القضاة لا يُصارعون أحداً ولا يجوز لهم ذلك، إنما يجب عليهم بحكم المسؤولية الملقاة على عاتقهم أن يُدافعوا عن السلطة التي يتملَّكونها بقُوَّة القانون باعتباره التعبير الأسمى عن إرادة الأمة، ولا حقَّ لأحدٍ في محاسبتهم إلا عبر القنوات الرسمية التي يحددها القانون، وهذه المتلازمة البنيوية تفرض على المشتغلين بهندسة فكرة استقلال القضاء الانضباط للضوابط الدستورية المؤسِّسة لاستقلالٍ فعلي للسلطة القضائية عن باقي السلط.
إن المرحلة الانتقالية الرَّاهنة لوضعية العدالة بالمغرب تفرض تنزيل مبادئ الدستور المرتبطة بالعدالة في شكل أجوبةٍ تأسيسية مستقبلية تختلف عن الوضعية الماضية بالنظر إلى المتغيرات المُدخلة بنص الدستور على هيكلة خريطة العدالة والتي أعادت توزيع أدوار مختلف المؤسسات المعنية، ولذلك فإن الأجوبة التأسيسية لا ينبغي أن تُقدم حصراً لاختصاصات القضاء بقدر ما يجب أن تبحث في سبل توزيع أدواره الجديدة ؟
وحسبنا في هذا المقام أن نحاول تقديم مشروع أجوبة تأسيسية للأدوار الدستورية الجديدة لقضاة النيابة العامة بمناسبة انتقال نقاش الاستقلالية إلى البرلمان، ولسنا في حاجة إلى التذكير بداية بأن النيابات العامة ما وُجدتْ إلا لتمثل المجتمع كلَّه وتدافع عن أمنه العام بمفهومه المنضبط لسلطة الملائمة، مع التشديد على أن دورها المحصور في محاربة الجريمة فقط أصبح دوراً تقليدياً متجاوزاً إذا استحضرنا أدوارها الجديدة المرتبطة بالمساهمة في تفعيل سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وهي بهذه الخصائص تبقى غير قابلة لأن تكون تابعةً لأية جهةٍ تُدافع عن فكرٍ أُحادي يتبنَّاه عددٌ من المؤمنين به فقط، لأن من شأن ذلك أن يجعل منها أداةً طيِّعة قد تستعملها السلطة الحكومية المكلفة بها في تصفية أعداء الفكر الذي تتبنَّاه.
إن هذه الفرضية ليست وحدها المبرِّرة لضرورة استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، بل هناك من المبرِّرات ما يكفي لتأكيد ضرورة استقلال هذه السلطة عن كل المؤثرات السياسية بالنظر إلى أن هذه السلطة لا يمكن أن تُنفذ أدوارها الدستورية أمام استمرارية تبعيتها للسلطة التنفيذية، لأن التأسيس لرؤية كاملة ومتكاملة عن الفضاء المستقبلي الذي يجب أن تشتغل فيه النيابة العامة إذا كان يفرض مراعاة ضرورة خضوعها للرقابة على أعمالها، فإنه لا يفرض بالضرورة أن تكون هذه الرقابة برلمانية من خلال الأسئلة التي توجه لوزير العدل والحريات، وهذا الطرح تؤيِّده فصول الدستور المؤسِّسة لرقابة من نوع خاص على قضاة النيابة العامة، تنطلق من تطبيقهم للقانون وامتثالهم للتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها (الفصل 110/2) وتتأيد بمنطوق الفصل 113 الذي جعل من مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية المشرف الرئيس على وضع الملامح الأساسية لسياسة الدولة في القضاء التي تعتبر السياسة الجنائية جزءا مهماً فيها وذلك من خلال وضعه لتقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة مع إصداره للتوصيات الملائمة بشأنها بمبادرته أو بناء على طلب الملك أو الحكومة أو البرلمان إذا تعلق الأمر بآرائه التي يجب أن تكون مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط، إضافة إلى أن الفصل 115 استبعد وزير العدل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو ما يجعله غير ملمٍّ بالوضعية الحقيقية للسياسة القضائية التي تُعدُّ من قِبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية بناءً على احتكاك يومي ومستمر بتطورات عمل النيابات العامة، كما أن المجلس نفسه هو الذي يبت في القضايا التي تهم قضاة النيابة العامة ويراعي في ذلك تقارير التقييم المقدمة من قِبل السلطة التي يتبعون لها التي لا يمكن أن تكون إلاَّ سلطة قضائية.(الفصل 116 من الدستور).
فإذا سلَّمنا بأن الملك هو الذي يعين الوكيل العام بمحكمة النقض الذي يعتبر عضواً دائماً بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فما الداعي إذن إلى تبليغه بالسياسة الجنائية من قِبل وزير العدل بالرغم من كونه قد شارك في صياغتها؟
إنَّ أهل مكةَ أدرى بشعابها، ومؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية قادرة على تحمل مسؤوليتها في وضع السياسة الجنائية الملائمة بالنَّظر إلى تعددية تركيبتها من جهة، وخبرة قضاتها المنتخبين من جهة أخرى، كما أنها مؤسسة دستورية محكومة بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، في حين أن وزير العدل ما ثبت في تاريخ المغرب أن حُوسب على سياسته الجنائية بالرغم من أن هناك وقائع كثيرة أثارت جدلاً قانونياً حادّاً في لحظات تاريخية مختلفة ولم يستطع وزراء العدل توضيح مواقفهم القانونية منها.
ولستُ هنا في حاجة إلى تكرار الأسانيد الدَّاعمة لفكرة الاستقلالية بالشروط التي يمكن أن تضمن لقضاة النيابة العامة ممارسة مهامهم الدستورية بعيداً عن كلِّ تضييق، إنما يجب أن نُطمْئن الرافضين لهذه الفكرة بغضِّ النظر عن الخلفيات التي ينطلقون منها وبعيداً عن المواقف "الظرفية" المعلن عنها من قِبل مختلف مكونات المجتمع السياسي وانضباطاً لمتطلبات المرحلة الراهنة التي تفرض ضبط مجالات اختصاص كلَّ أجهزة الدولة بما يُؤسِّس لمستقبل واضح تتجسَّد فيه مبادئ الدستور وتتحدَّد فيه مسؤولية كل مؤسسة في علاقتها بمختلف المؤسسات المشتغلة إلى جانبها.
إنَّ التنزيل السليم لفكرة بهذا الثقل يفرض إطلاق سراح النيابة العامة واستبعادها عن كلِّ مؤثر سياسي حتَّى يتأتى لها ضمان التوازن اللاَّزم بين مختلف مكونات المجتمع من خلال إعمال نصوص القانون في مواجهة الجميع بعيداً عن التقديرات المزاجية التي يمكن أن تختلف من سياسي إلى آخر ولا يمكن أن تختلف إذا أُسندت لمسؤول قضائي يشتغل بمنطق القانون لا بمنطق السياسة.
لقدْ عبَّر القضاة عن موقفهم الدَّاعم لاستقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل مؤيَّدِين في ذلك بتجاربهم العملية لمهام هذه السلطة وكان من نتائج ذلك أن استجاب الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة إلى هذا المطلب بشكل صريح، غير أن وزارة العدل والحريات في شخص وزيرها تُحاول إجهاض البُعد الدستوري لهذه النتائج وتُفرش الأرضية الإعلامية المبرِّرة لاستمرارية ترأسها لجهاز النيابة العامة، معتمدةً في ذلك على مجموعة من الانطباعات الذاتوية غير المدعومة بمبررات علمية موضوعية.
القضاةُ يمارسون مهامَّهم باسم الملك وطبقاً للقانون، وهم بهذه الصفة يحكمون باسم الملك بالنظر إلى نيابتهم عن الإمام في القضاء ويستمدون شرعيتهم من الشعب بالنظر إلى أن القانون تعبيرٌ عن إرادته، وينجرُّ عن ذلك أن تكون مسؤوليتهم مضبوطة مسبقاً من خلال عمل السلطة التشريعية الممثلة للشعب، فإذا كان ذلك ثابتاً جاز لنا أن نردَّ بكل أدب التوصيفات المزاجية غير المسؤولة التي تُحاول "خندقة" القضاة وتصويرهم ك" لوبي ضاغط" يسعى إلى إقامة "دولة داخل الدولة" ويمكن أن يكون عُرضةً للاختراق السياسي، مع أن هذه الفرضيات تبقى مجرَّد تكهُّنات تُشاع عمداً من أجل تمديد أمد التحكم في صلاحيات القضاة وإفزاع الرأي العام من خلال إعادة تشكيل صورة نمطية سلبية جديدة عن القضاء تنتقل به من القضاء المتهم بالفساد إلى القضاء المتهم بالنزوع نحو "التحكم والهيمنة".
إن الدِّفاع عن الأفكار يجب أن يكون في إطار التدافع الحضاري الإيجابي البعيد عن الإيحاءات السلبية، ولذلك فبدل أن نصنع صورة قاتمة عن مخالفينا في الفكرة، يمكن أن نصنع صورة ناصعة عن أفكارنا إذا ناقشناها بالأسانيد التي تُعبِّر عن قناعاتنا، وبدل أن ينحدر الوزير إلى مستوى لا يليق برجلٍ في الدولة من أجل تقزيم أفكار القضاة ووصفهم بما لا يليق، بهدف تجريدهم من أهلية قيادة جهاز النيابة العامة، يمكن أن يستعيض عن ذلك بحوار جادٍّ ومسؤول يكشف فيه كل طرفٍ عن حججه ومؤيداته.
هذه بعضٌ من المؤيدات الدَّالة على قدرة القضاة على تحملهم لمسؤوليتهم التاريخية أمام وطنهم بكل التزام ومسؤولية، وأي ترويج لخطابٍ مغلوط يسعى إلى المس بهيبة القضاة ومكانتهم الدستورية يبقى مجرَّد تغريد خارج الرؤية الملكية التي استأمنت القضاة على حقوق الناس وحرياتهم بما يؤسِّس لوطنٍ يتسع للجميع في جوٍّ تحكمه قواعد القانون ويتساوى فيه الجميع أمام سلطته.
إن المرحلة الانتقالية الرَّاهنة لوضعية العدالة بالمغرب تفرض تنزيل مبادئ الدستور المرتبطة بالعدالة في شكل أجوبةٍ تأسيسية مستقبلية تختلف عن الوضعية الماضية بالنظر إلى المتغيرات المُدخلة بنص الدستور على هيكلة خريطة العدالة والتي أعادت توزيع أدوار مختلف المؤسسات المعنية، ولذلك فإن الأجوبة التأسيسية لا ينبغي أن تُقدم حصراً لاختصاصات القضاء بقدر ما يجب أن تبحث في سبل توزيع أدواره الجديدة ؟
وحسبنا في هذا المقام أن نحاول تقديم مشروع أجوبة تأسيسية للأدوار الدستورية الجديدة لقضاة النيابة العامة بمناسبة انتقال نقاش الاستقلالية إلى البرلمان، ولسنا في حاجة إلى التذكير بداية بأن النيابات العامة ما وُجدتْ إلا لتمثل المجتمع كلَّه وتدافع عن أمنه العام بمفهومه المنضبط لسلطة الملائمة، مع التشديد على أن دورها المحصور في محاربة الجريمة فقط أصبح دوراً تقليدياً متجاوزاً إذا استحضرنا أدوارها الجديدة المرتبطة بالمساهمة في تفعيل سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وهي بهذه الخصائص تبقى غير قابلة لأن تكون تابعةً لأية جهةٍ تُدافع عن فكرٍ أُحادي يتبنَّاه عددٌ من المؤمنين به فقط، لأن من شأن ذلك أن يجعل منها أداةً طيِّعة قد تستعملها السلطة الحكومية المكلفة بها في تصفية أعداء الفكر الذي تتبنَّاه.
إن هذه الفرضية ليست وحدها المبرِّرة لضرورة استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، بل هناك من المبرِّرات ما يكفي لتأكيد ضرورة استقلال هذه السلطة عن كل المؤثرات السياسية بالنظر إلى أن هذه السلطة لا يمكن أن تُنفذ أدوارها الدستورية أمام استمرارية تبعيتها للسلطة التنفيذية، لأن التأسيس لرؤية كاملة ومتكاملة عن الفضاء المستقبلي الذي يجب أن تشتغل فيه النيابة العامة إذا كان يفرض مراعاة ضرورة خضوعها للرقابة على أعمالها، فإنه لا يفرض بالضرورة أن تكون هذه الرقابة برلمانية من خلال الأسئلة التي توجه لوزير العدل والحريات، وهذا الطرح تؤيِّده فصول الدستور المؤسِّسة لرقابة من نوع خاص على قضاة النيابة العامة، تنطلق من تطبيقهم للقانون وامتثالهم للتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها (الفصل 110/2) وتتأيد بمنطوق الفصل 113 الذي جعل من مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية المشرف الرئيس على وضع الملامح الأساسية لسياسة الدولة في القضاء التي تعتبر السياسة الجنائية جزءا مهماً فيها وذلك من خلال وضعه لتقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة مع إصداره للتوصيات الملائمة بشأنها بمبادرته أو بناء على طلب الملك أو الحكومة أو البرلمان إذا تعلق الأمر بآرائه التي يجب أن تكون مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط، إضافة إلى أن الفصل 115 استبعد وزير العدل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو ما يجعله غير ملمٍّ بالوضعية الحقيقية للسياسة القضائية التي تُعدُّ من قِبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية بناءً على احتكاك يومي ومستمر بتطورات عمل النيابات العامة، كما أن المجلس نفسه هو الذي يبت في القضايا التي تهم قضاة النيابة العامة ويراعي في ذلك تقارير التقييم المقدمة من قِبل السلطة التي يتبعون لها التي لا يمكن أن تكون إلاَّ سلطة قضائية.(الفصل 116 من الدستور).
فإذا سلَّمنا بأن الملك هو الذي يعين الوكيل العام بمحكمة النقض الذي يعتبر عضواً دائماً بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فما الداعي إذن إلى تبليغه بالسياسة الجنائية من قِبل وزير العدل بالرغم من كونه قد شارك في صياغتها؟
إنَّ أهل مكةَ أدرى بشعابها، ومؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية قادرة على تحمل مسؤوليتها في وضع السياسة الجنائية الملائمة بالنَّظر إلى تعددية تركيبتها من جهة، وخبرة قضاتها المنتخبين من جهة أخرى، كما أنها مؤسسة دستورية محكومة بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، في حين أن وزير العدل ما ثبت في تاريخ المغرب أن حُوسب على سياسته الجنائية بالرغم من أن هناك وقائع كثيرة أثارت جدلاً قانونياً حادّاً في لحظات تاريخية مختلفة ولم يستطع وزراء العدل توضيح مواقفهم القانونية منها.
ولستُ هنا في حاجة إلى تكرار الأسانيد الدَّاعمة لفكرة الاستقلالية بالشروط التي يمكن أن تضمن لقضاة النيابة العامة ممارسة مهامهم الدستورية بعيداً عن كلِّ تضييق، إنما يجب أن نُطمْئن الرافضين لهذه الفكرة بغضِّ النظر عن الخلفيات التي ينطلقون منها وبعيداً عن المواقف "الظرفية" المعلن عنها من قِبل مختلف مكونات المجتمع السياسي وانضباطاً لمتطلبات المرحلة الراهنة التي تفرض ضبط مجالات اختصاص كلَّ أجهزة الدولة بما يُؤسِّس لمستقبل واضح تتجسَّد فيه مبادئ الدستور وتتحدَّد فيه مسؤولية كل مؤسسة في علاقتها بمختلف المؤسسات المشتغلة إلى جانبها.
إنَّ التنزيل السليم لفكرة بهذا الثقل يفرض إطلاق سراح النيابة العامة واستبعادها عن كلِّ مؤثر سياسي حتَّى يتأتى لها ضمان التوازن اللاَّزم بين مختلف مكونات المجتمع من خلال إعمال نصوص القانون في مواجهة الجميع بعيداً عن التقديرات المزاجية التي يمكن أن تختلف من سياسي إلى آخر ولا يمكن أن تختلف إذا أُسندت لمسؤول قضائي يشتغل بمنطق القانون لا بمنطق السياسة.
لقدْ عبَّر القضاة عن موقفهم الدَّاعم لاستقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل مؤيَّدِين في ذلك بتجاربهم العملية لمهام هذه السلطة وكان من نتائج ذلك أن استجاب الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة إلى هذا المطلب بشكل صريح، غير أن وزارة العدل والحريات في شخص وزيرها تُحاول إجهاض البُعد الدستوري لهذه النتائج وتُفرش الأرضية الإعلامية المبرِّرة لاستمرارية ترأسها لجهاز النيابة العامة، معتمدةً في ذلك على مجموعة من الانطباعات الذاتوية غير المدعومة بمبررات علمية موضوعية.
القضاةُ يمارسون مهامَّهم باسم الملك وطبقاً للقانون، وهم بهذه الصفة يحكمون باسم الملك بالنظر إلى نيابتهم عن الإمام في القضاء ويستمدون شرعيتهم من الشعب بالنظر إلى أن القانون تعبيرٌ عن إرادته، وينجرُّ عن ذلك أن تكون مسؤوليتهم مضبوطة مسبقاً من خلال عمل السلطة التشريعية الممثلة للشعب، فإذا كان ذلك ثابتاً جاز لنا أن نردَّ بكل أدب التوصيفات المزاجية غير المسؤولة التي تُحاول "خندقة" القضاة وتصويرهم ك" لوبي ضاغط" يسعى إلى إقامة "دولة داخل الدولة" ويمكن أن يكون عُرضةً للاختراق السياسي، مع أن هذه الفرضيات تبقى مجرَّد تكهُّنات تُشاع عمداً من أجل تمديد أمد التحكم في صلاحيات القضاة وإفزاع الرأي العام من خلال إعادة تشكيل صورة نمطية سلبية جديدة عن القضاء تنتقل به من القضاء المتهم بالفساد إلى القضاء المتهم بالنزوع نحو "التحكم والهيمنة".
إن الدِّفاع عن الأفكار يجب أن يكون في إطار التدافع الحضاري الإيجابي البعيد عن الإيحاءات السلبية، ولذلك فبدل أن نصنع صورة قاتمة عن مخالفينا في الفكرة، يمكن أن نصنع صورة ناصعة عن أفكارنا إذا ناقشناها بالأسانيد التي تُعبِّر عن قناعاتنا، وبدل أن ينحدر الوزير إلى مستوى لا يليق برجلٍ في الدولة من أجل تقزيم أفكار القضاة ووصفهم بما لا يليق، بهدف تجريدهم من أهلية قيادة جهاز النيابة العامة، يمكن أن يستعيض عن ذلك بحوار جادٍّ ومسؤول يكشف فيه كل طرفٍ عن حججه ومؤيداته.
هذه بعضٌ من المؤيدات الدَّالة على قدرة القضاة على تحملهم لمسؤوليتهم التاريخية أمام وطنهم بكل التزام ومسؤولية، وأي ترويج لخطابٍ مغلوط يسعى إلى المس بهيبة القضاة ومكانتهم الدستورية يبقى مجرَّد تغريد خارج الرؤية الملكية التي استأمنت القضاة على حقوق الناس وحرياتهم بما يؤسِّس لوطنٍ يتسع للجميع في جوٍّ تحكمه قواعد القانون ويتساوى فيه الجميع أمام سلطته.