بسم الله الرحمان الرحيم
السيد رئيس هيئة المحامين بالمغرب
السيد نقيب هيئة المحامين بآسفي
السادة المسؤولون القضائيون والقضاة
السادة الرؤساء السابقون لجمعية هيئات المحامين بالمغرب
السادة النقباء والمحامون
زملائي الأعزاء
حضرات السيدات والسادة الأفاضل
ببالغ السعادة والابتهاج، يشرفني أن أشارككم اليوم أشغال هذه المناظرة الوطنية الهامة، التي تستحق جمعية المحامين بالمغرب أحر التهاني عليها إذ أنها تنعقد في خضم ما تعرفه بلادنا من مجهودات لإصلاح منظومة العدالة.
وإنها لمناسبة نستحضر فيها الدور التاريخي الطلائعي لجمعية هيئات المحامين بالمغرب، وحضورها الدائم والإيجابي الفعال، في مجال إصلاح منظومة عدالتنا، ودورها الريادي في الدفاع عن استقلال القضاء، والذود عن حقوق الدفاع، وتوطيد الصرح الشامخ للعدالة، وترسيخ قيم العدالة والإنصاف والمساواة وصون حقوق الإنسان.
كما أغتنم هذه الفرصة لأنوه بالمستوى المتميز للتعاون البناء، بين جمعية هيئات المحامين بالمغرب ووزارة العدل والحريات، وحرصهما الدؤوب على تطوير آفاق التعاون بينهما، بما يجسد الارتباط العضوي القائم بين جناحي العدالة : القضاء والمحاماة.
زملائي الأعزاء، حضرات السيدات والسادة
انطلاقا من شعار هذه المناظرة الوطنية "إصلاح منظومة العدالة رهين بإرادة سياسية حقيقية" أقول، إن هناك إرادة سياسية حقيقية وملموسة لإصلاح منظومة العدالة، إصلاحا عميقا وشاملا. وهي إرادة سياسية معبر عنها من أعلى مستوى، إذ عبر عنها صاحب الجلالة الملك محمد السادس عدة مرات، اعتبارا للعناية الفائقة التي ما فتئ يوليها جلالته لهذا الإصلاح الجوهري، الذي يتمركز في صدارة الأوراش الإصلاحية الاستراتيجية الكبرى للمملكة.
كما أن البرنامج الحكومي، جعل من أولوياته، الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة برمتها، تعزيزا لمكانة القضاء في الدستور الذي ارتقى به إلى سلطة قضائية مستقلة، واعترافا بالدور الحيوي للعدل في البناء الديمقراطي، وتوطيد الاستقرار الاجتماعي، وحماية حقوق والتزامات المواطنة، وكذا دور القضاء في صون الحريات وضمان ممارستها الفعلية، وتحقيق الأمن القضائي والالتزام بسيادة القانون وترسيخ الثقة الكفيلة بالتحفيز على المبادرة والاستثمار.
وإن هذه الإرادة السياسية الواضحة لإصلاح منظومة العدالة، لمعززة بسند قوي، يتجلى في إجماع مختلف الفعاليات الوطنية على ضرورة إصلاح هذه المنظومة، والانخراط الكامل في الجهود الرامية إلى النهوض بها.
فاعتمادا على هذه الأرضية الصلبة للإصلاح، ووفقا للمنهجية التشاركية التي نص عليها الدستور، انطلقت مبادرة الحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، برعاية سامية من جلالة الملك، الذي نصب الهيئة العليا للحوار الوطني، كهيئة استشارية، وإطار تعددي وتمثيلي، منوط بها مهمة الإشراف على هذا الحوار الوطني، وإنجاز الميثاق الوطني لإصلاح العدالة الذي سيمثل الإطار المرجعي بالنسبة للقوانين التنظيمية المتعين إنجازها دستوريا أو باقي القوانين سواء منها قانون المسطرة المدنية أو الجنائية والقانون الجنائي ومدونة التجارة وغيرها ...
وبذلك، فإن هذا الحوار يعد منهجية جديدة في مجال إصلاح منظومة العدالة، تهدف إلى تقديم رؤية مجتمعية شاملة، وبإشراك كل الفعاليات المعنية، لإيجاد الحلول الكفيلة بتلبية تطلعات المواطنين وحاجياتهم في ميدان العدل، وذلك من خلال :
1- أجهزة الحوار المتمثلة في الهيئة العليا المكونة من 40 شخصية، وهيئة الحوار الوطني المكونة من 190 ممثلا عن القطاعات الوزارية وممثلي مختلف المهن القضائية وفعاليات المجتمع المدني، وكذا من المكونات التي ستشارك في المناظرة الوطنية حول إصلاح منظومة العدالة التي ستتوج ندوات الحوار الجهوية.
2- منهجية الحوار التي قررتها الهيئة العليا للحوار الوطني، والتي تجري على عدة مستويات، من خلال حوار داخلي على صعيد الهيئة العليا ولجانها الموضوعاتية، وحوار موسع على صعيد هيئة الحوار الوطني عبر الندوات الجهوية التي تتم بحضور ممثلي مختلف فعاليات المجتمع المدني والهيئات المهنية على الصعيد الجهوي من قضاة، وكتاب الضبط، والمحامون، وباقي مساعدي القضاء، وغيرهم. هذا بالإضافة إلى الندوات الجهوية لمختلف الدوائر القضائية لمحاكم الاستئناف، وكذا الخبرات والتجارب الأجنبية، والزيارات الميدانية للدوائر القضائية، والاجتماعات التي تعقد مع مختلف الفعاليات القضائية بمناسبة الزيارات المذكورة.
3- وتعالج في هذا الحوار المواضيع الجوهرية المرتبطة بإصلاح منظومة العدالة، على صعيد مختلف الدوائر القضائية، كالتنظيم القضائي والنجاعة القضائية وتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة، وتأهيل المهن القضائية، وتأهيل الموارد البشرية، وتخليق منظومة العدالة، وتطوير العدالة الجنائية وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، واستقلال السلطة القضائية، والحكامة وتحديث الإدارة القضائية والبنية التحتية للمحاكم، وتأهيل قضاء الأعمال، وتأهيل قضاء الأسرة، والقضاء والإعلام.
زملائي الأعزاء، حضرات السيدات والسادة
لقد نص الدستور الجديد للمملكة على ضمان الملك لاستقلال القضاء وتكريس القضاء كسلطة مستقلة قائمة الذات عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية كمؤسسة دستورية برئاسة جلال الملك. كما رسخ الدستور مبدأ استقلال القضاء، بالنص على منع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ومنع توجيه أي أوامر أو تعليمات للقاضي، أو إخضاعه لأي ضغط بشأن مهمته القضائية. كما أنالقانون يعاقب كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة. إذ لا يلزم القضاة إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون. بل إن الدستور أوجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهددا أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. كما أنه اعتبر وبالمقابل، أن كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد يعد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة.
وإن العمل من أجل إحياء وتقوية وتعزيز استقلال القضاء، كشرط أساسي للمساواة أمام القانون والقضاء، وحسن سير العدالة، يعني وضع حد لكل أشكال التدخل في القضاء، وإحداث قطيعة مع كل الممارسات التي تمس باستقلاله، هذا الاستقلال الذي لا يعد امتيازا للقضاة، بقدر ما هو مؤسس لفائدة المتقاضي، الذي يحتاج إلى الثقة في قاضيه والاطمئنان إلى حياده.
وكما أكدت ذلك مرارا، فإني أؤكد اليوم أمامكم، الالتزام الصريح العلني بعدم تدخل وزير العدل والحريات في القضاء بأي وجه من الوجوه وإرادتي الراسخة في عدم السماح بذلك لأي أحد بمحاربة التدخل في القضايا المعروضة على القضاء.
وموازاة مع ذلك، وتعزيزا لاستقلال القضاء، فإن الإرادة الحكومية منعقدة على النهوض بالأوضاع المادية للقضاة بالرغم من الظرفية الاقتصادية الصعبة، بما يساعد السيدات والسادة القضاة على تحمل الأعباء الجسيمة للقضاء وأداء رسالتهم السامية، وبما يسهم في التحصين اللازم والتخليق الضروري لهم.
وعلاقة بالموضوع فإني إذ أنوه بأهمية كتابة الضبط ودورها الحيوي في مضمار العدالة وفي العمل اليومي للمحاكم فإني أنبه إلى الاضرار الفادحة التي خلفتها وتخلفها الإضرابات المتوالية غير المبررة على العدالة، والتي لها انعكاسات سلبية ليست فقط على حق المواطن الثابت في التمتع بخدمة العدالة ولكن أيضا على مهنة المحاماة التي تحملت من جراء ذلك أفدح الخسائر.
لقد تحقق لإطار كتابة الضبط مكاسب مادية ومعنوية هامة خلال سنة 2011 جعل منها مطمحا لفئات وظيفية متعددة بل مرجعا لها في مفاوضة الحكومة وهو ما يتطلب من كتابة الضبط الالتزام بالواجب والنأي عن إلحاق مزيد من الخسائر بالعدالة كلما كان هناك خلافا حقيقيا أو مفتعلا مع وزارة العدل والحريات.
وإني أؤكد أمامكم أن هذه الوزارة متمسكة بالحوار مع مختلف التمثيليات النقابية العاملة بالقطاع لحل كل المشاكل الممكنة لكنها في نفس الوقت عازمة على تفعيل قرار الاقتطاع تبعا لقاعدة الأجر مقابل العمل المعمول بها في كافة الدول الديمقراطية والتي أسس لها القانون وأكدها الجهاز القضائي المغربي.
زملائي الأعزاء، حضرات السيدات والسادة
لقد شكلت المحاماة دوما، مكونا أساسي في الأوراش الكبرى لإصلاح منظومة العدالة، وقد فرضت الحيوية المتميزة لمهنة المحاماة، تحديثها وعصرنتها، وإغناء الإطار القانوني المنظم لها، بما يكفل لهيئة الدفاع أداء الرسالة السامية التي تحملها، بكل ما يتطلبه الأمر من استقلال وتجرد ونزاهة، لتحافظ على نبلها ومصداقيتها.
ومن أهم المقتضيات القانونية الجديدة التي تم الأخذ بها بتحصين المهنة، ما نصت عليه المادة 57 من القانون المنظم للمهنة بشأن حساب ودائع وأداءات المحامين. وقد أصدرت مجالس هيئات المحامين بالمغرب أنظمتها الداخلية لحساب الودائع والأداءات المهنية، وتم تبليغها إلى النيابات العامة بمحاكم الاستئناف، حيث تبين أن جلها جاء متطابقا ومنسجما مع المادة المذكورة، باستثناء بعض الهيئات القليلة.
وإني لمطمئن لحسن سير العمل بحساب الودائع، وأنوه بالمجهودات الكبرى التي بذلتها مختلف الهيئات من أجل تدبير هذا الحساب، ولقد وقفت خلال زيارتي التفقدية لمختلف الدوائر القضائية، على سير الجيد لمصالح مختلف نقابات المحامين المكلفة بإدارة هذا الحساب، وهو ما أسس لتخليق عميق للمهنة وخلعها من بعض الممارساتالتي كانت تسيئ لرسالتها السامية، ولسمعة رجال ونساء الدفاع الأبرار.
ولقد أتيحت لي الفرصة خلال لقاءاتي مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب، ومن خلال الاجتماع مع مجالس الهيئات بمختلف الدوائر القضائية، الوقوف على مطالب السادة المحامين المرتبطة بموضوع الإحالة المباشرة لمبالغ التنفيذات على صندوق ودائع المحامين. وإننا وفي إطار التعاون البناء والمثمر مع الجمعية، سنجد الحل الكفيل برفع الصعوبات المرتبطة بهذا الموضوع.
ومن جهة أخرى، فإن من جملة المستجدات التي جاء بها القانون المنظم لمهنة المحاماة، تقاضى المحام المعين في نطاق المساعدة القضائية، أتعابا من الخزينة العامة، يتم تحديد مبلغها وطريقة صرفها بنص تنظيمي. ولقد صدر مرسوم بهذا الخصوص في سنة 2011، وتم في نفس السنة إعداد مشروع اتفاقية مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب حول تنفيذ وتوزيع المبالغ المرصودة للمساعدة القضائية المنظمة بمقتضى المرسوم المذكور لكنه تبين تعذر تنفيذ المرسوم المذكور في عهد سلفي المرحوم النقيب محمد الطيب الناصري بعلة أن المرسوم لم يتناول عدة أمور من أهمها، عدم تحديد الجهة المختصة بصرف المبالغ المرصودة للمساعدة القضائية في شخص الخزينة العامة، تأسيسا على الفصل 41 من قانون المهنة. فكان علينا العمل على إنجاز صيغة جديدة تستجيب للقانون في التشاور مع جميع هيئات المحامين بالمغرب وممثلي وزارة الاقتصاد والمالية، وإذا كان مكتب الجمعية ارتأىبعد ذلك أن يعبر عن تحفظه على الصيغة التي صدر بها المرسوم، فإننا فتحنا مشاورات جديدة مع الجمعية لإبداع الصيغة الملائمة، وعسى أن نتمكن من ذلك قريبا بحول الله.
زملائي الأعزاء، حضرات السيدات والسادة
في سنة 1998 أبرمت الوزارة اتفاقية "تعاون وعمل" مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وذلك في إطار من الشراكة، انبثقت عنها لجان متعددة تضم مسؤولين قضائيين ونقباء. وتشمل هذه اللجان: اللجنة القضائية وسير المحاكم، ولجنة مواكبة التشريع، ولجنة إصلاح المهنة، واللجان الثلاثية على صعيد محاكم الاستئناف، وهي من أهم اللجان، إذ تضم الرئيس الأول لكل محكمة استئناف والوكيل العام للملك لديها، ونقيب هيئة المحامين.
وإني لأدعو إلى تفعيل عمل هذه اللجان الثلاثية، وتطوير أدائها تجاوبا مع إرادة مكتب جمعية هيئات المحامين بما يمكن من إيجاد الحلول للإشكاليات التي يفرزها الواقع العملي على الصعيد الجهوي، وترسيخ تقاليد وأعراف وأخلاقيات الممارسة المهنية، بما يضمن الرفع من أداء المحامين والنجاعة القضائية للمحاكم. وذلك بعد تحديث هذه الاتفاقية بما يطور آفاق التعاون بين الوزارة والجمعية ولذلك فإننا نعمل مع مكتب الجمعية على وضع مشروع اتفاقية جديدة بين الطرفين، ابتدأناها بإنجاز مشروع مذكرة تفاهم بين الوزارة والجمعية، بشأن التواصل الإلكتروني بين المحاكم وهيئات المحامين، وقد أحيل هذا المشروع على الجمعية لإبداء الرأي.
ويأتي إعداد مذكرة التفاهم هذه في إطار التوجه الاستراتيجي لوزارة العدل والحريات الرامي إلى تعميم المعلوميات على كل محاكم المملكة، لتحديث الإدارة القضائية والمكننة الشاملة لإدارة القضايا، والوصول إلى غاية أعلنت عنها من يومين بمجلس النواب ألا وهي: تحديد سنة 2020 كأجل أقصى لتحقيق اللاتجسيد المادي للمساطر والإجراءات أمام المحاكم، والحد من استعمال السجلات الورقية، وتجاوز مرحلة ازدواجية العمل اليدوي والعمل المحسوب وهو ما يتطلب من مهنة المحاماة بدورها أن تعمل على تطوير ذاتها ووسائل عملها بما يمكنها من أن تبلي استحقاقات التحديث.
هذا وإن تكريس الوضع الاعتباري المتميز لهيئة الدفاع، رهين بمدى حرصنا جميعا على الحفاظ على المستوى المهني اللائق للمحامي، تكوينا وتخليقا، مادام المحامي بعد شريكا أساسيا في منظومة العدالة، بكل ما تحتمه هذه المسؤولية من واجبات، وبما تستوجبه المهنة من تقيد بالتقاليد والأعراف المهنية، والتحلي بالسلوك القويم والأداء المهني الصالح.
ولذلك فإنني أنوه بالمجهودات التي تبذلها مختلف هيئات المحامين بتعاون مع السلطات القضائية المختصة من أجل تخليق المهنة. أما بالنسبة لموضوع التكوين، فإنه يشكل مجالا خصبا لإمكانيات التعاون بين الوزارة وجمعية هيئات المحامين بالمغرب، من أجل تفعيل مقتضيات قانون المحاماة المتعلقة بإحداث مؤسسة لتكوين المحامين والتي نحن عازمون على إخراجها إلى الوجود في أقرب الأوقات بإذن الله.
زملائي الأعزاء، حضرات السيدات والسادة
لاشك في أن هذه المناظرة الوطنية حول إصلاح منظومة العدالة، وعلى غرار المناظرات الكبرى التي نظمتها هيئة المحامين بالمغرب، ستكون رافدا مهما لجهود إصلاح منظومة العدالة في بلادنا، وستكون خلاصاتها وتوصياتها لبنة أخرى في مجال الإصلاح العميق والشامل للعدالة بكل مكوناتها وأعدكم بأنها ستكون محل اعتبار واستلهام من قبل الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة خاصة وأن رئيس الجمعية النقيب حسن وهبي أحد الوجوه الأساسية في هذه الهيئة إضافة إلى نقباء وزملاء آخرين سيكون لهم شرف الاسهام الخلاق في إصلاح منظومة العدالة وهو الاصلاح الذي طال انتظاره وعسى أن يتحقق في زماننا هذا ومن خلال المجهود الجماعي لكافة الفاعلين والمهتمين والخبراء وعلى رأسهم السيدات والسادة المحامون والله الموفق والسلام.