أخاف أن يحترق الزميل حكيم الوردي بقلمه الذي يحتاج أن يستقيم من اعوجاج، ويحتاج لأدوية من متخصصين في فن الكتابة، كما احترق القاضي انطوان فوكيي تانتفيل الذي لعب دور النائب العام (المتهـِــم العموميaccusateur public ) لدى محكمة الثورة الفرنسية التي تأسست سنة 1793 و الذي حصل بناء على طلباته ومرافعاته أمامها على أحكام بإعدام أكثر من الفي شخص خلال سبعة شهور فقط من توليه للمهمة بالمحكمة، وليحرق اوراقه باندفاع عن اتهاماته بانفعال وبحماس غير محسوب، و لتتم متابعته و محاكمته هو وآخرين سنة 1795 بتهم ثقلية منها أنه تابع اشخاصا دون قيام ادلة ضدهم، ووضع اسماء متهمين مكان اسماء اشخاص لا علاقة لهم بالملف، وإعدام اشخاص لم يصدر في حقهم حكم بالإعدام.......،الخ وغير ذلك من الجرائم حيث انتهت محاكمته بالحكم عليه بالإعدام وبتنفيذ الحكم في حقه ، وأتمنى ألا تسقط الاخطاء التواترة للمدعى العمومي المغربي الشاب الحكيم كما وقع لزميله الفرنسي بسبب تعليقاته وتعقيباته التي يلعب فيها ادوارا متعددة حسب الاحوال منها تارة دور ناطق باسم حزب يميني، وأخرى باسم اغلبية حكومية، وتارة داعية لمواقف السلطة، و أخرى لاعبا شاردا لا يعرف له اتجاه..... وهذه المهام يؤديها احيانا بصفته قاضيا بالنيابة العامة وممثلا لها بالجلسة وأخرى مهتما بالقانون و بالحقوق، ولكن في كل الاحوال يظل الاستاذ الوردي مزدوج اللغة والمواقف ويقفز على حبال عدة وهذا ما يفسد عليه الحظوظ او بالأحرى ما يمكن يدفعه لمنزلقات خطيرة مهنيا وحقوقيا.
لقد رافع زميلنا مؤخرا في مقال منشور له في احدى الصحف الالكترونية عقب قرار عارض صدر يوم الفاتح من فبراير الجاري عن محكمة الجنايات الاستينافية بالدار البيضاء التي تحاكم المعتقلين في حراك الريف، مقدما للقراء كالعادة ابتسامته وصورته مع راس نابوليون، ولم يفاجئني بتعليقه المنشور وهو يكتب دون ذكر هويته القضائية كممثل للنيابة العامة في نفس الملف الجنائي ابتدائيا ثم استئنافيا - وربما سينتقل لمحكمة النقض لمتابعة ملف الحراك هناك - وأمنيتي أن ألتقي معه بإحدى الغرف الجنائية بأعلى محكمة بالمملكة.
لقد استغل صاحب الابتسامة الوردية كعادته وكباقي مجريات المسطرة بالملف، صدور قرار المحكمة استغلالا مسطريا طبعا و استغلالا سياسيا و إعلاميا كذلك، وكأنه ناطق رسمي باسم هيئة المحكمة يقدم تعليلات اضافية على تعليلات القرار ويتدارك المسكوت عنه فيه حيث حاول التعليق من خلال مقاله أولا على المعتقلين الذين فُرِض عليهم موقف مغادرة القاعة والذين ابدوا تخوفهم عن مصير محاكمتهم منذ بدايتها وعن مصيرهم هم أنفسهم من منزلقات سقطت فيها المحاكمة خصوصا لما اصدرت رائيا مسبقا في طبيعة الملف والمحاكمة وصفة المتهمين كمعتقلين سياسيين و محاكمتهم كمحاكمة سياسية، ولا ادري كيف سول ئيس المحكمة لنفسه إصدار هذا الحكم المسبق قبل مناقشة الموضوع وقبل الانتباه لما يمكن ان يقدمه الدفاع أمامها من تعليلات ومبررات محتملة يمكن ان تقنعها بحقيقة وطبيعة الملف السياسية اعتبارا أن في المحاكمة السياسية أراء الفقه وأراء المختصين في علم الجريمة، ومحاولا ثانية استعمال لغة سياسوية مثل الذين كان همهم منذ القديم من الزمن النفخ في النفير ليلتفت اليهم العالم حيث اعتقد الاستاذ الوردي ان تطبيق المحكمة لمبادئ القانون وتقيدها بحق دستوري وهو حق الدفاع وحق المحامين في المرافعة، امر يقتضي قرع الطبول وإقامة الصلوات في المساجد والكنائس تهليلا وتمجيدا وكأن القلم الوردي يتخوف مسبقا ممن قد تكون له انتقادات على سير المسطرة استقبالا وليقول لهم (( ها انتم معشر الحقوقيين المُغرضين المتربصين بِنَا ترون ما لا مثيل له في العالم وما لم يستطع الإتيان بمثله عرب ولا عجم قد حصل هنا بالدار البيضاء امام غرفة الجنايات الاستينافية في ملف خطير وكبير وهو ملف محاكمة حراك الريف، وأشهدوا بان المحامين عندنا يترافعون امام المحكمة حتى في غياب موكليهم))....، من دون أن يفهم الاستاذ الوردي بأن له مكانة في المحاكمة الجنائية لا تسمح له أن يكون دعويا سياسيا لأية جهة ولا حَمالا لرسائلَ و لألغام إعلامية تضرب استقلال النيابة العامة وتجرها لدروب النفاق الحقوقي والسياسوي، فمكان مرافعاته هي القاعة ولا يسمح له كقاضي أن يستعمل سلطته المعنوية في تمرير خطاب تتصارع فيه الآراء والمواقف ليصطف إلى جانب صوت أو طائفة أو زعيم او أو مورد تابع لجهة ما.... فحريته تنتهي لما تصبح متعارضة مع وظيفته القضائية وهو يعلم ذلك جيدا.
لعب نابليون لدار البيضاء بذكاء في مقالته بالكلمات قصدا وبنية ميكيافيلية او مخزنية حيث تعمد القول بان المحكمة " منحت " للدفاع حق المرافعة، واعتبر بان القرار يتعلق " بتقديم الطلبات الاولية والمدفوعات الشكلية " هو قول غير بريئ بالطبع لأنه ايحاء لمن يهمه الأمر وبشكل مسبق بأن القصد من الاستماع لمرافعة المحامين سيكون في حدود الطلبات الاولية فقط، وهذا ضرب من خيال لا يصدر عن رجل قانون وقاض واعي بمكانة المحامي في المسطرة ولابد له أن يعلم بأن ذلك لن يحقق له أو لغيره ولن يتنازل المحامون عن أداء مهامهم بحرية لأنهم يرفضون اي قيد يمس مكانتهم، ومحاولا ثالثة في مقالته أن يقول بأن قرار المحكمة فسر الحق في الدفاع تفسيرا حقوقيا واسعا، متناسيا بأن التفسير الحقيقي هو الذي مصدره النص الدستور والقانون لان حضور ومؤازرة المحامي للمتهم جوهر الحق في الدفاع الذي يجب على كل قاضي احترامه وإعمَاله وتطبيقه بكل حمولاته من دون ان يرهق القاصي نفسه لتفسيره او لتأويله علما بلن القضاء الاوروبي الذي استشهد به الزميل الوردي هو من فرض على المشرع في بلدان أوروبية عديدة ملائمة عدد من نصوص المسطرة وفرض على السياسيين في دولها الانسجام مع قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان وهو من فسر الحق في الدفاع التفسير الواسع وليس التفسير الضيق كما كان يتمنى الاستاذ الوردي وهو من فرض حضور المحامي بداية من الساعة الأولى لوضع المتهم بالحراسة النظرية وهو من فرض حضور المحامي في اطوار البحث التمهيدي فهذه هي الاتنصارات التي حققتها العدالة للمتقاضين قبل أن تحققها للمحامين ، ومن هنا فما يعتبره الحكيم بمقاله نصرا حقوقيا للمحامين وللقضاء بالمغرب ما هي سوى خطوة صغيرة على مسافات بعيدة لا زال القضاء مع المشرع لم يبلغ مداها ، وهو هي ابسط شرط في اية محاكمة ومن يعمل على التلاعب به أو حرمان المتقاضي منه فعليه مغادرة مهامه القضائية،
والحقيقة التي كان على نابليون القانوني بالدار البيضاء الاعتراف بها هي أن غرفة الجنايات الاستينافية بالدار البيضاء وهي تصدر قرارها العارض يوم الجمعة فاتح فبراير في ملف معتقلي حراك الريف، قد تجنبت السقوط في هوة القرن القضائية والانزلاق في الفهم غير السليم للقانون، لو انها رفضت التقيد بالحق الثابت للمتابعين قبل الحق الثابت للمحامين في ممارسة دورهم في الدفاع واحترام حقهم المطلق في المرافعة عن موكليهم الذين اجبروا على مغادرة قاعة المحكمة قبل أسابيع بعد ان وُضـعوا بداخلها في قفص زجاجي ضيق غير شفاف ومسيء لكرامة كل إنسان وكل حيوان على السواء، وبعد ان رفضت المحكمة مثولهم أمامها مباشرة احرارا غير مقيدين ماديا ومعنويا ونفسيا، مطمئنين انهم غير مدانين مسبقا ويتمتعون بقرينة البراءة بكل معالمها ومعانيها بما فيها المعاني أللامادية وهذا ما لم يقدر على منعه صديقنا الحكيم الذي وقف دفاعا عنه بدل الدفاع عن رفعه ووصفه بأنه اسوء اجراء تعرض له متهمون خلال محاكمتهم بل ويعتذر عن صمته على حالة متهمين ممنوعين من آدميتهم أمام المحكمة والأمن يطوقهم ولا يحتاج أحد إلى سجنهم بسجن خاص بهم بقاعة المحاكمة.
لو صدر قرار غير قرار احترام مكانة المحامين وحقهم المطلق في المرافعة مهما كانت وضعية المتهم ، ولو تخيلت هيئة المحكمة تجاوز حق المحامين في المرافعة في غياب موكليهم لتخيلنا بدورنا في الدفاع بأننا في شبه محاكمة أو في محاكمة مثل ما يعرف بالمحاكمات ستالينية، لان حق المحامين حق عادي وعادل ولا يحتاج من المحكمة سوى دقائق لاستيعاب الموضوع واعتباره حقا بديهيا وليس تبرعا ولا منحة من احد، حق لا يمكن المجادلة فيه لأنه الحق المجسد لأصول المحاكمة العادلة، و حق من النظام على قضاة كل دولة في العالم يتحررون من قفص الفهم الضيق لقواعد المسطرة ويتمتعون بالقدرة على استيعاب ابعاد الحراك القضائي الذي تعيشه مجتمعات لها باع في التجارب القضائية المتنورة حيث قضاتها يرفضون كل الحساسيات حتى المتعلقة بالملفات السياسية لأنه لا ترعبهم السياسة لا تخيفهم حتى وهم يحاكمون رئيس دولة او وزير حكومة و مسؤول من مسؤولي اجهزتها.
فيا حكيم محكمة الاستيناف بالدار البيضاء ويا قلمها الإعلامي ولسانها السلس، انتبه لما تكتبه وتقوله، عليك ان تحافظ على هدوئك ومن لوعتك فالقضاة والمحامون يفخرون بإبداعاتهم التي يسبقون بها غيرهم ويسجلون بها مواقف تاريخية يرسمون بها خطوطا يسير على ضوئها الحكام و السياسيون والبرلمانيون، ومن هنا كنتَ ستُبدع في الحقيقة لو وقفت منتصرا لطلب المحاميات والمحامين لرفع القفص وتحرير المعتقلين من ظلامه وظُلمَته، ووقفت لرفض " ضم حكمين ". حكم الصحفي السيد المهداوي وحكم لبقية المعتقلين، لان الضم يكون لملفين ولا يكون لحكمين امام محكمة الاستيناف ليخرج منهما حكم واحد كل بوقائعه وكل بحيثياته ، ولوقفت كذلك منتصرا لطلبات السراح المؤقت لمن هم معتقلين احتياطيا ولا زالوا يتمتعون بقرينة البراءة ولمن تجمعوا وتظاهروا سلميا وطالتهم السنوات من السجن وأنت ترى ان محاكمات اصحاب السترات الصفراء كيف انتهت وما هي الاحكام التي صدرت في حقهم من قبل زملائك قضاة فرنسا و ترى كيف استمع اليهم الجميع دون أن يصقهم أحد لا بالخونة ولا بالانفصاليين ولا .. ولا....الخ
انا اهنئك على استعمال حريتك في الكتابة وفِي التعبير دون إذن من رئيس او من وزير ، واهني آلاف القاضيات و القضاة لممارستهم حريتهم في النقاش العمومي لقضايا العدالة وغيرها و في تأسيس النوادي والجمعيات خارج تعليمات وأوامر السلطة او إذن منها ، واهني عشرات الآلاف من المحاميات ومن المحامين ممن ظلوا عشرات السنوات وهم يطالبون بثبات بحق القضاة في الكلمة والكتابة والتجمع والتنظيم الحر والمستقل و بتوسيع عضوية المجلس الأعلى للقضاء لفاعلين قانونيين من غير القضاة،
و أنا فاعتز بما يؤديه المحاميات والمحامون يوميا من مهام امام محاكم المغرب بصبر وجلد وأحيانا يتابعون ويعاقبون من اجل اداء رسالتهم وفِي سبيلها كضريبة لاستقلال المحاماة وحريتها وحصانتها، ولذلك لا تعط لقلمك حرية لا يملكها لتحاول ان تقيس الحق في الدفاع بمقاييسك القصيرة التي لا زالت في حاجة للنضج وللتجربة وللاحتكاك بقيم المحاماة وعليك تمثل ما قاله افلاطون : LA JUSTICE EST L'INTELLIGENCE ET LA SAGESSE
الرباط" 7 قبراير 2019