التقرير
ان السياق العام لموضوع الاطروحة يندرج في اطار تحديث المشرع المغربي لمنظومته القانونية عبر اصداره لمجموعة من القوانين العامة و الخاصة و التي يوجد على رأسها على سبيل المثال لا الحصر قانون 31.08 ودستور 2011
فهذا الاخير يزخر بالعديد من الحقوق و الحريات الاساسية المرتبطة بالحياة الانسانية الفردية أو الجماعية في شتى مجالاتها المتشعبة و المعقدة , اذ ان الحق في الحياة وفي السلامة الجسدية, و كذا الحق في الملكية الخاصة , و المبادرة و الحق في التعبير عن الرأي يمكن اعتبارها بمثابة مكتسبات قانونية لفائدة الشخص العادي سواء كان طبيعيا أو معنويا على أساس أنها تدخل في اطار مقومات العيش الكريم و المواطنة الحقيقية داخل المجتمع
وإذا تأملنا جملة هذه الحقوق فإنها توصف بكونها ضمن الوسائل الفعالة التي يهدف المشرع عادة من خلال التنصيص عليها الى تكريس بعض الضمانات الحمائية للعلاقات التعاقدية و التصرفات المدنية أو التجارية المبرمة من طرف المعنيين بها بشكل مباشر باختلاف المراكز و الوضعيات التي يتخذونها ازاء ذالك في سبيل خلق القدر
الكافي من التوازن على الاقل من الناحيتين النظرية و الواقعية .
وانطلاقا من هذا المعطى , بات من اللازم التساؤل منطقيا حول كيفية بلوغ المشرع المغربي أو المقارن الهدف الاسمى و المنشود المتمثل في الحفاظ على كافة الحريات و الحقوق التي يتمتع بها كل فرد على حده خصوصا عند ممارستها , في خضم جو مطبوع بظاهرة الاستهلاك المتنامية بصفة منقطعة النظير بعد اتجاه معظم بلدان المعمور الى نهج سياسة اقتصادية مندمجة تعتمد في جوهرها على مبدأ تحرير الاسعار و فتح الاسواق أمام تدفق رؤوس الاموال و الاستثمارات , وعلى حركية و تنقل الممتلكات و البضائع حتى أضحى من الصعب جدا اعمال المقاربة القانونية من أجل ضبط العمليات و الانشطة التي يشهدها ميدان المال و الاعمال المبني على معيار العرض و الطلب , و التحولات الجذرية و المتسارعة المفروضة حاليا بفعل تيار العولمة الجامحة .
وقد وضعت التطورات المتلاحقة على الصعيدين الاجتماعي و الاقتصادي في غضون العقود الاخيرة تلك القواعد التشريعية على المحك الشيء الذي أدى حتما الى المطالبة بإعادة التفكير فيها حتى تستجيب للحاجيات الراهنة و المستقبلية .
ان مختلف العوامل ليس فقط ذات الطابع الثقافي و السياسي و التاريخي وإنما أيضا ذات الطابع الاقتصادي و الاجتماعي بالرغم من تداخلها فيما بينها شكلت أرضية محورية لبروز اشكالية حماية المستهلك التي استدعت من الدول النامية و المتقدمة توظيف جميع الميكانيزمات وتسخير الاليات القانونية قصد توفير الظروف الملائمة لتنزيل و تفعيل طائفة الحقوق و الحريات التي جاء بها التشريع .
وعليه, فالأطروحة التي تقدمنا بها لنيل شهادة الدكتوراه انصبت على تبيان نطاق وحدود تلك الحماية عبر الخوض في الفحص و التحليل الدقيق للنصوص العامة و الخاصة و للنظريات الموجودة في التشريعين الداخلي و الدولي مع العلم أن المسألة تعد في حد ذاتها مجازفة لان البحث يقتضي تقييم جدوى الاسس القانونية برمتها و بالتالي الحكم بالإيجاب أو السلب حول الجوانب المتعلقة بالموضوع مما جعله تحديا شخصيا بالفعل وان كان محاطا بمجموعة من الصعوبات , بحيث أن شموليته دفعت بنا عند صياغة المنهجية الى العودة الى الجذور المتأصلة كالسبيل الوحيد الممهد لفهم النقاشات الفقهية و القضائية المثارة بهذا الشأن , و للإحاطة الكاملة بالتساؤلات الرئيسية و الفرعية المنبثقة عن موضوع الحماية القانونية للمستهلك في العقود التجارية و المتمثلة في : مدى استطاعة المنظومة القانونية الوطنية و الدولية في توفير الحماية الكافية للمستهلك في العقد بصفة عامة و في العقود التجارية على وجه التحديد ?
والى اي حد عمل المشرع المغربي على تطوير نظرية خاصة بالاستهلاك ?
لذالك كان من الواجب تجميعها في فكرتين أساسيتين نظرا للأهمية القصوى التي تكتسيهما عبر اتخاذهما حجر الزاوية الذي سيتم عن طريقه الاجابة عن تفاصيل و جزئيات الاجراءات المشار اليها في التشريع الاستهلاكي ورصد الملامح الايجابية التي يحتوي عليها دون اغفال تحديد أوجه النقص فيها .
فمن جهة اولى , حاولنا في الباب الاول التطرق بإسهاب الى الاطار التشريعي الخاص بحماية المستهلك عملا بالمقاربة الوصفية و النقدية معا للوقوف على مظاهر التفاوت الحاصل بين الانظمة القانونية المعاصرة , بحيث ميزنا بين نوعين :
النوع الاول : وهي فئة القوانين المعروفة في الدول العربية عموما التي يندرج تحت غطائها المغرب لأنها تستند على ازدواجية في مرجعيتها الحمائية للمستهلك على اعتبار أنها تمزج بين ما هو ديني محض( قواعد الشريعة الاسلامية ) وبين ما هو كوني ( منظومة حقوق الانسان والاتفاقيات الدولية ) .
النوع الثاني : وهي فئة الدول الاجنبية التي تجتهد كثيرا في توحيد منظومتها الحمائية للمستهلك وملائمة تشريعاتها الداخلية مع مضمون الاتفاقيات المصادق عليها .
وقد استقر الاختيار على نموذج فريد و رائد في هذا المجال وهو دول الاتحاد الأوربي.
فمن جهة ثانية , استطعنا الى حد كبير الالمام بالإطار المؤسساتي الخاص بحماية المستهلك بتعدد آلياته في الباب الثاني بغية القاء الضوء على مدى مساهمة أجهزة الدولة الرسمية و الموازية .
فبالنسبة للسلطة القضائية , يلاحظ أنها تقوم بدور طلائعي لا يستهان به في حفظ حقوق المستهلك اثر تضرره من الممارسات غير المشروعة التي يصطدم بها عند الاقدام على ابرام أو تنفيذ تصرفاته المدنية / التجارية لأنها في الحقيقة هي الجهة الموكول اليها مهمة تطبيق القانون وقواعد العدالة و الانصاف وفق الامكانيات المتاحة عبر( القضاء العادي ) أي قضاء الموضوع الذي يتدخل في المادتين المدنية و التجارية بل وحتى الجنائية, و القضاء الرئاسي الذي يختص لوحده في النوازل الاستعجالية و المساطر البديلة ( كالتحكيم و الصلح و الوساطة ).
أما بالنسبة للسلطة الادارية , فهي تنقسم الى صنفين :
- الاجهزة التابعة للسلطة التنفيذية الحكومية أي الوزارات التي ينعقد لها الاختصاص للبث في بعض المجالات المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحماية المستهلك
- الاجهزة الادارية المستقلة التي تسمح بحماية اضافية للمستهلك بفعل صلاحيتها الواسعة كهيئات رقابية .
وفيما يخص وسائل الاعلام نسجل بأنها سلاح ذو حدين , اذ في الوقت الذي تلعب فيه الدور التربوي و التو عوي بامتياز فهي بالمقابل تظل محدودة من حيث نطاق الاشتغال بسبب وجود مجموعة من العراقيل البنيوية في المقام الاول الى جانب عوامل أخرى مجتمعية بالأساس .
تقريبا , ينطبق نفس الواقع على مكونات النسيج الجمعوي العامل في المجال الحقوقي عامة وفي قضايا الاستهلاك بالتحديد باعتبارها تساعد في الدفاع عن مصالح فئة عريضة من الطبقات الاجتماعية لكن في ظروف غير عادية لما في القانون من معيقات بالنسبة اليها .
وقد خلصنا في نهاية هذا البحث الى مجموعة من الاستنتاجات العامة بشكل مركز اضافة الى عدة اقتراحات أو توصيات و المخاطب الرئيسي فيها هو المشرع من جهة , وباقي المؤسسات الحمائية سواء كانت سلطة قضائية أو تنفيذية أو ادارية أو أجهزة غير حكومية من جهة أخرى .
فعلى مدى سائر صفحات البحث , حاولنا ابراز الجانب الحمائي للمستهلك من الناحيتين النظرية و التطبيقية من خلال تناول النصوص المتوفرة في التشريع المغربي و العربي مع تقديم أوجه التشابه أو الاختلاف بينهما وبين القوانين الاجنبية المقارنة , ثم معالجة الدور الذي تمليه الاجهزة الرسمية و المجتمع المدني في حماية المستهلك باعتبارها هيئات يلجأ اليها هذا الاخير .
ان بلوغ الهدف الاسمى ذات البعد القانوني المتمثل في حماية المستهلك في المعاملات المدنية و التجارية , لا بد أن ينطلق من نقطة التنظيم و التقويم الداخلي أي من ذات وجوهر التشريع المطبق على قضايا الاستهلاك بصفة عامة .
لهذا ينبغي على واضعي النصوص القانونية ونقصد به البرلمان تحسين أدائية هذه الاخيرة بكيفية مستمرة مع السهر على ضرورة تحقيق النجاعة و الفاعلية .
و اليوم , يمكن القول بأن الفئات العريضة من المستهلكين في علاقتهم بالمؤسسات المكلفة بتوفير الحماية القانونية لهم و المنتظرين لخدماتها المختلفة , موثوقة بأنه لا سبيل الى انجاز أي اصلاح تشريعي فعال وذي نتائج ملموسة على أرض الواقع , ما لم تقم بتعبئة شاملة للفاعلين الاقتصاديين و الاجتماعيين عبر مقاربة تشاركيه وتعاقدية .
وانطلاقا من هذا التصور لمعنى و دور التشريع و المؤسسات في اطفاء الحماية القانونية للمستهلك في مختلف التصرفات التعاقدية التي يبرمها في المادتين المدنية و التجارية لا يسعنا في هذا المقام إلا تقديم بعض الاقتراحات و ابداء بعض التوصيات في سبيل الرفع من سبل الحماية القانونية للمستهلك ,
- I على مستوى التشريع :
- أولا : الالتفات إلى ضرورة جمع شتات النصوص القانونية المتناثرة ، إذ أن تفرقها لا يخدم المستهلك كثيرا (ق.ل.ع ، مدونة التجارة ، مدونة التأمينات...إلخ )، لذلك يتعين التفكير في بناء إطار تشريعي استهلاكي موحد على غرار القوانين المقارنة الأجنبية التي عملت على إصدار مدونات خاصة منظمة لقضايا وعقود الاستهلاك مثل التشريع الفرنسي. فإصدار قانون 31.08 يعتبر خطوة إيجابية نحو بناء نظرية استهلاكية بالمغرب ، ولكنها جاءت في شكل قانون مكمل فقط لما سبقه وهو الأمر الذي يستدعي الانكباب على معالجته من خلال دمجه في ق.ل.ع في مرحلة أولى (كما هو الحال بالنسبة لعدة قوانين كقانون 44.04 المتعلق ببيع العقار في طور الإنجاز وقانون 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني...) في انتظار تهييء صيغة ملاءمة جديدة في القانون المدني من خلال تبني مفاهيم الاستهلاك والمستهلك وتجاوز كل التناقضات القائمة أو المحتملة قبل الوصول إلى مدونة شاملة ، بحيث من شأن هذا المعطى تفادي الإحالات المتكررة على قوانين أخرى.
- ثانيا : التعجيل بإخراج النصوص التنظيمية والمراسيم التطبيقية المصاحبة لقانون 31.08 المرتبطة بسير بعض المؤسسات والهيئات الموكول إليها ضمن اختصاصاتها المساهمة في صيانة حقوق المستهلك وتوعيته مثل المجلس الأعلى للاستهلاك أو المرتبطة ببعض المسائل أو العناصر التقنية (الإشهار ، الالتزام بالإعلام...).
- ثالثا: الحرص على مراجعة المنظومة التشريعية كلما اقتضى الحال أو في كل ولاية تشريعية برلمانية اعتبارا للتحولات السريعة التي يشهدها مجال المعاملات المدنية والتجارية على الصعيد الوطني والدولي ونظرا للتطورات التكنولوجية والثقافية في أنماط الاستهلاك راجين من المشرع المغربي الاقتداء بالتجارب التشريعية الرائدة على مستوى القوانين المقارنة والاستفادة منها بما يتناسب مع طبيعة المجتمع والعوامل المتشعبة المتحكمة جذريا في تحديد سلوك الاستهلاك ببلادنا (الأمية ، الفقر ، القدرة الشرائية ، الوازع الديني...).
II- على مستوى الهيئات المؤسساتية :
- أولا : السعي إلى توسيع رقعة التدخل القضائي في عقود الاستهلاك من خلال منح السلطة القضائية صلاحيات تقديرية تسمح بتحقيق قيم العدل والإنصاف واحترام الإرادة التعاقدية مع مراعاة المرونة في التعامل بالنظر إلى خصوصية المركز القانوني للمتعاقد الضعيف بدل التشدد في المواقف الاجتهادية المعتمدة على تكريس فكرة التطبيق الحرفي للنصوص التشريعية.
- ثانيا : تبدو فكرة إحداث قضاء متخصص يهتم بقضايا الاستهلاك كما هو الحال في المحاكم المالية مثلا اقتراحا غير ذات نفع ، بل يجدر في المقابل الالتزام بإعادة النظر في برامج التكوين المستمر للسادة القضاة المعمول بها حاليا داخل المعهد العالي للقضاء عن طريق إعداد دروس بيداغوجية خاصة عن كيفية التعامل مع المستجدات التي تعرفها قضايا الاستهلاك من الناحيتين النظرية والتطبيقية.
- ثالثا: الاعتماد على مبدأ التراتبية في البت في نزاعات الاستهلاك وذلك عبر جعل الالتجاء إلى الطرق البديلة من أولوية العمل القضائي واعتباره استثناء على القواعد المسطرية المعمول بها في الحالات العادية (البت طبقا لطلبات الأطراف فقط) قبل النظر في جوهر الخلاف القائم بين المستهلك والمهني.
- رابعا : الإسراع بتوحيد جهود أجهزة الرقابة والبحث والتحري بمختلف أشكالها (تنفيذي ، إداري...) من خلال توضيح الرؤى والاستراتيجيات والمخططات المعتمدة والفصل بين السلط والاختصاصات الممنوحة لكل جهاز على حدة .
وعلى هذا الأساس ، لابد في نظرنا من تجميع كل الصلاحيات الموزعة حاليا على العديد من الجهات الحكومية الرسمية (الوزارات) في يد هيئة مستقلة ماليا وإداريا في إطار إستراتيجية تشاركية تضمن انخراط مختلف الأطراف المعنية بقضايا الاستهلاك ، ولن يتأتى ذلك إلا بواسطة عقد لقاءات مستمرة على مدار السنة بدل الاكتفاء بأيام دراسية أو ندوات علمية موسمية يكون الغرض منها فتح نقاش حول المستجدات القانونية في هذا المجال كمحاولة في سبيل التغلب على العراقيل القانونية والإشكاليات العملية التي تحد من فعالية إستراتيجية الدولة وآلياتها التشريعية والمؤسساتية والعمل على سد الثغرات التي تعتريها وبالتالي بدل قصارى الجهود لتطويرها وتحسين أدائها.
- خامسا: التكثيف من جمعيات حماية المستهلك وتزويدها بجميع الإمكانيات المادية واللوجيستيكية من أجل تسهيل مهامها التوعوية والتمثيلية والاعتماد على المواقع الإلكترونية والسهر على مواكبتها من خلال الحرص على تكوين العاملين بها وحتى تستطيع خلق فروع أخرى لها على صعيد مجموع جهات التراب الوطني سواء على مستوى المناطق الحضرية أو القروية إضافة إلى ضرورة تذويب الصعوبات الإدارية والمادية التي تعاني منها (كغياب التنسيق وحذف لشرط المنفعة العامة...) وتشجيعها على التكتل في إطار جامعات وطنية وتحفيزها قصد الانفتاح على محيطها الإقليمي والدولي عن طريق البحث عن شراكات مع جمعيات عربية أو دولية للاستفادة من تجاربها ولتعزيز سبل التعاون في اتجاه إنشاء حركة منظمة وذات قوة ضاغطة هدفها الحفاظ على المكتسبات والدفاع عن حقوق المستهلك ودعمها باعتباره حقا إنسانيا بامتياز.
و السلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته