نص الفصل 58 من النظام الأساسي للقضاة على أنه " يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو بالوقار أو الكرامة خطأ من شأنه أن يكون محل متابعة تأديبية".
إن القاضي لا يمكن أن يسأل تأديبيا إلا عن الأخطاء الخطيرة المرتبطة بسلوكيات الوظيفة أو أعمالها ،و تلك قاعدة تهدف إلى تجنيب المجلس الأعلى للقضاء من النظر في الكثير من الأخطاء التي من شأن تحريك المتابعة بشأنها إضفاء مجرد تراكم عددي يضاعف من عمل المجلس ويأخذ من وقته ويبعده عن دراسة الملفات الشائكة التي تقتضي بحثا وتحقيقا معمقا ومداولات وقرارات حاسمة ينتظرها الجميع
ولا شك أن كثيرا من واجبات القاضي ترجع إلى الضمير و إلى المسلك العام ، لكن ذلك لا يمنع من مساءلته عن أفعال محددة وليس عن أفعال عامة حتى لا يتم النفخ والتضخيم من سلطة التأديب و إبعادها عن تحقيق أهدافها لتشمل أمور سطحية ومختلقة .
فالخطأ المهني القضائي هو الخطأ الذي يقع من القاضي أثناء ممارسة عمله أو بمناسبته،وبهذا التعريف يخرج عن ماهية الخطأ المهني التصرفات والالتزامات والعقود الصادرة عن القاضي في المجال الأسري والعقاري والمدني كالبيع والشراء والكراء والرهن ونحوه
،لأنه يبرمها بصفته كمواطن له نفس الحقوق وعليه من الالتزامات،وهكذا فإن وقوع خلاف أو منازعة قانوينة أو قضائية بشأنها يخول للطرف المتضرر اللجوء للقضاء ،ولا يمكنه التشكي أمام المجلس الأعلى للقضاء لأنه مجلس تأديبي مهني يحاكم تصرفات مهنية وليس محكمة ،ومن ثم لا يملك الفصل في المنازعات القانونية والقضائية المثارة سواء بين القضاة أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم من المواطنين،لأن تخويله النظر في مثل هذه القضايا فيه مصادرة لاختصاص القضاء الأصيل والطبيعي للفصل فيها ،لان اختصاص القضاء متصل بالنظام العام ،وهو اختصاص مطلق لا يمكن أن تشاركه فيه أي جهة إدارية آخرى تحت طائلة اعتبار البت فيه قرار إداري مشوب بالشطط في استعمال السلطة لخرق قواعد الاختصاص.
على أن هذه القاعدة البديهية يحدها قيدين استثنائيين مهمين أولاهما أن ارتكاب أفعال أو تصرفات غير أخلاقية ولو كانت خارج ممارسة المهنة تندرج في إطار الخطأ التأديبي ما لم يشكل الأمر جرما جنائيا ،نفس الأمر ينطبق على الجرائم القصدية المرتكبة من طرف القاضي التي تعد في جميع الأحوال خطأ تأديبيا ،وهنا يتعين إيقاف البت في المتابعة التأديبية إلى حين الانتهاء المسطرة الزجرية تحت طائلة عدم المشروعية.
كما أن إبداء القاضي لرأي معين بمناسبة مقال أو ندوة معينة لا يمكن أن يعتبر مساسا بالوقار أو الكرامة ،لأن هذا المفهوم يتعلق بالمظهر اللائق أو السلوك المشين الماس بسمعة القضاء أو بأدبياته ورسالته،فالرأي المندرج ضمن حرية التعبير المكرسة دستوريا يمكن أن يقع تحت طائلة مخالفة واجب التحفظ في حالتي إبداء الآراء السياسية أو النقابية والخروج عن مقتضيات التجرد بمناسبة قضية رائجة.
وفي هذا الإطار ينص الفصل 25 من الدستور على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكاله
حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة".
فالإبداع هو إنتاج الخيال ،وتستعمل فيه الدلالة الرمزية والتصويرية، ولا يمكن قراءته بالقانون الجنائي ولا القانون التأديبي ، إذ الأدب هو موضوع اللذة والقراءة النقدية ، وهو خيال حر وجمال لا يحاكم عليه الأديب .
وحيث إن حرية النقد صورة من صور حرية الرأي والتعبير ، تتيح للإفراد بطريقة غير مباشرة المشاركة في الحياة العامة والإسهام في مواجهة المشكلات وإدارة شؤون الوطن
وهكذا جاء في قرار صادر عن محكمة النقض :
'' القذف لا يتحقق الا بنسبة واقعة معينة مشينة الى الشخص المقذوف على سبيل التأكيد, أما مجرد انتقاد شخص دون توجيه اتهام له بما يشينه وذلك بالتساؤل عن طبيعة التسيير المالي للنادي محل النزاع فلا يعتبر قذفا حتى لو تضمن اسمه, اذ هو مجرد ممارسة لحرية التعبير''.
قرار محكمة النقض عدد 1643/10 صادر بتاريخ 25 نونبر 2009"
كما جاء في قرار قيم للمحكمة الدستورية المصرية ما مؤداه أن "الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو المكلفين بالخدمة العامة باعتبار أن هذه الأعمال من الشئون العامة التي لا يجوز أن يكون الاهتمام بالاستقامة في أدائها والالتزام بضوابطها ومتطلبتها وفقا للقانون مقصورا على فئة من المواطنين دون أخرى، بما مؤداه أن يكون انتقاد جوانبها السلبية وتعرية نواحي التقصير فيها وبيان أوجه مخالفة القانون في مجال ممارستها، حقا لكل مواطن وفاء بالمصلحة العامة التي يقتضيها النهوض بالمرافق العامة وأداء المسئولية العامة على الوجه الأكمل، ولأن الوظيفة العامة وما يتصل بها من الشئون العامة لا تعدو أن تكون تكليفا للقائمين عليها. والتزامهم الأصلي في شأنها مقصور على النهوض بتبعاتها بما لا مخالفة فيه للقانون
وهكذا فإن نقد الأشخاص المكلفون بمهام إدارة عمومية أو مرفق إداري بشأن أعمالهم لا يقع تحت طائلة التأثيم طبقا لما استقر عليه القضاء المقارن بكون من لا تتسع نفسيته للنقد أن يلزم بيته وألا يقبل بأن يكون مسؤولا، وما خلص إليه قرار شهير لمحكمة النقض الفرنسية بأنه ﻻ يمكن لمن يتولى المناصب و المسؤولية في تسير الشأن العام أن يحصن سياساته من النقد حتى لو تضمن عبارات تقدح في كفاءته و قدرته على حسن اﻻدارة.
إن الأجدى والأنفع أن لا يتم إحالة جميع المخالفات على المجلس الأعلى للقضاء بدون حصر و تحديد مواطن العثرات و مكامن الزلل بدون تساهل مما يسقطنا في خطر الجمود والتعميم وضررها على القاضي والعدالة أكثر من نفعها ، بأن ينصب روح عمل المجلس على ما يستحق ويصلح كأساس للعقاب بالنظر للاعتبارات العامة والغائية المستهدفة من تحقيق المصلحة القضائية وليس الردع بنوعيه العام و الخاص.
وفي هذا الصدد قال منتسكيو " إن القوانين غير المفيدة تضعف قيمة القوانين الضرورية ونقول في هذا المجال أن المتابعات غير الملائمة تضعف بل و تطرد المتابعات الضرورية" لأن ما يهمنا هو ضمان فاعلية الجزاء التأديبي وضمان عدم إسراف السلطة التأديبية.
وحيث إن ذلك يستلزم تقييم الوقائع والتصرفات ذات الطبيعة المبررة لفتح المتابعات حتى لا نقول مثل ما قال به بعض الفقه الفرنسي أن القاضي يرتكب خطأ عندما يرتكب خطأ.
Le juge commet une faute lorsq’il commet une faute
ويجب أن تعزز المتابعة التأديبية بما يتبث توافر أركان المخالفة،وأن لا تتضمن ما يعدو أن يكون مجرد خلق لاتهامات وهمية عامة وتصريحات متناقضة لا تقوم على أساس صحيح من الواقع أو القانون .
وهكذا اعتبرت محكمة النقض في العديد من قراراتها منها القرار الصادر بتاريخ 5 فبراير 1962 "إن الادعاءات العارية من كل برهان لا يسوغ أن تعتبر حجة".
كما جاء في حكم للمحكمة الإدارية بمراكش صادر بتاريخ 11 دجنبر 1996وحيث إن القرار التأديبي مبني على مجرد شكوك حول تصرفات الطاعن ،وما نسب إليه من اتهامات خطيرة دون بيان لمدى ثبوت هذه الاتهامات يكون مفتقدا لركن السبب وبالتالي عرضة للإلغاء حكم عدد وحيث قضى المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 2 شتنبر 2009 "يتوجب على غرفة المشورة أن تكيف الوقائع المنسوبة إلى المتابع ،وهل يعتبر تصرفه إخلالا من جانبه بمبادئ المهنة أم لا" نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة الغرفة الإدارية الجزء السادس ص 151
جاء في قرار محكمة النقض المصرية" يشترط في الدليل أن يكون صريحا ،ودالا بنفسه على الواقعة المراد إثباتها ،فلا يكفي أن يكون ثبوتا عن طريق الاستنتاج ،مما تكشف من الظروف والقرائن العامة وغير المتناسقة والسائغة تصح لترتيب النتائج على المقدمات "
جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط صادر بتاريخ 5 يناير 1995وحيث إن الإدارة ذكرت أسباب لتبرير قرارها دون أن تدلي بما يثبت صحة هذه الأسباب من الناحية الواقعية ،الشيء الذي يجعل قرارها مشوبا بالتجاوز في استعمال السلطة مما يتعين معه الحكم بإلغائه.حكم عدد 7 ملف 82-94
كما جاء في قرار للمجلس الأعلى صادر بتاريخ 10 غشت 1984"إذا كانت للمجلس التأديبي صلاحية تقدير الحجج لتكوين قناعاته فإنه يجب أن يبني مقرره التأديبي على وقائع ثابتة ومعينة ومحددة فلا تكفي مجرد عموميات" مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 39 ص 162.
ويتعين التمييز بين الفروق القانونية بين المشتكي والشاهد والمصرح والضحية،لكون الاعتماد على شكاية المشتكي للتحقق من المخالفة التأديبية دون إبراز الطبيعة القانونية والوصف القانوني للتصريح المعتمد لتبرير المستنتجات يجعله كأن لم يكن
إن هذا الخلط في هذه المؤسسات القانونية التي تختلف اختلافا جذريا في تقدير تصريحاتها سيؤثرعلى الوصف القانوني للوقائع وعلى سوء تقديرها.ذلك أن تصريحات المشتكي لا تكتسي أي حجية قانونية في الإثبات لأنها دائما موضوع ريبة وشك نابعة من إرادة منحازة وحاقدة وعدوة .
وهكذا اعتبرت محكمة النقض قرار صادر بتاريخ 19 نونبر 1982 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 31 ص 164أن تصريح المشتكي لا تعتبر شهادة ولا تقوم كعنصر في الإثبات ولا تكفي للإدانة
كما اعتبر في قرار آخر صادر بتاريخ 14-4-1961 عدد 483"المشتكي لا يعتبر شاهدا إلا بعد أدائه اليمين القانونية،وبذلك يجب تحليفه إياها وإلا كان الحكم باطلا،مجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية 1957-1961 ص 191
وهكذا اعتبر المجلس الدستوري في قراره الصادر بتاريخ 24 أبريل 1998"إن التشكي وحده لا يعتبر حجة على الادعاء"القرارات الكبرى للمجلس الدستوري المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 30-2012.
والثابت من الحديث النبوي الشريف "أنه لو صدق الناس بدعواهم لداعى أناس دماء الناس وأموالهم"
ولاشك إن اتباع هذا النهج في الإثبات بتصديق المشتكين يشجع على المساومة لأنهم هم من يمنحون صك البراءة أو الإدانة وتوريط الأبرياء والاتجار في الشكايات لمجرد الرغبة في الانتقام،مما يضر بقدسية العدالة
وحيث إن علماء النفس الجنائي يرون بأنه يجب الحذر في تلقي أقوال المشتكي " ،محمد الحسيني كروط ،المجني عليه في الخصومة، ص 347 جوزيف كرانيي :الدعوى الجنائية،مجلة العلوم الجنائية عدد 19 ص 7،أكرم نشأت إبراهيم،علم النفس الجنائي ص35
و فضلا عن ذلك فالقرائن المرتكز عليها في إثبات المخالفة يجب أن تتوافر فيها شروط صحة القرائن،بأن تكون قرائن متناسقة و قوية و منسجمة ولها صلة بالوقائع التأديبية
وهكذا جاء في قرار لمحكمة النقض صادر بتاريخ 15-10-2008"للقضاة كامل الصلاحية في تقدير مختلف وسائل الإثبات المعروضة عليهم ومن جملتها القرائن القضائية متى كانت القرائن قوية وخالية من اللبس ومستمدة من وقائع ثابتة بيقين ولا تقبل إثبات العكس"،الحسن هوداية وسائل الإثبات من خلال اجتهادات المجلس الأعلى ،ص 39.
والمأمول بمناسبة مناقشة مسودة مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة السير نحو تبني مبدأ الشرعية المعمول بها في القانون الجنائي والقانون المقارن على المخالفات التأديبية للقضاة وذلك بحصر جميع أنواع المخالفات حصرا مناسبا وتحديد جزاء لكل مخالفة وذلك لتوفير أحد الضمانات التأديبية للقضاة و أعضاء النيابة العامة وهي عدم إساءة استعمال السلطة التأديبية في النيل من استقلال القضاء
ومن المهم الإشارة في الأخير أن التأديب ليس ملكية خاصة لجهة المتابعة تستعمله متى تشاء وبدون ضوابط قانونية وإنما نظام قانوني يستهدف تخليق الممارسة القضائية بهدف حماية حقوق وحريات المتقاضين وصيانة قواعد سير العدالة. لكن يبدو أن الانقلاب على مسلسل إصلاح منظومة العدالة قد تطور ، ما دام أن وزارة العدل قد جعلت رؤوس القضاة المحركين لدينامية هذا الإصلاح هدفا للمتابعات التأديبية والاستدعاءات الترهيبية من طرف المفتشية العامة التابعة لها،وهكذا أصبح التأديب مدخلا للتأثير على استقلالية القضاء كمؤسسة والقضاة كأفراد لكبح جماح الجرأة والشجاعة الأدبية للقاضي وجعله آلية صماء لقضاء التعليمات .
إن القاضي لا يمكن أن يسأل تأديبيا إلا عن الأخطاء الخطيرة المرتبطة بسلوكيات الوظيفة أو أعمالها ،و تلك قاعدة تهدف إلى تجنيب المجلس الأعلى للقضاء من النظر في الكثير من الأخطاء التي من شأن تحريك المتابعة بشأنها إضفاء مجرد تراكم عددي يضاعف من عمل المجلس ويأخذ من وقته ويبعده عن دراسة الملفات الشائكة التي تقتضي بحثا وتحقيقا معمقا ومداولات وقرارات حاسمة ينتظرها الجميع
ولا شك أن كثيرا من واجبات القاضي ترجع إلى الضمير و إلى المسلك العام ، لكن ذلك لا يمنع من مساءلته عن أفعال محددة وليس عن أفعال عامة حتى لا يتم النفخ والتضخيم من سلطة التأديب و إبعادها عن تحقيق أهدافها لتشمل أمور سطحية ومختلقة .
فالخطأ المهني القضائي هو الخطأ الذي يقع من القاضي أثناء ممارسة عمله أو بمناسبته،وبهذا التعريف يخرج عن ماهية الخطأ المهني التصرفات والالتزامات والعقود الصادرة عن القاضي في المجال الأسري والعقاري والمدني كالبيع والشراء والكراء والرهن ونحوه
،لأنه يبرمها بصفته كمواطن له نفس الحقوق وعليه من الالتزامات،وهكذا فإن وقوع خلاف أو منازعة قانوينة أو قضائية بشأنها يخول للطرف المتضرر اللجوء للقضاء ،ولا يمكنه التشكي أمام المجلس الأعلى للقضاء لأنه مجلس تأديبي مهني يحاكم تصرفات مهنية وليس محكمة ،ومن ثم لا يملك الفصل في المنازعات القانونية والقضائية المثارة سواء بين القضاة أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم من المواطنين،لأن تخويله النظر في مثل هذه القضايا فيه مصادرة لاختصاص القضاء الأصيل والطبيعي للفصل فيها ،لان اختصاص القضاء متصل بالنظام العام ،وهو اختصاص مطلق لا يمكن أن تشاركه فيه أي جهة إدارية آخرى تحت طائلة اعتبار البت فيه قرار إداري مشوب بالشطط في استعمال السلطة لخرق قواعد الاختصاص.
على أن هذه القاعدة البديهية يحدها قيدين استثنائيين مهمين أولاهما أن ارتكاب أفعال أو تصرفات غير أخلاقية ولو كانت خارج ممارسة المهنة تندرج في إطار الخطأ التأديبي ما لم يشكل الأمر جرما جنائيا ،نفس الأمر ينطبق على الجرائم القصدية المرتكبة من طرف القاضي التي تعد في جميع الأحوال خطأ تأديبيا ،وهنا يتعين إيقاف البت في المتابعة التأديبية إلى حين الانتهاء المسطرة الزجرية تحت طائلة عدم المشروعية.
كما أن إبداء القاضي لرأي معين بمناسبة مقال أو ندوة معينة لا يمكن أن يعتبر مساسا بالوقار أو الكرامة ،لأن هذا المفهوم يتعلق بالمظهر اللائق أو السلوك المشين الماس بسمعة القضاء أو بأدبياته ورسالته،فالرأي المندرج ضمن حرية التعبير المكرسة دستوريا يمكن أن يقع تحت طائلة مخالفة واجب التحفظ في حالتي إبداء الآراء السياسية أو النقابية والخروج عن مقتضيات التجرد بمناسبة قضية رائجة.
وفي هذا الإطار ينص الفصل 25 من الدستور على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكاله
حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة".
فالإبداع هو إنتاج الخيال ،وتستعمل فيه الدلالة الرمزية والتصويرية، ولا يمكن قراءته بالقانون الجنائي ولا القانون التأديبي ، إذ الأدب هو موضوع اللذة والقراءة النقدية ، وهو خيال حر وجمال لا يحاكم عليه الأديب .
وحيث إن حرية النقد صورة من صور حرية الرأي والتعبير ، تتيح للإفراد بطريقة غير مباشرة المشاركة في الحياة العامة والإسهام في مواجهة المشكلات وإدارة شؤون الوطن
وهكذا جاء في قرار صادر عن محكمة النقض :
'' القذف لا يتحقق الا بنسبة واقعة معينة مشينة الى الشخص المقذوف على سبيل التأكيد, أما مجرد انتقاد شخص دون توجيه اتهام له بما يشينه وذلك بالتساؤل عن طبيعة التسيير المالي للنادي محل النزاع فلا يعتبر قذفا حتى لو تضمن اسمه, اذ هو مجرد ممارسة لحرية التعبير''.
قرار محكمة النقض عدد 1643/10 صادر بتاريخ 25 نونبر 2009"
كما جاء في قرار قيم للمحكمة الدستورية المصرية ما مؤداه أن "الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو المكلفين بالخدمة العامة باعتبار أن هذه الأعمال من الشئون العامة التي لا يجوز أن يكون الاهتمام بالاستقامة في أدائها والالتزام بضوابطها ومتطلبتها وفقا للقانون مقصورا على فئة من المواطنين دون أخرى، بما مؤداه أن يكون انتقاد جوانبها السلبية وتعرية نواحي التقصير فيها وبيان أوجه مخالفة القانون في مجال ممارستها، حقا لكل مواطن وفاء بالمصلحة العامة التي يقتضيها النهوض بالمرافق العامة وأداء المسئولية العامة على الوجه الأكمل، ولأن الوظيفة العامة وما يتصل بها من الشئون العامة لا تعدو أن تكون تكليفا للقائمين عليها. والتزامهم الأصلي في شأنها مقصور على النهوض بتبعاتها بما لا مخالفة فيه للقانون
وهكذا فإن نقد الأشخاص المكلفون بمهام إدارة عمومية أو مرفق إداري بشأن أعمالهم لا يقع تحت طائلة التأثيم طبقا لما استقر عليه القضاء المقارن بكون من لا تتسع نفسيته للنقد أن يلزم بيته وألا يقبل بأن يكون مسؤولا، وما خلص إليه قرار شهير لمحكمة النقض الفرنسية بأنه ﻻ يمكن لمن يتولى المناصب و المسؤولية في تسير الشأن العام أن يحصن سياساته من النقد حتى لو تضمن عبارات تقدح في كفاءته و قدرته على حسن اﻻدارة.
إن الأجدى والأنفع أن لا يتم إحالة جميع المخالفات على المجلس الأعلى للقضاء بدون حصر و تحديد مواطن العثرات و مكامن الزلل بدون تساهل مما يسقطنا في خطر الجمود والتعميم وضررها على القاضي والعدالة أكثر من نفعها ، بأن ينصب روح عمل المجلس على ما يستحق ويصلح كأساس للعقاب بالنظر للاعتبارات العامة والغائية المستهدفة من تحقيق المصلحة القضائية وليس الردع بنوعيه العام و الخاص.
وفي هذا الصدد قال منتسكيو " إن القوانين غير المفيدة تضعف قيمة القوانين الضرورية ونقول في هذا المجال أن المتابعات غير الملائمة تضعف بل و تطرد المتابعات الضرورية" لأن ما يهمنا هو ضمان فاعلية الجزاء التأديبي وضمان عدم إسراف السلطة التأديبية.
وحيث إن ذلك يستلزم تقييم الوقائع والتصرفات ذات الطبيعة المبررة لفتح المتابعات حتى لا نقول مثل ما قال به بعض الفقه الفرنسي أن القاضي يرتكب خطأ عندما يرتكب خطأ.
Le juge commet une faute lorsq’il commet une faute
ويجب أن تعزز المتابعة التأديبية بما يتبث توافر أركان المخالفة،وأن لا تتضمن ما يعدو أن يكون مجرد خلق لاتهامات وهمية عامة وتصريحات متناقضة لا تقوم على أساس صحيح من الواقع أو القانون .
وهكذا اعتبرت محكمة النقض في العديد من قراراتها منها القرار الصادر بتاريخ 5 فبراير 1962 "إن الادعاءات العارية من كل برهان لا يسوغ أن تعتبر حجة".
كما جاء في حكم للمحكمة الإدارية بمراكش صادر بتاريخ 11 دجنبر 1996وحيث إن القرار التأديبي مبني على مجرد شكوك حول تصرفات الطاعن ،وما نسب إليه من اتهامات خطيرة دون بيان لمدى ثبوت هذه الاتهامات يكون مفتقدا لركن السبب وبالتالي عرضة للإلغاء حكم عدد وحيث قضى المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 2 شتنبر 2009 "يتوجب على غرفة المشورة أن تكيف الوقائع المنسوبة إلى المتابع ،وهل يعتبر تصرفه إخلالا من جانبه بمبادئ المهنة أم لا" نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة الغرفة الإدارية الجزء السادس ص 151
جاء في قرار محكمة النقض المصرية" يشترط في الدليل أن يكون صريحا ،ودالا بنفسه على الواقعة المراد إثباتها ،فلا يكفي أن يكون ثبوتا عن طريق الاستنتاج ،مما تكشف من الظروف والقرائن العامة وغير المتناسقة والسائغة تصح لترتيب النتائج على المقدمات "
جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط صادر بتاريخ 5 يناير 1995وحيث إن الإدارة ذكرت أسباب لتبرير قرارها دون أن تدلي بما يثبت صحة هذه الأسباب من الناحية الواقعية ،الشيء الذي يجعل قرارها مشوبا بالتجاوز في استعمال السلطة مما يتعين معه الحكم بإلغائه.حكم عدد 7 ملف 82-94
كما جاء في قرار للمجلس الأعلى صادر بتاريخ 10 غشت 1984"إذا كانت للمجلس التأديبي صلاحية تقدير الحجج لتكوين قناعاته فإنه يجب أن يبني مقرره التأديبي على وقائع ثابتة ومعينة ومحددة فلا تكفي مجرد عموميات" مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 39 ص 162.
ويتعين التمييز بين الفروق القانونية بين المشتكي والشاهد والمصرح والضحية،لكون الاعتماد على شكاية المشتكي للتحقق من المخالفة التأديبية دون إبراز الطبيعة القانونية والوصف القانوني للتصريح المعتمد لتبرير المستنتجات يجعله كأن لم يكن
إن هذا الخلط في هذه المؤسسات القانونية التي تختلف اختلافا جذريا في تقدير تصريحاتها سيؤثرعلى الوصف القانوني للوقائع وعلى سوء تقديرها.ذلك أن تصريحات المشتكي لا تكتسي أي حجية قانونية في الإثبات لأنها دائما موضوع ريبة وشك نابعة من إرادة منحازة وحاقدة وعدوة .
وهكذا اعتبرت محكمة النقض قرار صادر بتاريخ 19 نونبر 1982 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 31 ص 164أن تصريح المشتكي لا تعتبر شهادة ولا تقوم كعنصر في الإثبات ولا تكفي للإدانة
كما اعتبر في قرار آخر صادر بتاريخ 14-4-1961 عدد 483"المشتكي لا يعتبر شاهدا إلا بعد أدائه اليمين القانونية،وبذلك يجب تحليفه إياها وإلا كان الحكم باطلا،مجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية 1957-1961 ص 191
وهكذا اعتبر المجلس الدستوري في قراره الصادر بتاريخ 24 أبريل 1998"إن التشكي وحده لا يعتبر حجة على الادعاء"القرارات الكبرى للمجلس الدستوري المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 30-2012.
والثابت من الحديث النبوي الشريف "أنه لو صدق الناس بدعواهم لداعى أناس دماء الناس وأموالهم"
ولاشك إن اتباع هذا النهج في الإثبات بتصديق المشتكين يشجع على المساومة لأنهم هم من يمنحون صك البراءة أو الإدانة وتوريط الأبرياء والاتجار في الشكايات لمجرد الرغبة في الانتقام،مما يضر بقدسية العدالة
وحيث إن علماء النفس الجنائي يرون بأنه يجب الحذر في تلقي أقوال المشتكي " ،محمد الحسيني كروط ،المجني عليه في الخصومة، ص 347 جوزيف كرانيي :الدعوى الجنائية،مجلة العلوم الجنائية عدد 19 ص 7،أكرم نشأت إبراهيم،علم النفس الجنائي ص35
و فضلا عن ذلك فالقرائن المرتكز عليها في إثبات المخالفة يجب أن تتوافر فيها شروط صحة القرائن،بأن تكون قرائن متناسقة و قوية و منسجمة ولها صلة بالوقائع التأديبية
وهكذا جاء في قرار لمحكمة النقض صادر بتاريخ 15-10-2008"للقضاة كامل الصلاحية في تقدير مختلف وسائل الإثبات المعروضة عليهم ومن جملتها القرائن القضائية متى كانت القرائن قوية وخالية من اللبس ومستمدة من وقائع ثابتة بيقين ولا تقبل إثبات العكس"،الحسن هوداية وسائل الإثبات من خلال اجتهادات المجلس الأعلى ،ص 39.
والمأمول بمناسبة مناقشة مسودة مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة السير نحو تبني مبدأ الشرعية المعمول بها في القانون الجنائي والقانون المقارن على المخالفات التأديبية للقضاة وذلك بحصر جميع أنواع المخالفات حصرا مناسبا وتحديد جزاء لكل مخالفة وذلك لتوفير أحد الضمانات التأديبية للقضاة و أعضاء النيابة العامة وهي عدم إساءة استعمال السلطة التأديبية في النيل من استقلال القضاء
ومن المهم الإشارة في الأخير أن التأديب ليس ملكية خاصة لجهة المتابعة تستعمله متى تشاء وبدون ضوابط قانونية وإنما نظام قانوني يستهدف تخليق الممارسة القضائية بهدف حماية حقوق وحريات المتقاضين وصيانة قواعد سير العدالة. لكن يبدو أن الانقلاب على مسلسل إصلاح منظومة العدالة قد تطور ، ما دام أن وزارة العدل قد جعلت رؤوس القضاة المحركين لدينامية هذا الإصلاح هدفا للمتابعات التأديبية والاستدعاءات الترهيبية من طرف المفتشية العامة التابعة لها،وهكذا أصبح التأديب مدخلا للتأثير على استقلالية القضاء كمؤسسة والقضاة كأفراد لكبح جماح الجرأة والشجاعة الأدبية للقاضي وجعله آلية صماء لقضاء التعليمات .