1 - قاضي محكمة إبــن جرير ، وقضية إنتحار المرحومة خديجة السويدي :
أصبح من المعروف في السنوات الأخيرة انه كلما صدر حكم في قضية اهتمت بها الصحافة إلا و ارتبطت هذه القضية بمحكمة القاضي المصدر للحكم ، وفي هذا الإطار تناقلت وسائل الإعلام وبعض مواقع الاتصال الاجتماعية خبرا - لم يتسن لنا بعد التأكد من صحته من مصدر مستقل و ذي مصداقية - يتعلق بقاضي المحكمة الابتدائية بـــبن كـــريـــر، الذي قيل انه أطلق سراح ثمانية أشخاص متهمين باغتصاب الفتاة القاصر خديجة السويدي، لما حكم عليهم بالسجن موقوف التنفيذ، الأمر الذي دفع الفتاة إلى الانتحار بحرق نفسها ، ولم يتم نشر هذا الحكم الذي لم يقل فيه بعد لا قاضي الاستئناف ولا قاضي النقض كلمة الفصل فيه النهائية ، ومع ذلك تطوع البعض لوضع حبل المشنقة في عنق " قاضي محكمة إبــن جرير " بقصد تحميله وحده مسؤولية هذه القضية ، ولهذا السبب ينوي أحد مساعدي القضاء ليس مساعدة القضاء على الوصول إلى الحقيقة وفق ما ينص على ذلك قانون مهنتهم ، ولكن من اجل الانتقام من ذلك القاضي كشخص ، وتشويه سمعة القضاء كمؤسسة دستورية ، وذلك من خلال رفع دعوى قضائية ضد (( قاضي محكمة إبــن جرير )) الذي ربما - في نظر بعض مساعدي القضاء والجمعيات النسوية - قد يكون ارتكب عدة أخطاء قضائية في كيفية التعامل مع هذا النوع من القضايا، أومن حيث التدبير السيء للملف والقضية التي لها حساسية بالغة ، وقد يكون هذا الادعاء صحيحا ، ولهذا السبب تسعى هذه الأوساط الحقوقية والمهنية والجمعوية إلى تأجيل جلسة الاستئناف الذي كان مرتقبا عقدها فيها اليوم الخميس 11 غشت الجاري إلى غاية 15 منه بغية إعداد لجان من المحاميات والمحامين والهيئات الحقوقية في إطار تحالف ربيع الكرامة لتدارس حيثيات هذا الملف.
من جهتها، عبّرت جمعية نسوية أخرى عن إدانتها الشديدة لإقدام القاضي على إطلاق سراح المغتصبين، مطالبة بفتح تحقيق في الموضوع ، ومساءلة من تسبب في مأساة خديجة السويدي التي تعرضت لكل أنواع العنف ولعل العنف الأشد والأكثر وقعا على نفسها هو العنف المؤسساتي في نظر هذه الجمعية المحترمة ، في حين طالعتنا بعض المواقع الالكترونية يوم 13/8/2016 بخبر مفاده أن أهل وأقارب الأشخاص المتهمين بالاغتصاب يقولون بأن أبناءهم أبرياء مما نسب إليهم ، فمن نصدق : الجمعيات النسائية و أهل الضحية ، أم رواية عائلات و أهل المتهمين ، أم حيثيات الحكم القضائي الذي لا يمكننا التعليق عليه ألا بعد الاطلاع عليه ، كالطبيب الذي لا يحرر وصفة العلاج ألا بعد فحص المريض ، و أتعجب لأشخاص ومثقفين وملاحظين يحكمون على الشيء قبل تصوره وفهمه ؟ وقبل أن تصدر محكمة الاستئناف قرارها في الطعن الذي رفعته إليها النيابة العامة ؟
و أصدرت وزارة العدل والحريات بلاغا - حسب موقع “الرأي المغربية ” - جاء فيه : (( أنه بناء على البحث القضائي الذي أنجز بخصوص الشكاية التي سبق أن تقدمت بها الفقيدة بمعية والدتها لدى الشرطة القضائية، تم تقديم الأشخاص المشتبه فيهم أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بمراكش ”. وتابع بلاغ وزير العدل والحريات، “قرر إحالتهم على قاضي التحقيق مع ملتمس بالاعتقال، من أجل جنايات استدراج قاصرة بالتدليس واغتصاب قاصرة دون سن 18 سنة عن طريق الاستعانة بأشخاص آخرين، وهتك عرض قاصر باستعمال العنف، والاستعانة بأشخاص آخرين واستعمال أعمال وحشية لارتكاب أفعال تعتبر جناية والمشاركة في ذلك ”. وأفاد البلاغ أيضا، “أنه وبناء على ما أسفر عنه التحقيق تمت إحالة المتهمين على المحاكمة، حيث صدر قرار قضى بمعاقبة أحدهم بثمانية أشهر حبسا نافذا من أجل هتك عرض قاصر بدون عنف، وبراءته من الباقي وببراءة باقي المتهمين بعدما قدرت المحكمة أن الأفعال المنسوبة إليهم غير ثابتة لخلو ملف القضية من أي دليل باستثناء تصريحات الضحية”. وأشار نص البلاغ، أن المتهم الرئيسي الذي بقي في حالة فرار تم إلقاء القبض عليه وتمت إحالته على المحاكمة حيث صدر في حقه قرار بتاريخ 09 غشت 2016 قضى بمعاقبته بثمان (08) سنوات سجنا نافذا ... )) يستنتج من كل هذا ان القضية متشعبة ، وتتداخل فيها عدة أطراف ، وخيوطها لم تكتمل بعد ، ومن ثم نتساءل عما هو الأساس الواقعي والقانوني الذي يخول لأية محامية او جمعية حق مقاضاة قاضي إبن جرير ورفع دعوى ضده ، و ما هي طبيعة هذه الدعوى : جنائية أم مدنية ؟
في جميع الأحوال ، و حتى لو سلمنا فرضا بصحة الوقائع المنسوبة ل (( قاضي محكمة إبــن جرير )) فلا يسعنا إلا نترحم على الروح الطاهرة للمرحومة خديجة السويدي ، ونقدم واجب العزاء لأهلها ، أما مســـألة إدانة القاضي المذكور ، وجلده إعلاميا بسبب انتحار المرحومة خديجة السويدي قبل أن يقول قاضي الطعن كلمته ، وقبل الإلمام بكافة المعطيات ، وقبل مناقشة الأسباب القانونية والمهنية والتنظيمية التي أدت بالقاضي إلى إصدار الحكم المثير للضجة الإعلامية ، فهي مسالة فيها نظر وغير مقبولة قانونيا ولا أخلاقيا ، ولنا الكثير من التحفظات عليها نناقشها تباعـــا في الفقرات التالية ، و إن كنت من حيث المبدأ - و أقولها صراحة من الآن - لست ممن يحرضون على إفلات المسؤولين المذنبين من العقاب ، سواء كان عقابا مهنيا وتأديبيا أم جنائيا ، لأن ذلك يتنافى مع احد مبادئ الدستور الذي ربط المسؤولية بالمحاسبة بعد التوفر على الأدلة والبراهين التي تبرر ليس الحساب فقط بل حتى إنزال أشد العقاب بمن ارتكب المخالفة للقانون .
2 - ما ذا يقول دستور 1 يوليوز 2011 في هذه القضية ؟
ينص الدستور على مبدأ فصل السلط ، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة ( الفصل 1 ) ، وعلى أن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تمارس أنشطتها بحرية ، ولكن في نطاق احترام الدستور والقانون ( الفصل 12 ) ، و أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية ، و الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية(الفصل107) و يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء؛ ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات، ولا يخضع لأي ضغط. يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة. يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة. (109) (( راجع المادة 105 من ظهير 24/3/2016 بشان القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية )) ، لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون(الفصل 110) ، يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون (الفصل 117 ) ، حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه
وعن مصالحه التي يحميها القانون ، كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يُمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة (الفصل 118 ) ، لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول. حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم (الفصل 120 ) ، يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة (الفصل 122 ) ، تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور ( الفصل 154 )
يفهم من هذه النصوص أن القضاء سلطة دستورية مستقلة عن باقي السلط وجدت لحماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات ، وان القاضي إن كان مستقلا فهذا لا يعني انه غير مسؤول ولا تمكن محاسبته ، وبالتالي فهو ليس بكائــــن مقدس كما ادعى البعض على موقع هسبريس (14/8/2015) ، ويفترض في القاضي أن يصدر أحكامه معللة تعليلا قانونيا ، و إن أخطأ في تطبيق القانون يحق للمتضرر أن يحصل على تعويض من الدولة وليس من القاضي ولو ثبتت مسؤوليته المهنية ، ولكن من يحاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة فهو يعاقب أيضا طبقا للقانون ، ولعل حملة البلاغات الجمعوية وغيرها التي تصدر من هنا ومن هناك و كذا ممارسة الضغط الإعلامي على القضاء بمرحلة الاستئناف وهو يستعد لمناقش الدعوى والنظر فيها وقبل أن يصدر حكمه النهائي تعد مما لاشك فيه من قبيل محاولات التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعــــة ، فلما تقول بعض الجهات مثلا : " بأننا - تدابــزنــا - (يعني تشاجرنا، ولم تقل ترافعنا ) مع رئيس المحكمة لكي يقرر تأجيل قضية المرحومة خديجة ... إلى جلسة أخرى قصد إعداد الدفاع " فماذا يعني هذا ... ؟ ويرضخ القضاء مسطريا بعد هذه " المدابــــزة " أو المشاجرة و يؤجل الملف ، و لكن لنا الثقة في أن القضاء لن يتأثر بوسائل الإعلام لكي يجعل من البريء متهما ، أو من المتهم بريــــئا ، بل الأكيد أنه سيطبق القانون كما أنزل دون تغيير أو تبديل لأن القاضي ليس بمشرع ، ولا يجتهد إلا إذا توافرت شروط الاجتهاد .
وحبذا لو أن إحدى المجمعيات القضائية (( وما أكثرها والحمد لله ، وكم كانت نشطة وقت الانتخابات القضائية قبل 23/7/2016 )) عبرت عن موقفها من هذه المحاولات المؤثرة على القضاء بهدف النيل من استقلاله وحياده وجعله يصدر أحكاما وفق ما تشتهيه بعض جمعيات المجتمع المدني التي تنشط في مجال حقوق الطفل والمرأة ... الخ ، أي إصداره لأحكام وفق الطلب أو تحت الطلب ، إن وقوف الجمعيات القضائية إلى جانب القضاة الذين يواجهون تسونامي من احتجاجات الجمعيات النسوية وغيرها وكذا وسائل الإعلام بسبب إسناد قضايا حساسة إليهم قصد البت فيها ويتابعها الرأي العام من شانه أن يقوي استقلال القضاة ويزيد من الثقة بأنفسهم لكي يطبقوا القانون تطبيقا سليما وبشكل عادل وفق ما ينص عليه الدستور والقانون سواء لفائدة زيد أو عمرو ، غير أن هذا التطبيق للقانون من طرف القضاء في السنوات الأخيرة ، وفي زمن الإصلاح القضائي العميق و الشامل ، وفي قضايا خاصة تهم حقوق الطفل والمرأة وحرية التعبير والحريات الشخصية كان محل تعليق و نقد حاد من طرف بعض الجهات ، كيف ولماذا ؟ هذا ما سنراه في الفقرة الموالية .
3 - قضايا إشتعلت إعلاميا و شغلت بال الرأي العام في زمن الإصلاح القضائي :
مابين 2012 و2013 اشتغلت وزارة العدل والحريات على ورش وطني كبير إسمه ( الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة ) انتهى بإصدار الوزارة في يوليوز 2013 ميثاقا يعد بمثابة خارطة طريق لإصلاح هذه المنظومة ، جيد جدا ، غير أن الصحفي توفيق ... قال لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران مخاطبا إياه : (( إنك ألغيت من جدول أعمالك الإصلاحات السياسية والقانونية الجوهرية ، مثل إصلاح منظومة الانتخابات، وإصلاح القضاء، وإصلاح أجهزة الأمن، وإصلاح مالية الدولة…... )) ((موقــع الـــيوم 24 في 18/8/2016)) ، فهل الخبر الصحفي صحيح بعد إنـــفاق الملايين من أموال دافعي الضرائب على ميزانية إصلاح القضاء ... الإصلاح الذي كان حلم القضاة والمتقاضين منذ 10 سنوات خلت ، إنطلق مع الوزير الدكتور عزيمان ، والمرحوم بوزبع ،وعبد الواحد الراضي ، والمرحوم النقيب الناصري ، وتناولته العديد من الخطب الملكية السامية ، وكرسه الفصل 107 وما بعده من دستور 2011 ، وصدر بشأنه ميثاق لإصلاح منظومة العدالة ، ويأتي اليوم بوعشرين ليضرب كل شيء في الصفر ... يعني في الزيرو ، ولا ادري سند علمه في ذلك والحال أن الصحافة تريد أن تكون سلطة رابعة ، لا إشكال ولا اعتراض على ذلك ، لكن الاعتراض يقع لما تسهب الصحافة في التحليل و تهمل المعلومات ... أي عدم نشرها للخبر موثقا وبدون حيثيات ، كان بودي أن تكذب الوزارة المعنية هذا الخبر ، وتقول إن إصلاح القضاء حقيقة مؤكدة لا مراء فيها وسيتحقق عاجلا أم آجلا وتبعا لبرنامج مضبوط ومسطر ، لكن هذا لا يمنع من أن نقول أنه في إطار حرية التعبير عن الرأي المكفولة دستوريا و دون تبخيس لعمل الحكومة أعلى النموذجأسفل النموذج أنه يبقى لكل واحد منا تصوره الخاص عن إصلاح منظومة العدالة او القضاء ، ومن بين هذه التصورات - حسب البعض - ووفقا للمعايير الأوربية : " تيسير الولوج إلى المحكمة والقضاء ، و استقبال المتقاضي في أحسن الظروف ، والتواصل معه إيجابيا ، تمكينه من المعلومات التي له الحق فيها بكل شفافية ، احترام حقوقه في الدفاع عن نفسه ، تمكينه من الحصول على حكم في أحسن الآجال ، ويكون الحكم معللا تعليلا قانونيا وعادلا ، وقابلا للتنفيذ ، وفتح باب الطعون القانونية ، والتشكي عند الاقتضاء - حسب ثقافة المغاربة - بالنسبة لمن لم يرض بنتيجة الحكم وكانت بحوزته أدلة مادية أو قانونية تدل على أن القاضي أخطأ في تطبيق القانون واضر به ".
والبعض الآخر يختزل الإصلاح في جملة جد بسيطة وهي : (( حث الدولة على أن توفر للمواطنين وللمتقاضين قضاة مستقلين ، و نزهاء ، و أكفاء ، يصدرون أحكاما قانونية وعادلة في آجال معقولة ، تنفذ فورا أو في آجال معقولة كذلك )) ، هذا هو جوهر الإصلاح والأمور الأخرى تبقى من مكملات الإصلاح ، بل إن هذه الرؤيا المبسطة للإصلاح القضائي هي ضالة وهدف البسطاء من الناس ، وصغار المتقاضين الذين يبحثون عن تنفيذ حكم بأداء النفقة ، أو أداء كراء ، أو إفراغ منزل للاحتياج ، او الإفراج عن شكاية عـــالقة بين مصالح الضابطة القضائية والنيابة العامة ...الخ ، أما كبار المتقاضين فلهم كبار المحامين الذين يعرفون كيف يؤمنون حقوق دفاع موكليهم الكبار طبقا للقانون طبعا .
ولما كان ورش الإصلاح مفتوحا وحتى بعد أن أسدل الستار عليه شهدت الساحة القضائية عدة قضايا انتهت بشكل درامي في بعضها ومنها مثلا : إنتحار أمينة الفيلالي بالعرائش بعد زواجها من مغتصبها ، ومتابعة فتاتين بانزكان بسبب لباسهما للتنورة (( صايــــا قصيرة )) تخل بالحياء في نظر البعض ، متابعة تلميذ وتلميذة مراهقين بالناظور لأنهما تبادلا قبلة تم نشرها عبر الانترنيت والفيسبوك ، اعتقال مصطفى العمراني مدرب “أطفال فاجعة الصخيرات” ، متابعة واعتقال الشاب عبد الرحمان المكراوي الملقب ب (( مول الزفت )) لأن فضح بناء طريق بمادة الزفت المغشوشة ثم إطلاق سراحه بعد أن تدخل المجتمع المدني وقال (( اللهم إن هذا منكر )) ... الخ ... ، و أخيرا قضية المرحومة خديجة السويدي ، وربما سوف لن تكون القضية الأخيرة إذا لم تينع وتزدهر شجرة الإصلاح القضائي وتؤتـــــي أكلها كما هو مخطط لها في ميثاق الإصلاح رغم تشكيك بعض الصحافيين ، والقضايا المشار إليها أعلاه تتقاطع مع إحدى الخانات أو الفقرات الرئيسية والجوهرية في عملية و خطة إصلاح القضاء ألا وهي : نجاعــة تكوين القاضي من الناحية المهنية وكفاءته التي يجب أن تكون ما فوق المتوسط ، لأنها - اي هذه القضايا - تظهر ان القاضي الجنائي المغربي الجالس له إشكالية ما مع تفريد أو تحديد العقوبة الجنائية للفعل الجرمي والتصرف بين الحدين اللذين رسمهما المشرع للعقوبة كأن يترك المشرع للقاضي صلاحية تحديد العقوبة الحبسية ما بين سنة واحدة و 5 سنوات ، فمثلا بالنسبة لجريمة السكر العلني غير المقرونة بجريمة أخرى ، هل سيحكم القاضي بغرامة ، أم بشهر حبسا موقوف التنفيذ ، أم بشهرين حبسا نافذا ؟ وبالنسبة لجريمة اغتصاب فتاة هل ستكون العقوبة 6 أشهر حبسا نافذا أم سنة نافذة أم 5 سنوات سجنا نافذا؟
كما أن القضايا المشار إليها أعلاه تظهر في جانب منها أن قاضي النيابة العامة هو الآخر له إشكالية مع كيفية استعمال سلطة الملاءمة في المتابعة بحكامة قضائية جيدة ، فهو لا يتردد في متابعة أشخاص في حالة اعتقال رغم أن الأفعال المنسوبة إليهم لا تهدد الأمن العام ولا النظام العام ولا تشكل خطرا أو تهديدا على ضياع او تبديد أدلة جنائية ، وليست من الجرائم البشعة التي تستفز مشاعر المواطنين والمجتمع المدني ، والمتهم له من الضمانات ما يكفي لكي يمثل أمام قضاء الحكم في الجلسة المحددة له ، ومع ذلك يتابع المتهم في حالة اعتقال ، ولما يكثر القيل والقال والاحتجاج والقصف الفيسبوكي والإعلامي على المحكمة من هنا وهناك يتم إطلاق سراح المتهم وقد يبرئه القاضي الجنائي مما نسب إليه أو يحكم عليه بعقوبة مخففة ، فأين هي الحكامة القضائية الجيدة من كل هذا ؟ وما تقوله وثيقة أو ميثاق الإصلاح القضائي في كل هذا ؟ وطالما انه هناك مشكلة حول تفريد العقوبة الجنائية المناسبة للفعل الجرمي ، وقبلها هناك مشكلة حول كيفية استخدام النيابة العامة لمبدأ أو سلطة الملاءمة في متابعة المتهمين بشكل جيد وعقلاني ، فكم من ندوة أو مناظرة أو دورة تكوينية نظمها المعهد القضائي أو وزارة العدل مركزيا بالرباط أو جهويا بمحاكم الاستئناف للتفكير في الحلول العملية المناسبة لمثل هذه المشاكل ، و من بينها مثلا : وضع لائحة استرشادية لعقوبات معينة لجرائم معينة ترتكب في ظروف معينة و بحيثياث محددة و يستعين بهذه اللائحة الاسترشادية القاضي الجنائي عند اللزوم ولكنها لا تلزمه لأن القاضي مستقل من جهة ، ثم إنه هو الأدرى بوقائع الملف الذي بين يديه ، كذلك الأمر بالنسبة للسادة نواب وكيل الملك لماذا لا توضع بين أيديهم لائحة استرشادية لكيفية متابعة المتهمين ، و ما هي الصيغة القانونية المناسبة ، والأخطر من كل ذلك هو : هل سيتابع المعني بالأمر في حالة سراح ، أو اعتقال ، أم أن الشكاية الموجهة ضده حفظها أولى بكثير من تحريك المتابعة بشأنها تفعيلا لمبدأ الحكامة القضائية الجيدة ، ولمبدأ استقلال النيابة العامة ، إن نائب وكيل الملك وفي غياب تعليمات كتابية صريحة من رئيسه الأعلى فهو مستقل في اتخاذ القرار المناسب من الناحية القانونية والذي يطمئن إليه واستقلاله هذا لا يقل بتاتا عن استقلال قضاء الحكم الجالس ، وكم من وكيل للملك وكم وكيل عام للملك اعرفهم عبروا عن هذا الاستقلال ، وحتى لما تصدر التعليمات الكتابية والملاحظات طبقا للقانون من الرئيس الأعلى إلى السيد نائب وكيل الملك ضدا على قناعتـــه في قضايا معينة ( طبقا للمادة 43 من من ظهير 24/3/2016 بشان القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ) ، فقلمه أسير " الله غالب " ، ولكن لسانه حر ، يعبر به وقت جلسة الحكم ، وربما هذه القاعدة طواها النسيان :
« La plume est serve , mais la parole est libre »
لا أريد أن اترك هذه الفرصة تمر دون أن أشير إلى أن الأمور مرتبطة ببعضها البعض ، و أن قضية خديجة السويدي لها - ربما - علاقة بالإصلاح القضائي و بالجانب التنظيمي داخل المحاكم الإبتدائية، فالجمعية العمومية لأية محكمة تنعقد في شهر دجنبر من كل سنة وتوزع الجلسات والقضايا بين القضاة ، ولكن هناك قضايا لها أهمية خاصة وحساسية بالغة عند المتقاضين المغاربة وهي : 1 - القضاء المستعجل ، 2 - قضايا العقار ، 3 - قضايا الجنحي التلبسي ، ويستحسن - كلما عدد القضاة كافيا ومتوفرا بالمحاكم - أن تسند هذه القضايا إلى أقدم القضاة بالمحكمة الذين لهم من الممارسة والتجربة والاجتهاد وحسن التصرف مما يجعل القضاء بمنآى أي قيل أو قال أو ضجة إعلامية من هنا أو هناك ، وهو ما تطبقه المحاكم الكبرى ، و لا علم لي بما إذا كان المحكمة الابتدائية بان جرير( وهي محكمة صغيرة أو متوسطة ) طبقت هذا الخيار أو القاعدة في توزيع الجلسات أم لا ؟ ليست لدي عناصر للجواب سلبا او إيجابا عن هذا السؤال ، لاسيما وان بعض المحاكم الصغيرة أو المتوسطة بالمملكة لها خــصاص مزمن في عدد القضاة ولا سيما المتمرسين منهم ولغاية سنة 2011 حسب علمي .
***
نخلص من كل ما سبق أن الصعوبات التي واجهت المحاكم وحدة الانتقادات التي وجهت للقضاء بخصوص القضايا المذكورة آنفا و التي اشتعلت إعلاميا مابين 2012 و 2016 ربما يرجع سببها إلى أن القضاء يتواجد الآن في مرحلة انتقالية أو بين عهدين : عهد ما قبل دستور 2011 ، وعهد ما بعد دستور 2011 وتأسيس سلطة قــضائية جديدة مع مطلع السنة المقبلة 2017 .
***
ختاما ، أقول على هامش قضية المرحومة خديجة السويدي ، نعم لإصلاح القضاء ، ولمحاسبة القضاة وفقا للطرق القانونية المعتادة ، ولكن لا للتأثير عليهم عبر وسائل الإعلام والفيسبوك والبلاغات النارية ! ففي الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى أسرة القضاء بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة للمجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 12 أبريل 2004 جاء أن :
(( ... استقلال القضاء الذي نحن عليه حريصون ليس فقط إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي يضمنه الدستور ، ولكن أمام السلط الأخرى شديدة الإغواء ، وفي مقدمتها سلطة المال المغرية بالارتشاء وسلطة الإعـــــلام التي أصبحت بما لها من نفوذ متزايد و أثر قوي في تــــكييف الــــرأي العام سلـــطة رابــعة في عصرنا ، فضلا عن سلطة النفس الأمارة بالسوء ... )) ((المصدر : وكالة المغرب العربي للأنباء ))
إذن التأثير على القضاة بصفة غير مشروعة محرم دستوريا وقانونيا وبموجب خطاب ملكي سامي ، أما من ثبتت في حقه من هؤلاء القضاة مخالفة مهنية أو إنحراف فلا مفر له من المحاسبة التي يجب أن تتكفل بها أجهزة التفتيش والتأديب بالطرق القانونية و بالإجراءات المعتادة ، وليس من المستبعد أن يلقى الجزاء التأديبي والمهني المناسب ، إلا أن تهديد بعض المتقاضين للقضاة برفع دعوى شخصية ضدهم بسبب ما ارتكبوه من أخطاء مهنية بمناسبة إصدارهم لأحكام قضائية فهذا اجتهاد يجب وأده في المهد ، وباب يجب إغلاقه قبل أن يفتح ، و للأبد لعدم قانونيته ، أولا لأنه ليس في القانون المدني ما يجعل القاضي يتحمل شخصيا المسؤولية عن أخطائه المدنية نظرا لصراحة المقتضى الدستوري المشار إليه أعلاه ( الفصل 122) من جهة ، فاﻟﻘﺎﺿﻲ اﻟﺬي ﻳﺨﻞ ﺑﻤﻘﺘﻀﻴﺎت ﻣﻨﺼﺒﻪ ﻳﺴﺄل ﻣﺪﻧﻴﺎ ﻋﻦ هذا اﻹﺧﻼل ﺗﺠﺎﻩ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻤﺘﻀﺮر ﻓﻲ اﻟﺤﺎﻻ ت اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻮز ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺨﺎﺻﻤﺘﻪ ( الفصل 81 من قانون الالتزامات والعقود ) وهذه الحالة غير متوفرة في النازلة ، وفي جميع الأحوال فهذا الفصل أصبح متجاوزا و غير دستوري لتعارضه الصريح مع منطوق الفصل 122 من الدستور المذكور أعلاه و الذي ينص على انه : ( يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة) ، ومن جهة أخرى ليس في القانون الجنائي ما يعاقب القاضي على ارتكابه لخطأ مهني ، ومن ثم لا نتصور قانونا إمكانية رفع لا دعوى جنائية و لا دعوى مدنية ضد القاضي لهذا السبب .
و في القضاء المقارن ، نجد أن قاضي التحقيق الشهير الفرنسي فـــابريس بيركـــو fabrice Burgaud الذي ارتبط اسمه في فرنسا باسم " القضية - الفضيحة أوتـــروoutreau " لما أمر باعتقال أشخاص أبرياء لشهور وسنوات بناء على شهادة شهود في أول الأمر ، ثم تراجع هؤلاء الشهود عن شهادتهم فيما بعد ، لم ترفع ضده لا دعوى مدنية ولا جنائية و إنما خضع للمسطرة التأديبية والمهنية المعتادة عملا بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، ثم حققت معه لجنة برلمانية ، نظرا لتواجد هذا القاضي في قلب خلل كبير عانت منه المؤسسة القضائية الفرنسية ، ونابت الدولة الفرنسية عن القاضي المذكور في تقديم الاعتذار الرسمي للمتهمين الذين تم اعتقالهم وهو أبرياء لمدة طويلة ، ولكن لا أحد من المعتقلين حسب علمي تجرأ على مقاضاة قاضي التحقيق شخصيا باعتباره المسؤول عن مــآسيهم ، أو النيل من الاحترام الواجب للقضاء الفرنسي أو رفع معول التدمير والتخريب في وجهه ، و إن كان إصلاحه ضروري وحتمي ، وهو ما تم الشروع فيه منذ سنة 2006 ، وكل شيء في وقته ، ولنستفد من تجارب من سبقونا .
إنتهى بحمد الله
أصبح من المعروف في السنوات الأخيرة انه كلما صدر حكم في قضية اهتمت بها الصحافة إلا و ارتبطت هذه القضية بمحكمة القاضي المصدر للحكم ، وفي هذا الإطار تناقلت وسائل الإعلام وبعض مواقع الاتصال الاجتماعية خبرا - لم يتسن لنا بعد التأكد من صحته من مصدر مستقل و ذي مصداقية - يتعلق بقاضي المحكمة الابتدائية بـــبن كـــريـــر، الذي قيل انه أطلق سراح ثمانية أشخاص متهمين باغتصاب الفتاة القاصر خديجة السويدي، لما حكم عليهم بالسجن موقوف التنفيذ، الأمر الذي دفع الفتاة إلى الانتحار بحرق نفسها ، ولم يتم نشر هذا الحكم الذي لم يقل فيه بعد لا قاضي الاستئناف ولا قاضي النقض كلمة الفصل فيه النهائية ، ومع ذلك تطوع البعض لوضع حبل المشنقة في عنق " قاضي محكمة إبــن جرير " بقصد تحميله وحده مسؤولية هذه القضية ، ولهذا السبب ينوي أحد مساعدي القضاء ليس مساعدة القضاء على الوصول إلى الحقيقة وفق ما ينص على ذلك قانون مهنتهم ، ولكن من اجل الانتقام من ذلك القاضي كشخص ، وتشويه سمعة القضاء كمؤسسة دستورية ، وذلك من خلال رفع دعوى قضائية ضد (( قاضي محكمة إبــن جرير )) الذي ربما - في نظر بعض مساعدي القضاء والجمعيات النسوية - قد يكون ارتكب عدة أخطاء قضائية في كيفية التعامل مع هذا النوع من القضايا، أومن حيث التدبير السيء للملف والقضية التي لها حساسية بالغة ، وقد يكون هذا الادعاء صحيحا ، ولهذا السبب تسعى هذه الأوساط الحقوقية والمهنية والجمعوية إلى تأجيل جلسة الاستئناف الذي كان مرتقبا عقدها فيها اليوم الخميس 11 غشت الجاري إلى غاية 15 منه بغية إعداد لجان من المحاميات والمحامين والهيئات الحقوقية في إطار تحالف ربيع الكرامة لتدارس حيثيات هذا الملف.
من جهتها، عبّرت جمعية نسوية أخرى عن إدانتها الشديدة لإقدام القاضي على إطلاق سراح المغتصبين، مطالبة بفتح تحقيق في الموضوع ، ومساءلة من تسبب في مأساة خديجة السويدي التي تعرضت لكل أنواع العنف ولعل العنف الأشد والأكثر وقعا على نفسها هو العنف المؤسساتي في نظر هذه الجمعية المحترمة ، في حين طالعتنا بعض المواقع الالكترونية يوم 13/8/2016 بخبر مفاده أن أهل وأقارب الأشخاص المتهمين بالاغتصاب يقولون بأن أبناءهم أبرياء مما نسب إليهم ، فمن نصدق : الجمعيات النسائية و أهل الضحية ، أم رواية عائلات و أهل المتهمين ، أم حيثيات الحكم القضائي الذي لا يمكننا التعليق عليه ألا بعد الاطلاع عليه ، كالطبيب الذي لا يحرر وصفة العلاج ألا بعد فحص المريض ، و أتعجب لأشخاص ومثقفين وملاحظين يحكمون على الشيء قبل تصوره وفهمه ؟ وقبل أن تصدر محكمة الاستئناف قرارها في الطعن الذي رفعته إليها النيابة العامة ؟
و أصدرت وزارة العدل والحريات بلاغا - حسب موقع “الرأي المغربية ” - جاء فيه : (( أنه بناء على البحث القضائي الذي أنجز بخصوص الشكاية التي سبق أن تقدمت بها الفقيدة بمعية والدتها لدى الشرطة القضائية، تم تقديم الأشخاص المشتبه فيهم أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بمراكش ”. وتابع بلاغ وزير العدل والحريات، “قرر إحالتهم على قاضي التحقيق مع ملتمس بالاعتقال، من أجل جنايات استدراج قاصرة بالتدليس واغتصاب قاصرة دون سن 18 سنة عن طريق الاستعانة بأشخاص آخرين، وهتك عرض قاصر باستعمال العنف، والاستعانة بأشخاص آخرين واستعمال أعمال وحشية لارتكاب أفعال تعتبر جناية والمشاركة في ذلك ”. وأفاد البلاغ أيضا، “أنه وبناء على ما أسفر عنه التحقيق تمت إحالة المتهمين على المحاكمة، حيث صدر قرار قضى بمعاقبة أحدهم بثمانية أشهر حبسا نافذا من أجل هتك عرض قاصر بدون عنف، وبراءته من الباقي وببراءة باقي المتهمين بعدما قدرت المحكمة أن الأفعال المنسوبة إليهم غير ثابتة لخلو ملف القضية من أي دليل باستثناء تصريحات الضحية”. وأشار نص البلاغ، أن المتهم الرئيسي الذي بقي في حالة فرار تم إلقاء القبض عليه وتمت إحالته على المحاكمة حيث صدر في حقه قرار بتاريخ 09 غشت 2016 قضى بمعاقبته بثمان (08) سنوات سجنا نافذا ... )) يستنتج من كل هذا ان القضية متشعبة ، وتتداخل فيها عدة أطراف ، وخيوطها لم تكتمل بعد ، ومن ثم نتساءل عما هو الأساس الواقعي والقانوني الذي يخول لأية محامية او جمعية حق مقاضاة قاضي إبن جرير ورفع دعوى ضده ، و ما هي طبيعة هذه الدعوى : جنائية أم مدنية ؟
في جميع الأحوال ، و حتى لو سلمنا فرضا بصحة الوقائع المنسوبة ل (( قاضي محكمة إبــن جرير )) فلا يسعنا إلا نترحم على الروح الطاهرة للمرحومة خديجة السويدي ، ونقدم واجب العزاء لأهلها ، أما مســـألة إدانة القاضي المذكور ، وجلده إعلاميا بسبب انتحار المرحومة خديجة السويدي قبل أن يقول قاضي الطعن كلمته ، وقبل الإلمام بكافة المعطيات ، وقبل مناقشة الأسباب القانونية والمهنية والتنظيمية التي أدت بالقاضي إلى إصدار الحكم المثير للضجة الإعلامية ، فهي مسالة فيها نظر وغير مقبولة قانونيا ولا أخلاقيا ، ولنا الكثير من التحفظات عليها نناقشها تباعـــا في الفقرات التالية ، و إن كنت من حيث المبدأ - و أقولها صراحة من الآن - لست ممن يحرضون على إفلات المسؤولين المذنبين من العقاب ، سواء كان عقابا مهنيا وتأديبيا أم جنائيا ، لأن ذلك يتنافى مع احد مبادئ الدستور الذي ربط المسؤولية بالمحاسبة بعد التوفر على الأدلة والبراهين التي تبرر ليس الحساب فقط بل حتى إنزال أشد العقاب بمن ارتكب المخالفة للقانون .
2 - ما ذا يقول دستور 1 يوليوز 2011 في هذه القضية ؟
ينص الدستور على مبدأ فصل السلط ، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة ( الفصل 1 ) ، وعلى أن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تمارس أنشطتها بحرية ، ولكن في نطاق احترام الدستور والقانون ( الفصل 12 ) ، و أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية ، و الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية(الفصل107) و يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء؛ ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات، ولا يخضع لأي ضغط. يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة. يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة. (109) (( راجع المادة 105 من ظهير 24/3/2016 بشان القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية )) ، لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون(الفصل 110) ، يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون (الفصل 117 ) ، حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه
وعن مصالحه التي يحميها القانون ، كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يُمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة (الفصل 118 ) ، لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول. حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم (الفصل 120 ) ، يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة (الفصل 122 ) ، تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور ( الفصل 154 )
يفهم من هذه النصوص أن القضاء سلطة دستورية مستقلة عن باقي السلط وجدت لحماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات ، وان القاضي إن كان مستقلا فهذا لا يعني انه غير مسؤول ولا تمكن محاسبته ، وبالتالي فهو ليس بكائــــن مقدس كما ادعى البعض على موقع هسبريس (14/8/2015) ، ويفترض في القاضي أن يصدر أحكامه معللة تعليلا قانونيا ، و إن أخطأ في تطبيق القانون يحق للمتضرر أن يحصل على تعويض من الدولة وليس من القاضي ولو ثبتت مسؤوليته المهنية ، ولكن من يحاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة فهو يعاقب أيضا طبقا للقانون ، ولعل حملة البلاغات الجمعوية وغيرها التي تصدر من هنا ومن هناك و كذا ممارسة الضغط الإعلامي على القضاء بمرحلة الاستئناف وهو يستعد لمناقش الدعوى والنظر فيها وقبل أن يصدر حكمه النهائي تعد مما لاشك فيه من قبيل محاولات التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعــــة ، فلما تقول بعض الجهات مثلا : " بأننا - تدابــزنــا - (يعني تشاجرنا، ولم تقل ترافعنا ) مع رئيس المحكمة لكي يقرر تأجيل قضية المرحومة خديجة ... إلى جلسة أخرى قصد إعداد الدفاع " فماذا يعني هذا ... ؟ ويرضخ القضاء مسطريا بعد هذه " المدابــــزة " أو المشاجرة و يؤجل الملف ، و لكن لنا الثقة في أن القضاء لن يتأثر بوسائل الإعلام لكي يجعل من البريء متهما ، أو من المتهم بريــــئا ، بل الأكيد أنه سيطبق القانون كما أنزل دون تغيير أو تبديل لأن القاضي ليس بمشرع ، ولا يجتهد إلا إذا توافرت شروط الاجتهاد .
وحبذا لو أن إحدى المجمعيات القضائية (( وما أكثرها والحمد لله ، وكم كانت نشطة وقت الانتخابات القضائية قبل 23/7/2016 )) عبرت عن موقفها من هذه المحاولات المؤثرة على القضاء بهدف النيل من استقلاله وحياده وجعله يصدر أحكاما وفق ما تشتهيه بعض جمعيات المجتمع المدني التي تنشط في مجال حقوق الطفل والمرأة ... الخ ، أي إصداره لأحكام وفق الطلب أو تحت الطلب ، إن وقوف الجمعيات القضائية إلى جانب القضاة الذين يواجهون تسونامي من احتجاجات الجمعيات النسوية وغيرها وكذا وسائل الإعلام بسبب إسناد قضايا حساسة إليهم قصد البت فيها ويتابعها الرأي العام من شانه أن يقوي استقلال القضاة ويزيد من الثقة بأنفسهم لكي يطبقوا القانون تطبيقا سليما وبشكل عادل وفق ما ينص عليه الدستور والقانون سواء لفائدة زيد أو عمرو ، غير أن هذا التطبيق للقانون من طرف القضاء في السنوات الأخيرة ، وفي زمن الإصلاح القضائي العميق و الشامل ، وفي قضايا خاصة تهم حقوق الطفل والمرأة وحرية التعبير والحريات الشخصية كان محل تعليق و نقد حاد من طرف بعض الجهات ، كيف ولماذا ؟ هذا ما سنراه في الفقرة الموالية .
3 - قضايا إشتعلت إعلاميا و شغلت بال الرأي العام في زمن الإصلاح القضائي :
مابين 2012 و2013 اشتغلت وزارة العدل والحريات على ورش وطني كبير إسمه ( الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة ) انتهى بإصدار الوزارة في يوليوز 2013 ميثاقا يعد بمثابة خارطة طريق لإصلاح هذه المنظومة ، جيد جدا ، غير أن الصحفي توفيق ... قال لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران مخاطبا إياه : (( إنك ألغيت من جدول أعمالك الإصلاحات السياسية والقانونية الجوهرية ، مثل إصلاح منظومة الانتخابات، وإصلاح القضاء، وإصلاح أجهزة الأمن، وإصلاح مالية الدولة…... )) ((موقــع الـــيوم 24 في 18/8/2016)) ، فهل الخبر الصحفي صحيح بعد إنـــفاق الملايين من أموال دافعي الضرائب على ميزانية إصلاح القضاء ... الإصلاح الذي كان حلم القضاة والمتقاضين منذ 10 سنوات خلت ، إنطلق مع الوزير الدكتور عزيمان ، والمرحوم بوزبع ،وعبد الواحد الراضي ، والمرحوم النقيب الناصري ، وتناولته العديد من الخطب الملكية السامية ، وكرسه الفصل 107 وما بعده من دستور 2011 ، وصدر بشأنه ميثاق لإصلاح منظومة العدالة ، ويأتي اليوم بوعشرين ليضرب كل شيء في الصفر ... يعني في الزيرو ، ولا ادري سند علمه في ذلك والحال أن الصحافة تريد أن تكون سلطة رابعة ، لا إشكال ولا اعتراض على ذلك ، لكن الاعتراض يقع لما تسهب الصحافة في التحليل و تهمل المعلومات ... أي عدم نشرها للخبر موثقا وبدون حيثيات ، كان بودي أن تكذب الوزارة المعنية هذا الخبر ، وتقول إن إصلاح القضاء حقيقة مؤكدة لا مراء فيها وسيتحقق عاجلا أم آجلا وتبعا لبرنامج مضبوط ومسطر ، لكن هذا لا يمنع من أن نقول أنه في إطار حرية التعبير عن الرأي المكفولة دستوريا و دون تبخيس لعمل الحكومة أعلى النموذجأسفل النموذج أنه يبقى لكل واحد منا تصوره الخاص عن إصلاح منظومة العدالة او القضاء ، ومن بين هذه التصورات - حسب البعض - ووفقا للمعايير الأوربية : " تيسير الولوج إلى المحكمة والقضاء ، و استقبال المتقاضي في أحسن الظروف ، والتواصل معه إيجابيا ، تمكينه من المعلومات التي له الحق فيها بكل شفافية ، احترام حقوقه في الدفاع عن نفسه ، تمكينه من الحصول على حكم في أحسن الآجال ، ويكون الحكم معللا تعليلا قانونيا وعادلا ، وقابلا للتنفيذ ، وفتح باب الطعون القانونية ، والتشكي عند الاقتضاء - حسب ثقافة المغاربة - بالنسبة لمن لم يرض بنتيجة الحكم وكانت بحوزته أدلة مادية أو قانونية تدل على أن القاضي أخطأ في تطبيق القانون واضر به ".
والبعض الآخر يختزل الإصلاح في جملة جد بسيطة وهي : (( حث الدولة على أن توفر للمواطنين وللمتقاضين قضاة مستقلين ، و نزهاء ، و أكفاء ، يصدرون أحكاما قانونية وعادلة في آجال معقولة ، تنفذ فورا أو في آجال معقولة كذلك )) ، هذا هو جوهر الإصلاح والأمور الأخرى تبقى من مكملات الإصلاح ، بل إن هذه الرؤيا المبسطة للإصلاح القضائي هي ضالة وهدف البسطاء من الناس ، وصغار المتقاضين الذين يبحثون عن تنفيذ حكم بأداء النفقة ، أو أداء كراء ، أو إفراغ منزل للاحتياج ، او الإفراج عن شكاية عـــالقة بين مصالح الضابطة القضائية والنيابة العامة ...الخ ، أما كبار المتقاضين فلهم كبار المحامين الذين يعرفون كيف يؤمنون حقوق دفاع موكليهم الكبار طبقا للقانون طبعا .
ولما كان ورش الإصلاح مفتوحا وحتى بعد أن أسدل الستار عليه شهدت الساحة القضائية عدة قضايا انتهت بشكل درامي في بعضها ومنها مثلا : إنتحار أمينة الفيلالي بالعرائش بعد زواجها من مغتصبها ، ومتابعة فتاتين بانزكان بسبب لباسهما للتنورة (( صايــــا قصيرة )) تخل بالحياء في نظر البعض ، متابعة تلميذ وتلميذة مراهقين بالناظور لأنهما تبادلا قبلة تم نشرها عبر الانترنيت والفيسبوك ، اعتقال مصطفى العمراني مدرب “أطفال فاجعة الصخيرات” ، متابعة واعتقال الشاب عبد الرحمان المكراوي الملقب ب (( مول الزفت )) لأن فضح بناء طريق بمادة الزفت المغشوشة ثم إطلاق سراحه بعد أن تدخل المجتمع المدني وقال (( اللهم إن هذا منكر )) ... الخ ... ، و أخيرا قضية المرحومة خديجة السويدي ، وربما سوف لن تكون القضية الأخيرة إذا لم تينع وتزدهر شجرة الإصلاح القضائي وتؤتـــــي أكلها كما هو مخطط لها في ميثاق الإصلاح رغم تشكيك بعض الصحافيين ، والقضايا المشار إليها أعلاه تتقاطع مع إحدى الخانات أو الفقرات الرئيسية والجوهرية في عملية و خطة إصلاح القضاء ألا وهي : نجاعــة تكوين القاضي من الناحية المهنية وكفاءته التي يجب أن تكون ما فوق المتوسط ، لأنها - اي هذه القضايا - تظهر ان القاضي الجنائي المغربي الجالس له إشكالية ما مع تفريد أو تحديد العقوبة الجنائية للفعل الجرمي والتصرف بين الحدين اللذين رسمهما المشرع للعقوبة كأن يترك المشرع للقاضي صلاحية تحديد العقوبة الحبسية ما بين سنة واحدة و 5 سنوات ، فمثلا بالنسبة لجريمة السكر العلني غير المقرونة بجريمة أخرى ، هل سيحكم القاضي بغرامة ، أم بشهر حبسا موقوف التنفيذ ، أم بشهرين حبسا نافذا ؟ وبالنسبة لجريمة اغتصاب فتاة هل ستكون العقوبة 6 أشهر حبسا نافذا أم سنة نافذة أم 5 سنوات سجنا نافذا؟
كما أن القضايا المشار إليها أعلاه تظهر في جانب منها أن قاضي النيابة العامة هو الآخر له إشكالية مع كيفية استعمال سلطة الملاءمة في المتابعة بحكامة قضائية جيدة ، فهو لا يتردد في متابعة أشخاص في حالة اعتقال رغم أن الأفعال المنسوبة إليهم لا تهدد الأمن العام ولا النظام العام ولا تشكل خطرا أو تهديدا على ضياع او تبديد أدلة جنائية ، وليست من الجرائم البشعة التي تستفز مشاعر المواطنين والمجتمع المدني ، والمتهم له من الضمانات ما يكفي لكي يمثل أمام قضاء الحكم في الجلسة المحددة له ، ومع ذلك يتابع المتهم في حالة اعتقال ، ولما يكثر القيل والقال والاحتجاج والقصف الفيسبوكي والإعلامي على المحكمة من هنا وهناك يتم إطلاق سراح المتهم وقد يبرئه القاضي الجنائي مما نسب إليه أو يحكم عليه بعقوبة مخففة ، فأين هي الحكامة القضائية الجيدة من كل هذا ؟ وما تقوله وثيقة أو ميثاق الإصلاح القضائي في كل هذا ؟ وطالما انه هناك مشكلة حول تفريد العقوبة الجنائية المناسبة للفعل الجرمي ، وقبلها هناك مشكلة حول كيفية استخدام النيابة العامة لمبدأ أو سلطة الملاءمة في متابعة المتهمين بشكل جيد وعقلاني ، فكم من ندوة أو مناظرة أو دورة تكوينية نظمها المعهد القضائي أو وزارة العدل مركزيا بالرباط أو جهويا بمحاكم الاستئناف للتفكير في الحلول العملية المناسبة لمثل هذه المشاكل ، و من بينها مثلا : وضع لائحة استرشادية لعقوبات معينة لجرائم معينة ترتكب في ظروف معينة و بحيثياث محددة و يستعين بهذه اللائحة الاسترشادية القاضي الجنائي عند اللزوم ولكنها لا تلزمه لأن القاضي مستقل من جهة ، ثم إنه هو الأدرى بوقائع الملف الذي بين يديه ، كذلك الأمر بالنسبة للسادة نواب وكيل الملك لماذا لا توضع بين أيديهم لائحة استرشادية لكيفية متابعة المتهمين ، و ما هي الصيغة القانونية المناسبة ، والأخطر من كل ذلك هو : هل سيتابع المعني بالأمر في حالة سراح ، أو اعتقال ، أم أن الشكاية الموجهة ضده حفظها أولى بكثير من تحريك المتابعة بشأنها تفعيلا لمبدأ الحكامة القضائية الجيدة ، ولمبدأ استقلال النيابة العامة ، إن نائب وكيل الملك وفي غياب تعليمات كتابية صريحة من رئيسه الأعلى فهو مستقل في اتخاذ القرار المناسب من الناحية القانونية والذي يطمئن إليه واستقلاله هذا لا يقل بتاتا عن استقلال قضاء الحكم الجالس ، وكم من وكيل للملك وكم وكيل عام للملك اعرفهم عبروا عن هذا الاستقلال ، وحتى لما تصدر التعليمات الكتابية والملاحظات طبقا للقانون من الرئيس الأعلى إلى السيد نائب وكيل الملك ضدا على قناعتـــه في قضايا معينة ( طبقا للمادة 43 من من ظهير 24/3/2016 بشان القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ) ، فقلمه أسير " الله غالب " ، ولكن لسانه حر ، يعبر به وقت جلسة الحكم ، وربما هذه القاعدة طواها النسيان :
« La plume est serve , mais la parole est libre »
لا أريد أن اترك هذه الفرصة تمر دون أن أشير إلى أن الأمور مرتبطة ببعضها البعض ، و أن قضية خديجة السويدي لها - ربما - علاقة بالإصلاح القضائي و بالجانب التنظيمي داخل المحاكم الإبتدائية، فالجمعية العمومية لأية محكمة تنعقد في شهر دجنبر من كل سنة وتوزع الجلسات والقضايا بين القضاة ، ولكن هناك قضايا لها أهمية خاصة وحساسية بالغة عند المتقاضين المغاربة وهي : 1 - القضاء المستعجل ، 2 - قضايا العقار ، 3 - قضايا الجنحي التلبسي ، ويستحسن - كلما عدد القضاة كافيا ومتوفرا بالمحاكم - أن تسند هذه القضايا إلى أقدم القضاة بالمحكمة الذين لهم من الممارسة والتجربة والاجتهاد وحسن التصرف مما يجعل القضاء بمنآى أي قيل أو قال أو ضجة إعلامية من هنا أو هناك ، وهو ما تطبقه المحاكم الكبرى ، و لا علم لي بما إذا كان المحكمة الابتدائية بان جرير( وهي محكمة صغيرة أو متوسطة ) طبقت هذا الخيار أو القاعدة في توزيع الجلسات أم لا ؟ ليست لدي عناصر للجواب سلبا او إيجابا عن هذا السؤال ، لاسيما وان بعض المحاكم الصغيرة أو المتوسطة بالمملكة لها خــصاص مزمن في عدد القضاة ولا سيما المتمرسين منهم ولغاية سنة 2011 حسب علمي .
***
نخلص من كل ما سبق أن الصعوبات التي واجهت المحاكم وحدة الانتقادات التي وجهت للقضاء بخصوص القضايا المذكورة آنفا و التي اشتعلت إعلاميا مابين 2012 و 2016 ربما يرجع سببها إلى أن القضاء يتواجد الآن في مرحلة انتقالية أو بين عهدين : عهد ما قبل دستور 2011 ، وعهد ما بعد دستور 2011 وتأسيس سلطة قــضائية جديدة مع مطلع السنة المقبلة 2017 .
***
ختاما ، أقول على هامش قضية المرحومة خديجة السويدي ، نعم لإصلاح القضاء ، ولمحاسبة القضاة وفقا للطرق القانونية المعتادة ، ولكن لا للتأثير عليهم عبر وسائل الإعلام والفيسبوك والبلاغات النارية ! ففي الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى أسرة القضاء بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة للمجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 12 أبريل 2004 جاء أن :
(( ... استقلال القضاء الذي نحن عليه حريصون ليس فقط إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي يضمنه الدستور ، ولكن أمام السلط الأخرى شديدة الإغواء ، وفي مقدمتها سلطة المال المغرية بالارتشاء وسلطة الإعـــــلام التي أصبحت بما لها من نفوذ متزايد و أثر قوي في تــــكييف الــــرأي العام سلـــطة رابــعة في عصرنا ، فضلا عن سلطة النفس الأمارة بالسوء ... )) ((المصدر : وكالة المغرب العربي للأنباء ))
إذن التأثير على القضاة بصفة غير مشروعة محرم دستوريا وقانونيا وبموجب خطاب ملكي سامي ، أما من ثبتت في حقه من هؤلاء القضاة مخالفة مهنية أو إنحراف فلا مفر له من المحاسبة التي يجب أن تتكفل بها أجهزة التفتيش والتأديب بالطرق القانونية و بالإجراءات المعتادة ، وليس من المستبعد أن يلقى الجزاء التأديبي والمهني المناسب ، إلا أن تهديد بعض المتقاضين للقضاة برفع دعوى شخصية ضدهم بسبب ما ارتكبوه من أخطاء مهنية بمناسبة إصدارهم لأحكام قضائية فهذا اجتهاد يجب وأده في المهد ، وباب يجب إغلاقه قبل أن يفتح ، و للأبد لعدم قانونيته ، أولا لأنه ليس في القانون المدني ما يجعل القاضي يتحمل شخصيا المسؤولية عن أخطائه المدنية نظرا لصراحة المقتضى الدستوري المشار إليه أعلاه ( الفصل 122) من جهة ، فاﻟﻘﺎﺿﻲ اﻟﺬي ﻳﺨﻞ ﺑﻤﻘﺘﻀﻴﺎت ﻣﻨﺼﺒﻪ ﻳﺴﺄل ﻣﺪﻧﻴﺎ ﻋﻦ هذا اﻹﺧﻼل ﺗﺠﺎﻩ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻤﺘﻀﺮر ﻓﻲ اﻟﺤﺎﻻ ت اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻮز ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺨﺎﺻﻤﺘﻪ ( الفصل 81 من قانون الالتزامات والعقود ) وهذه الحالة غير متوفرة في النازلة ، وفي جميع الأحوال فهذا الفصل أصبح متجاوزا و غير دستوري لتعارضه الصريح مع منطوق الفصل 122 من الدستور المذكور أعلاه و الذي ينص على انه : ( يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة) ، ومن جهة أخرى ليس في القانون الجنائي ما يعاقب القاضي على ارتكابه لخطأ مهني ، ومن ثم لا نتصور قانونا إمكانية رفع لا دعوى جنائية و لا دعوى مدنية ضد القاضي لهذا السبب .
و في القضاء المقارن ، نجد أن قاضي التحقيق الشهير الفرنسي فـــابريس بيركـــو fabrice Burgaud الذي ارتبط اسمه في فرنسا باسم " القضية - الفضيحة أوتـــروoutreau " لما أمر باعتقال أشخاص أبرياء لشهور وسنوات بناء على شهادة شهود في أول الأمر ، ثم تراجع هؤلاء الشهود عن شهادتهم فيما بعد ، لم ترفع ضده لا دعوى مدنية ولا جنائية و إنما خضع للمسطرة التأديبية والمهنية المعتادة عملا بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، ثم حققت معه لجنة برلمانية ، نظرا لتواجد هذا القاضي في قلب خلل كبير عانت منه المؤسسة القضائية الفرنسية ، ونابت الدولة الفرنسية عن القاضي المذكور في تقديم الاعتذار الرسمي للمتهمين الذين تم اعتقالهم وهو أبرياء لمدة طويلة ، ولكن لا أحد من المعتقلين حسب علمي تجرأ على مقاضاة قاضي التحقيق شخصيا باعتباره المسؤول عن مــآسيهم ، أو النيل من الاحترام الواجب للقضاء الفرنسي أو رفع معول التدمير والتخريب في وجهه ، و إن كان إصلاحه ضروري وحتمي ، وهو ما تم الشروع فيه منذ سنة 2006 ، وكل شيء في وقته ، ولنستفد من تجارب من سبقونا .
إنتهى بحمد الله