من أبرز الظواهر السياسية التي تثير الباحث المهتم بدراسة المحليات ومختلف القضايا المرتبطة بها، ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية، و هي عبارة عن ممارسة سياسية وانتخابية بفضلها تراكم النخبة السياسية المنتخبة مجموعة من الانتدابات محليا ووطنيا بصفة متزامنة ومتلازمة.
وقد برزت هذه الظاهرة منذ وقت طويل كسلوك سياسي محدود لدى أقلية من النخبة السياسية الفرنسية، ارتبطت أساسا بعمق البنيات التقليدية للدولة المركزية التي ورثتها فرنسا الحديثة، وبنظام الأعيان الذي برز بشكل لافت في القرن 19، والذي كان يفرض على النخبة السياسية آنذاك التحرك وبشكل متوازي في الموقع المحلي والوطني، قبل أن يتطور هذا السلوك السياسي مع التجارب الانتخابية التي تعاقبت على امتداد دساتير الجمهورية الفرنسية الثلاث، ويتحول إلى إشكال مركزي في الحياة السياسية الفرنسية يرهن السير العادي للمؤسسات.
في المغرب وإن غابت الدراسات المشخصة لأسباب النزول وظروف نشأة هذه الظاهرة وتطورها مقارنة بالسياق الفرنسي، فإن تهافت أعضاء مجلسي البرلمان على الانتدابات الانتخابية المحلية، أصبح فعل واقع وسلوك معتاد ومفضل من طرف مختلف أطياف النخبة البرلمانية.
هذا التهافت المتحرر من قواعد الضبط القانونية والأخلاقية المؤطرة للممارسة السياسية والانتخابية بالمغرب، يجعلنا نفترض مخاطر شرعنة ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية على مصداقية الممارسة البرلمانية المغرب.
كيف ذلك؟، هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه من خلال المحاول التالية:
المحور الأول: ظاهرة الجمع بين الانتخابات وسؤال العلاقة بين الوطني والمحلي
المحور الثاني: واقع الجمع بين الانتدابات بالمغرب على ضوء التجارب الانتخابية الأخيرة
المحور الثالث: تجليات ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابات في الممارسة البرلمانية
المحور الأول: ظاهرة الجمع بين الانتدابات وسؤال العلاقة بين الوطني والمحلي
تعتبر ظاهرة الجمع بين الانتدابات ظاهرة فرنسية بامتياز، خرجت من رحم الجمهورية الفرنسية، ونمت في حضنها، حتى أصبحت عبارة عن شبكة متجدرة ترهن المحلي والوطني على السواء، مقارنة مع واقع الحال في باقي الدول الأوربية التي لا تتجاوز نسبة الجمع فيها16% مثلا في ايطاليا و15% في اسبانيا و13% في بريطانيا و10% في ألمانيا.
وبعيدا عن موطن النشأة، وجدت هذه الظاهرة لنفسها وضعا خاصة في المغرب، بفعل واقع التسامح والتهافت المتزايد عليها، حتى أصبحت الممارسة السياسية المفضلة والمحببة لدى جميع السياسيين المغاربة مثلهم مثل نظرائهم في فرنسا
أولا: ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية في السياق الفرنسي
شكلت ظاهرة الجمع بين الانتدابات منذ البدء موضوع انشغال العديد من الباحثين الفرنسيين المهتمين بدراسة المحليات، وبالأخص إشكالية العلاقة بين المحلي والوطني، إلى درجة جعلت المنظرين يختلفون أكثر فيما بينهم، بين مسلم بهذه العلاقة ومنكر لها، لكن المبدأ المتفق عليه من طرف الجميع، وهو أن ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية، التي تعتبر نقطة تقاطع محلية الحياة السياسية ومركزية الفعل العمومي، جعلت سؤال العلاقة لا أهمية له، إزاء واقع التداخل بين المجالين الذي تؤسس له هذه الظاهرة.
لقد حاولت العديد من الدراسات المنجزة في حقلي علم السياسة والسوسيولوجيا، رصد الأصول المتعددة لظاهرة الجمع بين الانتدابات واستعراض تأثيراتها المختلفة وطنيا و محليا.
ففي دراسة له بعنوان "الخصائص الثلاث للنظام البرلماني الفرنسي" أكد ميشيل دوبري أن ظاهرة الجمع بين الانتدابات ظهرت في بداياتها الأولى كسلوك مرغوب فيه، يعبر عن إرادة الربط بين شخصية المشرع وارتباطاته بالشأن المحلي ومسؤولياته الوطنية، هذه الإرادة بدأت سنة 1870عندما تم خلق مجلس الشيوخ، قبل أن يتم تأكيدها سنة 1948 من خلال مجلس الجمهورية آنذاك، والذي اعتبر نسخة طبق الأصل عن مجلس الشيوخ القديم.
في حين كشفت دراسة Jeanne Becquart-Leclercq حول الظاهرة سنة 1983 الوجه الآخر لطموحات النخبة السياسية الفرنسية التي تحترف سلوك الجمع بين الانتدابات، والتي تظهر أساسا خلال العمليات الانتخابية والصراع حول المصالح الانتخابية، وهو ما يؤكد أن تموقع الظاهرة يقع بين الصياغة المتوازية للنظام الإداري الممركز والنظام الانتخابي المؤسس على نظام الأعيان.
وبجانب دراسات Michel Crozier التي شكلت نقطة تحول في مسار الأبحاث التي عالجت الأصل السوسيولوجي والجيو اجتماعي للنخبة البرلمانية والسياسية عموما، توصل Dogon Matteiإلى نفس النتيجة التي خلصت إليها الدراسات المنجزة في حقل علم السياسة، وهي أن العديد من البرلمانيين يظهرون في بعض الأحيان في صفة المنتخب المحلي، وفي صفة الوجه الوطني الذي يمثل الشعب الفرنسي أحيانا أخرى، وما يؤكد هذه النتيجة وهو الإحداث المتعددة التي تؤثث مسرح الممارسة السياسية المحلية والبرلمانية في فرنسا، التي تزيد من تجدر واقع التداخل بين المحلي والوطني، وحالة الانفصام لدى النخبة السياسية المحترفة لسلوك الجمع بين الانتدابات.
ولعل أبرز هذه الإحداث، الإضراب الذي خاضه النائب جان لاسال (J.Lassalle) عن الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية، والذي كان يمثل دائرة Pyrénées-Atlantiques، هذا الإضراب الذي دام 39 يوما، احتجاجا على المادة 8 من قانون تكافئ الفرص المتعلقة بعقد التشغيل الأول...التي كان يخشى النائب جان لاسال من تأثير تطبيقها على النشاط الصناعي الوحيد الذي يتواجد في دائرته الانتخابية، ومن احتمال نقل هذا النشاط في إطار مبدأ تكافئ الفرص إلى دائرة أخرى .
لقد اظهر هذا الحدث إلى أي حد كان النائب يمثل دائرته الانتخابية، مقارنة مع تمثيل مجموع الشعب الفرنسي، حيث تصرف النائب ليس بوصفه نائبا في الجمعية الوطنية وإنما باعتباره مستشار عام ونائب لرئيس جماعة إقليمية في محافظة Pyrénées-Atlantiques .
من هنا يظهر الوجه المرعب لظاهرة سياسية مازالت تعرف نموا متواصلا رغم الأصوات المتعالية المطالبة بمنع الجمع بين الانتدابات، وبالرغم من المشاريع التي تم إطلاقها للحد من انتشار هذه الممارسة من طرف أنصار أحادية الانتداب، ، وهو ما يؤكد واقع اللاحسم والتردد الذي مازال يعيشه المقرر السياسي في فرنسا اتجاه هذه الظاهرة، التي تتطلب مجهودا مضاعفا ومشاريع جريئة تقنع النخبة السياسية والرأي العام على السواء بجدوى القطع مع ممارسة الجمع بين الانتدابات.
2- ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية في السياق المغربي
من الإشكاليات التي لم يتم اختبارها على مستوى البحث والتحليل في المغرب، إشكالية الجمع بين الانتدابات الانتخابية، وهي إشكالية وإن كانت مغيبة على مستوى البحث والتحليل، فهي حاضرة بكل ثقلها على مستوى الواقع السياسي ويتعايش معها الجميع إلى حد التسامح.
أول ملاحظة نسجلها في هذا الإطار، وهي نذرة الكتابات والمراجع التي يمكن أن تسعفنا في فهم منشأ وتطور هذه الظاهرة وامتداداتها وتأثيراتها في السياق المغربي، وهو مما يجعل هذه الدراسة ذات طبيعة تأسيسية، وأرضية يمكن البناء عليها للخروج بتصور متكامل عن واقع الظاهرة بالمغرب.
في اعتقادنا ترتبط نشأت هذه الظاهرة، بالتعددية التمثيلية التي أقرها المشرع الدستوري بموجب نص دستور 1962، ونقصد بالتعددية التمثيلية هنا، التمثيلية الوطنية التي يمثلها البرلمان بمجلسيه مجلس النواب ومجلس المستشارين، الذي يستمد مشروعيته من الأمة عملا بمنطوق الفصل الثاني من الدستور ، والتمثيلية المحلية التي تمثلها المجالس الجماعية والإقليمية و الجهوية التي بدأ العمل بها مباشرة بعد الاستقلال، بمعنى أن هذه الظاهرة انبثقت من رحم الطابع المتوازي للتمثيليات.
وتحت ضغط قلة النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام، وغياب أي تحديد قانوني يقيد حرية التحرك في المجال الوطني والمحلي بشكل متوازي ومتلازم، وجدت النخبة السياسية المغربية نفسها مضطرة للجمع بين أكثر من انتداب انتخابي ساري المفعول، وذلك تحت مبرر المحافظة على الاتصال المباشر بين الميدان والواقع، وقد استمر هذا السلوك وتطور مع التجارب الانتخابية المتعاقبة التي شهدها المغرب.
وإذا كانت نشأت الظاهرة في المغرب حديثة مقارنة بواقع النشأة في فرنسا، فإن السياق العام الذي نشأت فيه هذه الظاهرة، عبد الطريق لتنامي معدلات الجمع بين الانتدابات، والتي وصلت إلى أقصى معدلاتها بموجب التجارب الانتخابية الأخيرة التي شهدها المغرب .
وفي غياب إحصائيات رقمية ترصد لنا تطور الظاهرة، وتفصل لنا خريطة توزيع الظاهرة عموديا وأفقيا على مستوى المؤسسات التمثيلية والهيئات السياسية، وتكشف لنا واقع النخبة التي تحترف الجمع بين الانتدابات على امتداد المحطات الانتخابية، فإن الإشارات المحدودة التي حملتها بعض الدراسات على نذرتها، والبيانات التي سنقدمها لواقع هذه الظاهرة في مجلس النواب على ضوء الانتخابات الجماعية لـ12 يونيو2009 تؤكد أن هذه الظاهرة تشكل إشكال حقيقي في الممارسة المغربية له تأثيره على أكثر من مستوى.
وهو ما دفع البعض إلى المطالبة بإعادة ضبط ظاهرة الجمع بين الانتدابات، التي أثبت الواقع محدودية نشاط الأشخاص المعنيين بها، وأثبتت التجربة أنها ليست سوى عرقلة كبيرة للتنمية المحلية ، ولجهود بناء اللامركزية حيث اعتبر ألان بيرفيت، أن تراكم الوظائف والجمع بين الانتدابات، يندرج ضمن منطق الدولة المركزية الأمر الذي يؤدي إلى نتائج معاكسة للغرض من اللامركزية .
عملية الضبط هذه، لا يمكن أن تتم بمعزل عن مسلسل بناء الديمقراطية المحلية، والفصل التدريجي بين مجال التمثيلية المحلية ومجال التمثيلية الوطنية، وذلك "حتى يتفرغ البرلماني للعمل التشريعي ويتفرغ المنتخب المحلي للمهام الموكولة إليه"، حيث يؤكد الحبيب الدقاق في هذا الإطار أن:"...النائب البرلماني يمكنه فقط ممارسة مهمة أي العضوية في مجلس جماعي منتخب أو غرفة مهنية، كي يحافظ على الاتصال المباشر بين الميدان والواقع... شريطة أن لا يتحمل فيه مسؤولية الرئاسة التي تستغرق كل وقته" .
المحور الثاني: واقع الجمع بين الانتدابات الانتخابية داخل مجلس النواب على ضوء الانتخابات الجماعية الأخيرة بالمغرب
إن الحديث عن ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية بالمغرب ليست ترفا فكريا، بل هي واقع تكشفه الممارسة البرلمانية وتؤكده الإحصائيات التي أنجزت حول معدلات الجمع بين الانتدابات الانتخابية، حيث تقدم البيانات الخاصة بتوزيع الانتدابات بين أعضاء مجلس النواب العديد من المؤشرات على هذا الواقع كما هو مفصل في الجدول أسفله:
للإطلاع على الجدول يرجى تحميل المقال من الرابط أسفل هذه الصفحة
تقدم البيانات الواردة في الجدول رقم (1) أعلاه، وصفا دقيقا لواقع ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية بالمغرب وخريطة توزيعها بين الفرق النيابية داخل مجلس النواب، حيث يتضح و بالملموس أن غالبية أعضاء مجلس النواب يحترفون ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية بنسبة% 74.76، في حين تتراوح نسبة الجمع بين الانتدابات الانتخابية داخل الفرق النيابية بين92.85% كأعلى معدل مسجل في صفوف نواب فريق الأصالة والمعاصرة، ونسبة 50% كأدنى معدل مسجل في صفوف الفريق الاشتراكي، وهي معدلات تقدم لنا الكثير من الاستنتاجات بخصوص مضمون الفعل السياسي والانتخابي بالمغرب.
الاستنتاج الأول يتعلق بسياسة "الأوراق الرابحة" التي اعتادت نهجها مختلف الأحزاب السياسية لدخول غمار أي تنافس انتخابي، من خلال اعتمادها على ما يسمى "بصقور أو محترفي الانتخابات" الذين يشكلون شبكة ممتدة في المجال و الزمان، هذه السياسة وإن كانت في نظر البعض تسهل مهام الوساطة والتفاوض التي تتم بين المركز وبين محيط الدائرة الانتخابية، فإنها بالمقابل تقوض قيم الديمقراطية التنافسية، وتشجع على تنامي قيم الديمقراطية الاحتكارية، التي تسمح لنخبة معينة بمراكمة مجموع المهام والتمثيليات والمشروعيات الانتخابية، المعروضة في سوق التنافس الانتخابي.
في حين يتعلق استنتاج الثاني بوظيفة النائب البرلماني الذي يظهر في كثير من الأحيان في صفة ممثل الأمة وفي أحيانا أخرى في صفة المنتخب المحلي (مستشار جماعي، عضو مجلس إقليمي، عضو مجلس الجهة، عضو غرفة مهنية)، هذا الواقع الذي يوحي بوجود خلل وظيفي في النظام الانتخابي والإداري بالمغرب، لأن التداخل بين ما هو نيابي وما هو محلي وما هو مهني، يهدد الأسس الفلسفية والوظيفية التي تقوم عليها كل تمثيلية انتخابية، ويجعل التمثيلية الوطنية رهينة التمثيلية المحلية، والتمثيلية المحلية بدورها رهينة التمثيلية الوطنية، عند أي فعل أو تفاعل انتخابي، وبالتالي تفقد المؤسسات التمثيلية المختلفة جدواها وقيمتها.
أما الاستنتاج الأخير فيتعلق بالوجه الأخر لظاهرة الجمع بين الانتدابات وهو الجمع بين التمثيلية الانتخابية والمسؤوليات التنفيذية( الرئاسة، عضوية المكتب،...)، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 35.69 % من نواب مجلس النواب الحالي هم في نفس الوقت رؤساء جماعات محلية، و9.23% منهم هم في نفس الوقت أعضاء في مكاتب مسيرة و 10.15 % منهم هم في نفس الوقت أعضاء في المجالس التداولية، بمعنى أن أزيد 55 % من النواب يضطلعون بمهام تنفيذية على الصعيد المحلي بجانب التمثيلية النيابية على الصعيد الوطني، سواء تعلق الأمر بنواب الأغلبية أو نواب المعارضة، دون الأخذ بعين الاعتبار العضوية في مكاتب مجالس العمالات والأقاليم، والعضوية في مكاتب المجالس الجهوية، والعضوية في مكاتب مجالس الغرف المهنية.
هذا الوضع يطرح أكثر من سؤال حول جدية أداء النواب البرلمانيين لأدوارهم التمثيلية، خاصة بالنسبة بالنواب المنتمين لفرق المعارضة الذي يفرض عليهم موقعهم النيابي مباشرة العديد من الآليات الرقابية ضد الحكومة في حين أن مسؤولياتهم التنفيذية محليا تفرض عليهم الدخول مع السلطة التنفيذية المنبثقة عن الأغلبية البرلمانية في علاقات تفاوضية من أجل تحصيل العوائد وتحقيق المطالب وانجاز المشاريع البرمجة محليا، وبالتالي فكيف يمكن القيام بدور المعارضة والوساطة في نفس الوقت؟
إن متابعة أداء وحصيلة بعض فرق المعارضة داخل مجلس النواب يقدم لنا الإجابات الضرورية عن هذا السؤال و يقوي من فرضية الدور المفرمل الذي تقوم به ظاهرة الجمع بين الانتدابات لبعض ادوار النواب البرلمانيين، بجانب باقي التأثيرات التي تمارسها هذه الظاهرة على مجموع المؤسسة البرلمانية بالمغرب.
المحور الثالث: تجليات ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية في الممارسة البرلمانية المغربية
ترتبط المؤسسة البرلمانية مبدئيا بسياسيين هدفهم بلورة برامجهم الانتخابية في صيغة نصوص قانونية ملزمة، أو في صيغة ممارسة رقابية دستورية ولائحية، وذلك عبر آليات وهياكل تعتبر الدينامو المحرك لمختلف أنشطة التشريعية والرقابية والتوجيهية ، وبالرغم من ذلك فإن نشاط وعمل المؤسسة البرلمانية بات يعرف انحصارا واضعا في السنوات الأخيرة، ليس بفعل آليات العقلنة البرلمانية التي قيدت مساحة تحرك البرلمان وآليات اشتغاله، ولكن بسبب العديد من التجليات التي أفرزتها ظاهرة الجمع بين الانتدابات، والتي انعكست بشكل واضح على سير عمل المؤسسة البرلمانية بالمغرب، و نذكر من بين هذه التجليات:
1- الغياب
يعتبر سلوك الغياب داخل المؤسسة البرلمانية من بين أبرز التجليات المرتبطة بظاهرة الجمع بين الانتدابات، هذا السلوك الذي يعد من بين الظواهر العالمية التي تشكو منها البرلمانات العالمية، بالرغم من الضوابط القانونية والتنظيمية التي تم وضعها للحد من انتشار هذا السلوك، فإنه ما زال يشكل إشكالا مركزيا يعيق عمل النائب البرلماني ويعطل أعمال المجلس، حيث يودي غياب البرلمانيين إلى تأجيل أخذ الرأي على مشروعات ومقترحات القوانين داخل اللجان البرلمانية، وتعطيل عملية التصويت داخل الجلسات العامة ، وكذا مراقبة العمل الحكومي داخل جلسات الأسئلة الشفوية.
والمحصلة هي مردودية ضعيفة، وحصيلة لا ترقى إلى حجم المؤسسة ودورها، خاصة عندما تتزامن الدورات التشريعية مع العمليات الانتخابية ذات البعد المحلي، ولعل أبرز مثال على ذلك حصيلة لدورة أبريل 2009 التي تزامنت مع انتخابات الجماعية لـ12 يونيو 2009، والتي لم يتم المصادقة خلالها إلا على ثلاث مشاريع قوانين، بالرغم من أن الحكومة قد أحالت عليه ما مجموعه 40 مشروع قانون، وهذا يعني أن ظاهرة الجمع بين الانتدابات عطلت مناقشة 37 مشروع قانون أمام اللجان البرلمانية في مجلسي البرلمان، ناهيك عن عدد الأسئلة البرلمانية التي تم تأجيلها بفعل انشغال مجموع البرلمانيين بالانتخابات الجماعية على حساب أدوارهم وواجباتهم التمثيلية، وقد عبر على هذا الأمر صراحة الوزير الأسبق المكلف بالعلاقات مع البرلمان، قائلا:" انصرف غالبية البرلمانيين إلى الاهتمام بشكل شبه تام للاستحقاقات الانتخابات وتخلوا عن القيام ببعض واجباتهم البرلمانية، فكانت النتيجة متواضعة خصوصا في مجال التشريع".
كل ذلك ينعكس على صورة ومصداقية المؤسسة التشريعية لدى الرأي العام الذي يفقد الثقة في الأعمال البرلمانية الصادرة عن المجلس، وتتقوى لديه حالات الإهمال واللامبالاة بشأنه، بالإضافة إلى أن سلوك الغياب يؤدي إلى انطباع سلبي حول مدى جدية هذه المؤسسة الدستورية في أداء المهام المنوطة بها، ويقوي حالات العزوف عن المشاركة في العمليات الانتخابية التي تتأسس عليها هذه المجالس.
-2- الترحال البرلماني
بجانب الغياب البرلماني يشكل الترحال البرلماني التجلي الآخر لظاهرة الجمع بين الانتدابات، الذي يساهم بدوره في فرملة تطور العمل البرلماني ويهدد استقرار بنياته المؤسساتية.
يشير مصطلح الترحال البرلماني إلى البرلمانيين الذين ينتقلون من فريق برلماني إلى فريق آخر بحثا عن المنافع المادية والمكاسب السياسية، والترحال البرلماني بهذا المعنى هو سلوك قديم عمره من عمر الممارسة البرلمانية بالمغرب، لم يسلم منه أي تنظيم حزبي أو فريق برلماني مهما كانت درجة عراقته ووزنه في النظام السياسي المغربي.
وإذا كان المشرع الدستوري، يجيز انتقال البرلماني من فريق إلى آخر، وذلك باعتبار البرلماني يستمد نيابته من الأمة، التي تمنحه استقلالية كاملة وحرية مطلقة في الانتماء إلى الفرق البرلمانية ، فإن هذا السلوك مع ذلك يشكل أكبر تهديد للعمل المؤسساتي البرلماني.
وبالرغم من أن هذا السلوك تواجهت فيه العديد من وجهات النظر حول الدوافع والأسباب المحفزة له، فإننا نعتقد مع ذلك أن هذا الأخير يرتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة الجمع بين الانتدابات، لأن التحرك عبر أكثر من لون سياسي وحزبي، ما هو إلا انعكاس لتحرك آخر يتم عبر أكثر من مجال انتخابي، و في أزمنة انتخابية متفاوتة، هذا الأخير هو الذي يغذي ظاهرة الجمع بين الانتخابات، ويوفر لها الفضاء المناسب للانتشار والتجدر، في ظل غياب أي تحديد قانوني أو ضابط أخلاقي يحد من انتشار هذه الممارسة، ودليلنا في ذلك هو الارتفاع الذي تعرفه معدلات الترحال البرلماني بالتزامن مع الانتخابات المحلية المتعددة.
لقد عاين الجميع الهزات القوية التي ضربت مختلف الفرق البرلمانية قبيل الانتخابات الجماعية لسنة 2009، لدرجة أصبحت بعض الفرق البرلمانية مهددة في وجودها، بفعل الحركية المكثفة للعديد من النواب والمستشارين الذين غيروا انتماءاتهم وألوانهم السياسية بمناسبة هذه الانتخابات، وهي الحركية التي كانت موضوع جدال سياسي وقانوني، وصل صداه إلى القضاء الإداري، بعدما قامت وزارة الداخلية برفض طلبات ترشيح مجموعة من البرلمانيين الرحل للانتخابات الجماعية لـ 2009 باسم أحزاب غير تلك التي نجحوا باسمها في الفوز بمقاعد برلمانية في الانتخابات التشريعية لـ سنة 2007 تطبيقا للمادة الخامسة من قانون الأحزاب السياسية .
وإذا تأكدت عملية الربط بين ظاهرة الجمع بين الانتدابات وسلوك الترحال البرلماني، بقي لنا أن نشير إلى خطورة هذا السلوك والتي تتجلى في تحوله مع مرور الوقت إلى ظاهرة مزمنة قد تفضي في نهاية المطاف إلى شل حركة المؤسسة البرلمانية، عندما تمس تأثيراتها في العمق بالالتزامات السياسية والقانونية للممارسة الدستورية بالمغرب، وبأخلاقيات التعامل داخل المؤسسات السياسية، وبالاستقرار المؤسساتي داخل البرلمان بمجلسيه.
-3- الطابع المحلي للأسئلة الشفوية
إذا كان غالبية ممثلي الأمة يراهنون على الأسئلة البرلمانية ويولونها مكانة الصدارة في ممارستهم الرقابية، فإن مضمون هذه الأسئلة خاصة منها الأسئلة الشفوية التي تطرح في مجلسي البرلمان، يغلب عليها الطابع المحلي، وتبتعد كل البعد عن ملامسة الإشكاليات التي تثيرها السياسات العمومية في شموليتها، وهذا تجلي آخر من تجليات ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية.
فإذا كانت الأسئلة الشفوية هي آلية دستورية تم وضعها في يد العضو البرلماني لمراقبة السياسة العامة أو السياسات الخاصة القطاعية للحكومة، وذلك بما يتماشى مع فلسفة ومبادئ التمثيلية النيابية، فإن الأسئلة البرلمانية في ظل وجود نسبة كبيرة من البرلمانيين الذين يجمعون بين التمثيل الوطني وأكثر من تمثيل محلي، تحولت إلى آلية في يد هؤلاء للدفاع عن المصالح المحلية وتعزيز الشرعية الانتخابية، من خلال تحول السؤال البرلماني إلى معبر عن مدخلات ذات مضمون محلي ورهانات انتخابية محلية.
وهو ما يفقد البرلمان إحدى أبرز أدواره وهي مراقبة و تقييم السياسات العمومية سواء عبر النقاش التشريعي أو عبر الأسئلة البرلمانية في إطار الحوار البرلماني الحكومي.
من هنا تظهر لنا التأثيرات الخطيرة لظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية على مسار وصورة المؤسسة البرلمانية بالمغرب، الأمر الذي يعني أننا أمام ظاهرة تهدد البرلمان في وجوده ومستقبله، لأن الوجود يرتبط بالوظيفة والدور، وعندما تنحصر وظيفة المؤسسة وتتراجع أدوارها، فإن البديل المفكر فيه، هو القطع مع الظاهرة المهددة، أو مساءلة جدوى الأسس التي تقوم عليها المؤسسة إذا عجزنا عن اجتثاث الخطر الداهم من جذوره.
هذه الدراسة نشرت بالمجلة العربية للعلوم السياسية العدد 30 ربيع 2011.
تاريخ التوصل: 28يونيو2011
تاريخ النشر: 29يونيو2011
وقد برزت هذه الظاهرة منذ وقت طويل كسلوك سياسي محدود لدى أقلية من النخبة السياسية الفرنسية، ارتبطت أساسا بعمق البنيات التقليدية للدولة المركزية التي ورثتها فرنسا الحديثة، وبنظام الأعيان الذي برز بشكل لافت في القرن 19، والذي كان يفرض على النخبة السياسية آنذاك التحرك وبشكل متوازي في الموقع المحلي والوطني، قبل أن يتطور هذا السلوك السياسي مع التجارب الانتخابية التي تعاقبت على امتداد دساتير الجمهورية الفرنسية الثلاث، ويتحول إلى إشكال مركزي في الحياة السياسية الفرنسية يرهن السير العادي للمؤسسات.
في المغرب وإن غابت الدراسات المشخصة لأسباب النزول وظروف نشأة هذه الظاهرة وتطورها مقارنة بالسياق الفرنسي، فإن تهافت أعضاء مجلسي البرلمان على الانتدابات الانتخابية المحلية، أصبح فعل واقع وسلوك معتاد ومفضل من طرف مختلف أطياف النخبة البرلمانية.
هذا التهافت المتحرر من قواعد الضبط القانونية والأخلاقية المؤطرة للممارسة السياسية والانتخابية بالمغرب، يجعلنا نفترض مخاطر شرعنة ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية على مصداقية الممارسة البرلمانية المغرب.
كيف ذلك؟، هذا ما ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليه من خلال المحاول التالية:
المحور الأول: ظاهرة الجمع بين الانتخابات وسؤال العلاقة بين الوطني والمحلي
المحور الثاني: واقع الجمع بين الانتدابات بالمغرب على ضوء التجارب الانتخابية الأخيرة
المحور الثالث: تجليات ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابات في الممارسة البرلمانية
المحور الأول: ظاهرة الجمع بين الانتدابات وسؤال العلاقة بين الوطني والمحلي
تعتبر ظاهرة الجمع بين الانتدابات ظاهرة فرنسية بامتياز، خرجت من رحم الجمهورية الفرنسية، ونمت في حضنها، حتى أصبحت عبارة عن شبكة متجدرة ترهن المحلي والوطني على السواء، مقارنة مع واقع الحال في باقي الدول الأوربية التي لا تتجاوز نسبة الجمع فيها16% مثلا في ايطاليا و15% في اسبانيا و13% في بريطانيا و10% في ألمانيا.
وبعيدا عن موطن النشأة، وجدت هذه الظاهرة لنفسها وضعا خاصة في المغرب، بفعل واقع التسامح والتهافت المتزايد عليها، حتى أصبحت الممارسة السياسية المفضلة والمحببة لدى جميع السياسيين المغاربة مثلهم مثل نظرائهم في فرنسا
أولا: ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية في السياق الفرنسي
شكلت ظاهرة الجمع بين الانتدابات منذ البدء موضوع انشغال العديد من الباحثين الفرنسيين المهتمين بدراسة المحليات، وبالأخص إشكالية العلاقة بين المحلي والوطني، إلى درجة جعلت المنظرين يختلفون أكثر فيما بينهم، بين مسلم بهذه العلاقة ومنكر لها، لكن المبدأ المتفق عليه من طرف الجميع، وهو أن ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية، التي تعتبر نقطة تقاطع محلية الحياة السياسية ومركزية الفعل العمومي، جعلت سؤال العلاقة لا أهمية له، إزاء واقع التداخل بين المجالين الذي تؤسس له هذه الظاهرة.
لقد حاولت العديد من الدراسات المنجزة في حقلي علم السياسة والسوسيولوجيا، رصد الأصول المتعددة لظاهرة الجمع بين الانتدابات واستعراض تأثيراتها المختلفة وطنيا و محليا.
ففي دراسة له بعنوان "الخصائص الثلاث للنظام البرلماني الفرنسي" أكد ميشيل دوبري أن ظاهرة الجمع بين الانتدابات ظهرت في بداياتها الأولى كسلوك مرغوب فيه، يعبر عن إرادة الربط بين شخصية المشرع وارتباطاته بالشأن المحلي ومسؤولياته الوطنية، هذه الإرادة بدأت سنة 1870عندما تم خلق مجلس الشيوخ، قبل أن يتم تأكيدها سنة 1948 من خلال مجلس الجمهورية آنذاك، والذي اعتبر نسخة طبق الأصل عن مجلس الشيوخ القديم.
في حين كشفت دراسة Jeanne Becquart-Leclercq حول الظاهرة سنة 1983 الوجه الآخر لطموحات النخبة السياسية الفرنسية التي تحترف سلوك الجمع بين الانتدابات، والتي تظهر أساسا خلال العمليات الانتخابية والصراع حول المصالح الانتخابية، وهو ما يؤكد أن تموقع الظاهرة يقع بين الصياغة المتوازية للنظام الإداري الممركز والنظام الانتخابي المؤسس على نظام الأعيان.
وبجانب دراسات Michel Crozier التي شكلت نقطة تحول في مسار الأبحاث التي عالجت الأصل السوسيولوجي والجيو اجتماعي للنخبة البرلمانية والسياسية عموما، توصل Dogon Matteiإلى نفس النتيجة التي خلصت إليها الدراسات المنجزة في حقل علم السياسة، وهي أن العديد من البرلمانيين يظهرون في بعض الأحيان في صفة المنتخب المحلي، وفي صفة الوجه الوطني الذي يمثل الشعب الفرنسي أحيانا أخرى، وما يؤكد هذه النتيجة وهو الإحداث المتعددة التي تؤثث مسرح الممارسة السياسية المحلية والبرلمانية في فرنسا، التي تزيد من تجدر واقع التداخل بين المحلي والوطني، وحالة الانفصام لدى النخبة السياسية المحترفة لسلوك الجمع بين الانتدابات.
ولعل أبرز هذه الإحداث، الإضراب الذي خاضه النائب جان لاسال (J.Lassalle) عن الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية، والذي كان يمثل دائرة Pyrénées-Atlantiques، هذا الإضراب الذي دام 39 يوما، احتجاجا على المادة 8 من قانون تكافئ الفرص المتعلقة بعقد التشغيل الأول...التي كان يخشى النائب جان لاسال من تأثير تطبيقها على النشاط الصناعي الوحيد الذي يتواجد في دائرته الانتخابية، ومن احتمال نقل هذا النشاط في إطار مبدأ تكافئ الفرص إلى دائرة أخرى .
لقد اظهر هذا الحدث إلى أي حد كان النائب يمثل دائرته الانتخابية، مقارنة مع تمثيل مجموع الشعب الفرنسي، حيث تصرف النائب ليس بوصفه نائبا في الجمعية الوطنية وإنما باعتباره مستشار عام ونائب لرئيس جماعة إقليمية في محافظة Pyrénées-Atlantiques .
من هنا يظهر الوجه المرعب لظاهرة سياسية مازالت تعرف نموا متواصلا رغم الأصوات المتعالية المطالبة بمنع الجمع بين الانتدابات، وبالرغم من المشاريع التي تم إطلاقها للحد من انتشار هذه الممارسة من طرف أنصار أحادية الانتداب، ، وهو ما يؤكد واقع اللاحسم والتردد الذي مازال يعيشه المقرر السياسي في فرنسا اتجاه هذه الظاهرة، التي تتطلب مجهودا مضاعفا ومشاريع جريئة تقنع النخبة السياسية والرأي العام على السواء بجدوى القطع مع ممارسة الجمع بين الانتدابات.
2- ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية في السياق المغربي
من الإشكاليات التي لم يتم اختبارها على مستوى البحث والتحليل في المغرب، إشكالية الجمع بين الانتدابات الانتخابية، وهي إشكالية وإن كانت مغيبة على مستوى البحث والتحليل، فهي حاضرة بكل ثقلها على مستوى الواقع السياسي ويتعايش معها الجميع إلى حد التسامح.
أول ملاحظة نسجلها في هذا الإطار، وهي نذرة الكتابات والمراجع التي يمكن أن تسعفنا في فهم منشأ وتطور هذه الظاهرة وامتداداتها وتأثيراتها في السياق المغربي، وهو مما يجعل هذه الدراسة ذات طبيعة تأسيسية، وأرضية يمكن البناء عليها للخروج بتصور متكامل عن واقع الظاهرة بالمغرب.
في اعتقادنا ترتبط نشأت هذه الظاهرة، بالتعددية التمثيلية التي أقرها المشرع الدستوري بموجب نص دستور 1962، ونقصد بالتعددية التمثيلية هنا، التمثيلية الوطنية التي يمثلها البرلمان بمجلسيه مجلس النواب ومجلس المستشارين، الذي يستمد مشروعيته من الأمة عملا بمنطوق الفصل الثاني من الدستور ، والتمثيلية المحلية التي تمثلها المجالس الجماعية والإقليمية و الجهوية التي بدأ العمل بها مباشرة بعد الاستقلال، بمعنى أن هذه الظاهرة انبثقت من رحم الطابع المتوازي للتمثيليات.
وتحت ضغط قلة النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام، وغياب أي تحديد قانوني يقيد حرية التحرك في المجال الوطني والمحلي بشكل متوازي ومتلازم، وجدت النخبة السياسية المغربية نفسها مضطرة للجمع بين أكثر من انتداب انتخابي ساري المفعول، وذلك تحت مبرر المحافظة على الاتصال المباشر بين الميدان والواقع، وقد استمر هذا السلوك وتطور مع التجارب الانتخابية المتعاقبة التي شهدها المغرب.
وإذا كانت نشأت الظاهرة في المغرب حديثة مقارنة بواقع النشأة في فرنسا، فإن السياق العام الذي نشأت فيه هذه الظاهرة، عبد الطريق لتنامي معدلات الجمع بين الانتدابات، والتي وصلت إلى أقصى معدلاتها بموجب التجارب الانتخابية الأخيرة التي شهدها المغرب .
وفي غياب إحصائيات رقمية ترصد لنا تطور الظاهرة، وتفصل لنا خريطة توزيع الظاهرة عموديا وأفقيا على مستوى المؤسسات التمثيلية والهيئات السياسية، وتكشف لنا واقع النخبة التي تحترف الجمع بين الانتدابات على امتداد المحطات الانتخابية، فإن الإشارات المحدودة التي حملتها بعض الدراسات على نذرتها، والبيانات التي سنقدمها لواقع هذه الظاهرة في مجلس النواب على ضوء الانتخابات الجماعية لـ12 يونيو2009 تؤكد أن هذه الظاهرة تشكل إشكال حقيقي في الممارسة المغربية له تأثيره على أكثر من مستوى.
وهو ما دفع البعض إلى المطالبة بإعادة ضبط ظاهرة الجمع بين الانتدابات، التي أثبت الواقع محدودية نشاط الأشخاص المعنيين بها، وأثبتت التجربة أنها ليست سوى عرقلة كبيرة للتنمية المحلية ، ولجهود بناء اللامركزية حيث اعتبر ألان بيرفيت، أن تراكم الوظائف والجمع بين الانتدابات، يندرج ضمن منطق الدولة المركزية الأمر الذي يؤدي إلى نتائج معاكسة للغرض من اللامركزية .
عملية الضبط هذه، لا يمكن أن تتم بمعزل عن مسلسل بناء الديمقراطية المحلية، والفصل التدريجي بين مجال التمثيلية المحلية ومجال التمثيلية الوطنية، وذلك "حتى يتفرغ البرلماني للعمل التشريعي ويتفرغ المنتخب المحلي للمهام الموكولة إليه"، حيث يؤكد الحبيب الدقاق في هذا الإطار أن:"...النائب البرلماني يمكنه فقط ممارسة مهمة أي العضوية في مجلس جماعي منتخب أو غرفة مهنية، كي يحافظ على الاتصال المباشر بين الميدان والواقع... شريطة أن لا يتحمل فيه مسؤولية الرئاسة التي تستغرق كل وقته" .
المحور الثاني: واقع الجمع بين الانتدابات الانتخابية داخل مجلس النواب على ضوء الانتخابات الجماعية الأخيرة بالمغرب
إن الحديث عن ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية بالمغرب ليست ترفا فكريا، بل هي واقع تكشفه الممارسة البرلمانية وتؤكده الإحصائيات التي أنجزت حول معدلات الجمع بين الانتدابات الانتخابية، حيث تقدم البيانات الخاصة بتوزيع الانتدابات بين أعضاء مجلس النواب العديد من المؤشرات على هذا الواقع كما هو مفصل في الجدول أسفله:
للإطلاع على الجدول يرجى تحميل المقال من الرابط أسفل هذه الصفحة
تقدم البيانات الواردة في الجدول رقم (1) أعلاه، وصفا دقيقا لواقع ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية بالمغرب وخريطة توزيعها بين الفرق النيابية داخل مجلس النواب، حيث يتضح و بالملموس أن غالبية أعضاء مجلس النواب يحترفون ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية بنسبة% 74.76، في حين تتراوح نسبة الجمع بين الانتدابات الانتخابية داخل الفرق النيابية بين92.85% كأعلى معدل مسجل في صفوف نواب فريق الأصالة والمعاصرة، ونسبة 50% كأدنى معدل مسجل في صفوف الفريق الاشتراكي، وهي معدلات تقدم لنا الكثير من الاستنتاجات بخصوص مضمون الفعل السياسي والانتخابي بالمغرب.
الاستنتاج الأول يتعلق بسياسة "الأوراق الرابحة" التي اعتادت نهجها مختلف الأحزاب السياسية لدخول غمار أي تنافس انتخابي، من خلال اعتمادها على ما يسمى "بصقور أو محترفي الانتخابات" الذين يشكلون شبكة ممتدة في المجال و الزمان، هذه السياسة وإن كانت في نظر البعض تسهل مهام الوساطة والتفاوض التي تتم بين المركز وبين محيط الدائرة الانتخابية، فإنها بالمقابل تقوض قيم الديمقراطية التنافسية، وتشجع على تنامي قيم الديمقراطية الاحتكارية، التي تسمح لنخبة معينة بمراكمة مجموع المهام والتمثيليات والمشروعيات الانتخابية، المعروضة في سوق التنافس الانتخابي.
في حين يتعلق استنتاج الثاني بوظيفة النائب البرلماني الذي يظهر في كثير من الأحيان في صفة ممثل الأمة وفي أحيانا أخرى في صفة المنتخب المحلي (مستشار جماعي، عضو مجلس إقليمي، عضو مجلس الجهة، عضو غرفة مهنية)، هذا الواقع الذي يوحي بوجود خلل وظيفي في النظام الانتخابي والإداري بالمغرب، لأن التداخل بين ما هو نيابي وما هو محلي وما هو مهني، يهدد الأسس الفلسفية والوظيفية التي تقوم عليها كل تمثيلية انتخابية، ويجعل التمثيلية الوطنية رهينة التمثيلية المحلية، والتمثيلية المحلية بدورها رهينة التمثيلية الوطنية، عند أي فعل أو تفاعل انتخابي، وبالتالي تفقد المؤسسات التمثيلية المختلفة جدواها وقيمتها.
أما الاستنتاج الأخير فيتعلق بالوجه الأخر لظاهرة الجمع بين الانتدابات وهو الجمع بين التمثيلية الانتخابية والمسؤوليات التنفيذية( الرئاسة، عضوية المكتب،...)، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 35.69 % من نواب مجلس النواب الحالي هم في نفس الوقت رؤساء جماعات محلية، و9.23% منهم هم في نفس الوقت أعضاء في مكاتب مسيرة و 10.15 % منهم هم في نفس الوقت أعضاء في المجالس التداولية، بمعنى أن أزيد 55 % من النواب يضطلعون بمهام تنفيذية على الصعيد المحلي بجانب التمثيلية النيابية على الصعيد الوطني، سواء تعلق الأمر بنواب الأغلبية أو نواب المعارضة، دون الأخذ بعين الاعتبار العضوية في مكاتب مجالس العمالات والأقاليم، والعضوية في مكاتب المجالس الجهوية، والعضوية في مكاتب مجالس الغرف المهنية.
هذا الوضع يطرح أكثر من سؤال حول جدية أداء النواب البرلمانيين لأدوارهم التمثيلية، خاصة بالنسبة بالنواب المنتمين لفرق المعارضة الذي يفرض عليهم موقعهم النيابي مباشرة العديد من الآليات الرقابية ضد الحكومة في حين أن مسؤولياتهم التنفيذية محليا تفرض عليهم الدخول مع السلطة التنفيذية المنبثقة عن الأغلبية البرلمانية في علاقات تفاوضية من أجل تحصيل العوائد وتحقيق المطالب وانجاز المشاريع البرمجة محليا، وبالتالي فكيف يمكن القيام بدور المعارضة والوساطة في نفس الوقت؟
إن متابعة أداء وحصيلة بعض فرق المعارضة داخل مجلس النواب يقدم لنا الإجابات الضرورية عن هذا السؤال و يقوي من فرضية الدور المفرمل الذي تقوم به ظاهرة الجمع بين الانتدابات لبعض ادوار النواب البرلمانيين، بجانب باقي التأثيرات التي تمارسها هذه الظاهرة على مجموع المؤسسة البرلمانية بالمغرب.
المحور الثالث: تجليات ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية في الممارسة البرلمانية المغربية
ترتبط المؤسسة البرلمانية مبدئيا بسياسيين هدفهم بلورة برامجهم الانتخابية في صيغة نصوص قانونية ملزمة، أو في صيغة ممارسة رقابية دستورية ولائحية، وذلك عبر آليات وهياكل تعتبر الدينامو المحرك لمختلف أنشطة التشريعية والرقابية والتوجيهية ، وبالرغم من ذلك فإن نشاط وعمل المؤسسة البرلمانية بات يعرف انحصارا واضعا في السنوات الأخيرة، ليس بفعل آليات العقلنة البرلمانية التي قيدت مساحة تحرك البرلمان وآليات اشتغاله، ولكن بسبب العديد من التجليات التي أفرزتها ظاهرة الجمع بين الانتدابات، والتي انعكست بشكل واضح على سير عمل المؤسسة البرلمانية بالمغرب، و نذكر من بين هذه التجليات:
1- الغياب
يعتبر سلوك الغياب داخل المؤسسة البرلمانية من بين أبرز التجليات المرتبطة بظاهرة الجمع بين الانتدابات، هذا السلوك الذي يعد من بين الظواهر العالمية التي تشكو منها البرلمانات العالمية، بالرغم من الضوابط القانونية والتنظيمية التي تم وضعها للحد من انتشار هذا السلوك، فإنه ما زال يشكل إشكالا مركزيا يعيق عمل النائب البرلماني ويعطل أعمال المجلس، حيث يودي غياب البرلمانيين إلى تأجيل أخذ الرأي على مشروعات ومقترحات القوانين داخل اللجان البرلمانية، وتعطيل عملية التصويت داخل الجلسات العامة ، وكذا مراقبة العمل الحكومي داخل جلسات الأسئلة الشفوية.
والمحصلة هي مردودية ضعيفة، وحصيلة لا ترقى إلى حجم المؤسسة ودورها، خاصة عندما تتزامن الدورات التشريعية مع العمليات الانتخابية ذات البعد المحلي، ولعل أبرز مثال على ذلك حصيلة لدورة أبريل 2009 التي تزامنت مع انتخابات الجماعية لـ12 يونيو 2009، والتي لم يتم المصادقة خلالها إلا على ثلاث مشاريع قوانين، بالرغم من أن الحكومة قد أحالت عليه ما مجموعه 40 مشروع قانون، وهذا يعني أن ظاهرة الجمع بين الانتدابات عطلت مناقشة 37 مشروع قانون أمام اللجان البرلمانية في مجلسي البرلمان، ناهيك عن عدد الأسئلة البرلمانية التي تم تأجيلها بفعل انشغال مجموع البرلمانيين بالانتخابات الجماعية على حساب أدوارهم وواجباتهم التمثيلية، وقد عبر على هذا الأمر صراحة الوزير الأسبق المكلف بالعلاقات مع البرلمان، قائلا:" انصرف غالبية البرلمانيين إلى الاهتمام بشكل شبه تام للاستحقاقات الانتخابات وتخلوا عن القيام ببعض واجباتهم البرلمانية، فكانت النتيجة متواضعة خصوصا في مجال التشريع".
كل ذلك ينعكس على صورة ومصداقية المؤسسة التشريعية لدى الرأي العام الذي يفقد الثقة في الأعمال البرلمانية الصادرة عن المجلس، وتتقوى لديه حالات الإهمال واللامبالاة بشأنه، بالإضافة إلى أن سلوك الغياب يؤدي إلى انطباع سلبي حول مدى جدية هذه المؤسسة الدستورية في أداء المهام المنوطة بها، ويقوي حالات العزوف عن المشاركة في العمليات الانتخابية التي تتأسس عليها هذه المجالس.
-2- الترحال البرلماني
بجانب الغياب البرلماني يشكل الترحال البرلماني التجلي الآخر لظاهرة الجمع بين الانتدابات، الذي يساهم بدوره في فرملة تطور العمل البرلماني ويهدد استقرار بنياته المؤسساتية.
يشير مصطلح الترحال البرلماني إلى البرلمانيين الذين ينتقلون من فريق برلماني إلى فريق آخر بحثا عن المنافع المادية والمكاسب السياسية، والترحال البرلماني بهذا المعنى هو سلوك قديم عمره من عمر الممارسة البرلمانية بالمغرب، لم يسلم منه أي تنظيم حزبي أو فريق برلماني مهما كانت درجة عراقته ووزنه في النظام السياسي المغربي.
وإذا كان المشرع الدستوري، يجيز انتقال البرلماني من فريق إلى آخر، وذلك باعتبار البرلماني يستمد نيابته من الأمة، التي تمنحه استقلالية كاملة وحرية مطلقة في الانتماء إلى الفرق البرلمانية ، فإن هذا السلوك مع ذلك يشكل أكبر تهديد للعمل المؤسساتي البرلماني.
وبالرغم من أن هذا السلوك تواجهت فيه العديد من وجهات النظر حول الدوافع والأسباب المحفزة له، فإننا نعتقد مع ذلك أن هذا الأخير يرتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة الجمع بين الانتدابات، لأن التحرك عبر أكثر من لون سياسي وحزبي، ما هو إلا انعكاس لتحرك آخر يتم عبر أكثر من مجال انتخابي، و في أزمنة انتخابية متفاوتة، هذا الأخير هو الذي يغذي ظاهرة الجمع بين الانتخابات، ويوفر لها الفضاء المناسب للانتشار والتجدر، في ظل غياب أي تحديد قانوني أو ضابط أخلاقي يحد من انتشار هذه الممارسة، ودليلنا في ذلك هو الارتفاع الذي تعرفه معدلات الترحال البرلماني بالتزامن مع الانتخابات المحلية المتعددة.
لقد عاين الجميع الهزات القوية التي ضربت مختلف الفرق البرلمانية قبيل الانتخابات الجماعية لسنة 2009، لدرجة أصبحت بعض الفرق البرلمانية مهددة في وجودها، بفعل الحركية المكثفة للعديد من النواب والمستشارين الذين غيروا انتماءاتهم وألوانهم السياسية بمناسبة هذه الانتخابات، وهي الحركية التي كانت موضوع جدال سياسي وقانوني، وصل صداه إلى القضاء الإداري، بعدما قامت وزارة الداخلية برفض طلبات ترشيح مجموعة من البرلمانيين الرحل للانتخابات الجماعية لـ 2009 باسم أحزاب غير تلك التي نجحوا باسمها في الفوز بمقاعد برلمانية في الانتخابات التشريعية لـ سنة 2007 تطبيقا للمادة الخامسة من قانون الأحزاب السياسية .
وإذا تأكدت عملية الربط بين ظاهرة الجمع بين الانتدابات وسلوك الترحال البرلماني، بقي لنا أن نشير إلى خطورة هذا السلوك والتي تتجلى في تحوله مع مرور الوقت إلى ظاهرة مزمنة قد تفضي في نهاية المطاف إلى شل حركة المؤسسة البرلمانية، عندما تمس تأثيراتها في العمق بالالتزامات السياسية والقانونية للممارسة الدستورية بالمغرب، وبأخلاقيات التعامل داخل المؤسسات السياسية، وبالاستقرار المؤسساتي داخل البرلمان بمجلسيه.
-3- الطابع المحلي للأسئلة الشفوية
إذا كان غالبية ممثلي الأمة يراهنون على الأسئلة البرلمانية ويولونها مكانة الصدارة في ممارستهم الرقابية، فإن مضمون هذه الأسئلة خاصة منها الأسئلة الشفوية التي تطرح في مجلسي البرلمان، يغلب عليها الطابع المحلي، وتبتعد كل البعد عن ملامسة الإشكاليات التي تثيرها السياسات العمومية في شموليتها، وهذا تجلي آخر من تجليات ظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية.
فإذا كانت الأسئلة الشفوية هي آلية دستورية تم وضعها في يد العضو البرلماني لمراقبة السياسة العامة أو السياسات الخاصة القطاعية للحكومة، وذلك بما يتماشى مع فلسفة ومبادئ التمثيلية النيابية، فإن الأسئلة البرلمانية في ظل وجود نسبة كبيرة من البرلمانيين الذين يجمعون بين التمثيل الوطني وأكثر من تمثيل محلي، تحولت إلى آلية في يد هؤلاء للدفاع عن المصالح المحلية وتعزيز الشرعية الانتخابية، من خلال تحول السؤال البرلماني إلى معبر عن مدخلات ذات مضمون محلي ورهانات انتخابية محلية.
وهو ما يفقد البرلمان إحدى أبرز أدواره وهي مراقبة و تقييم السياسات العمومية سواء عبر النقاش التشريعي أو عبر الأسئلة البرلمانية في إطار الحوار البرلماني الحكومي.
من هنا تظهر لنا التأثيرات الخطيرة لظاهرة الجمع بين الانتدابات الانتخابية على مسار وصورة المؤسسة البرلمانية بالمغرب، الأمر الذي يعني أننا أمام ظاهرة تهدد البرلمان في وجوده ومستقبله، لأن الوجود يرتبط بالوظيفة والدور، وعندما تنحصر وظيفة المؤسسة وتتراجع أدوارها، فإن البديل المفكر فيه، هو القطع مع الظاهرة المهددة، أو مساءلة جدوى الأسس التي تقوم عليها المؤسسة إذا عجزنا عن اجتثاث الخطر الداهم من جذوره.
هذه الدراسة نشرت بالمجلة العربية للعلوم السياسية العدد 30 ربيع 2011.
تاريخ التوصل: 28يونيو2011
تاريخ النشر: 29يونيو2011