أقلام كثيرة سالت في الآونة الأخيرة عن المجتمع المدني، كونه جهة فاعلة واضحة على المستوى المجتمعي، ويتسم بتنوع ثري في طبيعته وتركيبته. ولهذا السبب، تتفاوت تعريفات المجتمع المدني بدرجة كبيرة استناداً إلى اختلاف النماذج التصورية والأصول التاريخية والسياق القطري العام، لذلك سنعمل على إعطاء تعريف للمجتمع المدني نبتدئ به موضوعنا
فالمجتمع المدني يعتبر واحدا من أربعة ركائز أساسية تساهم في التطور داخل مجتمع معين، والثلاثة الأخرى المتبقية هي الدولة المجتمع السياسي والقطاع الخاص. وبشكل أكثر تحديدا، هو كل المنظمات الطوعية، غير الربحية، المستقلة والتي توجد وجها لوجه مع الدولة والمجتمع، والمجتمع السياسي والقطاع الخاص، والتي تعمل داخل وبين السكان لتعزيز القدرات الذاتية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمدني والثقافي
وقد أعطى البنك الدولي تعريفاً للمجتمع المدني أعده عدد من المراكز البحثية الرائدة: "يشير مصطلح المجتمع المدني إلى المجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. ومن ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات، تضم: الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري
من مختلف هذه التعريفات يتضح لنا الدور المهم الذي أصبح يلعبه المجتمع المدني في الرقي وفي تطوير المجتمع سواء محليا أو على المستوى الوطني، لذلك سنحاول مسائلة دستور 2011 عن الجديد الذي يحمله بين طياته فيما يخص الأدوار المنوطة بالمجتمع المدني؟ وهل استطاع هذا الدستور منح
المجتمع المدني حريات أوسع حتى يلعب هذا الأخير أدواره الطلائعية في الرقي بالمجتمع؟
يعتبر دستور المملكة المغربية لسنة 2011 نقلة نوعية في مسار التجربة الديمقراطية المغربية وضمانة لبناء دولة المؤسسات يسودها الحق والقانون وفق مبادئ سامية ثابتة، حيث أورد الدستور الجديد مجموعة من الحقوق الجديدة التي لم يكن يتضمنها الدستور السابق لسنة 1992، حيث نص على مجموعة من الحقوق نورد منها ما يلي
الحق في الحياة؛
الحق في الأمن الشخصي؛
الحق في السلامة الجسدية أو المعنوية؛
الحق في حماية الحياة الخاصة؛
قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة؛
حق الحصول على المعلومات؛
الحق في الرعاية الصحية؛
الحق في السكن اللائق
وزيادة على ما ذكرناه، فقد مكن الدستور الجديد لسنة 2011 المواطن المغربي من المشاركة في صناعة القرار العمومي عبر مجموعة من الآليات، وقد سعت الدولة إلى إشراك الفاعلين المدنيين في بعض المجالات، وذلك تماشيا مع مبادئ الديمقراطية التشاركية، المبنية على الإشراك اليومي للمواطنين في تدبير شؤونهم والحق في الحصول على المعلومة، والتوزيع العادل للمرافق العمومية على عموم التراب الوطني، والشفافية والمحاسبة وخدمة الصالح العام، والمساواة بين المواطنين في الاستفادة من خدمات المرفق العمومي.
فإشراك المجتمع المدني في تنفيذ القرارات والسياسات العمومية إن كان يدل على شيء فهو يدل وبشكل واضح على انفتاح الدولة على محيطها الداخلي، وجعل المواطن المغربي شريكا في العملية التنموية، وشريكا في اتخاذ القرارات التي تساهم في الرقي وفي تطوير بلده سواء محليا أو وطنيا أو حتى دوليا، وهذا المنحى الذي سلكه دستور المملكة الجديد يجعل المجتمع المدني المتخصص في المجال التنموي والثقافي والاجتماعي، يتوفر على فرص مهمة لتقوية مركزه في السهر على تنفيذ القرارات العمومية في كثير من المجالات
والدستور الجديد لم يكتفي فقط بالتأكيد على ضرورة إشراك المجتمع المدني في عملية اتخاذ القرار العمومي، ولكن أيضا إشراكه في تنفيذها، وهو ما يؤكده الفصل الثاني عشر منه حيث ينص على أنه "تُساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها. وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون"، وكذا الفصل الثالث عشر منه والذي ينص بدوره على ما يلي:" تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور، قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها"، وأيضا الفصل 139 من دستور 2011 الذي ينص على أنه "تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها. وُيمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله"
من خلال ما ذكرنا، يتضح لنا بأن الدستور الجديد و من خلال إشراك المجتمع المدني في تنفيذ القرارات العمومية حاول الرفع من عمل و بنية وثقافة هذا الأخير، و دفعه إلى إحداث حركية جديدة بداخله، و بالتالي يصبح قادرا على الإنتاج و الاستمرارية على الفعل التنموي في مختلف المجالات، ذلك أن هذه الاستدامة و الاستمرارية كانت و مازالت مدار جدل بين المجتمع المدني و الممولين، و ذلك لضعف الخبرة و قلة الموارد، وغياب الطابع التشاركي المؤسساتي، وهنا نؤكد أنه ليس من الضرورة أن يحتفظ المجتمع المدني بالمشاريع التنموية – في مختلف المجالات – لوقت غير محدود، بل يسهر على تنفيذها و تسييرها ثم إيصالها إلى مرحلة نجاح واضحة و بعد ذلك تسليمها للفئات المستهدفة و المعنية لتنتقل هذه الهيئة أو الجمعية إلى تبني مشروع آخر و من هنا يتحول المجتمع المدني إلى فاعل تنموي حقيقي ينفد المشاريع والسياسات و يسلم حصادها إلى الساكنة
من كل هذا، يمكن القول على أن الدستور الجديد للملكة المغربية لسنة 2011 وضع المادة الخام لكيفية عمل وصناعة القرار العمومي، وذلك من خلال التنصيص على عدد من الركائز والأساسيات التي بمقتضاها يمكن للمجتمع المدني أن يندمج وبشكل سلس في مسلسل التنمية والتطور المنشود، وذلك لن يتأتى إلا عن طريق وضع هذه الأساسيات التي نص عليها دستور 2011 على أرض الواقع، والعمل كذلك على وضع توصيات الحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة. ولا يسعنا في الأخير إلا أن نختم هذا المقال بالرسالة الملكية للمشاركين في الأيام الدراسية حول التدبير الجمعوي 14 / 02 / 2012 والتي جاء فيها
ولا يسعنا إلا أن نبتهج بما أصبحت تشكله الجمعيات المغربية، من ثروة وطنية هائلة ومن تنوع في مجالات عملها، وما تجسده من قوة اقتراحيه فاعلة، أصبحت بفضلها بمثابة الشريك، الذي لا محيد عنه، لتحقيق ما نبتغيه لبلادنا من تقدم وتحديث. وإننا لنحث الفعاليات الجمعوية على تشجيع انخراط الشباب فيها، باعتبار الجمعيات مدرسة نموذجية للديمقراطية وللتضامن، ولتحرير طاقات الشباب الخلاقة، في خدمة المجتمع والصالح العام. كما ندعو هذه الفعاليات إلى تجاوز مايشوب بعضها من طرق التسيير التقليدية العقيمة، واعتماد ثقافة تدبير حديثة وناجعة، فضلا عن ضرورة تكتلها في نطاق فيديراليات تنصهر فيها تجاربها، وتجعل منها مخاطبا فعالا لمختلف شركائها.....