MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers

الأكثر قراءة



ممارسة النيابة العامة للطعن بالبطلان في الأحكام المدنية على ضوء مستجدات مشروع قانون المسطرة المدنية - سرعة وتسرع، وسوء تقدير -

     

رضوان الحيان
باحث في الدراسات القانونية بجامعة ابن زهر بأكادير



ممارسة النيابة العامة للطعن بالبطلان في الأحكام المدنية على ضوء مستجدات مشروع قانون المسطرة المدنية - سرعة وتسرع، وسوء تقدير -
تقديم عام:

إن الوصول إلى العدالة كان ولا يزال موضوع اهتمام المفكرين والفلاسفة بصفة عامة ولم تتمكن مجهوداتهم من الوصول إلى منظور أو تصور يحقق المبتغى المطلوب وفق إجماع فكري موحد، لكن في محاولة لإيجاد السبل الكفيلة لتحقيق الهدف خلق ما يسمى بفلسفة القانون، فمن خلال هذه الأخيرة يتمكن العقل البشري من تكوين صورة حول طبيعة الاجتماع البشري، ثم وضع القواعد القانونية المناسبة لتحقيق الغاية المطلوبة.

 ولا شك في أن تطور الفكر القانوني، وجعله قادرا على الاستيعاب الإيجابي لهذه التحولات الطارئة والمستجدات المستمرة يتطلب بالضرورة جهازا تشريعيا يقظا، وجسما قضائيا متينا، ودفاعا قويا سليما، فضلا عن أجهزة أخرى مساعدة للقضاء، فاعلة ومبدعة ينصهر فيها فكر قانوني خلاق، وعطاء قضائي مبدع يسعيان في تلاحمهما وانصهارهما في عملية التنمية إلى أداء رسالة سامية وأعمال نبيلة خاصة بالجهاز القضائي باعتبار موقعه المتميز ودوره المستمر في إحداث التوازن المطلوب.

ومن بين المؤسسات ذات الأهمية في المنظام القانوني لكل دولة هي جهة الإدعاء أي النيابة العامة المنوط بها التدخل لحماية النظام العام الذي يعد ركنا أساسيا من سيادة الدولة.

 فإذا كان المشرع قد عهد للنيابة العامة بتحريك الدعوى العمومية وجعلها طرفا أصليا فيها وممثلة وجوبا لدى كل محكمة من المحاكم الزجرية،  فإنه خولها بالمقابل صلاحية الإدعاء في إطار الدعوى المدنية اعتبارا لكون تدخلها لا يتوقف على نوع القضية مدنية أو جنائية، وإنما يتوقف على وجود مصلحة عامة. فكلما وجدت هذه المصلحة إلا واقترنت وجوبا بتواجد النيابة العامة كأحد أطراف النازلة المعروضة على أنظار العدالة إما بصفتها مدعية أو مدعى عليها.

ومن المستجدات القانونية التي أثارت الجدل في مشروع قانون المسطرة المدنية الجاري مناقشته وإخراجه لحيز الوجود، هو تخويل النيابة العامة حق ممارسة طعن من نوع جديد من خلاله يمكن للنيابة العامة إلتماس الحكم ببطلان الأحكام القضائية في المادة المدنية وذلك وفقا لمجموعة من الشروط التي جاء بها مشروع القانون التي تجعل الفاحص لهذا المستجد يستنتج مجموعة من الخلاصات التي من بينها عدم وجود الدقة في الصياغة وأساسا غياب مبدأ التوقع وعدم دراسة أثر تنزيل هذا المستجد وما سيليه من إشكالات عملية منها ما هو مرتبط بقواعد الدستور وأخرى مرتبطة بالعلاقة بين مؤسسات جسم العدالة وهو ما سنتطرق له على التوالي في محورين.

المحور الأول: غياب الشرعية الدستورية لدى واضع المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية

المتتبع لمجريات التداول التشريعي بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية سيلاحظ أن الصياغة الأصلية للمادة 17 حسب مشروع القانون المصادق عليه في مجلس الحكومة والمحال على مجلس النواب جاءت كالتالي: "يمكن للنيابة العامة، سواء كانت طرفا في الدعوى أم لا، ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام عن طريق ممارسة طرق الطعن القانونية."

وبعد التداول بخصوص هذه المادة في لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، اقترح مجموعة من النواب حذفها وهو ما قبلته الحكومة وتم التصويت على ذلك بالإجماع حسب ما هو مضمن في محضر مداولات اللجنة، لكن عند مناقشة مشروع القانون في الجلسة العامة تقدمت الحكومة بمقترح يرمي إلى تعديل المادة 17 -التي سبق وأن تم حذفها- حسب مراسلة وزير العدل إلى الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان، وهو طبعا أمر يتيحه الدستور في الفصل 83 منه شريطة عدم وجود معارضة على الإجراء من أغلبية أعضاء المجلس، وتمت بذلك المصادقة على نص المادة الجديدة التي جاءت كالتالي:" يمكن للنيابة العامة المختصة، وإن لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام.

 يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا أو بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ قضائي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا."

فالمادة الجديدة تكون بذلك قد جاءت بفقرة أخرى وبمضمون آخر، وهو ما يعاكس إرادة الإجماع المعبر عليه في لجنة العدل والتشريع والذي تمت تزكيته بموافقة الحكومة، فيطرح السؤال الدستوري حول مدى مشروعية هذا الإجراء، أم أن الجلسة العامة هي سيدة القرار ولها كامل الصلاحية في حذف وإضافة وتعديل القانون المعروض على التصويت.

فوجه الإشكال مرتبط أساسا بمدى أحقية الحكومة في تعديل مادة محذوفة أو التراجع عن موافقتها في حذف المادة حيث أن الأصل هو إضافة مادة جديدة وليس تعديل مادة غير موجودة، رغم أن هناك من يعتبر إضافة مادة جديدة بمثابة تعديل.

ففي رأينا أن المسطرة في مجملها سليمة باستثناء منطق الحكومة في ممارسة التعديل على مادة محذوفة، حيث الأسلم هو إضافة مادة جديدة وبرقم جديد ولو برقم مكرر تفاديا لأي إلتباس مسطري.

فالقراءة العامة للنص موضوع النقاش تجعل الجميع يتفق على وجود مساس بالأمن القانوني والقضائي للأفراد وكذا لنظرة المستثمر الذي يريد خلق انتعاش اقتصادي بالمغرب، ويتضح أيضا أن هناك مساس  بحجية الأحكام وهو ما يجعل عيب مخالفة الدستور يستشف من القراءة العامة للنص والذي في الغالب سيمر عبر مرحلة فحص الشرعية الدستورية بإحالته على المحكمة الدستورية  إن توفرت الشروط لدى معارضيه من البرلمان، والتي لا محال ستقدم ملاحظات حول هذا النص إن استمر في عملية التشريع على حاله دون تغيير أو تعديل.

فرغم أن مفهوم النظام العام كما يعلم الجميع لا حدود له ويتغير حسب الزمان والمكان والأطراف ولا يمكن تقييد مجاله أو ضبطه بقيود معينة وهو ما يجعل الأحكام القضائية مهددة بالبطلان بشكل دائم، وعند ربط مفهوم البطلان بالنظام العام سنستخلص إمكانية أي فرد من المجتمع التقدم بشكاية للنيابة العامة لإثارة وجود مساس بالنظام العام وهو ما سيلزمها بالجواب عن الشكاية لأن النظام العام يمس كيان المجتمع ككل ولو أن مقدم الشكاية ليس طرفا في الحكم المراد بطلانه، لكن مدخله هو حماية النظام العام من طرف النيابة العامة التي تمثل المجتمع، وهو ما سيجعل النيابة العامة تتلقى الشكايات ضد الأحكام المدنية كما يجري عليه الأمر في المادة الجنائية ويجب عليها بحكم مهامها أن تتفاعل مع مقدمي الشكايات لأن النظام العام تم المساس به، وهو ما سيجعل هذه المادة غير الدقيقة الصياغة مدخلا لتطبيق قواعد الإجراءات الجنائية على المادة المدنية، مما سيرهق النيابة العامة خصوصا وأن النص لا يتحدث عن أي أجل لسقوط الطعن بالبطلان ولا يقيده بالأحكام التي ستلي صدور القانون المسطري الذي لا تسري عليه رجعية القوانين.

المحور الثاني: غياب مبدأي التوقع ودراسة الأثر في صياغة المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية

بالرجوع للمادة 17 المصادق عليها في مجلس النواب نجدها تؤسس لطريقة جديدة للطعن في الأحكام المدنية وذلك بطلب التصريح بالبطلان من طرف النيابة العامة لكل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام، وعبارة "من شأنه" ولو أنها تحمل معنى سياسي وليس قانوني لكن من الناحية التشريعية فهي معيبة لكون أن القانون لا يبنى على الافتراض والتخمين بل على اليقين.

فالنيابة العامة إذا لم تكن متأكدة من وجود مخالفة واضحة للنظام للعام معززة بما يفيد إثبات تلك المخالفة، فعليها عدم إثارة هذا الطعن قصد المطالبة بالبطلان لأنها بذلك ستسقط في التعسف في استعمال حق المطالبة بالبطلان وهو ما يمكن أن يستشف منه التقاضي بسوء نية الذي يسري على جميع أطراف الخصومة بما فيها النيابة العامة التي تعتبر طرفا كباقي أطراف الدعوى وهو ما يمكن أن يحرك ضدها دعوى المسؤولية المرفقية نتيجة التسبب في ضرر لمن صدر الحكم لصالحه خصوصا إذا تم تنفيذ الحكم واستقرت المراكز القانونية نتيجة ذلك، فالطعن ساعتها سيزعزع كيان الأمن القضائي لمن لهم مصلحة من الحكم، بل سيجعل مقدم الطعن بالبطلان في وضعية تحقير مقرر قضائي وهو ما وجب تجنبه.

مما سيجعل أحكام القضاء محل شك وريبة في انتظار تدخل النيابة العامة في أي وقت وحين، خصوصا وأن القواعد الإجرائية كما سبقت الإشارة إليه، لا تسري عليها قاعدة عدم رجعية القوانين.

فجميع الأحكام التي صدرت والمرتقب صدورها مستقبلا ستظل تحت طائلة الطعن بالبطلان، فالواضح هنا أن واضع المادة لم يفرق بين تدخل النيابة العامة في المادة الجنائية حيث أنها تحرك المتابعة بمجرد الشك على عكس المادة المدنية الذي تعتبر فيها النيابة العامة حامية للنظام العام ولا يمكنها تحريك الطعون لفائدة الشك بل بعد التيقن والجزم، لأن هذا الطعن يعتبر من نوع خاص وله طابع استثنائي، فلا يمكن ممارسته إلا في هامش محدود وضيق كما هو معمول به في مجموعة من التجارب المقارنة.

وقراءة الفقرة الثانية لنفس المادة سنجد أن الطعن يتم أمام المحكمة المصدرة للقرار، فالملاحظ أن الفقرة الأولى تتحدث عن بطلان المقرر والفقرة الثانية تتحدث عن القرار رغم أن المقرر أعم من القرار وهو ما يبين العيوب الموجودة في النص.

 نفس العيب نجده كذلك فيما يتعلق بمفهوم المحكمة المصدرة للقرار التي ستبت في الطعن بالبطلان فهي نفسها مصدرة القرار، حيث أن المادة لم تفصل في الأمر وجعلته على عموميته، ومعلوم أن النصوص المسطرية تخشى العموم وتتشوف للوضوح والتدقيق، حيث أنه لا يعقل أن تنظر نفس الهيئة في بطلان مقررها ولا هيئة أخرى يتواجد فيه قاض سبق وشارك في إصدار المقرر، فكان الأجدر إما أن تنظر محكمة أخرى في الطعن أو نفس المحكمة بهيئة أخرى مع البحث في وجود التنافي من عدمه تحقيقا لمبادئ العدل والإنصاف.

 وكذلك نفس الغموض يكتنف الحكم القضائي الذي سيصدر ببطلان المقرر موضوع الطعن هل سيكون حكما نهائيا بدوره أم أنه سيقبل طرق الطعن العادية منها وغير العادية، وما هي جهة الطعن بعد صدوره، وهل لغير الأطراف حق التدخل في الدعوى، وما يتبع الأمر من إشكالات عملية من اللازم تفاديها قبل المصادقة النهائية على مشروع قانون المسطرة المدنية.
نفس الفقرة من المادة موضوع المناقشة تتحدث عن من له صلاحية الطعن وهي النيابة العامة المختصة لكن شريطة وجود أمر كتابي صادر من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض وهو أمر مقبول مادام الغاية منه هو ضبط هذا النوع من الطعون لتفادي التضخم في العمل به، لكن الإشكال يطرح في حالة وجود إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بناء على تبوث خطأ قضائي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا، فهنا واضع النص جعل الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يتقدم بإحالة إلى النيابة العامة قصد ممارسة الطعن ومصطلح الإحالة ولو أنه يمكن أن يفهم منه منطق التعليمات التي لا يمكن للنيابة العامة أن تتلقاها إلا من رئيسها وهو رئيس النيابة العامة فعلى الأقل يعتبر اجتهادا لتفادي السقوط في مصطلح آخر يفيد التعليمات، وهنا واضع النص اختار الصفة الإدارية بدل القضائية للرئيس الأول لمحكمة النقض والعبرة في ذلك هو أن الرئيس المنتدب يمارس مهام إدارية تتعلق بشكايات المتقاضين وتتبع ملفات تأديب القضاة، فيطرح التساؤل هنا حول الجهة التي لها حق الإحالة هل الرئيس المنتدب أم المجلس الأعلى للسلطة القضائية بناء على مقرر بعد التداول بين أعضاء المجلس، حيث المعلوم أن هناك فرق في الاختصاصات بين الرئيس المنتدب والمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

فتبوث الخطأ القضائي لا يمكن أن يكون إلا بعد صدور مقرر تأديبي عن المجلس وليس بناء على قناعة الرئيس المنتدب فقط، فتقارير التفتيش والشكايات وكذا الملفات التأديبية، يرجع أمر البت فيها للمجلس لا للرئيس المنتدب، لذلك فطريقة تنزيل هذا الاختصاص في المادة جاء معيبا وزاغ عن غايته.

خلاصة عامة:

الواضح إذن أن واضع هذا النص لم يكلف نفسه عناء تفحص مجموعة من القواعد القانونية المرتبطة بمضمون النص سواء ما تعلق بالطعن بالنقض لفائدة القانون أو الطعن بإعادة النظر وكذا ما يخص مسطرة مخاصمة القضاة ومسطر إلغاء الأحكام التي قد يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم وكذا ما يخص التعويض عن الخطأ القضائي، فكلها قواعد خصبة لمعالجة جميع الإشكالات المطروحة دون إضافة الطعن بالبطلان الذي لم يتم التدقيق في مسطرته وضوابطه خصوصا بالصياغة المعيبة المعروضة حاليا للتداول التشريعي.
 فبالرجوع للمساطر السالف ذكرها نجدها تستوعب كل ما جاء في المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية وهو ما يجعل وجوب حذف هذه المادة أو على الأقل إعادة تدقيق وضبط صياغتها ضروريا للتوازن التشريعي وتفاديا لخلق تضخم تشريعي سيتسبب في ظهور إشكالات عملية يصعب حلها مستقبلا.
مما يتضح معه على أن هناك سرعة وتسرع في طرح الصياغة الجديدة للمادة موضوع المناقشة، خصوصا وأنه تم الإتيان بالتعديل في الجلسة العامة دون مناقشة مستفيضة ودون سماع آراء جميع المتدخلين في حقل العدالة، مما جعل واضع النص يسقط في سوء التقدير رغم أن غاية واضع النص مشروعة ومقبولة وهي تفادي وجود أحكام نهائية مخالفة للنظام العام وتهدد سيادة الدولة دون طعن ولا تصحيح كما سبق وأن شهدتها مجموعة من محاكم المملكة في مجالات الأسرة والجنسية وبعض العقود ذات الطبيعة الخاصة وكذا ما يتعلق بترتيب آثار بعض المقررات التأديبية الخاصة بحالات معزولة لانحراف القضاء نتيجة سلوكيات معينة، لكن مادامت الغاية مشروعة فلا يمكن أن تشرعن الوسيلة حسب المادة التي ستطرح إشكالات أخرى إضافية على القاضي والمتقاضي، وهو ما يجعل المادة تنتقل من آلية للحل إلى آلية لإفراز الإشكالات القانونية والقضائية، مما يستوجب النظر في المادة وفتح نقاش قانوني متزن حولها بعيدا عن السرعة التي مر بها تعديلها، لأن القواعد الإجرائية وخصوصا المسطرة المدنية هي أساس الولوج المستنير للعدالة وبذلك وجب التدقيق في صياغة قواعدها.
 



السبت 27 يوليوز 2024
MarocDroit "منصة مغرب القانون الأصلية"

تعليق جديد
Twitter