أثار نشر مسودة مشروع القانون الجنائي الجديد على البوابة الالكترونية لوزارة العدل والحريات، نقاشا قانونيا وحقوقيا وسياسيا كما أفرز قراءات متعددة لمواده وأحكامه ومقتضياته تراوحت بين مؤيد ومعارض ومدقق في بعضها ومتسائل حول أخرى.
ويأتي نشر مسودة المشروع المتعلق بتتميم وتغيير مجموعة القانون الجنائي المغربي -بحسب بلاغ الوزارة الذي نشر بتاريخ 2 أبريل2015- في :"...أفق توسيع التشاور بهدف اغناء هذا النص القانوني ولتلقي الملاحظات والمقترحات حول مضامين المسودة ...".
و تجدر الإشارة ،إلى أهذا المشروع المتكون من 598 مادة –كما روج له رسميا - يندرج في سياق في إطار تنزيل مضامين الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة التي كانت نتاج حوار وطني، وكذا المخطط التشريعي للحكومة.ومن جهة أخرى فرضها ضرورة ملائمة الترسانة القانونية الجنائية مع أحكام دستور فاتح يوليوز لسنة 2011، وكذا لملائمة مقتضياتها مع العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان ومكافحة الجريمة التي صادق عليها المغرب.
وبالرجوع إلى ما أثارته مسودة هذا المشروع من نقاش والذي يمكن وصفه تجاوزا بالمجتمعي ،أمكننا على وجه العموم تقسيم الآراء والقراءات حوله إلى ثلاث أنماط من التوجهات لكل منها خطاب معين، أولها أكاديمي –مهني توجه يتسلح بالخطاب العلمي وهو خطاب وصفي أكاديمي نموذجه العلوم القانونية ،حيث جرى تحليل- وإن بكيفية أولية - ما جاء به هذا المشروع من مقتضيات ومواد جديدة و أحكام عامة متعلقة بكل من الجريمة والمجرم والعقوبة والتدابير الوقائية وكذا التطرق للعقوبات البديلة والتي يمكن للقاضي الحكم بها كبديل للعقوبة السالبة الحرية باعتبارها من بين مستجدات المشروع، وفي هذا الإطار رأى فيه بعض الباحثين -بعد التأكيد على أن القوانين عنوان إرادة المجتمع- يتضمن أجوبة مباشرة عن العديد من الإشكاليات التي كانت مطروحة على مستوى القانون الجنائي القديم الذي يعود إلى سنة 1962 .
وفي موضع أخر ،عمل هذا التوجه -الذي يضم محاميين وقضاة بالمحاكم وقضاة ملحقين بالادارة المركزية لوزارة العدل وباحثين في العلوم القانونية- على الخوض في محاولة إبراز مناطق القوة والقصور والظل في هذه المسودة ، إلى حد أن اعتبر أحدهم مسودة المشروع تعكس التجسيد العملي للاختصار الذي يعطى للقانون الجنائي (قج).
وفي مقابل هذه القراءات العلمية الأكاديمية- المهنية الأولية ، يبرز توجه آخر بخطاب إيديولوجي أحيانا وبخلفية حقوقية أحايين أخرى،وهو خطاب الناشط المدني والمناضل السياسي والحقوقي ،الذي يتخذ من منظومة حقوق الإنسان بمفهومها الكوني و من مدخل الحق في الإختلاف، أو من مدخل التسامح بالمفهوم الديني ،أداة نضال حقوقي وسياسي ومدني ضد هذا المشروع وخطاب هذا التيار يتسم بنزعته الدعوية والتعبوية والنضالية الواضحة، وقد كال سيلا من الإنتقادات للمشروع حيث تم وسمه بكونه :
(تراجعي، يشكل انتكاسة حقوقية أخرى ، مقتضياته غارقة في الماضوية ،تؤدي كل مواده حتما إلى غياهب وأقبية السجن...)، وقد دعا مناصروا هذا التوجه إلى المطالبة بإلغاءه جملة وتفصيلاً ومناهضته وتعبئة ورص صفوف كل القوى التقدمية والديمقراطية لأجل ذلك بإعتبار الأمر" معركة مجتمعية"، كما لم يفوت أصحاب هذا التوجه الفرصة للتذكير بكون المغرب موقع -على سبيل الذكر لا الحصر- على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما وسبق وأن صادق على مشروع قرار أممي تقدمت به أزيد من ستين دولة في مجلس حقوق الإنسان حول حرية الدين والمعتقد خلال الدورة الخامسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حيث ينص هذا القرار على:" ضرورة حماية حق كل فرد في إختيار معتقداته وإظهارها وممارستها بالتعليم والممارسة والتعبد وإقامة الـشعائر علانية"، وبالتالي فالمغرب مطالب أن يلتزم بالاتفاقيات التي يوقعها لا أن يعمل على تسييج الحقوق والحريات ومحاولة ضربها من خلال هذا المشروع.
وبخلاف خطاب هذا التوجه وخطاب التوجه الأول، هناك نمطا ثالثا، وهو بخطاب /موقف سياسي حزبي ، يتبناه فاعلين سياسيين ومنتمين لأحزاب الإئتلاف الحكومي وبعض أحزاب المعارضة البرلمانية فالطرف الأول رحب بخروج مسودة المشروع واعتبارها تنسجم مع استحقاقات إصلاح منظومة العدالة بالمغرب وعلى درجة كبيرة من الأهمية لصلتها الوثيقة بحقوق وحريات الأشخاص ومكافحة الجريمة وحماية الأمن العام وسلامة الأفراد والممتلكات و المساهمة بالتالي في ضبط المجتمع والحد من بعض الممارسات اللاقانونية واللاأخلاقية(التحرش والإفطار العلني في رمضان نموذجين).أما موقف بعض الفاعلين السياسيين المنتمين لأحزاب المعارضة، فقد وجد فيه تطبيق لوجهة النظر الأصولية كما يراها حزب العدالة والتنمية .
وبشكل أعم، هذا التوجه الأخير بخطاب - بالتأكيد -غير الخطابين الأولين/، العلمي الأكاديمي والحقوقي المدني، فسمته الأساسية هي أنه خطاب سياسي ولربما دعائي ضد أو مع التدبير الحكومي للسياسة الجنائية بالمغرب.
وبمسافة صغيرة عن هذه التوجهات الثلاث، يمكن تسجيل الملاحظات الأولية التالية حول مسودة مشروع القانون الجنائي:
- الترسانة الجنائية المغربية الجديدة،تنص لأول مرة على العقوبات البديلة وهي من بين ما سبق وطالب به المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
- لمسة التيار المحافظ من داخل الحكومة إن لم نقل الدولة المغربية تبدو واضحة من خلال مواد مسودة هذا المشروع.
- المشرع المغربي حاول - في ما يشبه التسوية -أن يشتري صمت المناهضين لعقوبة الإعدام من خلال التقليص من عدد الحالات والقضايا التي تستوجب عقوبة الإعدام من 36حالة إلى 10 حالات موجبة للعقوبة وفي نفس الوقت أن يرضى الداعين لإبقاء العقوبة -الذين ينتمي أغلبهم للتيارات المحسوبة على الإسلام السياسي وعلى رأسهم حزب العدالة والتنمية-من خلال تثبيتها بالترسانة الجنائية المغربية.
- مجموعة من المواد المدرجة في مسودة هذا المشروع ستضل تعاني قصورا من الناحية العملية والإجرائية ومثالنا في ذلك المادة 503 التي حاول المشرع الجنائي من خلالها تشديد العقوبة الخاصة بالتحرش اللفظي والجنسي في الساحات العمومية وأماكن العمل إلا أن هذه المادة لم تحدد وسيلة إثبات التحرش وبالتالي فإن أي حكم في مثل هذه القضايا سيكون غير عادل كما أن المادة لم تتحدث عن الشاهد كدليل مادي يثبت وقوع التحرش.