الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلامُ على سيدنا محمدٍ أشرفِ المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد ...
ففي البدايةِ ، أتقدم بأحلى آيات الشكرِ وعظيم الامتنانِ إلى أستاذي الجليل ؛ ونائب عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأكادير : فضيلة الدكتور الحسين بلوش حفظه الله ، والذي شرَّفني بالإشرافِ على هذا البحثِ المتواضع ، وأغدق علي من فضله وعِلمه ، وكفلني بدعمه ورعايته لهذا البحث في مختلَف مراحله حتى استوى على ساقه .
فمني لأستاذي الفاضل كلَّ الشكر والتقدير .
كما أتقدم بالشكر الخالص إلى كلٍ من أستاذي وشيخي : نائب عميد كلية الشريعة بأكادير ومنسق ماستر أحكام الأسرة في الفقه والقانون ؛ فضيلة الدكتور اسماعيل شوكري ؛ وأستاذي الجليل وشيخي الفاضل : فضيلة الدكتور حسن القصاب . واللذان تفضَّلا بقَبولِ عناء قراءة هذا البحث قصد تقويمه وتقييمه.
والشكرُ موصولٌ أيضا لأساتذتي الأجلاء في كلية الشريعة ؛ ولِكُلِ من ساهم من قريبٍ أو بعيدٍ في إخراج هذا العمل المتواضع إلى حيز الوجود .
فجازى الله الجميع خير الجزاء .
أستاذي رئيس اللجنة ؛
السادة أعضاء لجنة المناقشة ؛
أيها الحضور الكرام .
لقد روي عن عمرَ بنِ الخطابِ t أنه قال : " ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يُحْدِث بين القوم الضغائن " .
إن هذا الأثرَ الجليل ، ليؤكد لنا مدى المكانة البارزة التي يحتلها الصلح في التراث القضائي الإسلامي ، إذ به تزول الخصومة بين المتنازعينَ بالتراضي ، وتأتلف القلوب ، وتصفو النفوس، وتطيب المشاعر ...
ولعل هذا ما يفسر الاهتمام الكبير الذي أولته إليه كلُّ الشرائع والرسالات السماوية وكذا القوانين الوضعية ، خاصة وأنه يعتبر إحدى الوسائل الفعالة والناجعة التي يتم اللجوءُ إليها قصد إنهاء المنازعاتِ بشكل ودي . كما أن المنطق السليم يوجب في كثير من الأحيان استعمال نوع من المرونة في حل النزاعات بين طرفي الخصومة ، بدل حسمها بحكمٍ قضائيٍّ يَصْدُرُ لصالح أحدهما الذي قد يكون ألحنَ بحجته من خصمه .
ومن هذا المنطلق ، حثت الشريعة الإسلامية على الصلح ودَعَت إليه في مختلف مصادرها . والقرآن الكريم حافلٌ بالآيات الكريمة التي تأمر بالصلح وترغب فيه ؛ ومنها على سبيل المثالِ :
- قولُه تعالى :) لا خير في كثير من نجواهم إلا من امر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نوتيه أجرا عظيما ( .
- وقولُه تعالى : ) إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( .
كما وردت في السنة النبوية أحاديثَ كثيرة تؤكد على الصلح ، ومنها :
قوله r : " الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحلَّ حراما أو حرَّم حلالا " .
كما أجمع الفقهاء الراشدون وبقية الصحابة والتابعون وجمهور الأئمة على مشروعية الصلح ، لِما فيه من جلبٍ لعظيمٍ من المصالح ودفعٍ لكثيرٍ من المفاسد .
وعلى امتداد التاريخ الإسلامي ، حافظ الفقهاء والقضاة على الصلح كآلية مثلى لحل المنازعات ، لأنه يؤدي إلى قطعِ الخصومةِ ونشرِ المودةِ والوئامِ وإحلالِ الوفاقِ محل الشقاق .
ومن جانبه سار القضاءُ المغربيُّ منذ القدمِ على اعتمادِ الصلحِ وسيلةً لتسوية المنازعات والخصومات، وهو نفس التوجه الذي كرسه المشرع المغربي ، حيث عَمِل على تقنينه وتنظيمه بمقتضى نصوص قانونية موضوعية وإجرائية .
هذا ، وتزداد أهميةُ اللجوءِ إلى الصلح حينما يتعلق الأمر بالمنازعات الأسرية ، لكونها تكتسي طابعا خاصا ، وتتعلق بعلاقات ذات حساسية وخصوصية .
ولعل هذا ما حذا بالمشرع المغربي إلى التأكيد على إلزامية الصلح في العديد من القضايا الأسرية ، خصوصا تلك المتعلقة بدعاوى انحلال ميثاق الزوجية ؛ حيث سنَّ له إجراءات مسطرية مفصلة تُمارَس تحت إشراف القضاء ومراقبته .
ومما لا شك فيه ، أن تسوية هذه المنازعات عن طريق الصلح سيساهم لا محالة في الحفاظ على تماسك الأُسَر واستقرارها ، والحد بالتالي من ظاهرة التفكك الأسري التي تقض مضجع المجتمع المغربي .
غير أن نجاح الصلح في مجال الأسرة يظل رهينا بالتطبيق السليم للنصوص القانونية من قبل الفاعلين في الحقل القضائي ، وأيضا بتوافر مجموعة من الشروط الموضوعية والجوهرية الكفيلة بضمان فعاليته ونجاعته .
ومن أجل الإحاطة أكثر بهذا الموضوع الهام ، تأتي هذه الدراسة العلمية والتي جاءت تحت عنوان : " الصلح في قضايا الأسرة على ضوء التشريع المغربي والعمل القضائي "
وتتجلى أهمية هذه الدراسة المتواضعة في كونها تسلط الضوء على إحدى الآليات المهمة في حل الخلافات الأسرية سواء ما يتعلق منها بالجانب النظري أو العملي .كما أنها تطرقت للعديد من القضايا والإشكالات القانونية والواقعية المتعلقة بمسطرة الصلح ، بالإضافة إلى أنها واكبت أهم المستجدات التشريعية والقضائية المرتبطة بالموضوع .
وفيما يخص دواعي الإقدام على خوض غمار هذا البحث ، فيمكن إجمالها في النقاط الآتية :
أولا : راهنية موضوع البحث ، لكونه يتناول بالدراسة والتحليل إحدى أهم المستجدات التي جاء بها قانون الأسرة المغربي ألا وهي مسطرة الصلح .
ثانيا : عدم وجود دراسة جامعة مانعة في موضوع الصلح الأسري تجمع بين النظري والعملي.
ثالثا : الرغبة في إبراز الفلسفة التصالحية للمشرع المغربي في مجال تسوية المنازعات الأسرية .
رابعا : الحاجة الملحة لرصد واقع مسطرة الصلح في التطبيق القضائي الأسري .
خامسا : المساهمة في تطوير مسطرة الصلح الحالية من خلال اقتراح بعض الحلول القانونية والواقعية الكفيلة بتفعيل هذه المسطرة .
هذا ، وقد اعترضتني أثناء إنجاز هذا البحث جملة من الصعوبات ، تتمثل أهمها فيما يلي :
أولا : قلة الدراسات والأبحاث التي تعنى بالصلح في قضايا الأسرة مقارنة مع الصلح المدني ، والذي تطرق له رجال الفقه والقانون بشكل مستفيض .
ثانيا : وجود ترسانة قانونية مهمة تعرضت للصلح الأسري ، مما نتج عنه صعوبة تناول الموضوع في كل جوانبه ، فتم الاقتصار في دراستنا على الصلح الذي يحول دون انحلال الرابطة الزوجية مع الإشارة إلى الجوانب الأخرى في المبحث المتعلق بنطاق الصلح .
ثالثا : تعقد مساطر الحصول على المعلومة لدى المؤسسات الرسمية ، سواء القضائية منها أو غير القضائية .
رابعا : عدم توفر أقسام قضاء الأسرة التي شملتها الدراسة الميدانية على إحصائيات جاهزة تتعلق بموضوع البحث ، مما تتطلب منا الاشتغال على سجلات المحكمة وكذا على الإحصائيات الشهرية والدورية، وذلك من أجل العمل على ترجمتها إلى إحصائيات سنوية تمكننا من رصد واقع مسطرة الصلح في التطبيق القضائي .
خامسا : تعدد المقاربات الموظفة في تناول الموضوع ، لكونه يجمع بين ما هو فقهي وقانوني وقضائي ورياضياتي ونفسي - اجتماعي .
أما بالنسبة للإشكالية المبحوثة فقد تمت صياغتها على النحو الآتي : إلى أي حد تحققت الإرادة التصالحية للمشرع المغربي في التطبيق القضائي الأسري ؟
ولمعالجة هذه الإشكالية المحورية ارتأيت تقسيمها إلى ثلاثة محاور كبرى تتجلى معالمها في التساؤلات الآتية :
- ما مدى حرص المشرع المغربي على إدماج العدالة التصالحية في النظام القانوني الأسري ؟
- ما هو واقع مسطرة الصلح في التطبيق القضائي الأسري وطنيا ومحليا ؟
- كيف يمكن تفعيل مسطرة الصلح من أجل الحد من ظاهرة التفكك الأسري ؟
وفيما يتعلق بمنهج الدراسة ، فقد آثرت اعتماد المنهج الاستقرائي التحليلي مع الاستعانة بالمقاربة الإحصائية ، حيث عَمِلت على استقراء وتحليل النصوص القانونية المتعلقة بالصلح في مادة الأسرة ، مع إدراج بعض المعطيات الإحصائية ذات الارتباط بالموضوع .
ومن أجل مقاربة ودراسة موضوع البحث فقد ارتأيت تناوله في فصلين ذيلتهما بخاتمة وملحق يتضمن بعض الوثائق الرسمية ذات الصلة بالموضوع .
وقد تناولت في الفصل الأول مفهوم الصلح في القانون الأسري المغربي ،
وقسمته إلى ثلاثة مباحث ؛ خصصت الأول منها لتعريف الصلح وتمييزه عن غيره من الأنظمة المشابهة له كالتحكيم والوساطة ، وفي المبحث الثاني قمت بتحديد نطاق الصلح الأسري حيث بينت القضايا الخاضعة للصلح الأسري وتلك المستثناة منه . ثم أخيرا تعرضت في المبحث الثالث للمؤسسات المرصودة للصلح وأخص بالذكر محكمة الأسرة ومؤسسة الحكمين ومجلس العائلة .
أما الفصل الثاني فقد خصصته لمقاربة موضوع الصلح الأسري من الناحية العملية ، وذلك من أجل الوقوف عند واقع مسطرة الصلح في التطبيق القضائي الأسري .
وقسمته بدوره إلى ثلاثة مباحث ، خصصت المبحث الأول لرصد واقع مسطرة الصلح من خلال نشاط أقسام قضاء الأسرة وطنيا ومحليا ثم وقفت في المبحث الثاني عند أهم الصعوبات التي تعترض مسطرة الصلح في الواقع العملي وأخيرا تناولت في المبحث الثالث بعض الحلول الكفيلة بتفعيل آلية الصلح في نظامنا القضائي المغربي .
وعموما ، يمكن القول بأن أهم نتيجة خلصنا إليها من خلال هذه الدراسة العلمية المتواضعة تتمثل في شساعة الفرق بين التنظير القانوني والواقع العملي .
فإذا كان المشرع المغربي قد حرص كل الحرص على إدماج العدالة التصالحية في النظام القانوني الأسري ؛ لِما لذلك من أهمية كبيرة في الحفاظ على استقرار الأسر وحمايتها من التفكك والانهيار ، فإن الواقع العملي أثبت عدم نجاعة المقتضيات القانونية المنظمة لمسطرة الصلح ، نظرا للإشكالات والصعوبات العملية التي تعترض تطبيقها ومنها على سبيل المثال :
- عدم فعالية إجراءات التبليغ .
- عدم نجاعة الأجهزة المرصودة للصلح .
- التعامل السلبي للقضاء مع مقتضيات الصلح .
- عدم استعداد الأطراف المتنازعة للتصالح .
- وأخيرا : عدم كفاية الإمكانيات المادية والبشرية .
مما نستنتج معه أن الإرادة التصالحية للمشرع المغربي لم تتحقق بالشكل المطلوب على مستوى التطبيق القضائي .
وأمام هذا الواقع ، فقد دعوت من خلال هذا البحث إلى ضرورة إعادة النظر في مسطرة الصلح الحالية والتفكير في وضع استراتيجية جديدة والتي من شأنها أن تضمن فعالية ونجاعة مسطرة الصلح في قضايا الأسرة .
وكمساهمة مني في بلورة هذه الاستراتيجية عَمَليا في أرض الواقع ، اقترحت جملة من المقترحات أجملها في ما يلي :
- أولا : العمل على نزع اختصاص إجراء المحاولة الصلحية من يد القضاء نظرا للإكراهات الواقعية التي تواجه قضاة الأسرة أثناء تطبيق مسطرة الصلح .
- ثانيا : إحداث مؤسسة قاضي الصلح تسند إليها مهمة الإصلاح بين الزوجين فقط ، دون غيرها من المهام والاختصاصات الموكولة لقضاة الموضوع .
- ثالثا : العمل على إصدار دليل عملي خاص بالصلح في قضايا الأسرة ليكون مرجعا موحدا لقضاة الصلح .
- رابعا : تفعيل مؤسسة الحَكَمين بشكل يضمن مساعدة القضاء على أداء مهامه الصلحية على أحسن وجه ، مع التقيد بالقواعد الشرعية المنظمة للتحكيم الأسري .
- خامسا : ضرورة الاستعانة بمؤسسات خارج الجهاز القضائي وانتدابها من أجل إجراء المحاولة الصلحية ، وخاصة تلك التي أثبتت فعاليتها ونجاعتها كما هو الشأن بالنسبة لمراكز الإرشاد الأسري .
- سادسا : إنشاء مكاتب للاستشارات الأسرية في مختلف المدن المغربية والعمل على دعمها حتى تساهم في تعزيز تماسك الأسر وحمايتها من التفكك .
- سابعا : إحداث مراكز خاصة بالوساطة الأسرية يتم اللجوء إليها إجباريا قبل رفع الدعاوى أمام محاكم الأسرة وذلك من أجل ضمان التطبيق السليم لمسطرة الصلح .
- ثامنا : إخضاع المكلفين بالمهام الصلحية لدورات تكوينية ، وخاصة في مجالي علم النفس وعلم الاجتماع .
- تاسعا : تفعيل المقاربة الوقائية في التعاطي مع قضايا الأسرة بدل التركيز على المقاربة القانونية المحضة والتي أبانت عن قصورها في تغليب كَفَّةِ نسبة نجاح العَمَلية الصلحية على كَفَّةِ نسبة فشلها .
- عاشرا : ضرورة الإسراع بإخراج المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة إلى حيز الوجود – والذي نص عليه الدستور المغربي الجديد في الفصل 33 – نظرا للإشكالات المركَّبة التي يعرفها ملف الأسرة بالمغرب .//.
وفي الختام ، فإني لا أ دعي استيفاء الموضوع حقه بالشكل المطلوب بل إنني أقرّ و أعترف بالعجز والقصور في مقاربته من مختلف جوانبه .
وإن كان لايفي بالمراد فلعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق وسبحان من اتصف بالكمال .
وأشكر مجددا أساتذتي الأجلاء على ما أنفقوه من وقتهم الثمين في سبيل دراسة ومناقشة هذا العمل المتواضع ، و أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم وأن يبارك في عِلمهم وأعمارهم . والحمد لله رب العالمين .