أقدمت الحكومة المغربية في مجلسها ليوم 28 دجنبر 2012 على المصادق على مرسوم رقم 349-12-2المتعلق بالصفقات العمومية. و لا يستقيم أن تمر مثل هذه الفرصة دون تقديم قراءة أولية لبعض جوانب الإصلاح الجديد، و ذلك من أجل تعميم الفائدة و تحسيس العموم و استدرار مزيد من النقاش في صفوف المهتمين و المتخصصين و مختلف الفاعلين. و الحقيقة، أن هذه الورقة لا يمكنها أن تسع ميدان الصفقات العمومية بكل أبعاده الاقتصادية و المالية و الاجتماعية و كذا بعده السياسي (يراجع بهذا الشأن مقالتنا حول أدوار الصفقات العمومية بين الإطارين النظري و التطبيقي)، خصوصا و أن الإطار القانوني لهذا المجال غير مستقر و يتشابك مع نصوص تنظيمية متعددة و أخرى تشريعية كالتي تتعلق بالمراقبة و المحاسبة على سبيل المثال، و يزداد تناول الموضوع تعقيدا إذا أخذنا بعين الاعتبار شح المعلومات و الإحصاءات المتعلقة بإنجاز الصفقات العمومية، مما يصعب من مهمة النظر في حصيلة الإصلاحات و الوقوف بالأرقام و المؤشرات على مواطن نجاحها و إخفاقها. بلا شك، إن مجال البحث في هذا الموضوع شائك و واسع، و مقاربته في هذا المقام تقوم على عرض بعض مكامن قوة الإصلاح الجديد و تحليل و مقارنة بعض مقتضياته و أهدافه المتعلقة بتبسيط المساطر و بتسهيل ولوج المقاولات الصغرى و المتوسطة إلى الصفقات العمومية، مع التعليق على الطبيعة القانونية للنص المنظم لها و السياق و المنهجية اللذين قد يكونا قد ألقيا بظلالهما على معالم مراجعة المرسوم السالف الذكر، و سيتم كذلك التطرق إلى نبذة تاريخية عن أهم الإصلاحات السابقة.
و أجد في البداية أنه من الإنصاف أن نلفت الانتباه إلى أن مرسوم رقم 349-12-2، الذي نحن بصدد الحديث عنه، قد سبق الإعداد له في الولاية الحكومية السابقة، غير أن الحكومة الحالية كان لها السبق في تضمينه مقتضيات نوعية من شأنها أن تحدث فارقا من حيث الحصيلة مقارنة مع باقي الإصلاحات، لاسيما إذا ما تم استحضارها إلى جانب الإصلاحات الهيكلية الأخرى التي ستدعم الحكامة، خصوصا تلك التي ستتناول قانون المالية، لجنة الصفقات، المفتشيات العامة، المراقبة المالية للدولة على المقاولات و المؤسسات العمومية و كذلك الجهوية و إصلاح القضاء و الولوج إلى المعلومة.
و بالرجوع إلى تاريخ الإصلاحات في مرحلة مغرب ما بعد الاستقلال، نلاحظ أن الإطار القانوني للصفقات العمومية قد شهد العديد من المراجعات، يمكن تقسيمها إلى جيلين كبيرين: الجيل الأول من الإصلاحات، الذي بدأ مع ظهير 06 غشت 1958 و انتهى بمرسوم 14 أكتوبر 1976 مرورا بمرسوم 19 ماي 1965، ترجم مواكبة الإطار القانوني للصفقات العمومية للتنظيم المؤسسي و الإداري و المالي الجديد غداة الاستقلال من جهة، و لتطور الطلبية العمومية من حيث الحجم و النوع، من جهة أخرى. أما الجيل الثاني من الإصلاحات، فقد انخرط فيه المغرب سنوات 1998 و 2007 و 2013، أي ثلاث إصلاحات في أقل من 15 سنة، باحتساب مشروع المرسوم المصادق عليه مؤخرا. و مقارنة بسابقه، يعتبر الجيل الثاني من الإصلاحات مرتبطا أكثر بمتطلبات أو فرائض الانفتاح الاقتصادي، و بالمعايير الدولية في هذا المجال، إلى جانب المبادئ المتعلقة بالشفافية و المنافسة و المساواة و الحكامة و التنمية المستدامة.
تبعا لما سبق، يمكن القول أن جملة المراجعات أو الإصلاحات التي طالت الإطار القانوني للصفقات تنم عن دينامية إيجابية لهذا الميدان، و لعل الطبيعة القانونية للنص المتعلق بالصفقات (مرسوم)، و التي تدخله في خانة السلطة التنظيمية للحكومة و ليس في خانة السلطة التشريعية للبرلمان، تفسر السلاسة التي يمكن بها الانتقال بهذا الميدان من صيغة إلى أخرى. و لقد سبق و أن راجت أخبار عن أن مشروع المرسوم الجديد توقف ليأخذ شكل قانون استنادا إلى الإصلاح المرتقب حينها للقانون التنظيمي للمالية الذي كان من المتوقع أن يعيد ميدان الصفقات العمومية إلى اختصاصات البرلمان، مقويا بذلك سلطة مراقبته و تتبعه للصفقات العمومية و صرف المال العام بصفة عامة. و في هذا الصدد، يقول عبد اللطيف برحو، برلماني ومختص في شؤون الجماعات المحلية والجبايات والصفقات العمومية " أن تدبير الصفقات العمومية يجب أن يكون مؤطرا بنص قانوني وليس بمرسوم فقط كما هو جاري به العمل منذ عقود، ولم تتوان الحكومات السابقة وهذه الحكومة عن خرق الدستور بشكل متكرر عبر اعتماد نظام الصفقات العمومية بمرسوم خارج الإطار التشريعي الذي كان يفترض أن يتم فيه. وقد لجأت الحكومات المتعاقبة إلى حيلة لتجاوز الأساس القانوني عبر تسمية المرسوم بالنص المحدد لشروط وشكليات إجراء الصفقات العمومية وطرق مراقبتها عوض أن تسميه المرسوم المنظم للصفقات العمومية كي تتفادى الإشكال الدستوري، وهذا التجاوز الدستوري يعطي انطباعا أوليا دائما بعدم رغبة الحكومات في احترام قواعد الشفافية والمبادئ القانونية الأساسية، وهو ما تجلى في العديد من المحاور التي تقرها منظومة الصفقات" (تصريح مقتبس من حوار صحفي لجريدة التجديد يوم 30 غشت 2011 ) و نحن بدورنا نتساءل إذا ما كان الأمر كذلك، فلماذا لم تتخلص حكومة عبد اله ابن كيران من هذه "الحيلة" و استمر النص المنظم للصفقات العمومية ضمن اختصاصات السلطة التنظيمية؟ علما أن المجلس الاقتصادي و الاجتماعي ، سبق و أن راهن على الجمع بين القانون و النصوص التنظيمية التطبيقية ضمن جملة توصياتها التي تضمنها تقريره الخاص بالموضوع، و اقترح بالتالي أن تدخل القواعد الأساسية للصفقات العمومية في إطار القانون و يترك التفصيل لمجال السلطة التنظيمية.
بعيدا عن هذه الخيارات التقنية، التي قد تأخذ أبعادا سياسية يصعب تتبعها، يهمنا في هذا الصدد أن نلفت الأنظار إلى الجانب الآخر لدينامية هذا الميدان التي يمكن أن ينظر إليها كخاصية سلبية. بصيغة أوضح، إن كثرت المراجعات تؤدي إلى عدم استقرار الإطار التنظيمي للصفقات العمومية، و تتسبب بالتالي في تعقيد الأمر على المقاولة، خصوصا الصغيرة و المتوسطة، التي تجد نفسها بعد كل إصلاح مطالبة بالتأقلم مع المستجدات القانونية الجديدة دون أن تكون مؤهلة لذلك، بسبب افتقاد للخبرة القانونية، من جهة، و ضعف قدراتها المالية التي لا تمكنها من جلب أطر متخصصة أو طلب خبرة خارجية أو ولوج عروض التكوين المتعلقة بهذا الميدان، من جهة ثانية. و يزيد الأمر تعقيدا غياب المساندة العمومية أو الخاصة أو المختلطة، المفترض أن تقدم عروض المواكبة الميدانية و التكوين و الإخبار المناسبة لخصوصية هته الشريحة من المقاولات.
أما فيما يخص مصالح المشتري العمومي المتدخلة في مسلسل إعداد و تفويت و تنفيذ الصفقات العمومية فهي أيضا تتأثر بالجانب السلبي لهذه الدينامية، خصوصا مع غياب سياسية تكوين ملزمة بهذا الخصوص. غير أن الجديد الذي جاء به مشروع المرسوم السالف الذكر يكمن في إلزام الآمرين بالصرف بالإشراف على تكوين العاملين بهذا القطاع و التوصية بإحداث مركز مخصص للطلبية العمومية؛ و هذا تطور نوعي تتجاوب من خلاله السلطات مع مختلف تقارير الشركاء داخل الوطن و خارجه على درب السعي خلف تقوية القدرات التسييرية لهؤلاء العاملين. بالجملة، يعلق في أذهان المتتبع سؤال حول مدى توفر التكوين الموجه للقطاع الخاص و مدى ملاءمته لخصوصية المقاولة الصغرى و المتوسطة، و بالأخص حول برامج المواكبة و الاستشارة العمومية التي يمكن تقديمها لهذه المقاولات التي يعرف القاصي و الداني افتقادها للموارد الضرورية لانخراطها في سياسة تكوين إرادية، فضلا عن ندرة إن لم نقل انعدام المبادرات الخاصة الخلاقة الرامية إلى التغلب على هذا العائق بشكل جماعي و مؤسسي(يراجع مقالنا حول ولوج المقاولات الصغرى و المتوسطة للصفقات العمومية: الواقع و الأفاق). على هذا المستوى، نشير أيضا إلى تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي الذي أوصى بخلق خدمات لفائدة المقاولات الصغرى و المتوسطة تضم اليقظة حول فرص الأعمال المتعقلة بالطلبات العمومية و تقديم الاستشارة القانونية في مختلف مراحل مسلسل الشراء العمومي.
من جانب آخر، و خلافا لمراجعة 2007، و بشكل أقوى مراجعة 1998، التي غابت فيها المنهجية التشاركية الموسعة و طغى عليها ثقل الشركاء الدوليين و حزمة متطلباتهم بهذا الشأن، و التي تمخضت أيضا في إطار سياق سياسي و اجتماعي طبيعي، لا بد للمتتبع أن يقف بالبحث حول فرضية مفادها أن الإصلاح الجديد ثم إعداده وفق منهجية تشاركية موسعة و في خضم ربيع عربي مباغت أعاد تشكيل المشهد السياسي في العديد من الدول العربية، مع تفرد المغرب بنموذج خاص للإصلاح لا تزال الأطراف المختلفة تتدافع حول طرح أسسه و رسم معالمه، بالإضافة إلى تواتر نشر نتائج العديد من الدراسات و التقارير الصادرة عن مختلف الهيئات و المنظمات. فإلى أي مدى استجاب هذا الإصلاح لملاحظات مختلف الأطراف المتدخلة أو المعنية بهذا المجال كالمنضمات المهنية و جمعيات المجتمع المدني و المبادرات الفردية لعموم المواطنين؟ ثم ما مدى انخراط أو إشراك الأطر المتدخلة في مسلسل الشراء العمومي لدى مختلف الهيئات العمومية في هذا الورش الإصلاحي الكبير للاستفادة من تجربتها الميدانية؟ و كيف يمكن تقوية و تفعيل القوة الإقتراحية لهته الأطراف و إشراكها في المجهود التشريعي خصوصا و أن دستور 2011 يفسح مجالا واسع على هذا المستوى؟ ثم أخيرا أين يتجلى تأثير السياق الجديد على مضامين مشروع المرسوم السالف الذكر و ما مداه في ذلك؟
صراحة، عرفت منهجية الإصلاح المتبعة لإعداد مشروع مرسوم رقم 349-12-2 تحسنا على مستوى المقاربة التشاركية المعتمدة، فبالإضافة إلى إشراك مختلف الفاعلين الوطنيين و الشركاء الدوليين في إعداد مسودة المشروع، سبق أن كانت الصفقات العمومية موضوع ملتقى وطني نظمته، في أبريل سنة 2009، الخزينة العامة للمملكة، شارك فيه مختلف الفاعلين و الشركاء و المهتمين. كما يعتبر هذا المرسوم أول نص قانوني تعرضه الأمانة العام للحكومة على مختلف الأطراف و عموم المواطنين من أجل التعليق عليه عبر بوابتها الإلكترونية في 18 من فبراير 2010. أما على مستوى السياق، و إلى جانب كل من الشعارات التي رفعها أعضاء حركة 20 فبراير و التقارير التي أصدرها مجلس الحسابات و مختلف هيئات المراقبة، و التي تشير إلى جملة من الإختلالات التي ترافق برمجة و تفويت و تنفيذ عقود هذا الميدان الحيوي، و المتابعات القضائية التي تلت ذلك و طالت عددا من المسؤولين العموميين -إلى جانب كل ذلك- اشتغلت في الآونة الأخيرة بعض المؤسسات الدستورية على موضوع الصفقات العمومية من زوايا مختلفة، وأخص بالذكر المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي، بعد نظره في حصيلة الإصلاحات السابقة للميدان، قدم حزمة من التوصيات التي من شأنها تحسين وقع الصفقات العمومية على الاقتصاد والمقاولة، و قد سبق الإشارة إلى بعضها سابقا. و قبله كذلك مجلس المنافسة، بالإضافة إلى الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة وجمعيات المجتمع المدني النشطة في هذا المجال.
من جانب آخر متعلق بالتصور العام للإصلاح، يمكن القول أن الأهداف النظرية التي سطرها الإصلاح لا تبتعد كثيرا عن أهداف المراجعات السابقة، مع فارق تقديم ضمانات إضافية لتفعيلها و تضمينها مبادئ و حلولا جديدة تتوخى معالجة النقائص التي ثم الوقوف عليها أثناء تطبيق مرسوم 2007 الجاري به، أو ملاءمة الإطار التنظيمي مع المستجدات و المتطلبات الجديدة. يهدف إذا هذا المشروع إلى تبسيط المساطر و توضيحها و تحقيق مبادئ حرية الولوج إلى الطلبات العمومية و المنافسة و المساواة و الشفافية، مع إضافة ضرورة الأخذ بمتطلبات الحكامة و حماية البيئة و التنمية المستدامة، و تضمين حلول جديدة طلبا لعقلنة المصروفات العامة و حماية حقوق المقاولة.
في نظرنا، على الرغم من أهمية هذه الأهداف و المبادئ، و التي أصبحت من المسلمات المرتبطة باقتصاد السوق الحر، إلا أن ميدان الصفقات العمومية، و من خلفه المقاولات الصغرى و المتوسطة و عموم المواطنين، في حاجة ماسة إلى إصلاح يرتبط بمنطق تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية محددة أكثر من ارتباطه بمنطق احترام المبادئ و التكييف اللامتناهي للإطار القانوني و التجاوب المطلق مع التزامات المغرب إزاء شركاءه الدوليين؛ و أعتقد أن السياق الذي سبقت الإشارة إليه يدفع بتفعيل الإصلاح في هذا الاتجاه و قد يعجل بإصلاحات أخرى في المستقبل القريب، بل و من شأن تفعيل منشور رئيس الحكومة السيد عبد الإله ابن كيران الصادر بشأن إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2013 أن يوجه مسار الإصلاح وفق هذا المنطق. و للتذكير فقط، فإن هذا المنشور يتوخى ربط الإنفاق العمومي بالحاجيات الضرورية، و التقليص من النفقات المتعلقة بالدراسات مع الاستثمار الأمثل للموارد البشرية المتوفرة، و تأسيس مبدأ الاستغلال المشترك للوسائل المتاحة و ربط اعتمادات الاستثمار بمستوى الإنجاز وبتقييم الوقع الاقتصادي والاجتماعي، و تشجيع استهلاك المنتوج الوطني، و تخويل المقاولات الصغرى والمتوسطة الأفضلية وتسريع صرف مستحقاتها، بالإضافة إلى تسهيل وتشجيع ولوج المقاولات الوطنية للصفقات العمومية، وخاصة المقاولات الصغرى والمتوسطة.
على هذا المستوى الأخير، لا بد من الإشارة إلى تبلور الإرادة السياسية للحكومة الحالية التي تخلصت إلى حد ما من "فوبيا" المعايير و التزامات المغرب الدولية التي ما فتئت السلطات ترفعها من قبل للتصدي لأي طرح يقضي بمنح الأفضلية بقوة القانون لفائدة المقاولة الوطنية أو تمتيع المقاولات الصغرى و المتوسطة بحصة ثابتة من قيمة الصفقات العمومية. و إذا كان المرسوم الجديد سار على نهج سابقه في مسألة منح الأفضلية، إذ بقي اختياريا في إطار السلطة التقديرية لصاحب المشروع، فإنه بالمقابل قد نص على تخصيص 20 في المائة من قيمة الصفقات العمومية للمقاولات الصغرى و المتوسطة التي تقوم بدور سوسيو-اقتصادي كبير من خلال امتصاص البطالة و المساهمة في خلق الثروة.
و ارتباطا بالأهداف كذلك، يمكن التركيز على ثلاث مقتضيات أساسية جاء بها المرسوم الجديد رقم 349-12-2 و التي من شأنها تبسيط جانب مهم من المساطر المرتبط بمختلف مراحل الشراء العمومي: أولا، توسيع مجال تطبيق هذا المرسوم ليشمل بالإضافة إلى صفقات الدولة، صفقات المؤسسات العمومية والجماعات الترابية و مجموعاتها، ليقطع إلى حد ما مع عدم وحدة الإطار التنظيمي وتشتته بين نصوص ذات طبيعة قانونية ومجالات مختلفة. على هذا الصعيد، قد سبق و أن تساءلنا في موضع آخر قبل حوالي السنتين، و بالضبط غداة تقديم مشروع الجهوية الموسعة، هل ستتم ملاءمة نظام الصفقات العمومية مع مشروع الجهوية الموسعة، خاصة و أن بعض مضامينه تتقاطع مع مسلسل الشراء العمومي؟ و قد تأكد اليوم هذا الافتراض، حيث تم إدخال صفقات الجهات و العمالات و الأقاليم و الجماعات في مجال تطبيق هذا المرسوم، و ذلك في "إطار فترة انتقالية في انتظار دخول القانون التنظيمي المتعلق بالجهوية حيز التنفيذ" (المادة 2). مما يعني أن مشروع الجهوية المرتقب سيكون له تأثير في المستقبل القريب على الإطار التنظيمي للصفقات، بل و ربما على المنظومة بأكملها فيما يتعلق منها بصفقات الجماعات الترابية.
ثانيا، إعفاء المقاولات المتعهدة من ضرورة تقديم العديد من المستندات المكونة لملفها الإداري. فابتداء من فاتح يوليوز 2013، تاريخ دخول المرسوم حيز التنفيذ، لن تكون المقاولات، التي ترغب في المنافسة على صفقة ما، ملزمة بتقديم الشهادة الجبائية وشهادة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى شهادة القيد في السجل التجاري. في المقابل، سيقتصر هذا الواجب فقط على المقاولة التي ستسند إليها الصفقة (المادة 25). و هذا تدبير سبقت إليه العديد من دول العالم و يُمَكن المقاولة من أن تقتصد شيئا من كلفة الحصول على هذه المستندات و تيسير ترشحها وتركيز جهودها في إعداد العروض. أما المقتضى الثالث الذي من شأنه تبسيط المساطر و حفظ الحقوق كذلك، فيتعلق بتمكين المقاولة المتضررة من رفع شكاية بشكل مباشر إلى لجنة الصفقات دون اللجوء المسبق إلى صاحب المشروع أو الوزير المعني (المادة 170). و هذا تبسيط نوعي سوف يمكن المقاولات من آلية مبسطة للطعون الإدارية، مؤطرة بآجال محددة، من أجل الدفاع عن مصالحها المرتبطة بميدان الصفقات.
و قبل الختام، تجدر الإشارة أنه من خلال تحليل التجارب السابقة، نستخلص أن بعض الحلول التي تأتي بها مشاريع الإصلاح تحمل في طياتها بعض الإشكالات التي سرعان ما تطفو على السطح لتتحول إلى عائق جديد أمام أحد أطراف الصفقة. على سبيل المثال، نص مرسوم 2007 الجاري به العمل على آلية القرعة في اختيار ممثلي صاحب المشروع أعضاء لجنة طلب العروض؛ فإذا كانت آلية القرعة هته تقدم ضمانة إضافية للمقاولات و للعموم حول شفافية المساطر، فإنها بالمقابل تزيد من تعقيدها أمام المصالح العاملة لدى أصحاب المشاريع. لهذا السبب، تدارك المرسوم الجديد هذا الأمر الغير مرغوب و تخلى بصفة نهائية عن هذه الآلية، تاركا المجال لصاحب المشروع لاختيار ممثليه، مع تنصيصه أيضا على توسيع عضوية اللجنة لتشمل المسؤول عن مصلحة الشراء و عن المصلحة المالية فيما يتعلق مثلا بالمؤسسات العمومية(المادة 35).
في نفس السياق، و رغبة في تحقيق أكبر لمبدأ الشفافية، ثم التنصيص سابقا على إعطاء المتعهد الذي تنقصه بعض المستندات فرصة أخرى، و إمهاله مهلة إضافية من أجل تتميم ملف ترشحه، الشيء الذي ترجم على مستوى مساطر الشراء العمومي بتعقيد إضافي، بحيث أصبحت لجنة طلب العروض ملزمة في كل حالة مماثلة بتوقيف أشغالها من أجل استدعاء المعنيين أو دعوتهم برسالة مضمونة وفق آجال محددة من أجل تقديم المستندات الناقصة (المادة 35 من مرسوم 2007). و لحسن الحظ أن إكراهات هذه الوضعية ستتقلص مع المرسوم الجديد الذي أعفى المقاولات المتعهدة من ضرورة تقديم العديد من المستندات المكونة لملفها الإداري مجنبا المشتري العمومي من واجب الركض وراء المترشحين الذين تنقصهم مستندات تتعلق بالشهادة الجبائية وشهادة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى شهادة القيد في السجل التجاري(المادة 25 من المرسوم الجديد).
و علاقة بنفس الملاحظة، و في فيما يخص مشروع المرسوم رقم 2-12- 349 المتعلق بالصفقات العمومية، فالتخوف يستمر من أن لا يتخلص الإصلاح الجديد من هذا المنطق المعكوس أو التضارب الغير مرغوب بين بعض المقتضيات و المبادئ و الأهداف، و هناك مؤشرات نظرية قد تعزز هذه الفرضية. و كمثال على ذلك، التضارب المحتمل بين تجمعات الشراء و هدف تسهيل ولولج المقاولات الصغرى و المتوسطة إلى الصفقات العمومية. حيث نصت المادة 146 من هذا المرسوم، المشار إليه أعلاه، على طريقة تجمعات الشراء (collectifs d’achat) التي تسمح لعدد من المشترين العموميين بتجميع طلباتهم المتعلقة بأعمال من نفس النوع وتنسيق تفويتها عبر إعلان وحيد عن المنافسة. فإذا كان "تجمع الشراء" يهدف إلى عقلنة النفقات العمومية ونجاعة التدبير، فإن مخاطر تحوله إلى عائق أمام المقاولات الصغرى تبقى واردة، خصوصا إذا أدى إلى تفويت صفقات كبرى تتجاوز القدرات الإنتاجية و التنافسية لهته الفئة من المقاولات. بصيغة أخرى، فالسعي خلف النجاعة و العقلنة من جهة قد يترجم إلى تقليص ولوج المقاولات الصغرى إلى الصفقات العمومية من جهة أخرى، مما قد يسقط الإصلاح في فخ تضارب مقتضياته مع بعض أهدافه.
نفس المنطق ينطبق على برنامج نزع الصفة المادية عن الصفقات العمومية الذي نتناوله كمثال ثاني حول هذه الظاهرة. فهذا البرنامج انطلق مع مرسوم 2007 (المادة 76 و 77) و عززه المرسوم الجديد رقم 2-12- 349 (مواد 147 إلى 151) و هو يهدف إلى عصرنة تدبير الصفقات العمومية و تبسيط المساطر و تعزيز الشفافية من خلال استعمال تكنولوجيا الإعلام والتواصل. بصراحة، إذا ما استثنينا المقاولات العاملة في مجال تقنيات الإعلام و التواصل، هناك إمكانية لتحول هذا المشروع الطموح إلى عائق إضافي أمام باقي المقاولات الصغرى والمتوسطة و ما دونها، التي قد لا تجد من الإمكانات المادية و الموارد البشرية التي تمكنها من الانخراط و الاستفادة من هذا البرنامج على قدم المساواة مع المقاولات الكبرى.
في نهاية الأمر، يتضح أن المرسوم الجديد رقم 2-12- 349 الذي صادقت عليه الحكومة متطور و يقترب إلى مصاف الجيل الجديد من النصوص المنظمة للصفقات عبر العالم، و قد ساهم بحزمة جديدة من الحلول لبعض المشاكل التي يعاني منها القطاع. و لابد من الإشارة إلى أن السياق الذي سبقت الإشارة إليه و المعزز بظرفية دستورية جديدة و بالإصلاحات الهيكلية المبرمجة، قد يدفع بالإصلاح إلى أقصى نقطة من الفعالية و النجاعة و الشفافية، شريطة أن تلتزم مختلف الأطراف بالتنزيل السليم لنص و روح مقتضياته، و أن تواكبه تدابير موازية داعمة، و أن يتم تتبع تفعيل مقتضياته وفق مؤشرات محددة، ترنوا إلى الحفاظ على خط سيره المتوازن نحو مجموع الأهداف المرتبطة به، و وفق المبادئ العامة المسطرة، مع تجنب أي تضارب غير مرغوب لبعض مقتضياته، هذا دون أن نغفل عن ضرورة انخراط المجتمع المدني و القطاع الخاص في هذا الورش الهيكلي و خروجهما من موضع المترقب و الملاحظ إلى موضع الرقيب و الفاعل الشريك في مسلسل تفعيل الإصلاحات./.