذا المادة 22 أعطى للأطباء الشرعيون وحدهم حق تسليم الشواهد الطبية المستدل بها أمام القضاء لتقدير نسبة العجز المترتب سواء عن الجرائم أو عن المسؤولية.
الفقرة الثانية : التزامات الطبيب الشرعي
يؤدي الأطباء المؤهلون لمزاولة مهام الطب الشرعي وفقا لمقتضيات المادة 3 اليمين القانونية أمام محكمة الاستئناف التي يمارسون مهامهم بدائرة نفوذها قبل الشروع في مزاولتها.
أما الشخص المعنوي علاوة على ممثله القانوني، فيؤدي اليمين عنه الأطباء الشرعيون العاملون لديه.
و على الطبيب أن يلتزم بمناسبة قيامه بمهامه و إعطاء رأيه الفني بالحياد والتجرد والنزاهة والشرف وما تقتضيه أخلاقيات المهنة وكذلك ما يمليه الضمير المهني لإبراز الحقيقة والمساهمة في تحقيق العدالة.كما أنه يلتزم بالحفاظ على السر المهني في القضايا التي تحال إليه من طرف السلطات القضائية المختصة. و يمنع عليه بهذه الصفة، أن يبلغ أي معلومات مستخرجة من الملفات أو ينشر أي مستندات أو وثائق أو مراسلات لها علاقة ببحث أو تحقيق ما يزال جاريا اللهم ما تعلق الأمر بالمعلومات و الوثائق و التقارير التي يقدمها الطبيب الشرعي للسلطات القضائية ، فتخرج عن دائرة المنع كما هو منصوص عليه في الفقرة الثالثة من المادة 13 .
و لا يمكن انتداب الطبيب الشرعي للقيام بعملية فحص أو تشريح جثة شخص كان يتولى علاجه أو أجرى له عملية جراحية.
كما يمنع على الطبيب الشرعي مباشرة المهمة المسندة إليه، إذا كانت لديه مصلحة شخصية أو مهنية تتنافى مع إنجازها.
و تحدد مهام الطبيب الشرعي في سجل خاص يمسك بالوحدات الطبية داخل المستشفيات و بالمختبراتالتي تمارس مهام الطب الشرعي ، و كذا مراكز الطب الشرعي التابعة للجماعات الترابية. أما عن شكل و مضمون هذا السجل فيحدد بقرار مشترك للسلطات الحكومية المعنية بالطب الشرعي. و يخضع لمراقبة وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية التي يقع بدائرة نفوذها وحدة الطب الشرعي أو المختبر الذي يمارس مهام الطب الشرعي. كما يخضع هذا السجل كذلك لمراقبة المعهد الوطني للطب الشرعي .
و يتعين على الطبيب الشرعي أن يرفع بمناسبة قيامه بمهامه تقريرا بذلك إلى الجهة التي انتدبته، ما لم يتعذر ذلك لأسباب موضوعية أو تقنية ، حيث يتم تقديم تقرير أولي يشهد فيه الطبيب بإجراء التشريح و ملاحظاته الأولية على أن يقوم برفع التقرير النهائي في أقرب وقت. و يضمن فيه العمليات التي قام بها وخلاصة النتائج التي توصل إليها داخل الآجال المحددة له من طرف السلطات القضائية التي انتدبته ، كما عليه أن يوقع على التقرير و يحيله في ثلاث نسخ إلى السلطات القضائية التي انتدبته، ويحتفظ بنسخة بالمصلحة التي يعمل بها.أماإذا أنجزت المهمة المسندة للطبيب الشرعي من طرف أكثر من طبيب، فيتعين توقيع التقرير من طرف جميع أعضاء الهيئة الطبية التي أنجزت المهمة.
و قد حددت المادة 36 من القانون المذكور البيانات التي يجب أن يتضمنها التقرير ، و هي على الشكل التالي :
- الجهة التي قامت بانتداب الطبيب الشرعي؛
- ساعة ويوم إجراء العمليات المرتبطة بالمهمة التي كلف بها ؛
- تحديد هوية و أوصاف المتوفى أو الشخص الذي خضع للفحص، او الجهة التي أوكل إليها تحديد الهوية في حالة عدم توفرها ؛
- المعاينات ووصف الحالة ؛
- الإجراءات والتحاليل والخبرات التي قام بها على العينات التي تم رفعها على الأجسام و نتائجها ؛
- وصف المواد و الأدوات المستعملة في الجريمة؛
- الأسباب المحتملة للوفاة؛
- الخلاصات و النتائج المتوصل إليها؛
- يمكن إرفاق التقرير بلوحة للصور على دعامة ورقية أو رقمية.
و ينبغي في التقرير أن يقتصر على الأمور الفنية التي تدخل في نطاق اختصاصاته و لا تمتد إلى مناقشة الأمور القانونية ،فلا يحق له أن يوجه الاتهام إلى شخص بعينه. و يبقى للوكيل العام للملك أو وكيل الملك أو قاضي التحقيق أو المحكمة – كل فيما يخصه- أو لمن له المصلحة ، أن يعترض على النتائج التي خلص إليها تقرير الطبيب الشرعي. كما يمكن للسلطة القضائية التي انتدبت الطبيب الشرعي أن تأمر بما تراه مناسبا لاستجلاء الحقيقة، من طرف الطبيب الشرعي الذي أنجز المهمة، أو تنتدب طبيبا آخرا أو أكثر لمباشرة المهمة المطلوبة، أو تعرض الأمر على المجلس الوطني للطب الشرعي.
المطلب الثالث : أجهزة الطب الشرعي
لقد استحدث المشرع في الباب الثالث من مشروع قانون الطب الشرعي أجهزة للطب الشرعي ؛ و يدخل في حكمها المجلس الوطني للطب الشرعي كما هو منصوص عليه في المواد من 43 الى 48 ، ثم وحدات الطب الشرعي كما هي منضمة في المواد 49 – 50.
الفقرة الأولى : المجلس الوطني للطب الشرعي
و هكذا نصت المادة 43 علىأنه يحدث مجلس وطني للطب الشرعي، و يتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي. كما أنه يهدف إلى تنظيم عمل الطب الشرعي ، و رفع مستوى و كفاءة العاملين به و تطوير مهامهم لمساعدة العدالة.
أما عن تأليف واختصاصات المجلس الوطني للطب الشرعي بمقتضى نص تنظيمي.
و يختص المجلس الوطني للطب الشرعي للقيام ب :
- المساهمة في تطوير مهنة الطب الشرعي؛
- وضع المعايير العلمية والمهنية لممارسة مهنة الطب الشرعي؛
- منح الترخيص لممارسة الطب الشرعي بالنسبة لأطباء مراكز حفظ الصحة وأطباء القطاع الخاص والمختبرات و الأشخاص المعنوية التي تمارس مهام الطب الشرعي؛
- تأطير الأطباء الشرعيين الممارسين ووضع برامج لمراقبة و تقييم جودة عملهم و الجوانب الفنية المتعلقة بإنجاز الخبرات؛
- توحيد المناهج والمعايير المستعملة في ممارسة الطب الشرعي ؛
- تقديم آراء استشارية للقطاعات الحكومية في مجال الممارسة المرتبطة بالطب الشرعي و مساعدتها على تحديد سياسة وطنية في هذا المجال؛
- إنجاز الخبرات القضائية التي تتم إحالتها من طرف السلطات القضائية بالنسبة للقضايا التي تكتسي نوعا من التعقيد أو الخصوصية؛
- إعداد البحوث والدراسات المرتبطة بالطب الشرعي و تقديم مقترحات تشريعيةو تنظيمية في المجال.
ويرفع هذا التقريرالمادة 46 لكل من:
- السلطة الحكومية المكلفة بالعدل؛
- السلطة الحكومية المكلفة بالصحة؛
- السلطة الحكومية المكلفة بالتعليم العالي؛
- الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لدى يها؛
- السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية؛
- إدارة الدفاع الوطني.
أما المادة 48 فقد أعطت امكانية إحداث مجالس جهوية للطب الشرعي يحدد تأليفها واختصاصاتها بمقتضى نص تنظيمي.
الفقرة الثانية : وحدات الطب الشرعي
نصت المادة 49 على احداث هذه الوحدات بالمستشفيات الجامعية والجهوية و الإقليمية. أما المادة 50 فقد خصها المشرع لإحداثبنية إدارية خاصة بالطب الشرعي لدى السلطة الحكومية المكلفة بالصحة، يعهد إليها بالمساهمة في تطوير والرفع من جودة ممارسة الطب الشرعي و تمكين وحدات الطب الشرعي المحدثة على صعيد المستشفيات من التجهيزات و آليات العمل الضرورية ، و ذلك بتنسيق مع المجلس الوطني للطب الشرعي.
في ختام هذه الورقة بقية أن نشير إلى أن المشرع قد خص الباب الرابع للمقتضيات التأديبية و الزجرية ؛ و هكذا نصت المادة 51 على أنه يتعرض الطبيب المنتدب للقيام بمهام الطب الشرعي الذي يرتكب خطأ مهنيا، للمتابعات والعقوبات التأديبية من طرف الهيئات التأديبية لمهنهم، و ذلك بعد استشارة المجلس الوطني للطب الشرعي. بل و بصرف النظر عن المتابعات الزجرية ، يشكل كل إخلال غير مبرر من طرف الطبيب الشرعي لتنفيذ الانتدابات القضائية الموجهة إليه، أو تأخير غير مبرر في إنجازها خطأ مهنيا يمكن أن تنشأ عنه مسؤوليته التأديبية.
و على غرار باقي المهن المساعدة للقضاء فقد نص المشرع أيضا على جرائم انتحال الصفة ، حيث يتعرض كل شخص ينتحل صفة طبيب شرعي أو يزاول مهامه المحددة في هذا القانون دون أن يكون مخول له ذلك، للعقوبات المنصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي.
الهوامش
[1]مذكرة تقديم صادرة عن وزارة العدل حول مشروع مدونة الطب الشرعي ، منشورة بموقع وزارة العدل .
[2] تنص المادة الثانية من مشروع القانون المذكور على أنه : "يعتبر الأطباء الشرعيون من مساعدي القضاء، و يمارسون مهامهم وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون."