الأصل أن مسؤولية تعويض المتضرر عن الجريمة تقع على عاتق الجاني، لكن هناك حالات لا يصل فيها التعويض إلى المتضرر إما لعسر الجاني أو غير معروف، ومن غير العدل أن يبقى المجني عليه دون تعويض، فإن لم يتم تعويضه من الجاني فالواجب تعويضه من الدولة.
وقد أصبح مبدأ التزام الدولة بتعويض المتضرر عن جرائم الأفراد في حالة إعسار الجاني أو كان مجهولا من المبادئ المستقرة لدى كثير من دول العالم بصرف النظر عن الأساس الذي تقوم عليه مسؤولية الدولة.
حيث اختلف الفقه حول الأساس الذي تقوم عليه هذه الفكرة، منهم من يرى أن أساس التزام الدولة هو اجتماعي بحت أساسه الإنصاف والتضامن الاجتماعي وذلك تطبيقا لوظيفة الدولة في العصر الحديث،
بينما يرى البعض الآخر أن أساس التزام الدولة هو قانوني، بمعنى أنه ليس منحة وإنما حق للمتضرر على الدولة،
ويترتب على الأخذ بأي من النظامين نتائج مختلفة فالأخذ بالأساس القانوني يعني أن التعويض حق للمتضرر أو ذويه ولا يرتبط بمدى حاجته للتعويض، ويجب كذلك أن تفصل في طلب التعويض جهة قضائية، أما تبني الأساس الاجتماعي الذي يعتبر التعويض منحة من الدولة يترتب عليه أن المتضرر لا يطالب بالتعويض إلا إذا كان يحتاج إليه، وعند التنازع تفصل فيه جهة إدارية.
وهنا يثور التساؤل حول الأساس الذي بناء عليه يلجأ المتضرر من الجريمة إلى الدولة مباشرة للحصول على التعويض، وهل ما تدفعه للمتضرر يحق لها تحصيله من الجاني ؟ وما هي طريقة التحصيل من الجاني إن أرادت الدولة ذلك؟ وما هو المعيار المعتمد من قبل التشريعات في تقدير التعويض؟ وفي حالة تبني أي من المعايير هل سيؤدي فعلا إلى تعويض عادل وسريع للمتضرر؟.
المحور الأول: أسس وطبيعة التزام الدولة بالتعويض
أولا: الأساس القانوني والاجتماعي للتعويض
1- الأساس القانوني
يرى أنصار هذا الاتجاه أن التعويض حق للمتضرر على الدولة وليس منحة منها، فإن لم تلتزم بدفع التعويض للمتضرر فله حق مقاضاتها وإجبارها على دفع التعويض، بصرف النظر عن احتياجه إليه أم لا، هذه النظرة تنطلق من عدة اعتبارات أهمها فكرة العقد الاجتماعي التي تعتبر أن هناك عقدا ضمنيا تم إبرامه بين الفرد من جهة والدولة من جهة أخرى، يترتب عليه أن لكل طرف من طرفي العقد حق وعليه واجب تجاه الطرف الآخر، فلا يجب الإخلال من أي طرف بأي التزام عليه،
ومن بين الالتزامات التي تقع على كاهل كل فرد التنازل عن جزء من حريتهم وأموالهم مقابل حمايتهم من قبل الدولة، وتنازل الفرد عن جزء من حريته يكمن في عدم أخذ حقه بيده حيث ينظم هذا الأمر من طرف الدولة، أما التنازل عن جزء من أمواله يدفع على شكل ضريبة تستخدم في المشروعات الكبرى التي لا يقوى الأفراد عليها كمكافحة الجريمة.
ومن ناحية أخرى يلتزم الفرد بعدم حمل السلاح دون ترخيص والإبلاغ عن وقوع الجرائم ومرتكبيها، وواجب معاونة رجال السلطة ومساعدة الأفراد المعرضين للخطر وواجب أداء الشهادة، إلا أن الأفراد عند أدائهم لهذه الالتزامات قد يتعرضون لمخاطر تصيبهم في أموالهم وأرواحهم، فمن حقهم على الدولة أن توفر لهم الضمانات اللازمة لحسن أداء دورهم وتنفيذ هذه الواجبات.
علاوة على ذلك، فإن السياسة الجنائية الحديثة التي تتبعها الدولة بهدف إصلاح الجاني وتأهيله للعودة إلى المجتمع، تفرض بعض الأساليب مثل وقف التنفيذ أو الوضع تحت الاختبار أو نظام السجون المفتوحة، وقد يترتب على تنفيذ هذه السياسة إرتكاب الخاضعين لهذه النظم بعض الجرائم التي تضر الأفراد مما يفرض على الدولة الإلتزام بالتعويض المفروض لهذه الجرائم نتيجة فشلها في تحقيق ما تهدف إليه هذه الأنظمة.
وأخيرا، فإن مبدأ العدل يقتضي أن تأخذ الدولة على عاتقها تعويض المتضرر عن الجريمة حين يتعذر عليه الحصول على التعويض من الجاني، وتوضيح ذلك إنه ليس من العدل أن تستفيد الدولة من وقوع الجريمة، وهي ملزمة بحسب الأصل بمنعها، فتفرض على الجاني من العقوبات المالية كالغرامة والمصادرة على وجه يؤدي في نهاية الأمر إلى ضعف موارده المالية فيعجز عن أداء ما عليه من تعويض مستحق للمتضرر من الجريمة.
لكن، يبدو هذا الاتجاه غير منطقي في بعض الأحيان إذ لا يعقل أن يطلب من الدولة مهما بلغت من قوة أن تحمي جميع المواطنين بصورة تامة، وبالتالي فإن إلتزاماتها في هذا النطاق تقع في بذل العناية الضرورية لمنع الجريمة، وهذا المعنى يؤكده تقرير اللجنة الأوربية التابعة للمجلس الأوربي لدراسة المشاكل المتعلقة بتعويض المجني عليهم عن الجرائم حيث جاء فيه "أن أعضاء اللجنة لا يقبلون النظرية القائلة بأن الدولة مسؤولة عن النتائج المترتبة على الجرائم، لأن السلطات العامة ليست ملتزمة في مجال مكافحة الجريمة إلا بالتزام ببذل عناية وليست إلتزاما بتحقيق نتيجة ولا تقبل الدولة أن تكون مسؤولة بالنيابة عن الجاني".
بالرغم مما سبق، يمكن الأخذ بهذا الإتجاه إذا كان المراد مجرد ضمان الدولة لدفع التعويض إن لم يقم الجاني بدفعه ثم ترجع هي عليه بما لها من
آليات.
2- الأساس الاجتماعي
إن إلتزام الدولة بتعويض المتضرر عن الجريمة مبني على مبدأ التكافل الاجتماعي، ويدفع التعويض بالقدر الذي تقرره الدولة لا بقدر الضرر الذي أصاب المتضرر، فهو نوع من أنواع المساعدة الاجتماعية، ولكي تقوم الدولة بتقديم هذه المساعدات عليها –إذا رأت ذلك- أن تنشيء صندوقا عاما لتعويض ضحايا الجريمة، وهي حين تفعل ذلك لا تفعله بموجب مسؤولية قانونية بل بمقتضى دورها الاجتماعي في مواجهة الأخطار ومنها خطر الجريمة.
فالدولة ملزمة ببذل أقصى ما في وسعها للحيلولة دون وقوع الجريمة فإذا وقعت الجريمة يجب عليها أن تعمل على معرفة الجاني ومحاكمته وإلزامه بتعويض المتضرر من الجريمة، فإذا عجزت عن معرفته أو ظهر أنه معسر لا يبقى عليها إلا إلتزاما أدبيا بتعويض المضرور من منطلق وظيفتها الاجتماعية.
ومن أهم النتائج المترتبة على الاعتداد بالأساس الاجتماعي اعتبار التعويض منحة أو مساعدة، أي لا تلتزم الدولة بالتعويض على أساس أنه حق بل تلتزم به أدبيا في صورة منحة تقدم لمن يحتاج إليها، وأن الدولة لها الحق في تحديد التعويض على جرائم معينة وهي الأشد خطورة وتأثير على الأفراد، ويتميز هذا الأساس بالتأييد الكبير من الجانب الأغلب للدول لأنه يمثل الوضع الراهن للقوانين التي تنص على التعويض، ومع هذا التأييد لم يسلم هذا الأساس من النقد وأكثر ما وجه إليه تضمنه لمعنى البر والإحسان وليس القيام بما هو واجب، لذلك يعهد للجهات الإدارية بأمر الإشراف على طلبات التعويض.
ثانيا: طبيعة التزام الدولة بالتعويض والنتائج المترتبة عنها
1- الطبيعة الاحتياطية للتعويض
يقصد بها أن الدولة ليست مسؤولة مسؤولية شخصية عن تعويض المتضرر من جرائم الأفراد، ولا مسؤولية تضامنية مع الجاني، بل يبقى الجاني هو المسؤول الأصلي عن التعويض الواجب للمجني عليه أو لورثته.
فوقوع الجريمة يرتب على عاتق الجاني إلتزاما جنائيا يتمثل في توقيع الجزاء المناسب عليه، وإلتزاما مدنيا بوجوب تعويض المتضرر من الجريمة عن جميع الأضرار المباشرة التي أصابته منها، فالجاني هو المسؤول الأول والأصلي عن الحقوق المدنية للمضرور، والدولة طبقا للاتجاه الذي يرى أنها ملتزمة قانونا بالتعويض هي مسؤولة عن الحقوق المدنية للمتضرر، ومسؤولية الضامن لتنفيذ الالتزام أو مسؤولية احتياطية، أي إذا تعذر الحصول على تعويض الضرر من المسؤول الأصلي لأي سبب فإن الضامن يلتزم بدفع ذلك التعويض.
لكن أيا كان الأساس الذي بموجبه تلتزم الدولة بتعويض المضرور من الجريمة سواء كان إلتزام اجتماعي أم قانوني فإنه في كلتا الحالتين يأتي التزام الدولة من الدرجة الثانية بعد إلتزام الجاني، فإذا بادر الجاني ودفع التعويض المناسب للمتضرر فلا توجد أي مشكلة تطرح، ولكن المشكلة تطفو على السطح عندما لا يدفع الجاني التعويض للمتضرر لأي سبب أو يدفع تعويضا لا يساوي الضرر الذي نتج عن الجريمة، أو يلجأ المتضرر إلى الدولة مباشرة للحصول على التعويض.
2- النتائج المترتبة عن الطبيعة الاحتياطية
أولى النتائج المترتبة هي أن الدولة لا تعوض المتضرر إلا إذا كان الجاني مجهولا أو معسرا، وإذا حصل المتضرر من الجريمة على من التعويض من طرف الجاني لا تدفع له الدولة إلا تعويضا مكملا لهذا القدر من التعويض، ولذلك نجد أن كثير من القوانين تنص على إزدواجية طريق التعويض لتسهيل عملية التعويض وتحقيق ميزة للمتضرر حتى يمكنه الحصول على تعويض ولو مؤقت حتى يحكم له بالتعويض النهائي، فيحق للمتضرر أن يباشر إجراءات المطالبة بالتعويض أمام المحكمة المدنية أو الجنائية وفي نفس الوقت يتقدم بطلب التعويض أمام الجهة المختصة للفصل في طلبات التعويض التي تقدمها الدولة.
ومن ناحية أخرى لا يجوز للشخص المتضرر أن يجمع بين أكثر من تعويض عن نفس الجريمة، مثل حصوله على تعويض من الدولة، وآخر من الجاني أو من شركة التأمين.
لكن ما هي الوسيلة الإجرائية التي تتبعها الدولة إذا أرادت الرجوع على الجاني؟ إن أهم وسيلة هي دعوى الحلول، فإذا تم تعويض المتضرر كاملا أو جزئيا بعد أن عوضته الدولة، فإن الدولة تسترد كل أو بعض ما دفعته له عن طريق حلولها محل المجني عليه أو ورثته في حقوقهم تجاه الجاني.
وإذا ما بحثنا عن طبيعة حق الدولة في الحلول وجدنا أنه حلول قانوني لا إتفاقي، لعدم وجود عقدا أو إتفاقا من أي نوع بين الدولة والجاني، كذلك لأن قوانين التعويض تنص على مبدأ الحلول، وبالتالي لا يتوقف الحلول على موافقة أو رضا المجني عليه أو الجاني، ومن جهة أخرى يحق للدولة رفع هذه الدعوى سواء أمام القضاء المدني إبتداء أو بالإنضمام إلى دعوى المتضرر من الجريمة أمام القضاء المدني، أو الجنائي، بل إن القانون الفرنسي أجاز للدولة ممارسة حق الحلول عن طريق الإدعاء المباشر ولو لأول مرة أمام محكمة الإستئناف.
المحور الثاني: المعايير المعتمدة في تعويض الدولة للمتضرر عن جرائم الافراد
اولا: المعيار الموضوعي والشخصي
إن أساس المعيار الموضوعي يقوم على الاعتداد فقط بالضرر الذي أصاب المتضرر فيقدر بقدره ولا يعتد بأي أمور أخرى خصوصا المتعلقة بالمسؤول، وبالتالي فلا تكون لدرجة جسامة الخطأ الذي إرتكبه هذا الأخير ولا لظروفه الخاصة كمركزه وحالته المالية والاجتماعية أي تأثير في تقدير التعويض، فخطأ المسؤول لدى هذا الإتجاه يقتصر دوره على تقدير المسؤولية أي قيام الحق في التعويض ولا يكون له أثر بعد ذلك، بمعنى أنه لا يؤثر في قدر التعويض.
ولا يعتد كذلك بالظروف الخاصة بالمتضرر من حيث الثراء أو المركز الاجتماعي أو جسامة خطئه، وقد أدى ذلك إلى توجيه النقد من بعض الفقهاء مثل الفقيه الألماني "إيرنج" والفرنسي "إيجين" الذين رأوا عدم كفاية نظام التعويض المعتمد على مدى الضرر وحده، دون أخذه بعين الاعتبار بمدى جسامة خطأ المسؤول، مستندين في ذلك إلى أن هناك حالات يصعب فيها تحديد الضرر الذي أصاب المتضرر ومدى هذا الضرر، مما يصعب تقدير التعويض المقابل له، لهذه الاعتبارات نادى (إيجين) بضرورة الاعتماد في تقدير التعويض بمدى جسامة الخطأ، أي الاعتداد الشخصي لمحدث الضرر.
لكننا نرى أن التقدير الشخصي للتعويض الذي يعتمد على جسامة خطأ المسؤول هو رأي محل نقد، حيث يؤخذ عليه أنه يخلط بين التعويض والعقوبة ويعيد بالتالي إلى التعويض فكرة الجزاء الخاص.
ومن ناحية أخرى، نجد أن الوظيفة المزدوجة للتعويض المتضمنة للوظيفة الرادعة هي مرتبطة بالخطأ الجسيم، التي تعتبر بدورها وظيفة عارضة قد تثور وقد لا تثور حسب تحقق هذا الشرط، والوظيفة الإصلاحية المرتبطة بالضرر وهي وظيفة دائمة، وبالتالي، فإن الوظيفة الرئيسية للتعويض هي جبر الضرر عن طريق تعويض المتضرر عن كامل الأضرار ولا يتأتى هذا التعويض إلا بتقديره وفقا للضرر الذي أصاب المتضرر فعلا، دون الاعتداد بأي اعتبارات أخرى خاصة بالمسؤول.
ومن جهة ثانية، يرى البعض أن تقدير التعويض يجب أن يكون تقديرا ذاتيا واقعيا، وعلى الرغم من بعض الصعوبات العملية التي قد يثيرها هذا التقدير والتي ترجع إلى السلطة التقديرية الواسعة التي يفترضها هذا التقدير، إلا أنه يفضل في كثير من الأحيان على التقدير الموضوعي البحث الذي ينطوي على قرار من التحكم نظرا لإغفاله لظروف الواقع، ويرد أنصار المعيار الشخصي على منتقدي السلطة التقديرية الواسعة بأنها ليست مطلقة من كل قيد، فبجانب خضوع قاضي الموضوع في تقديره للضرر لرقابة المجلس الأعلى في الكثير من المسائل نظرا لصفتها القانونية، فإن هناك العديد من القيود التي يتعين على القاضي مراعاتها عند إجرائه لهذا التقدير.
وتجدر الإشارة أنه في بعض الحالات لا يحبذ اللجوء إلى التقدير الشخصي البحت للضرر ويقصد بذلك على وجه الخصوص الضرر الأدبي المتمثل بالمعاناة النفسية، لتعذر البحث عن الظروف النفسية لكل مصاب.
وعلى العكس من المعيار الموضوعي فإن القاضي يقدر الضرر بالنظر إلى شخص المتضرر أي وفقا لمعيار شخصي، ويتم ذلك باعتماد القاضي العديد من العناصر الإيجابية التي تساعده في الوصول إلى حقيقة الضرر الذي أصاب المتضرر، وهذه العناصر جميعها تتعلق بشخص المتضرر نفسه من حيث سنه ومركزه الاجتماعي والمهني والمالي بما في ذلك دخله ومصادر كسبه المختلفة وحالاته الجسمانية والمعنوية.
ولكن، لا يقتصر على الاعتداد بالعوامل الخارجية الذاتية الخاصة بالمتضرر على تأثيرها الحال، بل يعتد بتأثيرها في المستقبل أيضا، مثل ما فات المضرور من كسب، وما لحقه من خسارة.
ثانيا: معياري التقدير الكامل والعادل
إن التعويض في إطار توجهات السياسة الجنائية الحديثة انتقل من الوظيفة الإصلاحية إلى الوظيفة المزدوجة، المتضمنة للوظيفة الرادعة المرتبطة بمدى جسامة الخطأ، والوظيفة الإصلاحية المرتبطة بالضرر، وبناء على ذلك، يتبين لنا أن الوظيفة الرادعة للتعويض هي وظيفة عارضة تثور حسب تحقق شرط الخطأ الجسيم، أما الوظيفة الإصلاحية فتعتبر وظيفة دائمة إستنادا إلى أن الهدف الأساسي للتعويض هو جبر الضرر الذي يلحق بالمتضرر من فعل الغير.
ويعتبر التعويض الكامل من أهم خصائص الوظيفة الرادعة، فعند إرتكاب المسؤول اعتداء جسيم تزول الاعتبارات التي دعت إلى عدالة التعويض ويزول كل مبرر للتخفيف عن المسؤول من عبئ التعويض، ويرتفع التعويض إلى مستوى التعويض الكامل.
فالفكرة التي يستند إليها التعويض الكامل إذن هي أن المسؤول إذا كانت لديه الحرية في الاختيار وقد اختار الإضرار بالغير وجب أن يتحمل كافة النتائج، فالحد الأعلى للتعويض الذي يمكن أن يحصل عليه المتضرر في حالة الخطأ الجسيم هو التعويض الكامل الذي يعادل قيمة الضرر، والذي يشمل الضرر المادي والأدبي وما فات على المتضرر من كسب وما لحقه من خسارة، والضرر المتوقع وغير المتوقع متى كان الضرر نتيجة مباشرة للخطأ.
ولا يجوز بكل حال تجاوز التعويض الكامل إذ كل تجاوز للتعويض الكامل لا يسانده نص في القانون يكون إثراء غير مشروع، بناء على ذلك يجب على التعويض أن يجبر الضرر الذي أصاب المتضرر جبرا كاملا، فالضرر مهما كان بسيطا والإصابة مهما كانت يسيرة يجب أن تعوض، لذلك فإن الأحكام القضائية التي تقرر في بعض الحالات أن التعويض لا يكون إلا نظريا تكون مخالفة لمبدأ التعويض الكامل.
ومن ناحية أخرى، يتعين على القاضي لكي يصل إلى تعويض المتضرر تعويضا كاملا مراعاة بعض القواعد، كضرورة تقدير التعويض بقدر وقيمة الضرر وقت الحكم ومراعاة التقدير الواقعي للضرر والتقدير الموضوعي للتعويض، مما يؤدي بالإنتقال من التعويض العادل إلى التعويض الكامل لتحقيق الوظيفة الرادعة، فعندما يرتكب المسؤول الخطأ الجسيم تزول الاعتبارات التي دعت إلى عدالة التعويض، ومن ذلك ينتج الخاصية الثانية للوظيفة الرادعة للتعويض وهي شخصية التعويض.
لكن من شأن التفرقة بين المسؤولين حسب جسامة أخطائهم التفرقة أيضا بين المتضررين، فمن يصيبه ضرر من خطأ بسيط يتقاضى تعويضا يقل عن ذلك الذي كان يمكن أن يتقاضاه، إذا كان الخطأ جسيم، فما هو أساس التفرقة ؟
قد تبدو هذه التفرقة بين المتضررين منافية لقواعد الأخلاق، ولكن النظرة الشاملة إلى التفرقة بين المتضررين تؤدي إلى القول بأن هذه التفرقة تتفق وقواعد العدالة فإذا وضعنا في اعتبارنا أن الهدف الأساسي لهذه التفرقة هو التفرقة بين المسؤولين حسب جسامة أخطائهم، وليس التفرقة بين المتضررين، لأن الهدف الأول للقاعدة التشريعية هو ردع المسؤول المخطئ بخطأ عمدي، ولم يكن من بين هذه الأهداف التفرقة بين متضرر وآخر، بل كانت هي الوسيلة الوحيدة أمام المشرع طالما أن التعويض هو الجزاء الوحيد للمسؤولية.
يتبين لنا أن النطاق الذي تعمل فيه فكرة الوظيفة الرادعة هي المساحة ما بين التعويض العادل والتعويض الكامل، وعلى ذلك فإن التعويض لا يكون ذو نزعة شخصية إلا إذا كان ناتجا عن غش أو خطأ جسيم، فالتعويض العادل لا يتأثر بنوع الخطأ سواء كان بسيطا أو جسيما،
وقد نص المشرع المغربي في الفصل 108 من القانون الجنائي على وجوب تعويض المتضرر تعويضا كاملا عن الضرر الشخصي، بحيث تشمل الخسارة التي لحقت به فعلا والمصروفات الضرورية التي اضطر أو يضطر إلى إنفاقها لإصلاح نتائج الفعل الجرمي الذي ارتكبه إضرارا به، كذلك ما حرم منه من نفع من دائرة الحدود العادية لنتائج هذا الفعل.
أما عن موقف القضاء فقد سار مع هذا الاتجاه في بعض أحكامه منها ما قضى به المجلس الأعلى "يكون خارقا لمقتضيات الفصل 108 من القانون الجنائي وبالتالي يتعرض للنقض الحكم القاضي بإلغاء طلبي التعويض باعتبار أن العجز المصاب به كل من الطرفين يعد مساويا من حيث أنه بصرف النظر عن كون العجز الثاني في نفس الحكم وباقي الوثائق هو 15% بالنسبة لأحد الطرفين، و20% بالنسبة للطرف الآخر، فإن هناك موجبات أخرى تدخل في تقدير التعويض المدني حتى يكون شاملا للضرر كمدة التوقف عن العمل وما فات كل طرف من كسب حسب ظروفه الخاصة".
أما الوظيفة الإصلاحية للتعويض يكمن تحقيقها بتعويض عادل الذي يجب لبلوغه سلوك كافة السبل وذلك عن طريق التشريع في صور التعويضات الجزافية، والمحددة بحد أقصى أو عن طريق الأطراف أنفسهم في صورة التعويض الإتفاقي، مما يؤدي إلى استبعاد التعويض الكامل من الوظيفة الإصلاحية للتعويض إكتفاء بالتعويض العادل الذي يرى به القانون أو الأطراف أو القضاء ما يكفي لجبر الضرر من وجهة النظر الاجتماعية، ولكن لا يفهم من ذلك أن التعويض العادل يجرد الذاتية بالنسبة للمتضرر، ومعاملة جميع المتضررين بمعيار موحد أو بتعويض مجرد، أو باستبعاد أنواع معينة من الأضرار عن التعويض، وعلى ذلك فعدالة التعويض لا تلغي الذاتية بالنسبة إلى المتضرر في مدى التعويض ولا في مدى التخفيف الذي ينزل به عن التعويض الكامل.
يتبع
تاريخ التوصل 1يوليوز2011
تاريخ النشر 1يوليوز2011