مقدمــة :
أهمية هذا الموضوع تنبع من الظرفية الحالية التي تعيشها بلادنا، والنقاش السياسي والحقوقي الدائر حول موضوع الفيضانات وتحديد المسؤوليات وتنـزيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، فإننا سنحاول تحت العنوان المذكور أعلاه أن ندلي بدلولنا في الموضوع في فقرات مختصرة للمساهمة في المناقشة الرائجة حاليا وذلك عبر تعريف مقتضب للفيضانات والآثار والانعكاسات الناجمة عنها. وهل الامر يتعلق بقوة قاهرة المشار إليها في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود؟ أم أن الامر يتعلق بمقتضيات المادة 79 من نفس القانون المتعلق بمسؤولية الدولة والجماعات الترابية عما حدث من أضرار للمواطنين في بلادنا.معرجين على ذكر السند القانوني للتعويض عن الأضرار والمحكمة المختصة ومفهوم نظرية المخاطر والخطأ المصلحي الموجب للتعويض ومسؤولية الدولة والجماعات الترابية عن عدم صيانة منشأة عمومية، مع الإشارة إلى الفصول القانونية ومواد الدستور المؤطرة للموضوع، مع عدم نسيان الحديث عن مبدأ تشطير المسؤولية والسلطة التقديرية للقضاء الإداري في المجال، معتمدين في ذلك على بعض الاجتهادات القضائية المنشورة سابقا والمتعلقة بنوازل مشابهة مع خاتمة مقتضبة أيضا للموضوع.
1 - تعريف الفيضانات: يمكن القول بأنه تراكم المياه التي تغمر الأرض وتتدفق بمنسوب عال جدا نتيجة أمطار كثيرة تتسبب في ارتفاع وزيادة حجم المياه في السدود وكل أنواع المجاري المياه، وذلك عندما يتجاوز الماء حدوده الطبيعية وينتج عن ذلك أضرار متنوعة بسبب انجراف التربة وقد يصاحب ذلك فـي عـدة أحيـان ريح قوية مثل العواصف ورعد وبرق شديد، وينتج عن الظاهرة عدة أضرار بليغة.
2 - الأضرار الناجمة عن الفيضانات: أول ضحايا الفيضانات هم البشر الذين تجرفهم مياه السهول والوديان و الانهار حيث لاحظ الجميع حجم الخسائر البشرية، وما يعبر عنه بالشهداء في التصور الاسلامي لأن الغريق شهيد مثل صاحب الهدم وغيره، وخسائر أيضا في البنية التحتية مثل الطرقات والقناطر وكل المنشآت العمومية التي انهارت وأتلفت بسبب كثرة الامطار مثل المدارس والمستشفيات.
كما أتت الفيضانات على الاخضر واليابس ، وانهارت المنازل في المدن والبوادي وخاصة المواطنين الذين يسكنون بالقرب من بعض الوديان والأنهار وأتلفت المزارع ومحاصيل الضيعات.
نتج عن ذلك كله أضرار وانعكاسات اجتماعية خطيرة، فشردت عائلات لم تجد لها مأوى يأويها وترملت نساء وتيتم أطفال وفقد كثير من المواطنين ذويهم وأهاليهم، وفقد السكان امتعتهم وأغراضهم ووسائل نقلهم وضاعت منهم ممتلكاتهم.
تحركت الدولة والجماعات والسلطات المحلية بعد النشرة الثانية لمديرية الارصاد الجوية، تحرك المجتمع المدني وجد نفسه غارقا في الأوحال ليس لديه وسائل الدعم اللوجستكي، وعاد المغاربة الأحرار إلى فكرة التويزة وتم إنقاذ ما يمكن انقاذه. والشروع في ترميم والترقيع من جديد لما يمكن ترميمه وترقيعه، لكن جراحات المواطنين الضحايا لم تلملم بعد ولازال في النفس حسرة وألم، لأن البغلة في المغرب غرقت ولم تعثر فقط ووجدت مسؤولين يعالجون الموضوع ببرودة أعصاب ودم مثلج.
لذلك نتساءل مع رجال القانون من قضاة ومحامين وحقوقيين وباحثين جامعيين وغيرهم من المسؤولين عما حدث، وهل سيتم تنزيل المبدأ الدستوري في هذه الأحداث الأليمة والكوارث الخطيرة على المواطنين من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ أم أنه سيترك الحبل على الغارب ولن يحاسب أي مسؤول عما حدث؟ لذلك سنجيب أولا عن السؤال العريض والمطروح في إطار إشكال قانوني، هل الأمر يتعلق بقوة قاهرة طبقا لمقتضيات الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود؟ أم أن الامر يتعلق بنظرية الخطأ المصلحي المتعلق بالفصل 79 من نفس القانون.
3- القوة القاهرة: كما يعرفها الفصل 269 من ق. ل .ع هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية (الفيضانات، الجفاف ، العواصف، الحرائق والجراد وغرات العدووفعل السلطة) يكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الأمر الذي كان من الممكن دفعه مستحيلا، مالم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.
وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين.
كيف يمكن تنزيل هذا الفصل من قانون الالتزامات و العقود على ظاهرة الفيضانات وما وقع مؤخرا في بلادنا؟ ماهو التكييف القانوني الصحيح من أجل تحديد مسؤولية الدولة والمواطن المتضرر؟
إن أحسن ما اطلعت عليه في الباب هو العمل القضائي الإداري المتميز والذي أضحى مرجعا لكل من يبحث في هذا المجال هو الحكم الصادر عن المحكمة الادارية بالرباط تحت عدد 251 بتاريخ 23/01/2014 في الملف الاداري عدد 807/12/2010 والمنشور في عدة مواقع الكترونية ويتداول في صفحات الشبكات الاجتماعية، الذي جاء فيه" أن الامطار الغزيرة والاستثنائية المسببة للفيضانات لا تشكل قوة قاهرة وإنما قرينة على ترتيب المسؤولية لكون وقوعها في فصل الشتاء من الامور المتوقعة وليست قوة قاهرة أو سبب للإعفاء من المسؤولية"، لذلك جاء من ضمن قاعدة هذا الحكم (الأضرار المترتبة عن الفيضانات قوة قاهرة-لا-).
بحيث حسب رأيينا أن الفقرة الثانية من الفصل 269 من ق ل ع التي جاء فيها " ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه".
فالدولة عند مقاضاتها هي والجماعات الترابية وغيرها عليها أن تثبت أنها قامت بواجباتها لدفع خطر الفيضانات، وما حصل في هذه الفيضانات من أضرار كثير منه بسبب ضعف البنية التحية وهي مسؤولية الدولة والجماعات، هو الغش أثناء بناء القناطر وبعض المنشآت العمومية، هو غياب الصيانة وتآكل بنيات بعض المدارس والمنازل والدور التي رضض بناءها إلى جانب الوديان والأماكن الوعرة والخطيرة. ما حصل كان بسبب عدم التشوير في إبانه، مما يطرح أكثر من سؤال على الدولة في نتائج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، خاصة في البوادي والميزانية المتعلقة بالنهوض بالعالم القروي وتنميته، أين هي ميزانية صندوق الكوارث ؟ وما دورها في واقع الأزمة الكارثية الحالية في الجنوب وغيره من المناطق المتضررة؟
أين يكمن الإهمال والتقصير وعدم أخذ الحيطة والحذر بالنسبة للسلطات المحلية في مختلف المناطق المتضررة؟ هو أن تلك الامطار الغزيرة والمصحوبة برياح عاصفية كانت متوقعة ومنتظرة بعد النشرة الإنذارية الأولى لمديرية الأرصاد الجوية في نهاية شهر نونبر من هذه السنة، غير أن السلطات حينها لم تحرك ساكنا بالشكل المطلوب في التعبئة لمواجهة الأخطار والأضرار المحتملة.
وتحركت بعد حصول الأضرار والأخطار وبعد النشرة الإنذارية الثانية، مما تكون معه مسؤوليتها ثابتة ولا مجال للقول بالقوة القاهرة.
يقول القاضي الاداري الذي من واجبه حماية الحقوق ويعتبر ذلك التأخر إهمالا وتقصيرا كبيرا من طرف السلطات المحلية وباقي الإدارات التي كانت معنية بالنشرة، ويضيف قائلا في تعليل حكمه المشار إليه أعلاه" كان يجب تجنيد الدرك الملكي والقواة المساعدة والجيش لمراقبة القناطر والأودية" واعتبر القضاء الاداري عدم وضع علامات تشوير أو إشارات تدل على قطع الطريق بمثابة خطأ مصلحي موجب للتعويض حسب المقتضيات القانونية الواردة في ظهير 01/07/1914.
لذلك يمكن لعائلات ضحايا الفيضانات الأخيرة وأصحاب الضيعات الفلاحية الذين يثبت لديهم تقصير أو إهمال من جهة الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، وكل المتضررين عليهم التوجه إلى القضاء الاداري حامي الحقوق والمحافظ عليها لرفع دعاوى التعويض عن الاضرار اللاحقة بهم نتيجة تقصير الادارة واهمالها وعدم تبصرها وأخذها للحيطة والحذر وعدم صيانتها للمنشآت العمومية ومراقبة القناطر وتقوية البنيات التحتية.
ويجب ربط المسؤولية بالمحاسبة، ففي نازلة عمارات بركون بالدار البيضاء قدم موظفون من الدولة ربما منهم من تقاعد وتوبع في النازلة، القانون فوق الجميع ولا يكبر أحد رأسه على القانون.
فهل تملك الإدارة في بلادناالشجاعة الكافية لفتح تحقيق في الموضوع من أجل تنـزيل الدستور وربط المسؤولية بالمحاسبة.
إذن الامر لا يتعلق بقوة قاهرة في كثير من جوانبه، وإنما يتعلق بخطأ مصلحي موجب للتعويض ومسؤولية على أساس نظرية المخاطر.
4- الخطأ المصلحي الموجب للتعويض: حسب مقتضيات الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود "إن الدولة والجماعات الترابية مسؤولة عن الاضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستفيديها" فقواعد المسؤولية الادارية يجب اعمالها وقد تكون المسؤولية مدنية أو جنائية أو تأديبية، وفي الشق المتعلق بالمسؤولية المدنية اعتبر القاضي الإداري في نازلة تتعلق بتقصير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي في الحكم السابق عدد 251 أنه مسؤول بحكم مهامه عن تأمين مرفق تصريف المياه لدرء الخطر عن أراضي المواطنين الفلاحيين، ومسؤول عما تحدثه الفيضانات من أضرار للغير.
هذه المسؤولية موضوعية مبناها الضرر طبقا لقواعد العدالة والإنصاف والموجبات الإنسانية المبنية على التضامن الوطني الذي تتكلف دول المعمور بموجبه وعلى سبيل الاسعاف والمساعدة وفي حدود الامكان بصرف تعويضات لكل متضرر كلما وقعت أضرار بيئية خطيرة، والمغرب لم يحد عن هذه القاعدة بصرفه مبالغ محددة في الميزانية العامة لفائدة ضحايا الكوارث(صندوق الكوارث).
وفي ملف إداري آخر سار العمل القضائي في نفس الاتجاه وهذه المرة بدرجة أعلى أمام الغرفة الادارية بالمجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا، وبالضط في القرار عدد 935 بتاريخ 04/12/2005 في الملف الإداري عدد 461 بتاريخ 4/1/2002.
لذلك فالمسؤولية قائمة على أساس الخطأ المصلحي الموجب للتعويض ويمكن قيامه أيضا على أساس نظرية المخاطر.
5- المسؤولية على أساس نظرية المخاطر: فأساس مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات هو نظرية المخاطر ويلزم المدعي بإثبات خطأ الدولة أو الجماعات، والعمل القضائي الاداري جاء صريحا قائلا في هذا المجال " حيث إن الحادثة التي وقعت للضحية المتمثل في سقوطه في الوادي نتيجة انجراف التربة وانقطاع الطريق أودت بحياته حسب محضر الضابطة القضائية والشواهد الطبية المدلى بها مما ألحق ضررا بالجهة المدعية المتمثل في هلاك مورثها، وعلل القاضي حكمه بقوله "حيث إن عدم قيام الإدارة بوضع علامات وإشارات تدل على قطع الطريق الذي تعتبر من الأملاك العامة طبقا لظهير 01/07/1914 يعتبر خطأ مصلحيا من شأنه قيام مسؤولية الدولة اتجاه ما يصيب الغير من أضرار ناتجة عن ذلك، وحيث إنه بذلك تكون مسؤولية الدولة ثابتة.
وفي قرار آخر للمجلس الاعلى سابقا محكمة النقض حاليا وهو القرار عدد 82/60 بتاريخ 07/05/1960 يثبت فيه هذا العمل القضائي مسؤولية الدولة عند عدم صيانتها للمنشآت العمومية، مثل ما حصل بالنسبة للقناطر والطرق وعموم المنشآت التي تضررت بفعل الفيضانات الأخيرة نتيجة عدم الصيانة وخاصة ما تعلق بحالة الطرق في هذه النازلة. حيث جاء في القرار المذكور " إذا أثبت مستعمل الطريق –سائق السيارة-أن الضرر الذي حصل له كان بسبب عدم الصيانة العادية لذلك الطريق فلا يمكن إعفاء الادارة من مسؤوليتها عن سوء حالة المنشأة المذكورة إلا إذا أثبت خطأ المتضرر وأنها قامت بكل الاحتياطات لتلافي كل حادث سواء فيما يخص بقيامها بأعمال الصيانة أو وضع إشارة التنبيه لسوء حالة الطريق.
ويمكن لكل سكان المدن الذين تضررت منازلهم نتيجة عدم وجود قنوات للصرف الصحي، وكذا عدم صيانتها أن يدفعوا دعاوى في مواجهة الجهة المسؤولة عن ذلك.
هذا القرار القضائي عمل قضائي متميز بشأن قضية البنية التحتية المهترئة في بلادنا بفعل عدم الصيانة وعدم التتبع والمراقبة بفعل عدم الصيانة وعدم التتبع والمراقبة.
وفي قرار آخر واضح لا غبار عليه ذهب المجلس الأعلى (محكمة النقض) يبين فكرة مهمة في المناقشة القانونية، وهي أن مسؤولية الدولة ثابتة عن تسيير ادارتها حتى ولو عند عدم ثبوت أي خطأ من جانبها إستنادا إلى فكرة المخاطر الناتجة عن استعمال خطير كالسيارة ونحوها.
وهو القرار عدد 10 بتاريخ 14/01/1993 في الملف الإداري عدد 10180/91 منشورات المجلس الاعلى 1958-1997 الصفحة 229.
إذا كانت الدولة والجماعات الترابية قد ثبت في حقها أنها مسؤولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات وثبت وجود مواطنين متضررين بفعل الإهمال وبفعل عدم الصيانة للطرق وعدم المراقبة للقناطر وغياب التشوير المتعلق بالطرق المقطوعة التي غمرتها المياه فإن المتضررين لهم الحق في اللجوء إلى المحكمة المختضة للمطالبة بالتعويض.
6-ماهي الجهة المختصة لرفع مثل هذه الدعاوى:
إن المحكمة المختصة في رفع الدعاوى في مواجهة الإدارة هي المحكمة الإدارية التابعة لنفوذها مكان وقوع الحادثة بالنسبة للجماعات الترابية ومقر الإدارة محليا أو مركزيا حسب الجهة المدعى عليها تطبيقا لقواعد المسطرة المدنية والاجراءات الشكلية الواردة في قانون المحدث بموجبه المحاكم الادارية وكذا قواعد الموضوع وخاصة الفصل 8 من القانون المذكور قانون 41.91 الذي يستشف منه على أن الاضرار التي تسببها أعمال ونشاطات القانون العام تكون مسؤولة عن تعويضها.
وقد أبان القضاء الاداري المغربي عن جدارة واستحقاق عن كفاءته وقدرته على الابداع والتطور في خلق عمل قضائي متميز يتصدى لتملص أشخاص القانون العام بما فيهم الدولة من التعويضات عن الضرر الناجم عن الاضرار التي تلحقها الكوارث الطبيعية والبيئية وكذا عند إحداث الشغب وعدم توفير الامن للسكان، وفعل الأخطاء التي يرتكبها موظفوها- وألزم القضاء الاداري هذه الجهات بالتعويض جبرا لكل ضرر وحمايته للحقوق.
7- الأساس القانوني للتعويض عن الاضرار الناجمة عن الفيضانات:
يمكن إجمال الأدلة القانونية وفصول مواد القانون التي تؤطر مسألة التعويض وتقديره:
فيما يتعلق بالدستور: فإنه وردت به عدة فصول تسير في اتجاه إرساء دعائم مجتمع متضامن يتطلع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة وردت هذه الكلمات في تصدير الدستور، وأهم الفصول الدستور المتعلق بفكرة التضامن الوطني هو الفصل 40 الذي ينص: " على الجميع ان يتحمل بصفتة تضامنية وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد وكذا تلك الناتجة عن الاعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد" فعبارة الجميع تعني جميع اشخاص القانون العام وتعني الاحزاب السياسية والنقابات وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والمحسنين والمحسنات وكل ابناء الشعب أن يتضامن مع المتضررين كل حسب قدرته وطاقته للمساهمة في إعادة الاعمار والتاهيل للبنية التحتية وتعويض ما يمكن تعويضه، ولا مجال في مثل هذه الكوارث للمزايدات السياسية كما نشاهد في البرلمان وعلى أعمدة وصفحات وسائل الاعلام ولا مجال للرقص على جراحات الآخرين من أجل كسب الاصوات في الانتخابات. بل الامر أدهى و أكبر من السياسة والسياسيين، الجانب الانساني يجب ان يحضر وبقوة بعيدا عن السياسة والصراع الإديولوجي والتراشقات السياسية بين المعارضة والأغلبية.
كذلك الفصل 93 من الدستور يحمل كافة الوزراء مسؤولية ما وقع كل حسب القطاع المكلف به في اطار التضامن الحكومي (التعليم، الصحة، التجهيز، الداخلية...) أما الفصل 136 من الدستور فينص على فكرة التضامن والتدبير الحر واعتبارهما من مرتكزات التنظيم الجهوي والترابي وعلى كل السلطات المحلية تأمين مشاركة السكان المعنين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة.
كل هذه النصوص وغيرها يمكن اعتمادها أساسا للتضامن من أجل تعويض الضحايا عما أصابهم من أضرار من جراء الفيضانات.
يضاف إلى تلك المواد الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود كما سبقت الاشارة اليه والفصل 8 من القانون المحدث بموجبه المحاكم الادارية.
8-كيفية تقدير التعويض:
إن القضاء الاداري وفي كل نازلة على حدة لا محالة سيلجأ في تقدير التعويض إلى خبرات فنية لتحديد قيمة الضرر الحاصل بناءا على مقتضيات المادة 63 من المسطرة المدنية وما يليها، كما فعل لما غمرت المياه المنحدرة من واد سبوا احدى الضيعات التي تملكها الفلاحون عن طريق الكراء الطويل الامد من الدولة وتضررت هذه الضيعة فأمر القاضي الإداري بانتداب وتعيين خبير فلاحي في الغرس والفلاحة، وذلك من أجل تقدير حجم الضرر الذي لحق ضيعات المدعين وتحيد أمده وتحديد تكلفة اعادة تشجير المساحة المشجرة المتضررة. هذا النوع من الخبرات الفنية يكون أرضية أساسية للتعويض جبرا للأضرار الحاصلة، وللسلطة القضائية حق التقدير والحق في تشطير المسؤولية من اجل تحميل الدولة والمتضرر كل حسب تقصيره وتفريطه واهماله.
فكل مواطن تبت تهوره رغم وجود تشوير. وما يفيد مثلا أن الطريق مقطوعة ورغم ذلك تجاوز الحدود فقد يحمله القضاء مسؤولية إهماله وتهوره، وفي نوازل ذوي الحقوق فإن وثائق الملف وعدد أفراد أسرة الهالك وحجم المدخول الذي حرموا منه جراء وفاة مورثهم، وحجم الضرر الذي أصاب العائلة التي حرمت ممن يعولها جراء وفاة رب الاسرة نتيجة الفيضانات، وظروف وملابسات القضية..
خــــاتمـة:
يمكن إجمال الحديث في أن الكوارث الحاصلة مؤخرا نتيجة الفيضانات تتحمل فيها الدولة والجماعات الترابية مسؤوليتها وملزمة بتعويض الضحايا عن الاضرار الناجمة عنها استنادا على نظرية المخاطر والخطأ المصلحي الموجب للتعويض وكذا عدم القيام بصيانة منشأة عمومية، وفكرة التضامن الوطني الواردة في الدستور.
مع الاشارة إلى أن حركة المجتمع المدني فيما تقوم به من عمل انساني خيري ودعم المحسنين ماديا للمتضررين، وكذا الهبات والمساعدات الملكية لا تعفي الدولة والجماعات الترابية من مسؤوليتها عن الاضرار الناجمة عن الفيضانات وتعويض الضحايا جبرا للضرر الحاصل.
أهمية هذا الموضوع تنبع من الظرفية الحالية التي تعيشها بلادنا، والنقاش السياسي والحقوقي الدائر حول موضوع الفيضانات وتحديد المسؤوليات وتنـزيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، فإننا سنحاول تحت العنوان المذكور أعلاه أن ندلي بدلولنا في الموضوع في فقرات مختصرة للمساهمة في المناقشة الرائجة حاليا وذلك عبر تعريف مقتضب للفيضانات والآثار والانعكاسات الناجمة عنها. وهل الامر يتعلق بقوة قاهرة المشار إليها في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود؟ أم أن الامر يتعلق بمقتضيات المادة 79 من نفس القانون المتعلق بمسؤولية الدولة والجماعات الترابية عما حدث من أضرار للمواطنين في بلادنا.معرجين على ذكر السند القانوني للتعويض عن الأضرار والمحكمة المختصة ومفهوم نظرية المخاطر والخطأ المصلحي الموجب للتعويض ومسؤولية الدولة والجماعات الترابية عن عدم صيانة منشأة عمومية، مع الإشارة إلى الفصول القانونية ومواد الدستور المؤطرة للموضوع، مع عدم نسيان الحديث عن مبدأ تشطير المسؤولية والسلطة التقديرية للقضاء الإداري في المجال، معتمدين في ذلك على بعض الاجتهادات القضائية المنشورة سابقا والمتعلقة بنوازل مشابهة مع خاتمة مقتضبة أيضا للموضوع.
1 - تعريف الفيضانات: يمكن القول بأنه تراكم المياه التي تغمر الأرض وتتدفق بمنسوب عال جدا نتيجة أمطار كثيرة تتسبب في ارتفاع وزيادة حجم المياه في السدود وكل أنواع المجاري المياه، وذلك عندما يتجاوز الماء حدوده الطبيعية وينتج عن ذلك أضرار متنوعة بسبب انجراف التربة وقد يصاحب ذلك فـي عـدة أحيـان ريح قوية مثل العواصف ورعد وبرق شديد، وينتج عن الظاهرة عدة أضرار بليغة.
2 - الأضرار الناجمة عن الفيضانات: أول ضحايا الفيضانات هم البشر الذين تجرفهم مياه السهول والوديان و الانهار حيث لاحظ الجميع حجم الخسائر البشرية، وما يعبر عنه بالشهداء في التصور الاسلامي لأن الغريق شهيد مثل صاحب الهدم وغيره، وخسائر أيضا في البنية التحتية مثل الطرقات والقناطر وكل المنشآت العمومية التي انهارت وأتلفت بسبب كثرة الامطار مثل المدارس والمستشفيات.
كما أتت الفيضانات على الاخضر واليابس ، وانهارت المنازل في المدن والبوادي وخاصة المواطنين الذين يسكنون بالقرب من بعض الوديان والأنهار وأتلفت المزارع ومحاصيل الضيعات.
نتج عن ذلك كله أضرار وانعكاسات اجتماعية خطيرة، فشردت عائلات لم تجد لها مأوى يأويها وترملت نساء وتيتم أطفال وفقد كثير من المواطنين ذويهم وأهاليهم، وفقد السكان امتعتهم وأغراضهم ووسائل نقلهم وضاعت منهم ممتلكاتهم.
تحركت الدولة والجماعات والسلطات المحلية بعد النشرة الثانية لمديرية الارصاد الجوية، تحرك المجتمع المدني وجد نفسه غارقا في الأوحال ليس لديه وسائل الدعم اللوجستكي، وعاد المغاربة الأحرار إلى فكرة التويزة وتم إنقاذ ما يمكن انقاذه. والشروع في ترميم والترقيع من جديد لما يمكن ترميمه وترقيعه، لكن جراحات المواطنين الضحايا لم تلملم بعد ولازال في النفس حسرة وألم، لأن البغلة في المغرب غرقت ولم تعثر فقط ووجدت مسؤولين يعالجون الموضوع ببرودة أعصاب ودم مثلج.
لذلك نتساءل مع رجال القانون من قضاة ومحامين وحقوقيين وباحثين جامعيين وغيرهم من المسؤولين عما حدث، وهل سيتم تنزيل المبدأ الدستوري في هذه الأحداث الأليمة والكوارث الخطيرة على المواطنين من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ أم أنه سيترك الحبل على الغارب ولن يحاسب أي مسؤول عما حدث؟ لذلك سنجيب أولا عن السؤال العريض والمطروح في إطار إشكال قانوني، هل الأمر يتعلق بقوة قاهرة طبقا لمقتضيات الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود؟ أم أن الامر يتعلق بنظرية الخطأ المصلحي المتعلق بالفصل 79 من نفس القانون.
3- القوة القاهرة: كما يعرفها الفصل 269 من ق. ل .ع هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية (الفيضانات، الجفاف ، العواصف، الحرائق والجراد وغرات العدووفعل السلطة) يكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الأمر الذي كان من الممكن دفعه مستحيلا، مالم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.
وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين.
كيف يمكن تنزيل هذا الفصل من قانون الالتزامات و العقود على ظاهرة الفيضانات وما وقع مؤخرا في بلادنا؟ ماهو التكييف القانوني الصحيح من أجل تحديد مسؤولية الدولة والمواطن المتضرر؟
إن أحسن ما اطلعت عليه في الباب هو العمل القضائي الإداري المتميز والذي أضحى مرجعا لكل من يبحث في هذا المجال هو الحكم الصادر عن المحكمة الادارية بالرباط تحت عدد 251 بتاريخ 23/01/2014 في الملف الاداري عدد 807/12/2010 والمنشور في عدة مواقع الكترونية ويتداول في صفحات الشبكات الاجتماعية، الذي جاء فيه" أن الامطار الغزيرة والاستثنائية المسببة للفيضانات لا تشكل قوة قاهرة وإنما قرينة على ترتيب المسؤولية لكون وقوعها في فصل الشتاء من الامور المتوقعة وليست قوة قاهرة أو سبب للإعفاء من المسؤولية"، لذلك جاء من ضمن قاعدة هذا الحكم (الأضرار المترتبة عن الفيضانات قوة قاهرة-لا-).
بحيث حسب رأيينا أن الفقرة الثانية من الفصل 269 من ق ل ع التي جاء فيها " ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه".
فالدولة عند مقاضاتها هي والجماعات الترابية وغيرها عليها أن تثبت أنها قامت بواجباتها لدفع خطر الفيضانات، وما حصل في هذه الفيضانات من أضرار كثير منه بسبب ضعف البنية التحية وهي مسؤولية الدولة والجماعات، هو الغش أثناء بناء القناطر وبعض المنشآت العمومية، هو غياب الصيانة وتآكل بنيات بعض المدارس والمنازل والدور التي رضض بناءها إلى جانب الوديان والأماكن الوعرة والخطيرة. ما حصل كان بسبب عدم التشوير في إبانه، مما يطرح أكثر من سؤال على الدولة في نتائج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، خاصة في البوادي والميزانية المتعلقة بالنهوض بالعالم القروي وتنميته، أين هي ميزانية صندوق الكوارث ؟ وما دورها في واقع الأزمة الكارثية الحالية في الجنوب وغيره من المناطق المتضررة؟
أين يكمن الإهمال والتقصير وعدم أخذ الحيطة والحذر بالنسبة للسلطات المحلية في مختلف المناطق المتضررة؟ هو أن تلك الامطار الغزيرة والمصحوبة برياح عاصفية كانت متوقعة ومنتظرة بعد النشرة الإنذارية الأولى لمديرية الأرصاد الجوية في نهاية شهر نونبر من هذه السنة، غير أن السلطات حينها لم تحرك ساكنا بالشكل المطلوب في التعبئة لمواجهة الأخطار والأضرار المحتملة.
وتحركت بعد حصول الأضرار والأخطار وبعد النشرة الإنذارية الثانية، مما تكون معه مسؤوليتها ثابتة ولا مجال للقول بالقوة القاهرة.
يقول القاضي الاداري الذي من واجبه حماية الحقوق ويعتبر ذلك التأخر إهمالا وتقصيرا كبيرا من طرف السلطات المحلية وباقي الإدارات التي كانت معنية بالنشرة، ويضيف قائلا في تعليل حكمه المشار إليه أعلاه" كان يجب تجنيد الدرك الملكي والقواة المساعدة والجيش لمراقبة القناطر والأودية" واعتبر القضاء الاداري عدم وضع علامات تشوير أو إشارات تدل على قطع الطريق بمثابة خطأ مصلحي موجب للتعويض حسب المقتضيات القانونية الواردة في ظهير 01/07/1914.
لذلك يمكن لعائلات ضحايا الفيضانات الأخيرة وأصحاب الضيعات الفلاحية الذين يثبت لديهم تقصير أو إهمال من جهة الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، وكل المتضررين عليهم التوجه إلى القضاء الاداري حامي الحقوق والمحافظ عليها لرفع دعاوى التعويض عن الاضرار اللاحقة بهم نتيجة تقصير الادارة واهمالها وعدم تبصرها وأخذها للحيطة والحذر وعدم صيانتها للمنشآت العمومية ومراقبة القناطر وتقوية البنيات التحتية.
ويجب ربط المسؤولية بالمحاسبة، ففي نازلة عمارات بركون بالدار البيضاء قدم موظفون من الدولة ربما منهم من تقاعد وتوبع في النازلة، القانون فوق الجميع ولا يكبر أحد رأسه على القانون.
فهل تملك الإدارة في بلادناالشجاعة الكافية لفتح تحقيق في الموضوع من أجل تنـزيل الدستور وربط المسؤولية بالمحاسبة.
إذن الامر لا يتعلق بقوة قاهرة في كثير من جوانبه، وإنما يتعلق بخطأ مصلحي موجب للتعويض ومسؤولية على أساس نظرية المخاطر.
4- الخطأ المصلحي الموجب للتعويض: حسب مقتضيات الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود "إن الدولة والجماعات الترابية مسؤولة عن الاضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستفيديها" فقواعد المسؤولية الادارية يجب اعمالها وقد تكون المسؤولية مدنية أو جنائية أو تأديبية، وفي الشق المتعلق بالمسؤولية المدنية اعتبر القاضي الإداري في نازلة تتعلق بتقصير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي في الحكم السابق عدد 251 أنه مسؤول بحكم مهامه عن تأمين مرفق تصريف المياه لدرء الخطر عن أراضي المواطنين الفلاحيين، ومسؤول عما تحدثه الفيضانات من أضرار للغير.
هذه المسؤولية موضوعية مبناها الضرر طبقا لقواعد العدالة والإنصاف والموجبات الإنسانية المبنية على التضامن الوطني الذي تتكلف دول المعمور بموجبه وعلى سبيل الاسعاف والمساعدة وفي حدود الامكان بصرف تعويضات لكل متضرر كلما وقعت أضرار بيئية خطيرة، والمغرب لم يحد عن هذه القاعدة بصرفه مبالغ محددة في الميزانية العامة لفائدة ضحايا الكوارث(صندوق الكوارث).
وفي ملف إداري آخر سار العمل القضائي في نفس الاتجاه وهذه المرة بدرجة أعلى أمام الغرفة الادارية بالمجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا، وبالضط في القرار عدد 935 بتاريخ 04/12/2005 في الملف الإداري عدد 461 بتاريخ 4/1/2002.
لذلك فالمسؤولية قائمة على أساس الخطأ المصلحي الموجب للتعويض ويمكن قيامه أيضا على أساس نظرية المخاطر.
5- المسؤولية على أساس نظرية المخاطر: فأساس مسؤولية الدولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات هو نظرية المخاطر ويلزم المدعي بإثبات خطأ الدولة أو الجماعات، والعمل القضائي الاداري جاء صريحا قائلا في هذا المجال " حيث إن الحادثة التي وقعت للضحية المتمثل في سقوطه في الوادي نتيجة انجراف التربة وانقطاع الطريق أودت بحياته حسب محضر الضابطة القضائية والشواهد الطبية المدلى بها مما ألحق ضررا بالجهة المدعية المتمثل في هلاك مورثها، وعلل القاضي حكمه بقوله "حيث إن عدم قيام الإدارة بوضع علامات وإشارات تدل على قطع الطريق الذي تعتبر من الأملاك العامة طبقا لظهير 01/07/1914 يعتبر خطأ مصلحيا من شأنه قيام مسؤولية الدولة اتجاه ما يصيب الغير من أضرار ناتجة عن ذلك، وحيث إنه بذلك تكون مسؤولية الدولة ثابتة.
وفي قرار آخر للمجلس الاعلى سابقا محكمة النقض حاليا وهو القرار عدد 82/60 بتاريخ 07/05/1960 يثبت فيه هذا العمل القضائي مسؤولية الدولة عند عدم صيانتها للمنشآت العمومية، مثل ما حصل بالنسبة للقناطر والطرق وعموم المنشآت التي تضررت بفعل الفيضانات الأخيرة نتيجة عدم الصيانة وخاصة ما تعلق بحالة الطرق في هذه النازلة. حيث جاء في القرار المذكور " إذا أثبت مستعمل الطريق –سائق السيارة-أن الضرر الذي حصل له كان بسبب عدم الصيانة العادية لذلك الطريق فلا يمكن إعفاء الادارة من مسؤوليتها عن سوء حالة المنشأة المذكورة إلا إذا أثبت خطأ المتضرر وأنها قامت بكل الاحتياطات لتلافي كل حادث سواء فيما يخص بقيامها بأعمال الصيانة أو وضع إشارة التنبيه لسوء حالة الطريق.
ويمكن لكل سكان المدن الذين تضررت منازلهم نتيجة عدم وجود قنوات للصرف الصحي، وكذا عدم صيانتها أن يدفعوا دعاوى في مواجهة الجهة المسؤولة عن ذلك.
هذا القرار القضائي عمل قضائي متميز بشأن قضية البنية التحتية المهترئة في بلادنا بفعل عدم الصيانة وعدم التتبع والمراقبة بفعل عدم الصيانة وعدم التتبع والمراقبة.
وفي قرار آخر واضح لا غبار عليه ذهب المجلس الأعلى (محكمة النقض) يبين فكرة مهمة في المناقشة القانونية، وهي أن مسؤولية الدولة ثابتة عن تسيير ادارتها حتى ولو عند عدم ثبوت أي خطأ من جانبها إستنادا إلى فكرة المخاطر الناتجة عن استعمال خطير كالسيارة ونحوها.
وهو القرار عدد 10 بتاريخ 14/01/1993 في الملف الإداري عدد 10180/91 منشورات المجلس الاعلى 1958-1997 الصفحة 229.
إذا كانت الدولة والجماعات الترابية قد ثبت في حقها أنها مسؤولة عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات وثبت وجود مواطنين متضررين بفعل الإهمال وبفعل عدم الصيانة للطرق وعدم المراقبة للقناطر وغياب التشوير المتعلق بالطرق المقطوعة التي غمرتها المياه فإن المتضررين لهم الحق في اللجوء إلى المحكمة المختضة للمطالبة بالتعويض.
6-ماهي الجهة المختصة لرفع مثل هذه الدعاوى:
إن المحكمة المختصة في رفع الدعاوى في مواجهة الإدارة هي المحكمة الإدارية التابعة لنفوذها مكان وقوع الحادثة بالنسبة للجماعات الترابية ومقر الإدارة محليا أو مركزيا حسب الجهة المدعى عليها تطبيقا لقواعد المسطرة المدنية والاجراءات الشكلية الواردة في قانون المحدث بموجبه المحاكم الادارية وكذا قواعد الموضوع وخاصة الفصل 8 من القانون المذكور قانون 41.91 الذي يستشف منه على أن الاضرار التي تسببها أعمال ونشاطات القانون العام تكون مسؤولة عن تعويضها.
وقد أبان القضاء الاداري المغربي عن جدارة واستحقاق عن كفاءته وقدرته على الابداع والتطور في خلق عمل قضائي متميز يتصدى لتملص أشخاص القانون العام بما فيهم الدولة من التعويضات عن الضرر الناجم عن الاضرار التي تلحقها الكوارث الطبيعية والبيئية وكذا عند إحداث الشغب وعدم توفير الامن للسكان، وفعل الأخطاء التي يرتكبها موظفوها- وألزم القضاء الاداري هذه الجهات بالتعويض جبرا لكل ضرر وحمايته للحقوق.
7- الأساس القانوني للتعويض عن الاضرار الناجمة عن الفيضانات:
يمكن إجمال الأدلة القانونية وفصول مواد القانون التي تؤطر مسألة التعويض وتقديره:
فيما يتعلق بالدستور: فإنه وردت به عدة فصول تسير في اتجاه إرساء دعائم مجتمع متضامن يتطلع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة وردت هذه الكلمات في تصدير الدستور، وأهم الفصول الدستور المتعلق بفكرة التضامن الوطني هو الفصل 40 الذي ينص: " على الجميع ان يتحمل بصفتة تضامنية وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد وكذا تلك الناتجة عن الاعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد" فعبارة الجميع تعني جميع اشخاص القانون العام وتعني الاحزاب السياسية والنقابات وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والمحسنين والمحسنات وكل ابناء الشعب أن يتضامن مع المتضررين كل حسب قدرته وطاقته للمساهمة في إعادة الاعمار والتاهيل للبنية التحتية وتعويض ما يمكن تعويضه، ولا مجال في مثل هذه الكوارث للمزايدات السياسية كما نشاهد في البرلمان وعلى أعمدة وصفحات وسائل الاعلام ولا مجال للرقص على جراحات الآخرين من أجل كسب الاصوات في الانتخابات. بل الامر أدهى و أكبر من السياسة والسياسيين، الجانب الانساني يجب ان يحضر وبقوة بعيدا عن السياسة والصراع الإديولوجي والتراشقات السياسية بين المعارضة والأغلبية.
كذلك الفصل 93 من الدستور يحمل كافة الوزراء مسؤولية ما وقع كل حسب القطاع المكلف به في اطار التضامن الحكومي (التعليم، الصحة، التجهيز، الداخلية...) أما الفصل 136 من الدستور فينص على فكرة التضامن والتدبير الحر واعتبارهما من مرتكزات التنظيم الجهوي والترابي وعلى كل السلطات المحلية تأمين مشاركة السكان المعنين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة.
كل هذه النصوص وغيرها يمكن اعتمادها أساسا للتضامن من أجل تعويض الضحايا عما أصابهم من أضرار من جراء الفيضانات.
يضاف إلى تلك المواد الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود كما سبقت الاشارة اليه والفصل 8 من القانون المحدث بموجبه المحاكم الادارية.
8-كيفية تقدير التعويض:
إن القضاء الاداري وفي كل نازلة على حدة لا محالة سيلجأ في تقدير التعويض إلى خبرات فنية لتحديد قيمة الضرر الحاصل بناءا على مقتضيات المادة 63 من المسطرة المدنية وما يليها، كما فعل لما غمرت المياه المنحدرة من واد سبوا احدى الضيعات التي تملكها الفلاحون عن طريق الكراء الطويل الامد من الدولة وتضررت هذه الضيعة فأمر القاضي الإداري بانتداب وتعيين خبير فلاحي في الغرس والفلاحة، وذلك من أجل تقدير حجم الضرر الذي لحق ضيعات المدعين وتحيد أمده وتحديد تكلفة اعادة تشجير المساحة المشجرة المتضررة. هذا النوع من الخبرات الفنية يكون أرضية أساسية للتعويض جبرا للأضرار الحاصلة، وللسلطة القضائية حق التقدير والحق في تشطير المسؤولية من اجل تحميل الدولة والمتضرر كل حسب تقصيره وتفريطه واهماله.
فكل مواطن تبت تهوره رغم وجود تشوير. وما يفيد مثلا أن الطريق مقطوعة ورغم ذلك تجاوز الحدود فقد يحمله القضاء مسؤولية إهماله وتهوره، وفي نوازل ذوي الحقوق فإن وثائق الملف وعدد أفراد أسرة الهالك وحجم المدخول الذي حرموا منه جراء وفاة مورثهم، وحجم الضرر الذي أصاب العائلة التي حرمت ممن يعولها جراء وفاة رب الاسرة نتيجة الفيضانات، وظروف وملابسات القضية..
خــــاتمـة:
يمكن إجمال الحديث في أن الكوارث الحاصلة مؤخرا نتيجة الفيضانات تتحمل فيها الدولة والجماعات الترابية مسؤوليتها وملزمة بتعويض الضحايا عن الاضرار الناجمة عنها استنادا على نظرية المخاطر والخطأ المصلحي الموجب للتعويض وكذا عدم القيام بصيانة منشأة عمومية، وفكرة التضامن الوطني الواردة في الدستور.
مع الاشارة إلى أن حركة المجتمع المدني فيما تقوم به من عمل انساني خيري ودعم المحسنين ماديا للمتضررين، وكذا الهبات والمساعدات الملكية لا تعفي الدولة والجماعات الترابية من مسؤوليتها عن الاضرار الناجمة عن الفيضانات وتعويض الضحايا جبرا للضرر الحاصل.