MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




مشاريع قوانين السلطة القضائية بالمغرب تكريس لاستقلال القضاء أم محاولة للقضاء على استقلاله بقلم ذ. أنس سعدون

     

قاض، عضو جمعية نادي قضاة المغرب بأزيلال



مشاريع قوانين السلطة القضائية بالمغرب تكريس لاستقلال القضاء أم محاولة للقضاء على استقلاله   بقلم ذ. أنس سعدون

كشفت وزارة العدل والحريات وبعد طول انتظار عن مضامين مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية التي أعدتها، ويتعلق الأمر بمشروع النظام الأساسي للقضاة، ومشروع القانون المنظم للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، حيث نشرت هذه المشاريع عبر الموقع الرسمي للوزارة المذكورة وعممت أيضا على الجمعيات المهنية للقضاة حيث أمهلتها أجلا لإبداء ملاحظاتها وتقديم مقترحاتها لتعديل صياغة أو مضامين بعض المواد قبل احالتها عبر باقي محطات التشريع . فما هو السياق العام للإعلان عن مشاريع هذه القوانين ؟ وإلى أي مدى استطاعت أن تترجم مضامين الوثيقة الدستورية وتؤسس للاستقلال الفعلي والحقيقي للسلطة القضائية ؟

أولا : موقع مشاريع القوانين التنظيمية الجديدة من الحراك القضائي بالمغرب

ان مشاريع القوانين الجديدة المعلن عنها قبيل أيام لا يمكن فصلها عن المستجدات التي شهدتها الساحة الحقوقية الوطنية عامة، والقضائية على وجه الخصوص، والتي عرفت تحولات كبيرة مند المصادقة على دستور 2011 بظهور فاعل جديد، متمثل في الجمعيات المهنية للقضاة التي عززت المشهد القضائي، وخروج القضاة إلى العلن بعد تكسير القيود الوهمية التي حاولت بعض الجهات فرضها لتقييد حريتهم في التعبير تحت مسمى واجب التحفظ، لا سيما بفضل تحركات نادي القضاة الذي قام بخطوات عملية للتغيير من خلال تقديم أول ملف مطلبي علني للقضاة، وتدارس واقع ومشاكل المنظومة القضائية، والانفتاح على المواطن..، حيث ظهر بالملموس وجود جيل جديد من القضاة لديه هموم ومطالب تتجاوز هاجس تحسين الأوضاع المادية إلى مطالب أكثر الحاحا تتعلق بضرورة ايجاد ضمانات حقيقية تكفل لهم استقلال القضاء فرديا ومؤسساتيا، في هذا السياق يمكن فهم عدة مبادرات عرفتها الساحة القضائية الوطنية ومن بينها مقاطعة القضاة لأول مرة لدورات التكوين التي تنظمها الوزارة، ومقاطعة عدد كبير منهم لندوات الحوار الوطني الذي تديره الوزارة ، ورفضهم تسلم مبالغ التعويض عن الاشراف القضائي على الانتخابات في ظل غياب ايطار قانوني واضح ينظم هذه المسألة، وهي خطوات توجت بوقفة وطنية للقضاة ببذلهم أمام محكمة النقض شكلت نقلة نوعية في مسار الحراك القضائي الذي يعيشه المغرب إذ عكست الشعارات المرفوعة يومها جزء كبيرا من مطالب القضاة ، وعلى رأسها مطالبة المجلس الاعلى للقضاء بالتدبير العادل لملفات القضاة بخصوص التعيينات والانتقالات، وفك الارتباط مع وزارة العدل بالاعتراف باستقلال النيابة العامة والإدارة القضائية عنها.

ثانيا : السياق العام لمشاريع القوانين التنظيمية للسلطة القضائية

إن المتتبع لمسار الحراك القضائي الذي عرفه المغرب في السنتين الأخيرتين يستخلص وجود مقومات أساسية أسهمت في بلورة معالم هذا الحراك تتمثل في 3 عوامل أساسية :

  • العامل الدستوري : إذ أن دستور فاتح يوليوز 2013 تضمن التنصيص على مقتضيات جد متقدمة بخصوص السلطة القضائية منها ما تم بلورتها على أرض الواقع بمبادرة من القضاة كالحق في التعبير وتأسيس الجمعيات المهنية للقضاة، ومنها ما بقي معلقا تنفيذه على صدور القوانين التنظيمية. وفي جميع الأحوال أسهم الوضع الجديد للسلطة القضائية في ظل دستور 2011 في خلق مناخ جديد عزز من الحراك القضائي.
 
  • العامل الجمعوي : ويتمثل في ظهور فاعل جديد على الساحة القضائية يتمثل في الجمعيات المهنية للقضاة وعلى رأسها نادي قضاة المغرب كإطار جاء ليكسر الاحتكار الذي شكله إطار معين ويلغي التبعية المطلقة لهذا الإطار للوزارة الوصية.  
 
  • العامل العمري والفئوي : بالرجوع إلى التحولات التي شهدها المشهد القضائي يتأكد أن جزءا كبيرا من أسباب هذا التغيير مرده الدور الذي لعبه جيل شباب القضاة المطالبين بالتغيير، خاصة القضاة المتخرجين حديثا من المعهد العالي للقضاء وقضاة الدرجتين الثالثة والثانية بالأخص، الذين كان حضورهم لافتا في كل محطات الحراك القضائي بدءا من تأسيس أول جمعية مهنية مستقلة للقضاة، مرورا بحمل القضاة لشارة الاحتجاج، ثم الوقفة الوطنية للقضاة أمام محكمة النقض، حيث تأكد بالملموس الحضور اللافت للأجيال الجديدة من القضاة في الحراك الراهن، وهو جيل استفاد من أجواء الحرية التي عرفها المغرب، فضلا عن التطورات التي شهدتها وسائل الاتصال عن بعد والإطلاع عن التقنيات الحديثة في هذا المجال فضلا عن أجواء حرية التعبير.
 
وباستحضار هذه المقومات الثلاث يمكن تحديد أهم المطالب المرفوعة من خلال الحراك القضائي الذي يعرفه المغرب في:
  • فك الارتباط التام بين السلطة القضائية ووزارة العدل، ونقل صلاحيات وزير العدل إلى الرئيس المنتدب للسلطة القضائية.
  • تدعيم دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية ودمقرطة طريقة اختيار أعضائه الدائمين ووضع معايير موضوعية تحكم تدبير الوضعية الفريدة للقضاة قوامها الشفافية وتكافؤ الفرص والاستحقاق .
  • تحسين الأوضاع المادية للقضاة خاصة قضاة الدرجات الثالثة والثانية والأولى، ومراجعة نظام ترقية القضاة بحذف الدرجة الثالثة وإعادة تصنيف القضاة تبعا لأقدميتهم في الدرجات والرتب الجديدة في اطار نظام ترقيات أكثر تحفيزا.
 
ثالثا : مشاريع القوانين التنظيمية ومحاولات تطويق الحراك القضائي

ان القراءة الأولية لمضامين مشاريع القوانين التنظيمية للسلطة القضائية التي أعلنت عنها وزارة العدل تؤكد أن هذه النصوص تأتي عكس التيار وعكس تطلعات القضاة ، بل وتتضمن مقتضيات تعكس إرادة حقيقية في تطويق الحراك القضائي الذي تشهده البلاد، وهو ما يظهر من خلال عدة ملاحظات أولية نكتفي بإبدائها في انتظار القيام بدراسة أكثر تفصيلا لمضمون هذه المشاريع.

فمن جهة أولى إذا كان الحراك القضائي بالمغرب قاده جيل شباب القضاة قبل أن ينضم إليه باقي القضاة من مختلف الأجيال والدرجات، فإن مشاريع القوانين الجديدة استحدثت آليات لتطويق هذا الحراك الشاب، وذلك عن طريق احداث مفهوم القاضي النائب وتقييده بقضاء سنتين تحت التجريب بعد أدائه لليمين القانونية قبل أن يتم ترسيمه وفق ما تكشف عنه نظرية مسؤوله المباشر وملاحظاته، وبهذه التقنية المستحدثة تصر الوزارة قبل رفع يدها شكليا عن السلطة القضائية، إلا وأن تفتح منفذا للمس باستقلال القضاة الجدد، من خلال بدعة القضاة المؤقتين التي تعد مظهرا صارخا لانتهاك استقلالهم في تعارض جلي مع المعايير الدولية بهذا الخصوص، وكمحاولة لإطلاق يد الادارة القضائية (المسؤولين القضائيين) للحد من انخراط القضاة الجدد في الحراك الراهن والذي لا ينظر له إلا كانفلات غير مقبول عن المألوف، أي عن الوضع العام الذي كانت تعيشه الساحة القضائية الوطنية قبل انطلاق الحراك،

إن مفهوم القاضي النائب، والذي يعني تعيين قاض بعد تخرجه من المعهد العالي للقضاء، لممارسة مهام قضائية، وابقاءه تحت التجريب لمدة سنتين، واعطاء سلطة التقييم لمسؤوله المباشر للقول ما إذا كان يستطيع الاستمرار في تولي كرسي القضاء من عدمه، مع كل علامات الاستفهام التي يمكن أن تثيرها هذه الوضعية على استقلاله، كلها مقتضيات تؤكد وجود نية من طرف السلطة التنفيذية، في انتاج جيل جديد من القضاة المطيعين، الذين يشتغلون وفق ما تمليه عليهم ارادة المسؤول المباشر التي تبقى له اليد الطولى في ترسيمهم، أو اخراجهم من السلك القضائي، ولعل الهدف الواضح من هذا المقترح الجديد هو محاولة اعادة نوع من التوازن في العلاقة التي تربط القضاة مع المسؤولين القضائيين، لا سيما وأن السنتين الأخيرتين عرفت توثرا في العلاقات التي تجمع الطرفين وهو ما تمثل في عدة وقائع تضمنتها بيانات جمعية نادي القضاة (تبليغ عن خرق جمعيات عمومية، محاولة تدخل في ملفات رائجة، محاولة ضغط على القضاة لتسلم مبالغ التعويضات عن الاشراف على الانتخابات، التضييقات القائمة على الانتماء الجمعوي...).

وإذا كان قضاة الدرجة الثالثة من بين العناصر الفاعلة في الحراك القضائي الذي شهده المغرب مند سنتين، فإن مشاريع القوانين الجديدة أبت إلا وأن تعاقبهم على مواقفهم السابقة من خلال الابقاء على هذه الدرجة رغم كل الوعود المقدمة عبر كل المستويات بمراجعة نظام الترقية وإلغاء بعض الدرجات والرتب، وهكذا ابتدع مشروع النظام الأساسي للقضاة وضمن باب الاجراءات الانتقالية فكرة الابقاء على اخضاع قضاة الدرجة الثالثة لنظام الترقية طبقا للقانون الذي سيلغى بعد أيام (النظام الأساسي لرجال القضاء الصادر سنة 1974)، في ضرب صارخ لإحدى أهم مميزات القاعدة القانونية التي من خصائصها أنها عامة ومجردة، في المقابل تم التنصيص على أن القضاة المعينين في الدرجة الاستثنائية يستفيدون فورا من نظام الترقية الجديد الذي استحدث 3 رتب (أ، ب، ج)، كما أنهم سيستفيذون من رفع سن التقاعد بأثر فوري.

من جهة ثانية إذا كانت الجمعيات المهنية للقضاة شكلت عنصرا فاعلا في الحراك القضائي بالمغرب فإن مشاريع القوانين الجديدة أبت إلا أن تقيد حق القضاة في تأسيس هذه الجمعيات بإضافة شروط لم توردها الوثيقة الدستورية، شروط يفهم منها وجود إرادة حقيقية في تطويق النشاط الجمعوي للقضاة، هذا النشاط الذي بات مؤرقا ومقلقا لعدة جهات لم تستوعب كيف يمكن للقضاة أن يشقوا عصا الطاعة للإدارة المركزية، ويلغوا كل هرمية بينهم في تدبير الشأن الجمعوي الذي شكل ومند عقود أداة سريعة للوصول إلى مراكز صنع القرار على الصعيد القضائي. ومن بين هذه القيود التي استحدثتها المشاريع الجديدة المادة 86 التي نصت على أنه:"يجب أن لا يقل عدد أعضاء جمعية مهنية للقضاة عن 300 قاضي موزعين بحسب مقرات عملهم على خمس عشرة محكمة استئناف على الأقل شرط أن لا يقل عددهم في كل دائرة محكمة استئناف عن 5 أعضاء من بينهم امرأة قاضية واحدة على الأقل"، 

وهو نص يهدف بالأساس إلى اقصاء عدد من الجمعيات المهنية الحالية من حقها في الوجود وتقييد حق القضاة في تأسيس جمعيات مهنية جديدة، خاصة إذا استحضرنا هذه القيود المستحدثة المتمثلة في حد أدنى من الأعضاء (لا يقل عن 300 قاض)، ومراعاة توزيع جهوي معين (5 أعضاء بكل دائرة استئنافية من بينهم امرأة قاضية واحدة على الأقل)، وهو ما يعني أن مشروع القانون التنظيمي الجديد منع القضاة من تأسيس جمعيات جهوية، طالما أنه اشترط تمثيلية معينة على مستوى كل دائرة استئنافية، والغريب أن مشروع هذا القانون أغفل التنصيص على شرط أساسي وهو أن تشتغل هذه الجمعيات المهنية وفق آليات التسيير الديمقراطي بالرغم من اغراقه في التفاصيل الأخرى التي تبقى عديمة الأهمية ومن بينها تحديد أهداف الجمعيات وهو دور يدخل ضمن الاختصاص الأصيل لقوانين الجمعيات المهنية وليس للقانون التنظيمي،  كما أن من بين المقتضيات الغريبة التي تضمنها المشروع فتح الباب على مصراعيه لتقديم طلب حل الجمعيات المهنية للقضاة كحق خول لكل من يعنيه الأمر (المادة 89)، مع حصر الاختصاص في قبول الطعون بهذا الخصوص في الغرفة اﻻدارية بمحكمة النقض، في ضرب صارخ لمبدأ التقاضي على درجتين المكفول لكل المواطنين.

وبقدرما حاول مشروع القانون الجديد أن ينظم طريقة تأسيس الجمعيات المهنية للقضاة، بقدرما أغفل في المقابل التنصيص على أدوار هذه الجمعيات حينما اغفل أي دور لها في مؤازرة القضاة المحالين على مجلس التأديب، أو الاطلاع على ملفاتهم، أو حتى المساهمة في صياغة قواعد سلوك لمكونات السلطة القضائية، بل وغيب أي دور لها في الدفاع الفعلي عن استقلال السلطة القضائية كممارسة وليس مجرد شعار، من خلال محاولة حصر مجال اشتغالها في الجانب الاجتماعي والثقافي ، ولعل ذلك يظهر بشكل جلي من خلال المادة 85 من مشروع النظام الأساسي للقضاة والذي يحدد أهداف هذه الجمعيات في تشجيع اللقاءات والنقاشات والندوات العلمية، وتحسين وضعية القضاة الاجتماعية والثقافية.. بينما تغفل باقي مواد المشروع التنصيص على أدوار فعلية (مسطرة التأديب، الانتداب، انتخابات المجلس الأعلى للسلطة القضائية..)

من جهة ثالثة وبالرجوع إلى بعض التشريعات المقارنة في بلدان الجوار بالأخص يلاحظ أن مشاريع القوانين التي قدمتها الحكومة بخصوص السلطة القضائية لا تزال دون مستوى الضمانات المتوفرة في كثير من الأنظمة، ومن بين جوانب القصور المسجلة بهذا الخصوص يلاحظ مثلا أن النظام الأساسي للقضاة ألزمهم بالإقامة داخل مقرات المحاكم التي يزاولون عملهم بها، دون التنصيص على الزام الدولة بضمان توفير سكن وظيفي ملائم لهم أو تعويض عن السكن في حال تعذر ذلك كما هو الحال بالنسبة للنظام الأساسي للقضاة بالجزائر(المادة 20)، واليمن (المادة 70)... بل ويلاحظ أن مشاريع القوانين الجديدة فشلت في ترسيخ الاستقرار الوظيفي للقضاة تحصينا لاستقلاليتهم حيث اعتبرت الترقية من بين الحالات المبررة لتنقيل القضاة وهو ما يعد استمرارا وشرعنة للحيف الذي يطال عددا من القضاة بمناسبة الاستفادة من حق من حقوقهم وهو حق الترقية الذي يتحول بسبب هذا المقتضى إلى نقمة. وكان بإمكان المشرع التفكير بإيجاد صيغ تضمن الاستقرار الوظيفي للقضاة من خلال تقييد تنقيلهم بدون ارادتهم في حالات استثنائية، ويمكن في هذا الصدد أن نشير إلى أن النظام الأساسي للقضاة بالجزائر جاء بمقتضيات أفضل حين نص على أن "حق الاستقرار مضمون لقاضي الحكم الذي مارس عشر سنوات من خدمة فعلية، ولا يجوز نقله أو تعيينه في منصب جديد .... إلا بناء على موافقته".

ويلاحظ في نفس السياق أن مشاريع القوانين التي قدمتها الحكومة جاءت في بعض مقتضياتها جد محتشمة على مستوى اقرار قواعد موضوعية وشفافة على صعيد تدبير الوضعية الفردية للقضاة، فرغم التنصيص في المادة 60 من مشروع القانون المنظم للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على أن المجلس يعتمد على مبادئ تكرس تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية والحياد والسعي نحو المناصفة، إلا أن تطبيقات هذا النص لم تراعي هذه المعايير وهو ما يظهر من خلال المواد الموالية ومنها المادة 64 من المشروع والتي تخضع تعيين القضاة الجدد لمعايير متمثلة في حاجيات المحاكم، وبطاقة التقييم، والتكوين التخصصي، ورغبات القضاة.. بينما تغفل بشكل يكاد يكون متعمدا معيارا أساسيا من شأنه تجسيد مبدأ تكافؤ الفرص بين القضاة وهو معيار الاستحقاق، وهو ما قد يؤدي إلى استمرار انتاج نفس الممارسات السلبية التي لطالما عانى منها القضاة المتخرجون من المعهد العالي للقضاء بسبب انعدام المعايير الموضوعية في تعيينهم ، وفي هذا الصدد يمكن اقتراح تعديل مقتضيات المادة 64 من مشروع القانون الذي أعدته الحكومة اعتمادا على صيغ أكثر موضوعية وشفافية أوردتها بعض المشاريع التي تقدم بها قضاة من خلال الورشات التي نظمها نادي قضاة المغرب، ومن بينها مشروع العميد المستشار محمد عنبر والذي جاء فيه : "يعين القضاة لأول مرة في السلطة القضائية مباشرة بعد تخرجهم من المعهد العالي للقضاء بإختيارهم للمناصب الشاغرة في محاكم المملكة  المعروضة عليهم ، ويقع الاختيار حسب درجة الإستحقاق والرتبة التي حصل عليها القاضي حين تخرجه من امتحان نهاية التمرين"، وهي نفس المقتضيات التي نص عليها أيضا مشروع القانون الذي أعده القاضيان الأستاذان محمد البقالي وادريس معطلا، بل ونجد أن عددا من تشريعات بلدان الجوار نصت على خضوع تعيينات القضاة الجدد لمعيار الاستحقاق كمعيار أساسي لا يمكن تجاهله من بينها على سبيل المثال النظام الأساسي للقضاة بالجزائر الذي ينص في مادته 39 على توزيع القضاة الجدد على الجهات القضائية بحسب درجة الاستحقاق.

ومن النقط السوداء في مشاريع القوانين الجديدة التي أعدتها الوزارة تلك المتعلقة بمسطرة الانتداب، فرغم نقل سلطة انتداب القضاة من يد وزير العدل إلى يد الرئيس المنتدب، إلا أن مسطرة الانتداب جاءت عامة وغير مقيدة بأي شروط من شأنها الحيلولة دون استعمال هذه الآلية كعقاب مبطن أو وسيلة للمس باستقلال  القضاة، على خلاف بعض التشريعات المقارنة التي وضعت بعض الضمانات للقضاة من بينها القانون الأردني مثلا الذي نص على أنه يراعى في الانتداب أن لا تكون الوظيفة أو العمل الذي انتدب إليه القاضي أدنى درجة من درجته أو العمل المنوط به، والقانون المصري الذي اشترط موافقة الجمعية العمومية للقضاة بالمحكمة ، ويمكن في هذا الصدد أن نقترح تدعيم الضمانات المخولة للقضاة بمناسبة مسطرة الانتداب بالتنصيص أيضا على أن يكون الانتداب للمصلحة القضائية ووفقا لمعيار يراعي الجهوية أو على الأقل داخل الدائرة الاستئنافية ما عدا في حالة موافقة القاضي المعني بالأمر. لكن الخطير في مسطرة الانتداب وفق مشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ما ورد في المادة 37 منهى التي تنص على أنه: "يمكن للرئيس الأول لمحكمة النقض أو الوكيل العام للملك لديها، كل فيما يخصه، انتداب قاض لملء فراغ بإحدى المحاكم؛ كما يمكن للرؤساء الأولين لمختلف محاكم الاستئناف والوكلاء العامين للملك لديها، كل فيما يخصه، انتداب قاض للمشاركة في تصفية قضية أو لملء فراغ بإحدى المحاكم التابعة لدوائر نفوذهم القضائية من بين القضاة العاملين بهذه الدوائر". وأسطر بخط أحمر على عبارة "انتداب قاض لتصفية قضية"، لأضع سؤالا : حول مفهوم وغاية انتداب قاض من أجل تصفية قضية ما؟ وما نوع هذه القضايا التي تستدعي انتداب قاض باسمه، وما اذا كان من شأن ذلك أن يؤثر في مسار القضية المذكورة لصالح الجهة التي انتدبت هذا القاضي؟ وهل يشكل هذا مظهرا من مظاهر المس باستقلال القضاء؟ ويمكن في هذا الصدد أن نتذكر جانبا مما كان يحكى خلال سنوات الرصاص حينما كان يتم انتداب قضاة وأحيانا هيئات قضائية للبت في ملفات بعينها.

إن المقلق في مسطرة الانتداب هو توسيع دائرة الأشخاص المخول لهم ممارسة هذه السلطة على القضاة (الرئيس الأول والوكيل العام للملك بمحكمة النقض، الرؤساء الأولون والوكلاء العامون بمحاكم الاستئناف)، دون ربط ممارسة هذه الآلية بضمانات حقيقية تكفل الموضوعية والحياد من هذه الجهات، ولعل السؤال الذي يطرح بهذا الصدد، لماذا تم اغفال التنصيص على المقاربة التشاركية من خلال اشراك الجمعيات العمومية للقضاة بالمحاكم التي تبقى أداة فعالة من شأنها تحصين مسطرة الانتداب من كل شطط قد يشوبها؟

وأخيرا يمكن تسجيل بعض الملاحظات الختامية العامة حول مشاريع هذه القوانين :

  • غلبة المقاربة الأمنية على حساب المقاربة الحقوقية وتكريس ثقافة الاخضاع عوض ثقافة الاقناع ،
 
ان تصفح مشاريع القوانين الجديدة المتعلقة بالسلطة القضائية تؤكد تغليبها للمقاربة الأمنية، على حساب المقاربة الحقوقية، إذ كان الهاجس الذي طغى عليها هو محاولة تقييد الحقوق التي كفلتها الوثيقة الدستورية للقضاة من خلال تضييق نطاق تأسيس الجمعيات المهنية، ومصادرة حق القضاة في تأسيس نقابات رغم أن هذا الحظر لم يرد في نص الدستور، ويعد مخالفا للمواثيق الدولية ذات الصلة، وتجريم الاضراب رغم أنه يبقى حقا دستوريا، واعتباره خطأ مهنيا موجبا للمسؤولية التأديبية، اشتراط أقدمية خمس سنوات للترشح لعضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية رغم أن القوانين الحالية لا تشترط أي أقدمية، والتوسع في وضع قيود للترشح، الاغراق في تفصيل الالتزامات والواجبات على القضاة دون الاهتمام بضمان آليات عملية وواقعية تكفل لهم التقيد بها (الاقامة بمقر محكمة التعيين، الزامية التكوين المستمر.. ).

  • محدودية الرؤى وغياب روح الابداع واللجوء إلى الحلول الجاهزة،
تظهر محدودية الرؤى الواردة في مشاريع هذه القوانين في أن واضعيها اكتفوا باللجوء إلى الحلول الجاهزة من خلال الاقتصار على النقل الآلي لصلاحيات وزير العدل وتركيزها من جديد في يد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، دون محاولة اعادة توزيعها في اطار منظومة جديدة من العلاقات داخل المؤسسة الدستورية التي عرفت تحولا كبيرا بانفتاحها على فعاليات غير قضائية، والاكتفاء أيضا بمجرد اعادة نقل المقتضيات المضمنة في النصوص السابقة التي كانت موزعة بين عدد من المراسيم، دون محاولة تطويرها. ومن مظاهر محدودية الرؤى فشل المقترحات في بلورة آلية واضحة لضمان تمثيلية منصفة للمرأة القاضية على مستوى الوصول إلى مراكز صنع القرار، ليس فقط بالنسبة للتنصيص بشكل واضح على تمثيلية المرأة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وإنما أيضا فيما يتعلق بتقلدها لمناصب المسؤولية على صعيد الإدارة القضائية، فضلا عن استيراد حلول جاهزة من الماضي حتى وان أثبت التاريخ فشلها (مؤسسة القاضي النائب والتي سبق تنظيمها في النظام الأساسي الملغى)
  • تكريس سياسة الكيل بمكيالين وتزكية طابع الاقصاء بدل روح المشاركة.
  •  
ان قراءة عدد من مواد مشاريع القوانين المرتقبة تؤكد وجود نظرة فئوية ضيقة تظهر بجلاء في المقتضيات المتعلقة بالترقية التي جاءت غير محفزة، وفي اذكاء طابع هرمي داخل الجسم القضائي، وتركيز السلطات في يد المسؤولين القضائيين وتغييب المقاربة التشاركية بتهميش أي دور مرتقب للجمعيات العمومية للقضاة بالمحاكم، ومحاولة تغييب شباب القضاة الذين يبدو أنهم أصبحوا تيارا مقلقا وآن الأوان ولاجتثاثه ، أو تكبيل حركاته من خلال نصوص مقيدة للحقوق ومغرقة في التعميم، يمكن اللجوء إليها عندما يستدعي التدخل لوضع حد للحراك القضائي المتجدد. في الأخير ان التراجعات التي تكشف عنها المشاريع المعلنة تبقى مفهومة بالنظر إلى الجهة التي قدمتها وأشرفت عليها والتي لا يمكن أن تكون أمينة مائة بالمائة على مستوى الدفاع عن أعلى ضمانات استقلال السلطة القضائية، وهي تراجعات يمكن فهمها أيضا بالرجوع إلى ظروف وسياق وضع هذه المشاريع حيث تم تغييب القضاة وإقصاؤهم من لجان الصياغة، فهل تسهم هذه المشاريع في حال اقرارها في وضع حد للحراك القضائي الذي يعيشه المغرب وإرجاع عقارب الساعة إلى الصفر من جديد ؟ أشك في ذلك طالما أن ارادة القضاة أكبر من كل محاولات التطويق أو التضييق أو الاحتواء.  



الثلاثاء 5 نونبر 2013
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter