تقـديـم:
إذا كان القضاء المغربي قد استخلص من صلب الفصل 37 من ظ ت ع مجموعة من الضوابط خاصة تلك المتعلقة بتعيين المراكز القانونية لأطراف الخصومة في دعوى التعرض، وتوزيع عبء الإثبات عليهما، معتبرا المتعرض دائما وأبدا بمثابة المدعي المطوق بعبء الإثبات، والتي اتسمت بشكل عام بعدم المساواة وباختلال التوازن، بل وبحدة التعارض بينها وبين بعض قواعد الفقه الإسلامي المؤطرة لضوابط الإثبات في دعوى استحقاق العقار العادي، خاصة إذا كان المتعرض حائزا للمدعى فيه، فإن نفس القضاء، وعلى رأسه المجلس الأعلى، قد حاول من خلال عدة قرارات، صياغة مبادئ وقواعد ذات حمولة اجتهادية تأنف من صرامة القواعد المؤطرة للإثبات في مادة التعرض عن طريق تلطيفها، وتنزع نحو إقرار نوع من التوازن الكفيل بضمان حقوق أطراف الخصومة، والهادف إلى تحقيق موضوعي وعادل ومنصف للنزاع، في أفق إصدار أحكام وقرارات تدنو أكثر إلى الحقيقة، حقيقة تبقى وفي كل الأحوال نسبية وغير مطلقة.
هذه القواعد تعد بمثابة متغيرات على مستوى الإجتهاد القضائي المغربي بخصوص مسألة الإثبات في مادة التعرض على التحفيظ، وهي متغيرات اجتهادية تبدت ملامحها على مستوى تمكين المتعرض من إعداد وسائل إثباته، وإقرار نوع من الموازنة على مستوى فحص الحجج المقدمة من طرفي الخصومة، كما اتضحت من خلال قلب عبء الإثبات على عاتق طالب التحفيظ في بعض الحالات، وإعطاء حيازة المتعرض أو حوزه الدور الحاسم في كسب نتيجة الدعوى.
ولبحث جوانب من هذا الاجتهاد، وإبراز دوره في تدعيم مركز المتعرض، وأثره على التحقيق الموضوعي والمنصف لدعوى التعرض، آثرت توزيع البحث في هذا الموضوع إلى فرعين كالآتي:
الفرع الأول: دورالاجتهاد القضائي في تدعيم مركز المتعرض على مستوى الإثبات.
الفرع الثاني: دورالاجتهاد القضائي في إقرار توزيع عادل لعبء الإثبات في مادة التعرضات.
الفرع الأول: دورالاجتهاد القضائي في تدعيم مركز المتعرض على مستوى الإثبات.
لقد ساهم الاجتهاد القضائي في تدعيم مركز المتعرض على مستوى الإثبات من خلال تمكين المتعرض من إعداد وسائل إثباته، عبر الترخيص له بتقديم حججه وأدلته حتى أثناء المرحلة القضائية، (الفقرة الأولى)، كما تعزز هذا التدعيم من خلال إقرار نوع من المساواة على مستوى فحص حجج ورسوم طرفي الخصومة بهدف الترجيح بينها على أساس قوة إثبات كل رسم أو حجة، (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تمكين المتعرض من إعداد وسائل الإثبات.
اقتضت خصوصيات رفع دعوى التعرض ضرورة إرفاقها بمختلف الوثائق والحجج المؤيدة لادعاءات المدعي ابتداء على المستوى الإداري، أي أمام المحافظ العقاري باعتباره المختص الأصيل في تلقي التعرضات وإحالتها على المحكمة، وقد أعطى المشرع صلاحية واسعة للمحافظ بشأن التقرير في مصير التعرض غير المدعم بالحجج، إذ بإمكانه التشطيب عن التعرض المودع بعد إنذار المتعرض بضرورة الإدلاء بما يؤيد تعرضه وعدم اقترانه بأية نتيجة إيجابية، وهو الإنذار الذي يضمنه تحذيرا بعدم قبول محكمة التحفيظ لأي رسم أو وثيقة بعد إحالة الملف عليها، وهذا ما نص عليه المشرع حيث نص المقطع الأخير من الفقرة الأولى من الفصل 32 من ظ ت ع على الضابط التالي "...يوجه المحافظ للمرة الأخيرة إنذارا للمتعرضين لكي يقدموا للمحافظة داخل أجل ثلاثة أشهر، الوثائق والرسوم المؤيدة لتعرضهم ويشعرهم بأن المحكمة لن تقبل منهم أي رسم أو وثيقة".
وقد تمسك القضاء المغربي بحرفية النص المؤطر لقيد وضابط الإدلاء بالحجج أمام المحافظ، وهو ما أدى به إلى رفض وعدم قبول أي مستند أو حجة تقدم إليه أثناء نظره لنزاع التعرض.
بيد أن هذا الموقف القضائي السلبي المتماهي مع الموقف التشريعي المضمن بنص الفصل 32 من ظ ت ع لا ينسجم بتاتا مع الدور الحمائي للتعرض، بل كثيرا ما يضرب مبدأ الحق في الدفاع في الصميم، ويكرس وضع قيود غير مبررة أمام المتعرض تحول دون حصوله على الحماية القضائية لحقه.
مراعاة منه لسلبية الآثار الناجمة عن رفض الحجج المقدمة بمناسبة نظر نزاع التعرض قضائيا، بدأ القضاء وخاصة المجلس الأعلى يخفف من قساوة وصرامة هذا المقتضى القانوني، حيث أصدر عدة قرارات ذات حمولة اجتهادية تحض على ضرورة بسط سلطات محكمة التحفيظ العقاري لتلقي الحجج والمستندات المقدمة إليها في أي مرحلة من مراحل التقاضي أمام درجتي محكمة الموضوع، انطلاقا من أن الخصوم لا يفكرون بصفة جدية في إقامة هذه الحجج إلا بمناسبة النزاع الذي قد يفرض عليهم، كما هو الحال بالنسبة لنزاع التحفيظ العقاري الشيء الذي سمح لعدة مواطنين بالدفاع عن حقوقهم وصيانتها ، والتي كثيرا ما كانت تضيع وتهدر في ظل الموقف السابق.
ولإبراز ملامح من هذا الاجتهاد القضائي الهام الذي ينزع نحو إقرار نوع من المساواة بين المراكز القانونية للأطراف على مستوى الإثبات أشير إلى قرار المجلس الأعلى الذي رد ما عابه الطاعن من خرق الفصل 32 من ظ ت ع بعد قبول المحكمة المصدرة للحكم المطعون فيه لوثائق جديدة مقدمة من طرف المتعرض بالقول "لكن ردا على الوسيلة بفرعيها، فمن جهة ...، ومن جهة ثانية، فإنه ليس هناك ما يمنع المحكمة من قبول الحجج المدلى بها من الأطراف أمامها واعتمادها في قضاءها، ولذلك فهي لما ردت الدفع بكونها لا تبت في أجل التعرض واعتمدت الحجج المدلى بها أمامها لأول مرة فهي لم تخرق المقتضيات المذكورة..."
ويعد هذا القرار تكريسا وترسيخا للموقف الذي عبر عليه المجس الأعلى في عدة قرارات سابقة، خاصة تلك التي نقض بمقتضاها قرارات محاكم الموضوع الرافضة لبسط رقابتها وفحصها للرسوم المدلى بها أمامها لأول مرة والتي من شأنها أن تحسم النزاع لصالح المتعرض .
وإذا كان المجلس الأعلى يجيز لمحاكم الموضوع وهي تنظر نزاع التحفيظ الناتج عن التعرض بأن تقبل أي مستند أو حجة أو وثيقة إثباتية جديدة ولو لم تقدم أمام المحافظ العقاري، فلم يشترط أن تكون البينة أو الحجة المقدمة قد أقيمت بعد نشوب النزاع، أو بمناسبته، كما لم يحدد أو يحصر نوعية وطبيعة الحجج المسموح بقبولها أثناء المرحلة القضائية للتحفيظ، وهذا ما يتضح جليا من خلال قرار المجلس الأعلى، الذي زاوج فيه بين خضوع منازعات التحفيظ العقاري للفقه الإسلامي واعتبار اللفيف إحدى وسائل الإثبات الشرعية في هذا المجال، وبين تقييد سلطة المحكمة في استبعاد الدليل، وخاصة اللفيف بحجة إقامته بعد نشوب النزاع، ومما جاء في هذا القرار "... إن المحكمة عندما استبعدت لفيف المتعرضين بحجة أنه أقيم بعد نشوب الخصومة تكون قد خرقت هذه المبادئ، إذ الحجة تقام عادة وشرعا بعد تكليف المدعي بإثبات دعواه، وأن بينة اللفيف هي إحدى وسائل الإثبات" .
وفي الحقيقة، فإن قرار المجلس الأعلى المذكور ذو حمولة اجتهادية ذات أبعاد حمائية معتبرة، إذ راعى اعتبارات واقع العقارات غير المحفظة أو التي في طور التحفيظ والتي تفتقد إلى سند حاسم يثبت ملكيتها، ذلك أن المالكين يفتقدون في الغالب الأعم لسندات وحجج مثبتة للتملك بل يرتكزون إلى مجرد وضع اليد والتصرف، حتى إذا تعرضت ملكيتهم للاعتداء عليها من طرف الأغيار سارعوا آنذاك إلى إقامة الحجة المكرسة للحيازة وخاصة شهادة اللفيف، مما ارتأى معه المجلس الأعلى نقض القرار المطعون فيه الذي استبعد شهادة اللفيف المقدمة من المتعرضين بحجة إقامته بعد نشوب النزاع.
والواقع، أن توجه المجلس الأعلى ومحاكم الموضوع الذي يسمح بتقديم الحجج أثناء المرحلة القضائية للتحفيظ قد كسر عدم منطقية نص الفصل 32 من ت ع، ذلك أن النزاع المستمر أمام القضاء يكون موضع تحقيق ومداولة، وبالتالي فلم يكن بالوسع من الناحية العملية رفض الوثائق، والحجج المقدمة للقضاء أثناء ذلك، إذ ما يكون موقف هذا الأخير إذا قدمت له أثناء نظر النزاع وثيقة من شأنها تحوير مجرى الحق؟.
فالموقف السابق للقضاء المغربي والذي كان مكرسا بشكل خاص من قبل المحاكم العصرية إنما هو تحكم يراد به حرمان المواطنين من أراضيهم لفائدة الأجنبي الذي كان يستغل سذاجتهم والعمل القضائي المذكور للاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي .
ولذلك فإن مثل هذا التطور في الموقف القضائي وفي نظرة القضاء لمضمون التحفيظ العقاري ولطبيعة النزاع الذي يكتسيه، لمن شأنه أن يساهم إلى حد كبير في صيانة مبادئ حماية الملكية العقارية، ومنح الفرصة للمالك الحقيقي لإبراز حقوقه والدفاع عنها قبل ان يصبح تحت طائلة قاعدة التطهير المطلق للحقوق المحفظة.
والواقع، أن توجه المجلس الأعلى ينطوي على حماية مزدوجة، فقد ساهم ضمنيا في تقييد سلطة المحافظ في التشطيب عن التعرض غير المعضد بالحجج، فلم يعد المحافظون في الغالب الأعم يفعلون تلك الصلاحية، بل يتركون الفرصة للمتعرضين لإعداد وسائل إثباتهم، بالإضافة إلى تخفيف هذا التوجه من صرامة نص الفصل 32 من ظ ت ع، عن طريق قبول المستندات المقدمة من طرف المتعرضين خلال المرحلة القضائية، من منطلق تفسيره الإيجابي لنص الفصل 34 من ظ ت ع في فقرته الأخيرة .
وإذا كان قبول محكمة التحفيظ لحجج ومستندات جديدة ولو لم تقدم أمام المحافظ يتصادم مع أحكام الفقرة الأولى من الفصل 32 من ظ ت ع، فإن هذا التصادم تخف حدته، في اعتقادي، مع مقتضيات الفصل 34 من ظ ت ع، التي خولت لمحكمة التحفيظ سلطات وصلاحيات واسعة بهدف الوصول إلى الحقيقة، وذلك بتلقي جميع التصريحات والشهادات والاستماع إلى الشهود...، فالاستماع إلى الشهود مثلا، يحمل إجازة ضمنية لمحكمة التحفيظ لتلقي الحجج والمستندات الثبوتية على اختلاف أنواعها.
الفقرة الثانية: إقرار المساواة على مستوى تقدير القيمة الإثباتية للحجج.
لئن كانت الصيغة القاطعة لنص الفصل 37 من ظ ت ع تؤكد انتفاء اختصاص محكمة التحفيظ بخصوص النظر في أساس مطلب التحفيظ والتقرير فيه إيجابا أو سلبا، بل تجعل ذلك مقصورا على السيد المحافظ العقاري بعد إحالة الملف عليه، فإن الاجتهاد القضائي وبالأخص المتمخض عن عمل المجلس الأعلى والمترجم على مستوى عدة قرارات صادرة عنه، حاول إقرار قواعد قضائية ذات نفحة اجتهادية منطوية على مضامين حمائية معززة، موجهة ومؤطرة بمبدأ المساواة على مستوى فحص حجج أطراف الخصومة، وهو ما تمظهر من خلال تأييده لأحكام وقرارات محاكم الموضوع التي بسطت رقابتها على حجج طالب التحفيظ، مقدرة ومقيمة لقيمتها ودرجتها الثبوتية، وهو تقييم يفرضه من زاوية أخرى تقييم حجج المتعرض، ذلك أنه ليس من العدالة في شيء تقدير الدرجة الثبوتية لحجج المتعرض، وإن كان مدعيا ملزما بالإثبات، بمعزل عن حجج طالب التحفيظ باعتباره مدعى عليه معفى، مبدئيا، من الإثبات.
ولذلك، فإن التقييم العادل لحجج الأطراف في نزاع التعرض سيؤدي لا محالة إلى فصل موضوعي وجوهري وشمولي في الحق المدعى فيه، إذ لم يكن هناك داع للتمييز بين وضعيتين لم يكن في الواقع أن يميز بينهما سوى قوة ومتانة مستندات وحجج كل طرف من أطراف النزاع .
وحتى لا يبقى هذا الحكم مجرد حكم نظري مفتقد لدليل واقعي عملي، لا بد من استعراض الملامح الجوهرية للاجتهاد القضائي بخصوص هذه المسألة، وفي هذا الصدد أشير إلى قرار نموذجي للمجلس الأعلى يمكن القول أنه شكل المنطلق لبلورة التوجه الاجتهادي المذكور، حيث رد هذا القرار ما عابه الطاعن على قضاة الموضوع من خرقهم لقواعد الإثبات في مادة التحفيظ العقاري بالقول "لكن، حيث إن كان الفصل 37 من ظ ت ع ينص على أن المحكمة تبت فيما يخص وجود الحق المدعى به من قبل المتعرضين ونوعه ومحتواه ومداه، إلا أن هذا النص لا يمنع قضاة الموضوع من فحص الرسوم المستدل بها سواء من طرف طالب التحفيظ أو من المتعرض ليقارنوا بين قوة إثبات كل رسم، وذلك بما يملكون من كامل السلطة في هذا الشأن..."
واضح إذن، أن هذا القرار قد ساوى من حيث تقدير وفحص الحجج بين طرفي الخصومة دون ميز من زاوية المركز القانوني للأطراف في الدعوى.
بيد أن اجتهاد المجلس الأعلى ارتقى إلى درجة إلزام محاكم الموضوع بدراسة حجج طالب التحفيظ وتقييمها والتعرض لقوتها الثبوتية بالاستناد إلى الأسس القانونية والفقهية حالة استبعاد حجج المتعرضين ، وفي حالة عدم إدلائهم بالحجج بالمرة وهو ما يترجم التطور النوعي في تعامل القضاء المغربي مع مسألة توزيع وسائل الإثبات بين طرفي مسطرة التحفيظ، إذ أنه رغم استقراره لفترة طويلة على مبدأ إلقاء عبء الإثبات على عاتق المتعرض وفي كل الأحوال ، وهو ما كان يؤدي حتما إلى رفض التعرض عند عدم تعزيزه بالوثائق المؤيدة له بغض النظر عن ثبوت أحقية أو عدم أحقية طالب التحفيظ، فإنه وقع تطور هام في هذا الشأن، حيث أصبح القضاء يرى من الضروري فحص حجج طالب التحفيظ ولو لم يعزز المتعرض موقفه وتعرضه بأية حجة ، أو في حالة تعذر فحص حجج المتعرض حيث يغدو لازما الرجوع إلى حجج طالب التحفيظ .
والواقع أن هذا التوجه القضائي فضلا عن تحقيقه لمبادئ العدالة، فإنه دون شك سيساعد المحافظ على اتخاذ قرار سليم بخصوص مطلب التحفيظ في حالة القضاء بعدم صحة التعرض، إذ أن فحص حجج طالب التحفيظ رغم عدم صحة التعرضات وتقييمها، يحمل على أن لمحكمة التحفيظ دور في تحديد مسار عملية التحفيظ، وأن المحافظ برغم صلاحياته الواسعة متأثر لا محالة بالنتائج التي وصلت إليها محكمة التحفيظ من خلال دراسته لأساس مطلب التحفيظ ، وهو ما يكرس فعلا على مستوى الممارسة العملية.
بل وحتى إذا ادعى طالب التحفيظ الحيازة واعترف المتعرضين بها فلا بد من الرجوع إلى السند الذي عزز به طالب التحفيظ مطلبه لتقارنه مع حجة المتعرضين.
بل إن محاسن هذا التوجه الجديد في القضاء المغربي الذي يبدو أنه بدأ يتبلور لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تمتد لتكرس شعورا متزايدا بضرورة تعزيز صلاحيات وسلطات محكمة التحفيظ وتوسيعها في أفق جعل التحفيظ العقاري تحفيظا قضائيا وهو ما من شأنه أن يحد نسبيا من مختلف الإشكالات المثارة في ظل الوضع القانوني الراهن للتحفيظ بالمغرب.
واضح إذن، أن الاجتهاد القضائي خاصة المتمخض عن عمل المجلس الأعلى شكل تحولا مهما واعتبر تطورا كبيرا في موقف أعلى مؤسسة قضائية من مسألة اختصاص محكمة التحفيظ وعبء الإثبات بشكل خاص، وهو تحول محمود ذو دلالات معلومة متصلة أساسا بإقرار نوع من التوازن بين أطراف الخصومة في نزاع التحفيظ، وتوسيع صلاحية محكمة التحفيظ وهي تبت في دعوى التعرض، لصياغة أحكام وقرارات أكثر موضوعية، وهو ما يفرض على محاكم الموضوع، تكريسا لهذا التوجه الأخذ به حفاظا على مبادئ العدالة، ودفعا للظلم عن المتعرض وخاصة الحائز والحسن النية، والذي لا يستطيع إثبات تعرضه بحجج قوية، وزعزعة للموقع المريح لطالب التحفيظ الناتج عن سبقيته في إيداع مطلب التحفيظ، والكل لتوجيه استعمال حق التحفيظ وإضفاء الجدية على ممارسته.
ولذا، فإن تعديلا تشريعيا بات ضروريا وذلك بالشكل الذي يعطي للقضاء فعلا سلطة البت بشكل شمولي في منازعات التحفيظ العقاري وإن كان ذلك بعيد المنال في الوقت الراهن .
الفرع الثاني: دورالاجتهاد القضائي في إقرار توزيع عادل لعبء الإثبات في مادة التعرضات.
إن دور الاجتهاد القضائي في إقرار نوع من التوزيع العادل لعبء الإثبات في مادة التعرض تمظهر على مستوى قلب عبء الإثبات على عاتق طالب التحفيظ في بعض الحالات، خاصة عندما تكون الحيازة بيد المتعرض، (الفقرة الأولى) هذه الأخيرة التي عمل القضاء على تعزيز قيمتها الإثباتية أثناء فحص الحجج والترجيح بين قوتها ودرجتها الثبوتية في خضم تحقيق الدعوى والبحث عن الحل (الفقرة الثانية
الفقرة الأولى: قلب عبء الإثبات وأثره على حق المتعرض ومركزه.
إذا كان أهم مبدأ استخلصه الاجتهاد القضائي من الفصل 37 من ظ ت ع المؤطر لاختصاصات محكمة التحفيظ هو اعتبار المتعرض بمثابة مدع، وبالتالي يقع عليه الإثبات، وهي قاعدة رئيسية تفرعت عنها قواعد ثانوية ، فإن نفس الاجتهاد حاول الحد من إطلاقية هذه القاعدة متأثرا بضرورة إقرار نوع من التوازن على مستوى توزيع عبء الإثبات ووسائله على أطراف الخصومة في دعوى التعرض، وعدم إعفاء أحدهم وخاصة طالب التحفيظ منه بناء على أسس ومبررات ذات صلة بالظروف التاريخية النازعة نحو تشجيع التحفيظ على حساب حقوق الغير، وذلك بالاعتراف بمركز المدعى عليه المعفي من الإثبات لطالب التحفيظ.
وقد مرت عملية التلطيف من إطلاقية القاعدة المذكورة، من عدة محطات، حاول الاجتهاد القضائي عبرها صياغة قواعد اجتهادية مقيدة للآثار الناجمة عن اعتبار المتعرض مدع ملزم بالإثبات وإعفاء طالب التحفيظ منه باعتباره مدعى عليه طالما أن المتعرض لم يثبت ادعاءاته بحجج قوية.
وقد كانت أول خطوة في هذا الاجتهاد تلك التي ألزم من خلالها المجلس الأعلى محاكم الموضوع بضرورة فحص حجج طالب التحفيظ ولو لم يدعم المتعرض ادعاءه بحجج قوية، أو لم تعتبر المحكمة حجج المتعرض، إذ لا بد من الرجوع إلى حجج طالب التحفيظ وتقييمها للوصول إلى تحقيق موضوعي وحقيقي للنزاع، وهو ما شكل الإرهاصات الأولية لإقرار نوع من التوازن على مستوى توزيع عبء الإثبات، غير أن المتعرض كان دائما هو الملزم بالإدلاء أولا بوثائق إثباته، فلم يتجرأ القضاء برغم ذلك على قلب عبء الإثبات بشكل صريح على عاتق طالب التحفيظ.
بيد أن الاجتهاد القضائي حاول قلب عبء الإثبات جاعلا إياه واقعا على طالب التحفيظ، وهو ما يتبدى بشكل جلي في حالة التعرض على تحفيظ ملك مشاع يدعى طالب التحفيظ بأنه مفرز، إذ أن المتعرض يعفى من الإثبات، فيكفي أن يدفع بالصفة المشتركة للملك حتى يصار إلى تكليف طالب التحفيظ بإثبات الصفة المفرزة لما يطلب تحفيظه .
إذ أن تقدم طالب التحفيظ بطلب تحفيظ عقار بصفته مالكا منفردا له، رغم طابعه المشاع يجعل القضاء يعامل طالب التحفيظ هذا بنقيض قصده، من خلال إلزامه بالإثبات استثناء من قاعدة إلزام المتعرض باعتباره مدعيا، إذ يكفي هذا الأخير بأن يدفع بالصفة المشتركة للعقار موضوع التحفيظ، حتى يصار إلى تكليف طالب التحفيظ بإثبات وقوع القسمة واختصاصه بالجزء المطلوب تحفيظه طالما أن الشياع ينفي الاختصاص والتفرد.
وقد وجد لهذا الاجتهاد الصادر عن المجلس الأعلى صدى له على مستوى محاكم الموضوع، وفي هذا السياق أستحضر حكما ابتدائيا جسد بوضوح تام ما ذهب إليه المجلس الأعلى في القرار المذكور، من خلال حيثيتين جاء في الأولى منهما ما يلي "وحيث لئن كان الاجتهاد القضائي قد استقر اعتمادا على مقتضى الفقرة الثانية من الفصل 37 من ظ ت ع، على أن المتعرض هو الملزم بإثبات صحة الحق العيني الذي يدعيه، فإنه وضع استثناءات لهذه القاعدة منها أن طالب التحفيظ مدعي القسمة هو الملزم بإثباتها استصحابا لحالة الشياع..."
وجاء في الحيثية الثانية ما يلي "وحيث إن تمسك طالب التحفيظ بقيام حالة الشياع بين موروثي الطرفين في جميع العقارات التي اكتسبها أو أورثاها من والدهما أينما وجدت بما في ذلك طبعا العقار المدعى فيه حسبما هو منصوص عليه في رسم اللفيف يجعلهم في حكم المدعين اللذين يلقى عليهم عبء الإثبات".
والواقع، أنه في نازلة الحال، تقدم طالبو التحفيظ بمطلب تحفيظ عقار على أساس أنه مفرز وملك خاص لهم، وأثناء جريان الدعوى أثاروا في إحدى مذكراتهم بأن ذلك العقار مشاع بين موروثهم وموروث المتعرضين، مما يحمل على أنهم أقروا ضمنيا بملكية المتعرضين، ولما عجزوا عن إثبات وجود حالة الشياع فإن المحكمة قضت بالحيثية التالية "وحيث إنه لما كان طالبوا التحفيظ قد اقروا بالملكية للمتعرضين، ولم يثبتوا الشيوع الذي تمسكوا به وكانت حيازة المتعرضين للعقار ثابتة، فإن التعرض يكون تبعا لذلك مبنيا على أساس ويتعين الحكم بصحته" .
وفي الحقيقة، فإن الحكم المذكور قد أقر استثناء آخرا على قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات باعتباره مدع، وهي تمسك طالب التحفيظ بالصفة المشتركة للملك موضوع مطلب التحفيظ حيث يغدو في هذه الحالة مكلفا بإثبات قيام حالة الشياع، وهو ما كان المجلس الأعلى قد أقره من خلال العديد من قراراته .
بيد أن الاستثناءات المذكورة لم تكن الوحيدة المقيدة لإطلاقية قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات باعتباره مدعيا، بل إن المجلس الأعلى ومن بعده محاكم الموضوع جعلا من عنصر الحيازة الثابتة للمتعرض سببا ومؤشرا لنقل عبء الإثبات لطالب التحفيظ وقلبه عليه، وذلك من خلال عدة قرارات أمثل لها بقرار هام جاء في العلة التي نقض بموجبها قرار لمحكمة الاستيناف ما يلي "إن المدعى فيه عندما تثبت حيازته للطرف المتعرض بمقتضى حكم فإن عبء إثبات استحقاقه يقع على عاتق طالب التحفيظ غير الحائز" ، وهو التوجه الذي كان أكثر صراحة في قرار حديث نسبيا للمجلس الأعلى والمصاغ في حيثية من بين ما جاء فيها "...وإن مبدأ اعتبار المتعرض في وضعية المدعي لا يطبق عندما يكون هذا الأخيرهو الحائز لعقار النزاع، إذ لا يمكن أن يطلب شخص شيئا وهو في يده " وقد انعكس هذا التوجه بشكل واضح على عمل محاكم الموضوع حيث ذهبت ابتدائية الناظور بواسطة حكم لها في نفس التوجه عندما قضت بحيثية جاء فيها "وحيث إن المقرر قضاء أن المتعرض على مطلب التحفيظ الحائز للمدعى فيه تكفيه حيازته، وعلى طالب التحفيظ غير الحائز إثبات استحقاقه له" .
وفي ضوء هذا التوجه القضائي يتضح دور الحيازة في تجسيد وتحصين الوظيفة الحمائية للتعرض، إذ جعلها القضاء إحدى العناصر المحورة للجهة المكلفة بالإثبات في دعوى التعرض حيث يغدو من تعوزه مطوقا بعبئه.
وفي نهاية هذه الفقرة، وفي سياق تعداد استثناءات قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات أشير إلى قرار قديم صادر عن المجلس الأعلى نقل من خلاله عبء الإثبات من المتعرضة (مديرية المياه والغابات) (والتي دفعت أمام محكمة التحفيظ بأن الملك الغابوي يعد ملكا للدولة دون أن تدل بأي رسم مثبت لتعرضها) إلى طالب التحفيظ، حيث حض محكمة الموضوع على دراسة حججه وتقديرها، والتأكد من مدى انطباقها على العقار موضوع مطلب تحفيظه، مما اعتبر تطورا نوعيا في مسألة عبء الإثبات.
الفقرة الثانية: تعزيز القيمة الإثباتية لحيازة المتعرض ضمن أدلة الإثبات.
إذا كان النظام القانوني للعقار في طور التحفيظ لا يعترف للمتعرض وخاصة الحائز بمركز قانوني يعفيه، مبدئيا، من الإثبات، على خلاف قواعد الفقه الإسلامي التي تعترف للحائز بمركز المدعى عليه المعفي من الإثبات، من حيث الأصل، في إطار دعوى استحقاق العقار غير المحفظ، فإن الأمر يفرض معالجة مكانة وموقع حيازة المتعرض في كسب معركة الإثبات لصالحه، فهل الدفع بالحيازة يقنع محكمة التحفيظ بتقدير حجج طالب التحفيظ، حتى إذا اقتنعت بمحدودية قوتها الثبوتية رجحت جانب من بيده الحيازة، وهل للحيازة دورا ما في تحديد المدعي من المدعى عليه ؟.
وإذا كان الاجتهاد القضائي قد نحا نحو إقرار نوع من التوازن على مستوى فحص الحجج المدلى بها من قبل طرفي دعوى التعرض: المتعرض وطالب التحفيظ، فما موقع الحيازة في عملية الترجيح والمفاضلة بين البينات والحجج؟ وهل تكتسي الحيازة دورا معينا حالة غيبة الحجج وانعدامها أو في حالة فسادها؟.
إن هذه الأسئلة المطروحة لا بد من ملامسة إجاباتها في ضوء توجهات واجتهادات المجلس الأعلى ومن بعده محاكم الموضوع، وفي هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى ما يلي "...وإن مبدأ اعتبار المتعرض في وضعية المدعي لا يطبق عندما يكون هذا الأخيرهو الحائز لعقار النزاع، إذ لا يمكن أن يطلب شخص شيئا وهو في يده " وجاء في قرار اَخر حيث صح ما عابه الطاعن على القرار ذلك أنه علل قضاءه أعلاه بأنه "باعتباره متعرضا لم يدل بما يثبت تملكه لموضوع النزاع بحجة معتبرة شرعا لكون العقد العرفي المبرم بينه وبين البائع بتاريخ 12/07/1957 غير وارد في الشكل الذي يوجبه الفصل 489 من ق ل ع، وهو إجراؤه كتابة في محرر ثابت التاريخ"، في حين أن الطاعن تمسك بحيازته للمدعى فيه منذ تاريخ شرائه إياه، وأن عقد الشراء المذكور هو عقد رسمي ومحرر ثابت التاريخ من طرف الموثق وأن الحيازة قرينة على الملك خاصة إذا كانت مبنية على سند وأنه لا ينتزع الشيء من يد حائزه إلا بحجة قوية" .
وإذا كان القرار المذكور قد اعتد بالحيازة ورتب عليها آثارا قانونية من حيث إنها عاملة فيما يتعلق بالتملك، خاصة إذا ارتكزت على رسم أو سند معين ، فإن المجلس الأعلى قد سبق له أن اعتد بالحيازة وأقر أهليتها في إنتاج الآثار القانونية حتى ولو لم تكن مرتكزة على أي رسم ، وهو ما نلمسه في قرار آخر الذي أقر بأن الحيازة التي يتوفر عليها المتعرضون تشكل حجة قانونية لصالحهم بصفتهم مدعين يرجح جانبهم بمقتضاها عملا بقاعدة ولا ينزع من يد حائز ، وهو قرار استبعد ملكية طالبي التحفيظ التي حالت موانع دون الأخذ بها حيث أفقدتها الحجية في النزاع فلم ينفع والحالة هذه سوى اللجوء إلى الحيازة والتصرف الذين كانا بيد المتعرضين .
والواقع، أن القرار المذكور قد جسد فعلا أثر حيازة العقار في ترجيح البينات، وحسم مادة النزاع لصالح المتعرض، وقد ذهب المجلس الأعلى أبعد من ذلك، عندما اعتد بمطلق الحيازة ورجح بموجبه كافة المتعرضين، إذ لم يشترط ضرورة توافر الحيازة على شروطها كاملة حتى تكسب مركزا قانونيا يخول للمتعرض؛ ولو أنه مدع حسم النزاع لفائدته، وفي هذا السياق أستحضر قرار المجلس الأعلى الذي أكد أن محكمة الموضوع التي لم يثبت لديها أصل الملك لمن هو، طالما أن طالب التحفيظ لم يثبت شراءه، لم يكن من الواجب عليها، والحالة هذه، أن تنص على شروط الحيازة القاطعة التي اعترفت بها للمتعرضة بل صادفت الصواب عندما اقتصرت على مطلق الحيازة .
وهو الموقف الذي اتضح أكثر من خلال حيثية قرار المجلس الأعلى التي جاء فيها "حيث إن الحيازة نفسها التي ارتكزت عليها المحكمة لم تكن ضرورية لقيام الحجة لأنه ما دام لم يثبت أي حق لطالبي التحفيظ ولم يدلو بأي سند صحيح فإن مجرد وضع اليد كاف فأحرى إذا تعلق الأمر كما هو الحال في النازلة بتصرف طويل معترف به من لدن طالبي التحفيظ كما ورد في الحكم ...".
واضح إذن، أن المجلس الأعلى اكتفى فقط بوضع اليد ، وأقر بمركزه في توجيه الإثبات وفي حسمه لصالح المتعرض، ولم يلتفت لشرط مرور المدة ولا لبقية الشروط الأخرى بعد إبعاد رسم طالبي التحفيظ من المناقشة.
ويبدو أن توجه المجلس الأعلى بخصوص هذه المسألة ذو امتداد على مستوى محاكم الموضوع، وأشير في هذا الإطار إلى حكم نموذجي للمحكمة الابتدائية بالناظور التي اعتمدت على اجتهاد المجلس الأعلى مصيغة الحيثية التالية" وحيث إن المقرر قضاء أن المتعرض على مطلب التحفيظ الحائز للمدعى فيه تكفيه حيازته وعلى طالب التحفيظ غير الحائز إثبات استحقاقه له" .
بيد أن حيازة المتعرض تغدو غير عاملة ولا منتجة إذا استندت إلى مدخل غير ناقل للملكية كالحراسة أو الإسكان .
خاتمة:
يتضح من خلال استعراض الملامح الجوهرية للإجتهاد القضائي في مسألة الإثبات في دعوى التعرض على التحفيظ التطور الحاصل في هذا الصدد، سواء فيما يتعلق بتمكين المتعرض من إعداد وسائل الإثبات، أم بتعيين مراكز أطراف الخصومة، أم بتحقيق وسائل إثباتهما بشكل عادل، أم من حيث توزيع عبء الإثبات عليهما، وهو التطور الذي يبدو بارزا فيما يتعلق بتعزيز القوة الإثباتية للحوز و الحيازة، وهو توجه وثيق الصلة بالدور التقليدي الممنوح للحيازة باعتبارها شاهد حال وعلى الوضع الظاهر،هذه القواعد الإجتهادية ذات النزوع الحمائي تكرس شعورا متزايدا بضرورة توسيع صلاحيات محكمة التحفيظ بخصوص دعوى التعرض بشكل يمكنها من الفصل فيها بشكل شمولي و موضوعي ومنصف تحقيقا للعدالة وتوخيا للفعالية القضائية.
تاريخ التوصل:23يوليوز2011
تاريخ النشر:23يوليوز2011
إذا كان القضاء المغربي قد استخلص من صلب الفصل 37 من ظ ت ع مجموعة من الضوابط خاصة تلك المتعلقة بتعيين المراكز القانونية لأطراف الخصومة في دعوى التعرض، وتوزيع عبء الإثبات عليهما، معتبرا المتعرض دائما وأبدا بمثابة المدعي المطوق بعبء الإثبات، والتي اتسمت بشكل عام بعدم المساواة وباختلال التوازن، بل وبحدة التعارض بينها وبين بعض قواعد الفقه الإسلامي المؤطرة لضوابط الإثبات في دعوى استحقاق العقار العادي، خاصة إذا كان المتعرض حائزا للمدعى فيه، فإن نفس القضاء، وعلى رأسه المجلس الأعلى، قد حاول من خلال عدة قرارات، صياغة مبادئ وقواعد ذات حمولة اجتهادية تأنف من صرامة القواعد المؤطرة للإثبات في مادة التعرض عن طريق تلطيفها، وتنزع نحو إقرار نوع من التوازن الكفيل بضمان حقوق أطراف الخصومة، والهادف إلى تحقيق موضوعي وعادل ومنصف للنزاع، في أفق إصدار أحكام وقرارات تدنو أكثر إلى الحقيقة، حقيقة تبقى وفي كل الأحوال نسبية وغير مطلقة.
هذه القواعد تعد بمثابة متغيرات على مستوى الإجتهاد القضائي المغربي بخصوص مسألة الإثبات في مادة التعرض على التحفيظ، وهي متغيرات اجتهادية تبدت ملامحها على مستوى تمكين المتعرض من إعداد وسائل إثباته، وإقرار نوع من الموازنة على مستوى فحص الحجج المقدمة من طرفي الخصومة، كما اتضحت من خلال قلب عبء الإثبات على عاتق طالب التحفيظ في بعض الحالات، وإعطاء حيازة المتعرض أو حوزه الدور الحاسم في كسب نتيجة الدعوى.
ولبحث جوانب من هذا الاجتهاد، وإبراز دوره في تدعيم مركز المتعرض، وأثره على التحقيق الموضوعي والمنصف لدعوى التعرض، آثرت توزيع البحث في هذا الموضوع إلى فرعين كالآتي:
الفرع الأول: دورالاجتهاد القضائي في تدعيم مركز المتعرض على مستوى الإثبات.
الفرع الثاني: دورالاجتهاد القضائي في إقرار توزيع عادل لعبء الإثبات في مادة التعرضات.
الفرع الأول: دورالاجتهاد القضائي في تدعيم مركز المتعرض على مستوى الإثبات.
لقد ساهم الاجتهاد القضائي في تدعيم مركز المتعرض على مستوى الإثبات من خلال تمكين المتعرض من إعداد وسائل إثباته، عبر الترخيص له بتقديم حججه وأدلته حتى أثناء المرحلة القضائية، (الفقرة الأولى)، كما تعزز هذا التدعيم من خلال إقرار نوع من المساواة على مستوى فحص حجج ورسوم طرفي الخصومة بهدف الترجيح بينها على أساس قوة إثبات كل رسم أو حجة، (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تمكين المتعرض من إعداد وسائل الإثبات.
اقتضت خصوصيات رفع دعوى التعرض ضرورة إرفاقها بمختلف الوثائق والحجج المؤيدة لادعاءات المدعي ابتداء على المستوى الإداري، أي أمام المحافظ العقاري باعتباره المختص الأصيل في تلقي التعرضات وإحالتها على المحكمة، وقد أعطى المشرع صلاحية واسعة للمحافظ بشأن التقرير في مصير التعرض غير المدعم بالحجج، إذ بإمكانه التشطيب عن التعرض المودع بعد إنذار المتعرض بضرورة الإدلاء بما يؤيد تعرضه وعدم اقترانه بأية نتيجة إيجابية، وهو الإنذار الذي يضمنه تحذيرا بعدم قبول محكمة التحفيظ لأي رسم أو وثيقة بعد إحالة الملف عليها، وهذا ما نص عليه المشرع حيث نص المقطع الأخير من الفقرة الأولى من الفصل 32 من ظ ت ع على الضابط التالي "...يوجه المحافظ للمرة الأخيرة إنذارا للمتعرضين لكي يقدموا للمحافظة داخل أجل ثلاثة أشهر، الوثائق والرسوم المؤيدة لتعرضهم ويشعرهم بأن المحكمة لن تقبل منهم أي رسم أو وثيقة".
وقد تمسك القضاء المغربي بحرفية النص المؤطر لقيد وضابط الإدلاء بالحجج أمام المحافظ، وهو ما أدى به إلى رفض وعدم قبول أي مستند أو حجة تقدم إليه أثناء نظره لنزاع التعرض.
بيد أن هذا الموقف القضائي السلبي المتماهي مع الموقف التشريعي المضمن بنص الفصل 32 من ظ ت ع لا ينسجم بتاتا مع الدور الحمائي للتعرض، بل كثيرا ما يضرب مبدأ الحق في الدفاع في الصميم، ويكرس وضع قيود غير مبررة أمام المتعرض تحول دون حصوله على الحماية القضائية لحقه.
مراعاة منه لسلبية الآثار الناجمة عن رفض الحجج المقدمة بمناسبة نظر نزاع التعرض قضائيا، بدأ القضاء وخاصة المجلس الأعلى يخفف من قساوة وصرامة هذا المقتضى القانوني، حيث أصدر عدة قرارات ذات حمولة اجتهادية تحض على ضرورة بسط سلطات محكمة التحفيظ العقاري لتلقي الحجج والمستندات المقدمة إليها في أي مرحلة من مراحل التقاضي أمام درجتي محكمة الموضوع، انطلاقا من أن الخصوم لا يفكرون بصفة جدية في إقامة هذه الحجج إلا بمناسبة النزاع الذي قد يفرض عليهم، كما هو الحال بالنسبة لنزاع التحفيظ العقاري الشيء الذي سمح لعدة مواطنين بالدفاع عن حقوقهم وصيانتها ، والتي كثيرا ما كانت تضيع وتهدر في ظل الموقف السابق.
ولإبراز ملامح من هذا الاجتهاد القضائي الهام الذي ينزع نحو إقرار نوع من المساواة بين المراكز القانونية للأطراف على مستوى الإثبات أشير إلى قرار المجلس الأعلى الذي رد ما عابه الطاعن من خرق الفصل 32 من ظ ت ع بعد قبول المحكمة المصدرة للحكم المطعون فيه لوثائق جديدة مقدمة من طرف المتعرض بالقول "لكن ردا على الوسيلة بفرعيها، فمن جهة ...، ومن جهة ثانية، فإنه ليس هناك ما يمنع المحكمة من قبول الحجج المدلى بها من الأطراف أمامها واعتمادها في قضاءها، ولذلك فهي لما ردت الدفع بكونها لا تبت في أجل التعرض واعتمدت الحجج المدلى بها أمامها لأول مرة فهي لم تخرق المقتضيات المذكورة..."
ويعد هذا القرار تكريسا وترسيخا للموقف الذي عبر عليه المجس الأعلى في عدة قرارات سابقة، خاصة تلك التي نقض بمقتضاها قرارات محاكم الموضوع الرافضة لبسط رقابتها وفحصها للرسوم المدلى بها أمامها لأول مرة والتي من شأنها أن تحسم النزاع لصالح المتعرض .
وإذا كان المجلس الأعلى يجيز لمحاكم الموضوع وهي تنظر نزاع التحفيظ الناتج عن التعرض بأن تقبل أي مستند أو حجة أو وثيقة إثباتية جديدة ولو لم تقدم أمام المحافظ العقاري، فلم يشترط أن تكون البينة أو الحجة المقدمة قد أقيمت بعد نشوب النزاع، أو بمناسبته، كما لم يحدد أو يحصر نوعية وطبيعة الحجج المسموح بقبولها أثناء المرحلة القضائية للتحفيظ، وهذا ما يتضح جليا من خلال قرار المجلس الأعلى، الذي زاوج فيه بين خضوع منازعات التحفيظ العقاري للفقه الإسلامي واعتبار اللفيف إحدى وسائل الإثبات الشرعية في هذا المجال، وبين تقييد سلطة المحكمة في استبعاد الدليل، وخاصة اللفيف بحجة إقامته بعد نشوب النزاع، ومما جاء في هذا القرار "... إن المحكمة عندما استبعدت لفيف المتعرضين بحجة أنه أقيم بعد نشوب الخصومة تكون قد خرقت هذه المبادئ، إذ الحجة تقام عادة وشرعا بعد تكليف المدعي بإثبات دعواه، وأن بينة اللفيف هي إحدى وسائل الإثبات" .
وفي الحقيقة، فإن قرار المجلس الأعلى المذكور ذو حمولة اجتهادية ذات أبعاد حمائية معتبرة، إذ راعى اعتبارات واقع العقارات غير المحفظة أو التي في طور التحفيظ والتي تفتقد إلى سند حاسم يثبت ملكيتها، ذلك أن المالكين يفتقدون في الغالب الأعم لسندات وحجج مثبتة للتملك بل يرتكزون إلى مجرد وضع اليد والتصرف، حتى إذا تعرضت ملكيتهم للاعتداء عليها من طرف الأغيار سارعوا آنذاك إلى إقامة الحجة المكرسة للحيازة وخاصة شهادة اللفيف، مما ارتأى معه المجلس الأعلى نقض القرار المطعون فيه الذي استبعد شهادة اللفيف المقدمة من المتعرضين بحجة إقامته بعد نشوب النزاع.
والواقع، أن توجه المجلس الأعلى ومحاكم الموضوع الذي يسمح بتقديم الحجج أثناء المرحلة القضائية للتحفيظ قد كسر عدم منطقية نص الفصل 32 من ت ع، ذلك أن النزاع المستمر أمام القضاء يكون موضع تحقيق ومداولة، وبالتالي فلم يكن بالوسع من الناحية العملية رفض الوثائق، والحجج المقدمة للقضاء أثناء ذلك، إذ ما يكون موقف هذا الأخير إذا قدمت له أثناء نظر النزاع وثيقة من شأنها تحوير مجرى الحق؟.
فالموقف السابق للقضاء المغربي والذي كان مكرسا بشكل خاص من قبل المحاكم العصرية إنما هو تحكم يراد به حرمان المواطنين من أراضيهم لفائدة الأجنبي الذي كان يستغل سذاجتهم والعمل القضائي المذكور للاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي .
ولذلك فإن مثل هذا التطور في الموقف القضائي وفي نظرة القضاء لمضمون التحفيظ العقاري ولطبيعة النزاع الذي يكتسيه، لمن شأنه أن يساهم إلى حد كبير في صيانة مبادئ حماية الملكية العقارية، ومنح الفرصة للمالك الحقيقي لإبراز حقوقه والدفاع عنها قبل ان يصبح تحت طائلة قاعدة التطهير المطلق للحقوق المحفظة.
والواقع، أن توجه المجلس الأعلى ينطوي على حماية مزدوجة، فقد ساهم ضمنيا في تقييد سلطة المحافظ في التشطيب عن التعرض غير المعضد بالحجج، فلم يعد المحافظون في الغالب الأعم يفعلون تلك الصلاحية، بل يتركون الفرصة للمتعرضين لإعداد وسائل إثباتهم، بالإضافة إلى تخفيف هذا التوجه من صرامة نص الفصل 32 من ظ ت ع، عن طريق قبول المستندات المقدمة من طرف المتعرضين خلال المرحلة القضائية، من منطلق تفسيره الإيجابي لنص الفصل 34 من ظ ت ع في فقرته الأخيرة .
وإذا كان قبول محكمة التحفيظ لحجج ومستندات جديدة ولو لم تقدم أمام المحافظ يتصادم مع أحكام الفقرة الأولى من الفصل 32 من ظ ت ع، فإن هذا التصادم تخف حدته، في اعتقادي، مع مقتضيات الفصل 34 من ظ ت ع، التي خولت لمحكمة التحفيظ سلطات وصلاحيات واسعة بهدف الوصول إلى الحقيقة، وذلك بتلقي جميع التصريحات والشهادات والاستماع إلى الشهود...، فالاستماع إلى الشهود مثلا، يحمل إجازة ضمنية لمحكمة التحفيظ لتلقي الحجج والمستندات الثبوتية على اختلاف أنواعها.
الفقرة الثانية: إقرار المساواة على مستوى تقدير القيمة الإثباتية للحجج.
لئن كانت الصيغة القاطعة لنص الفصل 37 من ظ ت ع تؤكد انتفاء اختصاص محكمة التحفيظ بخصوص النظر في أساس مطلب التحفيظ والتقرير فيه إيجابا أو سلبا، بل تجعل ذلك مقصورا على السيد المحافظ العقاري بعد إحالة الملف عليه، فإن الاجتهاد القضائي وبالأخص المتمخض عن عمل المجلس الأعلى والمترجم على مستوى عدة قرارات صادرة عنه، حاول إقرار قواعد قضائية ذات نفحة اجتهادية منطوية على مضامين حمائية معززة، موجهة ومؤطرة بمبدأ المساواة على مستوى فحص حجج أطراف الخصومة، وهو ما تمظهر من خلال تأييده لأحكام وقرارات محاكم الموضوع التي بسطت رقابتها على حجج طالب التحفيظ، مقدرة ومقيمة لقيمتها ودرجتها الثبوتية، وهو تقييم يفرضه من زاوية أخرى تقييم حجج المتعرض، ذلك أنه ليس من العدالة في شيء تقدير الدرجة الثبوتية لحجج المتعرض، وإن كان مدعيا ملزما بالإثبات، بمعزل عن حجج طالب التحفيظ باعتباره مدعى عليه معفى، مبدئيا، من الإثبات.
ولذلك، فإن التقييم العادل لحجج الأطراف في نزاع التعرض سيؤدي لا محالة إلى فصل موضوعي وجوهري وشمولي في الحق المدعى فيه، إذ لم يكن هناك داع للتمييز بين وضعيتين لم يكن في الواقع أن يميز بينهما سوى قوة ومتانة مستندات وحجج كل طرف من أطراف النزاع .
وحتى لا يبقى هذا الحكم مجرد حكم نظري مفتقد لدليل واقعي عملي، لا بد من استعراض الملامح الجوهرية للاجتهاد القضائي بخصوص هذه المسألة، وفي هذا الصدد أشير إلى قرار نموذجي للمجلس الأعلى يمكن القول أنه شكل المنطلق لبلورة التوجه الاجتهادي المذكور، حيث رد هذا القرار ما عابه الطاعن على قضاة الموضوع من خرقهم لقواعد الإثبات في مادة التحفيظ العقاري بالقول "لكن، حيث إن كان الفصل 37 من ظ ت ع ينص على أن المحكمة تبت فيما يخص وجود الحق المدعى به من قبل المتعرضين ونوعه ومحتواه ومداه، إلا أن هذا النص لا يمنع قضاة الموضوع من فحص الرسوم المستدل بها سواء من طرف طالب التحفيظ أو من المتعرض ليقارنوا بين قوة إثبات كل رسم، وذلك بما يملكون من كامل السلطة في هذا الشأن..."
واضح إذن، أن هذا القرار قد ساوى من حيث تقدير وفحص الحجج بين طرفي الخصومة دون ميز من زاوية المركز القانوني للأطراف في الدعوى.
بيد أن اجتهاد المجلس الأعلى ارتقى إلى درجة إلزام محاكم الموضوع بدراسة حجج طالب التحفيظ وتقييمها والتعرض لقوتها الثبوتية بالاستناد إلى الأسس القانونية والفقهية حالة استبعاد حجج المتعرضين ، وفي حالة عدم إدلائهم بالحجج بالمرة وهو ما يترجم التطور النوعي في تعامل القضاء المغربي مع مسألة توزيع وسائل الإثبات بين طرفي مسطرة التحفيظ، إذ أنه رغم استقراره لفترة طويلة على مبدأ إلقاء عبء الإثبات على عاتق المتعرض وفي كل الأحوال ، وهو ما كان يؤدي حتما إلى رفض التعرض عند عدم تعزيزه بالوثائق المؤيدة له بغض النظر عن ثبوت أحقية أو عدم أحقية طالب التحفيظ، فإنه وقع تطور هام في هذا الشأن، حيث أصبح القضاء يرى من الضروري فحص حجج طالب التحفيظ ولو لم يعزز المتعرض موقفه وتعرضه بأية حجة ، أو في حالة تعذر فحص حجج المتعرض حيث يغدو لازما الرجوع إلى حجج طالب التحفيظ .
والواقع أن هذا التوجه القضائي فضلا عن تحقيقه لمبادئ العدالة، فإنه دون شك سيساعد المحافظ على اتخاذ قرار سليم بخصوص مطلب التحفيظ في حالة القضاء بعدم صحة التعرض، إذ أن فحص حجج طالب التحفيظ رغم عدم صحة التعرضات وتقييمها، يحمل على أن لمحكمة التحفيظ دور في تحديد مسار عملية التحفيظ، وأن المحافظ برغم صلاحياته الواسعة متأثر لا محالة بالنتائج التي وصلت إليها محكمة التحفيظ من خلال دراسته لأساس مطلب التحفيظ ، وهو ما يكرس فعلا على مستوى الممارسة العملية.
بل وحتى إذا ادعى طالب التحفيظ الحيازة واعترف المتعرضين بها فلا بد من الرجوع إلى السند الذي عزز به طالب التحفيظ مطلبه لتقارنه مع حجة المتعرضين.
بل إن محاسن هذا التوجه الجديد في القضاء المغربي الذي يبدو أنه بدأ يتبلور لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تمتد لتكرس شعورا متزايدا بضرورة تعزيز صلاحيات وسلطات محكمة التحفيظ وتوسيعها في أفق جعل التحفيظ العقاري تحفيظا قضائيا وهو ما من شأنه أن يحد نسبيا من مختلف الإشكالات المثارة في ظل الوضع القانوني الراهن للتحفيظ بالمغرب.
واضح إذن، أن الاجتهاد القضائي خاصة المتمخض عن عمل المجلس الأعلى شكل تحولا مهما واعتبر تطورا كبيرا في موقف أعلى مؤسسة قضائية من مسألة اختصاص محكمة التحفيظ وعبء الإثبات بشكل خاص، وهو تحول محمود ذو دلالات معلومة متصلة أساسا بإقرار نوع من التوازن بين أطراف الخصومة في نزاع التحفيظ، وتوسيع صلاحية محكمة التحفيظ وهي تبت في دعوى التعرض، لصياغة أحكام وقرارات أكثر موضوعية، وهو ما يفرض على محاكم الموضوع، تكريسا لهذا التوجه الأخذ به حفاظا على مبادئ العدالة، ودفعا للظلم عن المتعرض وخاصة الحائز والحسن النية، والذي لا يستطيع إثبات تعرضه بحجج قوية، وزعزعة للموقع المريح لطالب التحفيظ الناتج عن سبقيته في إيداع مطلب التحفيظ، والكل لتوجيه استعمال حق التحفيظ وإضفاء الجدية على ممارسته.
ولذا، فإن تعديلا تشريعيا بات ضروريا وذلك بالشكل الذي يعطي للقضاء فعلا سلطة البت بشكل شمولي في منازعات التحفيظ العقاري وإن كان ذلك بعيد المنال في الوقت الراهن .
الفرع الثاني: دورالاجتهاد القضائي في إقرار توزيع عادل لعبء الإثبات في مادة التعرضات.
إن دور الاجتهاد القضائي في إقرار نوع من التوزيع العادل لعبء الإثبات في مادة التعرض تمظهر على مستوى قلب عبء الإثبات على عاتق طالب التحفيظ في بعض الحالات، خاصة عندما تكون الحيازة بيد المتعرض، (الفقرة الأولى) هذه الأخيرة التي عمل القضاء على تعزيز قيمتها الإثباتية أثناء فحص الحجج والترجيح بين قوتها ودرجتها الثبوتية في خضم تحقيق الدعوى والبحث عن الحل (الفقرة الثانية
الفقرة الأولى: قلب عبء الإثبات وأثره على حق المتعرض ومركزه.
إذا كان أهم مبدأ استخلصه الاجتهاد القضائي من الفصل 37 من ظ ت ع المؤطر لاختصاصات محكمة التحفيظ هو اعتبار المتعرض بمثابة مدع، وبالتالي يقع عليه الإثبات، وهي قاعدة رئيسية تفرعت عنها قواعد ثانوية ، فإن نفس الاجتهاد حاول الحد من إطلاقية هذه القاعدة متأثرا بضرورة إقرار نوع من التوازن على مستوى توزيع عبء الإثبات ووسائله على أطراف الخصومة في دعوى التعرض، وعدم إعفاء أحدهم وخاصة طالب التحفيظ منه بناء على أسس ومبررات ذات صلة بالظروف التاريخية النازعة نحو تشجيع التحفيظ على حساب حقوق الغير، وذلك بالاعتراف بمركز المدعى عليه المعفي من الإثبات لطالب التحفيظ.
وقد مرت عملية التلطيف من إطلاقية القاعدة المذكورة، من عدة محطات، حاول الاجتهاد القضائي عبرها صياغة قواعد اجتهادية مقيدة للآثار الناجمة عن اعتبار المتعرض مدع ملزم بالإثبات وإعفاء طالب التحفيظ منه باعتباره مدعى عليه طالما أن المتعرض لم يثبت ادعاءاته بحجج قوية.
وقد كانت أول خطوة في هذا الاجتهاد تلك التي ألزم من خلالها المجلس الأعلى محاكم الموضوع بضرورة فحص حجج طالب التحفيظ ولو لم يدعم المتعرض ادعاءه بحجج قوية، أو لم تعتبر المحكمة حجج المتعرض، إذ لا بد من الرجوع إلى حجج طالب التحفيظ وتقييمها للوصول إلى تحقيق موضوعي وحقيقي للنزاع، وهو ما شكل الإرهاصات الأولية لإقرار نوع من التوازن على مستوى توزيع عبء الإثبات، غير أن المتعرض كان دائما هو الملزم بالإدلاء أولا بوثائق إثباته، فلم يتجرأ القضاء برغم ذلك على قلب عبء الإثبات بشكل صريح على عاتق طالب التحفيظ.
بيد أن الاجتهاد القضائي حاول قلب عبء الإثبات جاعلا إياه واقعا على طالب التحفيظ، وهو ما يتبدى بشكل جلي في حالة التعرض على تحفيظ ملك مشاع يدعى طالب التحفيظ بأنه مفرز، إذ أن المتعرض يعفى من الإثبات، فيكفي أن يدفع بالصفة المشتركة للملك حتى يصار إلى تكليف طالب التحفيظ بإثبات الصفة المفرزة لما يطلب تحفيظه .
إذ أن تقدم طالب التحفيظ بطلب تحفيظ عقار بصفته مالكا منفردا له، رغم طابعه المشاع يجعل القضاء يعامل طالب التحفيظ هذا بنقيض قصده، من خلال إلزامه بالإثبات استثناء من قاعدة إلزام المتعرض باعتباره مدعيا، إذ يكفي هذا الأخير بأن يدفع بالصفة المشتركة للعقار موضوع التحفيظ، حتى يصار إلى تكليف طالب التحفيظ بإثبات وقوع القسمة واختصاصه بالجزء المطلوب تحفيظه طالما أن الشياع ينفي الاختصاص والتفرد.
وقد وجد لهذا الاجتهاد الصادر عن المجلس الأعلى صدى له على مستوى محاكم الموضوع، وفي هذا السياق أستحضر حكما ابتدائيا جسد بوضوح تام ما ذهب إليه المجلس الأعلى في القرار المذكور، من خلال حيثيتين جاء في الأولى منهما ما يلي "وحيث لئن كان الاجتهاد القضائي قد استقر اعتمادا على مقتضى الفقرة الثانية من الفصل 37 من ظ ت ع، على أن المتعرض هو الملزم بإثبات صحة الحق العيني الذي يدعيه، فإنه وضع استثناءات لهذه القاعدة منها أن طالب التحفيظ مدعي القسمة هو الملزم بإثباتها استصحابا لحالة الشياع..."
وجاء في الحيثية الثانية ما يلي "وحيث إن تمسك طالب التحفيظ بقيام حالة الشياع بين موروثي الطرفين في جميع العقارات التي اكتسبها أو أورثاها من والدهما أينما وجدت بما في ذلك طبعا العقار المدعى فيه حسبما هو منصوص عليه في رسم اللفيف يجعلهم في حكم المدعين اللذين يلقى عليهم عبء الإثبات".
والواقع، أنه في نازلة الحال، تقدم طالبو التحفيظ بمطلب تحفيظ عقار على أساس أنه مفرز وملك خاص لهم، وأثناء جريان الدعوى أثاروا في إحدى مذكراتهم بأن ذلك العقار مشاع بين موروثهم وموروث المتعرضين، مما يحمل على أنهم أقروا ضمنيا بملكية المتعرضين، ولما عجزوا عن إثبات وجود حالة الشياع فإن المحكمة قضت بالحيثية التالية "وحيث إنه لما كان طالبوا التحفيظ قد اقروا بالملكية للمتعرضين، ولم يثبتوا الشيوع الذي تمسكوا به وكانت حيازة المتعرضين للعقار ثابتة، فإن التعرض يكون تبعا لذلك مبنيا على أساس ويتعين الحكم بصحته" .
وفي الحقيقة، فإن الحكم المذكور قد أقر استثناء آخرا على قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات باعتباره مدع، وهي تمسك طالب التحفيظ بالصفة المشتركة للملك موضوع مطلب التحفيظ حيث يغدو في هذه الحالة مكلفا بإثبات قيام حالة الشياع، وهو ما كان المجلس الأعلى قد أقره من خلال العديد من قراراته .
بيد أن الاستثناءات المذكورة لم تكن الوحيدة المقيدة لإطلاقية قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات باعتباره مدعيا، بل إن المجلس الأعلى ومن بعده محاكم الموضوع جعلا من عنصر الحيازة الثابتة للمتعرض سببا ومؤشرا لنقل عبء الإثبات لطالب التحفيظ وقلبه عليه، وذلك من خلال عدة قرارات أمثل لها بقرار هام جاء في العلة التي نقض بموجبها قرار لمحكمة الاستيناف ما يلي "إن المدعى فيه عندما تثبت حيازته للطرف المتعرض بمقتضى حكم فإن عبء إثبات استحقاقه يقع على عاتق طالب التحفيظ غير الحائز" ، وهو التوجه الذي كان أكثر صراحة في قرار حديث نسبيا للمجلس الأعلى والمصاغ في حيثية من بين ما جاء فيها "...وإن مبدأ اعتبار المتعرض في وضعية المدعي لا يطبق عندما يكون هذا الأخيرهو الحائز لعقار النزاع، إذ لا يمكن أن يطلب شخص شيئا وهو في يده " وقد انعكس هذا التوجه بشكل واضح على عمل محاكم الموضوع حيث ذهبت ابتدائية الناظور بواسطة حكم لها في نفس التوجه عندما قضت بحيثية جاء فيها "وحيث إن المقرر قضاء أن المتعرض على مطلب التحفيظ الحائز للمدعى فيه تكفيه حيازته، وعلى طالب التحفيظ غير الحائز إثبات استحقاقه له" .
وفي ضوء هذا التوجه القضائي يتضح دور الحيازة في تجسيد وتحصين الوظيفة الحمائية للتعرض، إذ جعلها القضاء إحدى العناصر المحورة للجهة المكلفة بالإثبات في دعوى التعرض حيث يغدو من تعوزه مطوقا بعبئه.
وفي نهاية هذه الفقرة، وفي سياق تعداد استثناءات قاعدة إلزام المتعرض بالإثبات أشير إلى قرار قديم صادر عن المجلس الأعلى نقل من خلاله عبء الإثبات من المتعرضة (مديرية المياه والغابات) (والتي دفعت أمام محكمة التحفيظ بأن الملك الغابوي يعد ملكا للدولة دون أن تدل بأي رسم مثبت لتعرضها) إلى طالب التحفيظ، حيث حض محكمة الموضوع على دراسة حججه وتقديرها، والتأكد من مدى انطباقها على العقار موضوع مطلب تحفيظه، مما اعتبر تطورا نوعيا في مسألة عبء الإثبات.
الفقرة الثانية: تعزيز القيمة الإثباتية لحيازة المتعرض ضمن أدلة الإثبات.
إذا كان النظام القانوني للعقار في طور التحفيظ لا يعترف للمتعرض وخاصة الحائز بمركز قانوني يعفيه، مبدئيا، من الإثبات، على خلاف قواعد الفقه الإسلامي التي تعترف للحائز بمركز المدعى عليه المعفي من الإثبات، من حيث الأصل، في إطار دعوى استحقاق العقار غير المحفظ، فإن الأمر يفرض معالجة مكانة وموقع حيازة المتعرض في كسب معركة الإثبات لصالحه، فهل الدفع بالحيازة يقنع محكمة التحفيظ بتقدير حجج طالب التحفيظ، حتى إذا اقتنعت بمحدودية قوتها الثبوتية رجحت جانب من بيده الحيازة، وهل للحيازة دورا ما في تحديد المدعي من المدعى عليه ؟.
وإذا كان الاجتهاد القضائي قد نحا نحو إقرار نوع من التوازن على مستوى فحص الحجج المدلى بها من قبل طرفي دعوى التعرض: المتعرض وطالب التحفيظ، فما موقع الحيازة في عملية الترجيح والمفاضلة بين البينات والحجج؟ وهل تكتسي الحيازة دورا معينا حالة غيبة الحجج وانعدامها أو في حالة فسادها؟.
إن هذه الأسئلة المطروحة لا بد من ملامسة إجاباتها في ضوء توجهات واجتهادات المجلس الأعلى ومن بعده محاكم الموضوع، وفي هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى ما يلي "...وإن مبدأ اعتبار المتعرض في وضعية المدعي لا يطبق عندما يكون هذا الأخيرهو الحائز لعقار النزاع، إذ لا يمكن أن يطلب شخص شيئا وهو في يده " وجاء في قرار اَخر حيث صح ما عابه الطاعن على القرار ذلك أنه علل قضاءه أعلاه بأنه "باعتباره متعرضا لم يدل بما يثبت تملكه لموضوع النزاع بحجة معتبرة شرعا لكون العقد العرفي المبرم بينه وبين البائع بتاريخ 12/07/1957 غير وارد في الشكل الذي يوجبه الفصل 489 من ق ل ع، وهو إجراؤه كتابة في محرر ثابت التاريخ"، في حين أن الطاعن تمسك بحيازته للمدعى فيه منذ تاريخ شرائه إياه، وأن عقد الشراء المذكور هو عقد رسمي ومحرر ثابت التاريخ من طرف الموثق وأن الحيازة قرينة على الملك خاصة إذا كانت مبنية على سند وأنه لا ينتزع الشيء من يد حائزه إلا بحجة قوية" .
وإذا كان القرار المذكور قد اعتد بالحيازة ورتب عليها آثارا قانونية من حيث إنها عاملة فيما يتعلق بالتملك، خاصة إذا ارتكزت على رسم أو سند معين ، فإن المجلس الأعلى قد سبق له أن اعتد بالحيازة وأقر أهليتها في إنتاج الآثار القانونية حتى ولو لم تكن مرتكزة على أي رسم ، وهو ما نلمسه في قرار آخر الذي أقر بأن الحيازة التي يتوفر عليها المتعرضون تشكل حجة قانونية لصالحهم بصفتهم مدعين يرجح جانبهم بمقتضاها عملا بقاعدة ولا ينزع من يد حائز ، وهو قرار استبعد ملكية طالبي التحفيظ التي حالت موانع دون الأخذ بها حيث أفقدتها الحجية في النزاع فلم ينفع والحالة هذه سوى اللجوء إلى الحيازة والتصرف الذين كانا بيد المتعرضين .
والواقع، أن القرار المذكور قد جسد فعلا أثر حيازة العقار في ترجيح البينات، وحسم مادة النزاع لصالح المتعرض، وقد ذهب المجلس الأعلى أبعد من ذلك، عندما اعتد بمطلق الحيازة ورجح بموجبه كافة المتعرضين، إذ لم يشترط ضرورة توافر الحيازة على شروطها كاملة حتى تكسب مركزا قانونيا يخول للمتعرض؛ ولو أنه مدع حسم النزاع لفائدته، وفي هذا السياق أستحضر قرار المجلس الأعلى الذي أكد أن محكمة الموضوع التي لم يثبت لديها أصل الملك لمن هو، طالما أن طالب التحفيظ لم يثبت شراءه، لم يكن من الواجب عليها، والحالة هذه، أن تنص على شروط الحيازة القاطعة التي اعترفت بها للمتعرضة بل صادفت الصواب عندما اقتصرت على مطلق الحيازة .
وهو الموقف الذي اتضح أكثر من خلال حيثية قرار المجلس الأعلى التي جاء فيها "حيث إن الحيازة نفسها التي ارتكزت عليها المحكمة لم تكن ضرورية لقيام الحجة لأنه ما دام لم يثبت أي حق لطالبي التحفيظ ولم يدلو بأي سند صحيح فإن مجرد وضع اليد كاف فأحرى إذا تعلق الأمر كما هو الحال في النازلة بتصرف طويل معترف به من لدن طالبي التحفيظ كما ورد في الحكم ...".
واضح إذن، أن المجلس الأعلى اكتفى فقط بوضع اليد ، وأقر بمركزه في توجيه الإثبات وفي حسمه لصالح المتعرض، ولم يلتفت لشرط مرور المدة ولا لبقية الشروط الأخرى بعد إبعاد رسم طالبي التحفيظ من المناقشة.
ويبدو أن توجه المجلس الأعلى بخصوص هذه المسألة ذو امتداد على مستوى محاكم الموضوع، وأشير في هذا الإطار إلى حكم نموذجي للمحكمة الابتدائية بالناظور التي اعتمدت على اجتهاد المجلس الأعلى مصيغة الحيثية التالية" وحيث إن المقرر قضاء أن المتعرض على مطلب التحفيظ الحائز للمدعى فيه تكفيه حيازته وعلى طالب التحفيظ غير الحائز إثبات استحقاقه له" .
بيد أن حيازة المتعرض تغدو غير عاملة ولا منتجة إذا استندت إلى مدخل غير ناقل للملكية كالحراسة أو الإسكان .
خاتمة:
يتضح من خلال استعراض الملامح الجوهرية للإجتهاد القضائي في مسألة الإثبات في دعوى التعرض على التحفيظ التطور الحاصل في هذا الصدد، سواء فيما يتعلق بتمكين المتعرض من إعداد وسائل الإثبات، أم بتعيين مراكز أطراف الخصومة، أم بتحقيق وسائل إثباتهما بشكل عادل، أم من حيث توزيع عبء الإثبات عليهما، وهو التطور الذي يبدو بارزا فيما يتعلق بتعزيز القوة الإثباتية للحوز و الحيازة، وهو توجه وثيق الصلة بالدور التقليدي الممنوح للحيازة باعتبارها شاهد حال وعلى الوضع الظاهر،هذه القواعد الإجتهادية ذات النزوع الحمائي تكرس شعورا متزايدا بضرورة توسيع صلاحيات محكمة التحفيظ بخصوص دعوى التعرض بشكل يمكنها من الفصل فيها بشكل شمولي و موضوعي ومنصف تحقيقا للعدالة وتوخيا للفعالية القضائية.
تاريخ التوصل:23يوليوز2011
تاريخ النشر:23يوليوز2011