لا ندعي أننا أصبحنا مراقين عامين لنواب ومستشاري الأمة، ولا نتحدث من منطلق خصومة سياسية ذات امتدادات إيديولوجية، أو من اعتبارات ذاتية تهدف إلى الدفاع عن دولة القضاة كما يتوهم البعض. ولكن الأمر لا يعدو أن يكون سوى مبادرة إيجابية للمساهمة الفعلية في النقاش العمومي لموضوع استقلال السلطة القضائية الذي اضحى شأنا مجتمعيا بامتياز، تحكمه توجيهات الديمقراطية المواطنة ومبادئ الثانوية الفاعلة التي تقوم في عمقها على المقاربة التشاركية والتناسبية والملاءمة والتعاون والتوازن.
أكيد أن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية تضمنت مقتضيات جديدة فاعلة وناجعة في تحقيق الحكامة القضائية تستحق منا الثناء، غير أن ذلك لم يمنع من أن تتسرب إليها مجموعة من الشوائب والعيوب التي ساهمت في خلق اضطراب دستوري وقانوني جعل المهتمين الحقوقيين والمهنيين يطالبون بوقف المصادقة النهائية عليها إلى حين تدارك معالم الإخفاق الذي أصابها.
وقبل الخوض في جوهر الموضوع، أؤكد أن الدراسة الموضوعية لتجليات العوار الدستوري الذي طال مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية تقتضي استحضار مجموعة من القواعد الدستورية الذهبية التي تؤطر ضمانات ا استقلال السلطة القضائية نجمل أهمها فيما يلي:
1_البعد الكوني لحماية منظومة حقوق الإنسان بالتنصيص الدستوري الصريح على سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية فور نشرها بالجريدة الرسمية.
2_البعد التشاركي الإيجابي في إعداد السياسة القضائية كوجه من أوجه السياسات العمومية طبقا لأحكام الفصل 12 من الدستور. وهو بعد-برفع الباء- يقوم على أساس إشراك الجمعيات المدنية والمهنية والمنظمات غير الحكومية في إعداد النصوص التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية وتفعيلها وتقييمها بشكل يستجيب لمتطلبات المقاربة التشاركية الفعلية بعيدا كل البعد عن الحكامة التشاركية الشكلية الشبيهة.
3_التأكيد الصريح على مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع ضرورة الإشارة إلى كون هذه الاستقلالية بمختلف تمظهراتها الذاتية والمؤسساتية ليست هدفا في ذاتها أو ترفا فكريا أو امتيازا وظيفيا، بقدر ما هي وسيلة لتحقيق غاية مثلى وهي حماية حقوق المواطنين وحرياتهم وتخليق الحياة العامة بعيدا عن أي تدخل مباشر أو ضغط غير مباشر أو تأثير إيجابي أو إكراه سلبي.
4_ البعد الحقوقي والدستوري في إقرار حق القضاة في حرية التعبير والانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية بما يتلاءم مع واجب التجرد واستقلال القضاء.
فعلى ضوء هذه الضمانات نتساءل: هل انصاعت مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية للمحددات الدستورية والحقوق الكونية المذكورة ؟؟؟؟
إن المتتبع لمضامين مشروعي القانونين التنظيمين المتعلقين بالنظام الأساسي للقضاة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية يبدو له بشكل ناف للجهالة أن الإخفاقات الدستورية والحقوقية التي طالتها متنوعة ومتعددة نقف على بعضها فيما يلي:
أولا: تنص المادة 37 من مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة على أنه يمنع عل القاضي تأسيس جمعية غير مهنية أو تسييرها بأي شكل من الأشكال. وهو ما يؤكد بجلاء منع وتقييد ممارسة القضاة لبعض الحقوق والحريات ذات الطبيعة الكونية، بشكل يتعارض مع الحق في ممارسة حرية تكوين الجمعيات المدنية المنصوص عليها في البندين 8 و9 من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة المتعلقة باستقلال القضاء، وفي المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة المتعلقة بأعضاء النيابة العامة بالتنصيص الصريح على حقهم المطلق في الانتماء إلى الرابطات المهنية وغير المهنية. وبشكل ينافي أحكام الفصل 111 من الدستور الذي نص بصيغة العموم على حق القضاة في الانخراط في الجمعيات بمختلف تفريعاتها المدنية و المهنية وحدد نطاق المنع في الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية دون غيرها من التنظيمات الجماعية. فلما يا ترى تم التنصيص على منع القضاة من تأسيس أو تسيير الجمعيات المدنية في تجاهل تام للمبادئ الدستورية والثوابت الحقوقية، وفي تغييب مطلق للفعل الاجتماعي الذي يشهد بتأسيس وانخراط القضاة في جمعيات مدنية مستقلة. وللأسف الشديد فإنه بدلا من تدارك الأمر من طرف نواب الأمة بالبرلمان،خابت آمالنا وهم يكرسون المنع غير الدستوري بالتصفيق بغية التضييق دون تبرير أو بيان لسبب التصفيق.
ثانيا: تنص المادة 53 من مشروع القانون التنظيمي رقم 13.106 بانه يعهد بتقييم أداء القضاة للمسؤولين القضائيين كل بحسب اختصاصه وذلك بصرف النظر عن المآسي والتجاوزات التي لحقت بعض القضاة بسبب السرية المتوهمة والاستعمالات المتعسفة لنشرات التنقيط من طرف بعض المسؤولين القضائيين، بشكل يطرح وبإلحاح سؤال الارتباط الوظيفي بين استقلال السلطة القضائية وتدبير الإدارة القضائية الذي هو من صميم اختصاص السلطة الحكومية المكلفة بالعدل.مما يتعين معه تخفيفا من حدة هذا التداخل إقرار نظام جماعي للتقييم يعتمد في جوهره على مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي تفعيله على معايير دقيقة وموضوعية باعتماد أساليب حديثة وشفافة تستجيب لمتطلبات الحكامة القضائية كالكفاءة العلمية والنزاهة ودرجة الاستقلالية بمفهومها الكوني ومراعاة الكم والكيف في إنتاج المقررات القضائية، ودرجة صحة الأحكام ودقة منطوقها وحسن صياغتها ونسب الطعن فيها وإلغاءها وسرعة الفصل فيها وغيرها من المعايير الحديثة المعتمدة في التجارب المقارنة.
ثالثا: تقضي المادة 96 في شق منها بأنه يمكن توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا صدر منه خرق خطير لقاعدة مسطرية أو موضوعية. وعلى سبيل التذكير فإن مضمون هذه المادة خلق استياء كاملا شاملا في صفوف قضاة المملكة بشكل جعل البعض يصفها بالمادة المشؤومة، والبعض الآخر بالمادة التي توري رقمها التعريفي بغيره، والبعض الآخر بالمادة اللعينة من منطلق انها حددت بعض مظاهر الخطأ الجسيم الموجب للمساءلة التأديبية في الخرق الخطير لقاعدة مسطرية أو موضوعية. وهي بذلك تكون قد جسدت تطاولا صريحا وتراجعا خطيرا عن مبدأ استقلال السلطة القضائية، على أساس أن التنصيص على إمكانية اتخاذ إجراءات تأديبية ضد القضاة بمجرد إصدار احكام قضائية غير صالحة أو نتيجة ارتكابهم لأخطاء مسطرية أو موضوعية خلال أطوار المحاكمة الجنائية أو الدعوى المدنية يعد تهديدا صريحا لاستقلالهم ونزاهتهم، وضغطا غير مباشر لحصانتهم من العزل والتوقيف حسبما أكدته المقررة الخاصة المعنية باستقلال القضاة والمحامين بتاريخ 26_04_2014 خلال الدورة 26 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
وغني عن البيان أن مضمون المادة 96 سيؤدي لا محالة إلى تعطيل تدخل محكمة الطعن ذات الاختصاص الأصيل في تقدير الإخلال الإجرائي والموضوعي في تطبيق النصوص القانونية وذلك تماشيا مع أحكام الفصل 359 من ق .م.م التي جعلت من حالات أسباب النقض خرق القانون الداخلي وخرق القواعد المسطرية وعدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل. ولأجله نقول بوجوب إعادة صياغة المادة 96 بالشكل الذي يحقق التناسب مع المقتضيات القانونية السارية التطبيق و يضمن الملاءمة مع أحكام الفصل 122 من الدستور الذي يعطي لكل متضرر من الخطأ القضائي المطالبة بالتعويض في مواجهة الدولة، ويضبط التوازن بين الحصانة القضائية التي تعتبر إحدى ضمانات استقلال القضاء، والمساءلة التأديبية التي تعد من دعامات الفعالية و الشفافية و تعزيز سيادة القانون، أخذا بعين الاعتبار للتقارير و المواثيق الكونية ذات الصلة، وللاجتهادات القضائية الصادرة في الموضوع سواء من طرف القضاء المقارن أو من طرف المحكمة الاوربية لحقوق الإنسان.
ولا شك أن المصادقة على المادة 96 بعوارها الدستوري وإخفاقها القانوني سيؤثر بشكل سلبي على الممارسة القضائية من خلال مجموعة من المظاهر والتجليات نذكر منها:
_ تدني مؤشر الفعالية والإنتاجية والنجاعة القضائية بتوقع ضعف المبادرة الإيجابية للقضاة في تصفية الملفات.
_ توقع الإخلال بحقوق المتقاضين وقواعد حسن سير العدالة وبضمانات المحاكمة العادلة وما تقتضيه من إصدار المقررات القضائية في آجال معقولة.
_ إقرار نظام قضائي آلي سيقوم على تطبيق النصوص القانونية في شكلها ومضمونها دون مراعاة أهدافها والغايات المتوخاة من سنها. وهو ما سوف يكون لها تأثير مباشر في إنتاج قضاة خجولين غير مجتهدين، منغلقين غير منفتحين، ظالمين غير عادلين. وللتاريخ نقول أنه يتعين على السلطة التشريعية أن تتحسس مسؤوليتها السياسية والمدنية في وجوب إصدار قوانين تنظيمية للسلطة القضائية منصفة وعادلة ذات جودة عالية تستجيب للضمانات الدستورية المقررة والمدعمة بالإرادة الشعبية، وذلك من منطلق أن إثارة مسؤولية السلطة القضائية لسوء التفسير والتأويل والتطبيق في مرحلة لاحقة سيبقى بدون مبنى ولا معنى ما دامت الحصانات والضمانات الدستورية والحقوقية سلبت جبرا بموجب القوانين التنظيمية.
رابعا: تقضي المادة 54 من مشروع القانون التنظيمي رقم 13.100 بأنه يمكن للوزير المكلف بالعدل حضور اجتماعات المجلس الأعلى للسلطة القضائية من اجل تقديم بيانات ومعلومات تتعلق بالإدارة القضائية أو أي موضوع يتعلق بسير مرفق العدالة، بطلب من المجلس أو بمبادرة من الوزير.
ونعتقد أن هذه المادة أفرغت الفصل 115 من الدستور من محتواه والذي حدد بشكل حصري الأشخاص الذين يتألف منهم المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ذلك أن حضور السلطة الحكومية المكلفة بالعدل لأشغال المجلس وبصرف النظر عن كونه يمس المحددات الدستورية للبنية التركيبية للمجلس المذكور، فهو غير مبرر ما دام أن ضمان استقلال السلطة القضائية معهود بنص الفصل 109 من الدستور إلى جلالة الملك، وأن السهر على تطبيقه مسنود بمقتضى الفصل 113 من الدستور إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. وبالتالي فحضور وزير العدل ولو على سبيل البيان والتوضيح سيكون له بدون شك تأثير معنوي على تفعيل الضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية، وتهديد غير مباشر لدعامات الأمن المهني الذي يعتبر ركيزة أساسية وفاعلة لضمان الأمن بمظهريه القانوني والقضائي.من هنا بات لازما إعادة النظر في المادة 54 بشكل يضمن بصفة أولية الاستقلال الذاتي والمؤسساتي للسلطة القضائية، ويبين سبل التعاون بين هذه الأخيرة والسلطة التنفيذية،بالشكل الذي لا يؤثر في مبدأ تحصين السلطة القضائية من المؤثرات الخارجية بمختلف تجلياتها السياسية والإعلامية والمجتمعية. وهو الأمر الذي لن يتأتى إلا بالكف عن التدافع المجاني من النيل من الضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية،و العمل الجماعي من مختلف المواقع بالاستيعاب الحقوقي للموضوع بعيدا عن الخلفيات السياسية والمصالح الذاتية الضيقة أو المهنية المطلقة، والابتعاد عن الهمز السياسي و اللمز المهني في تناول الموضوع ، على أساس أن الدعم السياسي للمحددات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية ليس في آخر المطاف سوى تكريسا للإرادة الملكية المستقلة، واحتراما للضوابط الدستورية الواضحة، وتعزيزا لدعامات الديمقراطية المواطنة. فلنبادر يا أصحاب الفضيلة ممثلي الأمة إلى تدارك العوار الدستوري الذي لحق مشاريع القوانين التنظيمية المرتبطة بالسلطة القضائية بصفة توافقية، ما دام الموضوع في جوهره لا يحتمل أن تتم المصادقة عليه من منطلق الأغلبية أو الأقلية، وإنما يتعين مناقشته بصفة شمولية وكونية لارتباطه الوثيق بقضية مجتمعية ذات امتدادات دستورية وحقوقية.
أكيد أن مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية تضمنت مقتضيات جديدة فاعلة وناجعة في تحقيق الحكامة القضائية تستحق منا الثناء، غير أن ذلك لم يمنع من أن تتسرب إليها مجموعة من الشوائب والعيوب التي ساهمت في خلق اضطراب دستوري وقانوني جعل المهتمين الحقوقيين والمهنيين يطالبون بوقف المصادقة النهائية عليها إلى حين تدارك معالم الإخفاق الذي أصابها.
وقبل الخوض في جوهر الموضوع، أؤكد أن الدراسة الموضوعية لتجليات العوار الدستوري الذي طال مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية تقتضي استحضار مجموعة من القواعد الدستورية الذهبية التي تؤطر ضمانات ا استقلال السلطة القضائية نجمل أهمها فيما يلي:
1_البعد الكوني لحماية منظومة حقوق الإنسان بالتنصيص الدستوري الصريح على سمو المواثيق الدولية على التشريعات الوطنية فور نشرها بالجريدة الرسمية.
2_البعد التشاركي الإيجابي في إعداد السياسة القضائية كوجه من أوجه السياسات العمومية طبقا لأحكام الفصل 12 من الدستور. وهو بعد-برفع الباء- يقوم على أساس إشراك الجمعيات المدنية والمهنية والمنظمات غير الحكومية في إعداد النصوص التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية وتفعيلها وتقييمها بشكل يستجيب لمتطلبات المقاربة التشاركية الفعلية بعيدا كل البعد عن الحكامة التشاركية الشكلية الشبيهة.
3_التأكيد الصريح على مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع ضرورة الإشارة إلى كون هذه الاستقلالية بمختلف تمظهراتها الذاتية والمؤسساتية ليست هدفا في ذاتها أو ترفا فكريا أو امتيازا وظيفيا، بقدر ما هي وسيلة لتحقيق غاية مثلى وهي حماية حقوق المواطنين وحرياتهم وتخليق الحياة العامة بعيدا عن أي تدخل مباشر أو ضغط غير مباشر أو تأثير إيجابي أو إكراه سلبي.
4_ البعد الحقوقي والدستوري في إقرار حق القضاة في حرية التعبير والانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية بما يتلاءم مع واجب التجرد واستقلال القضاء.
فعلى ضوء هذه الضمانات نتساءل: هل انصاعت مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية للمحددات الدستورية والحقوق الكونية المذكورة ؟؟؟؟
إن المتتبع لمضامين مشروعي القانونين التنظيمين المتعلقين بالنظام الأساسي للقضاة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية يبدو له بشكل ناف للجهالة أن الإخفاقات الدستورية والحقوقية التي طالتها متنوعة ومتعددة نقف على بعضها فيما يلي:
أولا: تنص المادة 37 من مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة على أنه يمنع عل القاضي تأسيس جمعية غير مهنية أو تسييرها بأي شكل من الأشكال. وهو ما يؤكد بجلاء منع وتقييد ممارسة القضاة لبعض الحقوق والحريات ذات الطبيعة الكونية، بشكل يتعارض مع الحق في ممارسة حرية تكوين الجمعيات المدنية المنصوص عليها في البندين 8 و9 من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة المتعلقة باستقلال القضاء، وفي المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة المتعلقة بأعضاء النيابة العامة بالتنصيص الصريح على حقهم المطلق في الانتماء إلى الرابطات المهنية وغير المهنية. وبشكل ينافي أحكام الفصل 111 من الدستور الذي نص بصيغة العموم على حق القضاة في الانخراط في الجمعيات بمختلف تفريعاتها المدنية و المهنية وحدد نطاق المنع في الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية دون غيرها من التنظيمات الجماعية. فلما يا ترى تم التنصيص على منع القضاة من تأسيس أو تسيير الجمعيات المدنية في تجاهل تام للمبادئ الدستورية والثوابت الحقوقية، وفي تغييب مطلق للفعل الاجتماعي الذي يشهد بتأسيس وانخراط القضاة في جمعيات مدنية مستقلة. وللأسف الشديد فإنه بدلا من تدارك الأمر من طرف نواب الأمة بالبرلمان،خابت آمالنا وهم يكرسون المنع غير الدستوري بالتصفيق بغية التضييق دون تبرير أو بيان لسبب التصفيق.
ثانيا: تنص المادة 53 من مشروع القانون التنظيمي رقم 13.106 بانه يعهد بتقييم أداء القضاة للمسؤولين القضائيين كل بحسب اختصاصه وذلك بصرف النظر عن المآسي والتجاوزات التي لحقت بعض القضاة بسبب السرية المتوهمة والاستعمالات المتعسفة لنشرات التنقيط من طرف بعض المسؤولين القضائيين، بشكل يطرح وبإلحاح سؤال الارتباط الوظيفي بين استقلال السلطة القضائية وتدبير الإدارة القضائية الذي هو من صميم اختصاص السلطة الحكومية المكلفة بالعدل.مما يتعين معه تخفيفا من حدة هذا التداخل إقرار نظام جماعي للتقييم يعتمد في جوهره على مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي تفعيله على معايير دقيقة وموضوعية باعتماد أساليب حديثة وشفافة تستجيب لمتطلبات الحكامة القضائية كالكفاءة العلمية والنزاهة ودرجة الاستقلالية بمفهومها الكوني ومراعاة الكم والكيف في إنتاج المقررات القضائية، ودرجة صحة الأحكام ودقة منطوقها وحسن صياغتها ونسب الطعن فيها وإلغاءها وسرعة الفصل فيها وغيرها من المعايير الحديثة المعتمدة في التجارب المقارنة.
ثالثا: تقضي المادة 96 في شق منها بأنه يمكن توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا صدر منه خرق خطير لقاعدة مسطرية أو موضوعية. وعلى سبيل التذكير فإن مضمون هذه المادة خلق استياء كاملا شاملا في صفوف قضاة المملكة بشكل جعل البعض يصفها بالمادة المشؤومة، والبعض الآخر بالمادة التي توري رقمها التعريفي بغيره، والبعض الآخر بالمادة اللعينة من منطلق انها حددت بعض مظاهر الخطأ الجسيم الموجب للمساءلة التأديبية في الخرق الخطير لقاعدة مسطرية أو موضوعية. وهي بذلك تكون قد جسدت تطاولا صريحا وتراجعا خطيرا عن مبدأ استقلال السلطة القضائية، على أساس أن التنصيص على إمكانية اتخاذ إجراءات تأديبية ضد القضاة بمجرد إصدار احكام قضائية غير صالحة أو نتيجة ارتكابهم لأخطاء مسطرية أو موضوعية خلال أطوار المحاكمة الجنائية أو الدعوى المدنية يعد تهديدا صريحا لاستقلالهم ونزاهتهم، وضغطا غير مباشر لحصانتهم من العزل والتوقيف حسبما أكدته المقررة الخاصة المعنية باستقلال القضاة والمحامين بتاريخ 26_04_2014 خلال الدورة 26 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
وغني عن البيان أن مضمون المادة 96 سيؤدي لا محالة إلى تعطيل تدخل محكمة الطعن ذات الاختصاص الأصيل في تقدير الإخلال الإجرائي والموضوعي في تطبيق النصوص القانونية وذلك تماشيا مع أحكام الفصل 359 من ق .م.م التي جعلت من حالات أسباب النقض خرق القانون الداخلي وخرق القواعد المسطرية وعدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل. ولأجله نقول بوجوب إعادة صياغة المادة 96 بالشكل الذي يحقق التناسب مع المقتضيات القانونية السارية التطبيق و يضمن الملاءمة مع أحكام الفصل 122 من الدستور الذي يعطي لكل متضرر من الخطأ القضائي المطالبة بالتعويض في مواجهة الدولة، ويضبط التوازن بين الحصانة القضائية التي تعتبر إحدى ضمانات استقلال القضاء، والمساءلة التأديبية التي تعد من دعامات الفعالية و الشفافية و تعزيز سيادة القانون، أخذا بعين الاعتبار للتقارير و المواثيق الكونية ذات الصلة، وللاجتهادات القضائية الصادرة في الموضوع سواء من طرف القضاء المقارن أو من طرف المحكمة الاوربية لحقوق الإنسان.
ولا شك أن المصادقة على المادة 96 بعوارها الدستوري وإخفاقها القانوني سيؤثر بشكل سلبي على الممارسة القضائية من خلال مجموعة من المظاهر والتجليات نذكر منها:
_ تدني مؤشر الفعالية والإنتاجية والنجاعة القضائية بتوقع ضعف المبادرة الإيجابية للقضاة في تصفية الملفات.
_ توقع الإخلال بحقوق المتقاضين وقواعد حسن سير العدالة وبضمانات المحاكمة العادلة وما تقتضيه من إصدار المقررات القضائية في آجال معقولة.
_ إقرار نظام قضائي آلي سيقوم على تطبيق النصوص القانونية في شكلها ومضمونها دون مراعاة أهدافها والغايات المتوخاة من سنها. وهو ما سوف يكون لها تأثير مباشر في إنتاج قضاة خجولين غير مجتهدين، منغلقين غير منفتحين، ظالمين غير عادلين. وللتاريخ نقول أنه يتعين على السلطة التشريعية أن تتحسس مسؤوليتها السياسية والمدنية في وجوب إصدار قوانين تنظيمية للسلطة القضائية منصفة وعادلة ذات جودة عالية تستجيب للضمانات الدستورية المقررة والمدعمة بالإرادة الشعبية، وذلك من منطلق أن إثارة مسؤولية السلطة القضائية لسوء التفسير والتأويل والتطبيق في مرحلة لاحقة سيبقى بدون مبنى ولا معنى ما دامت الحصانات والضمانات الدستورية والحقوقية سلبت جبرا بموجب القوانين التنظيمية.
رابعا: تقضي المادة 54 من مشروع القانون التنظيمي رقم 13.100 بأنه يمكن للوزير المكلف بالعدل حضور اجتماعات المجلس الأعلى للسلطة القضائية من اجل تقديم بيانات ومعلومات تتعلق بالإدارة القضائية أو أي موضوع يتعلق بسير مرفق العدالة، بطلب من المجلس أو بمبادرة من الوزير.
ونعتقد أن هذه المادة أفرغت الفصل 115 من الدستور من محتواه والذي حدد بشكل حصري الأشخاص الذين يتألف منهم المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ذلك أن حضور السلطة الحكومية المكلفة بالعدل لأشغال المجلس وبصرف النظر عن كونه يمس المحددات الدستورية للبنية التركيبية للمجلس المذكور، فهو غير مبرر ما دام أن ضمان استقلال السلطة القضائية معهود بنص الفصل 109 من الدستور إلى جلالة الملك، وأن السهر على تطبيقه مسنود بمقتضى الفصل 113 من الدستور إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. وبالتالي فحضور وزير العدل ولو على سبيل البيان والتوضيح سيكون له بدون شك تأثير معنوي على تفعيل الضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية، وتهديد غير مباشر لدعامات الأمن المهني الذي يعتبر ركيزة أساسية وفاعلة لضمان الأمن بمظهريه القانوني والقضائي.من هنا بات لازما إعادة النظر في المادة 54 بشكل يضمن بصفة أولية الاستقلال الذاتي والمؤسساتي للسلطة القضائية، ويبين سبل التعاون بين هذه الأخيرة والسلطة التنفيذية،بالشكل الذي لا يؤثر في مبدأ تحصين السلطة القضائية من المؤثرات الخارجية بمختلف تجلياتها السياسية والإعلامية والمجتمعية. وهو الأمر الذي لن يتأتى إلا بالكف عن التدافع المجاني من النيل من الضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية،و العمل الجماعي من مختلف المواقع بالاستيعاب الحقوقي للموضوع بعيدا عن الخلفيات السياسية والمصالح الذاتية الضيقة أو المهنية المطلقة، والابتعاد عن الهمز السياسي و اللمز المهني في تناول الموضوع ، على أساس أن الدعم السياسي للمحددات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية ليس في آخر المطاف سوى تكريسا للإرادة الملكية المستقلة، واحتراما للضوابط الدستورية الواضحة، وتعزيزا لدعامات الديمقراطية المواطنة. فلنبادر يا أصحاب الفضيلة ممثلي الأمة إلى تدارك العوار الدستوري الذي لحق مشاريع القوانين التنظيمية المرتبطة بالسلطة القضائية بصفة توافقية، ما دام الموضوع في جوهره لا يحتمل أن تتم المصادقة عليه من منطلق الأغلبية أو الأقلية، وإنما يتعين مناقشته بصفة شمولية وكونية لارتباطه الوثيق بقضية مجتمعية ذات امتدادات دستورية وحقوقية.