مقدمة:
خلافا لقواعد المسؤولية التقصيرية التي تعد من النظام العام، وبالتالي فلا مجال للاتفاق على عكس ما قرره المشرع بشأنها من احكام فان الوضع ليس كذلك بالنسبة لقواعد المسؤولية العقدية، حيث ان الأصل في هذا الميدان هو حرية الأطراف المتعاقدة في تعديل احكام المسؤولية العقدية سواء تعلق الامر بتشديد هذه المسؤولية او التخفيف منها، وقد يصل ذلك الى حد اعفاء المدين منها مطلقا، الا ان هذا الأصل ترد عليه مجموعة من الاستثناءات التي حد فيها المشرع من قدرة الإرادة بخصوص مسألة تعديل قواعد المسؤولية العقدية[1].
وفي ضوء هذا السياق، تظهر أهمية اتفاق الأطراف على تخفيف أو إعفاء المسؤولية العقدية. فبمقتضى الحرية التي يتمتع بها الأفراد في التعاقد، يُمكنهم التوصل إلى ترتيبات خاصة تناسب ظروف العقد وطبيعة الالتزامات المتفق عليها. وهذا يتضح من خلال فصل 232 من ق.ل.ع[2] الذي تطرقتم إليه، الذي يسمح باتفاق الأطراف على التخفيف من المسؤولية العقدية، باستثناء حالات الجسامة أو التدليس.
لكن؛ يظل لدينا أمامنا أيضًا مفهوم الالتزامات المعفية والتشديد في المسؤولية. فالدائن يحتفظ بحقه في تحديد مستوى مسؤولية المدين، وهذا يمكن أن يتم من خلال تضمين شروط محددة في العقد. هذه الشروط تعكس استعداد المدين لتقديم جهد إضافي أو تحمل مسؤولية أكبر في حالة عدم الوفاء بالالتزامات المعلنة. وهذا التوازن بين حرية الاتفاق وحماية الحقوق يجسد جوهر النظام القانوني وقيمه.
سننتقل في الجزء التالي إلى مناقشة تفاصيل أكثر حول كيفية تطبيق هذه المفاهيم في القانون المغربي، بما في ذلك دور القاضي في تحديد التعويضات والاعتبارات التي يأخذها في الاعتبار أثناء تقديره لحجم الضرر. كما سنتناول أمثلة عملية توضح تطبيق هذه المفاهيم في سياق العقود والالتزامات العقدية المختلفة.
لا نزاع في انه بعد ان تتحقق المسؤولية يجوز الاتفاق على تعديل احكامها بالإعفاء او التخفيف تو التشديد، فيصح ان ينزل المضرور عن حقه في التعويض، او يقبل تعويضا اقل، ويصح ان يلزم المسؤول نفسه بتعويض أكبر، اذ ليس في كل هذا أي مساس بالنظام العام[3].
وعلى هذا الأساس، ارتأينا تقسيم هذا المقال الى فقرتين؛ سنتناول في (الفقرة الأولى) الاتفاقات المخففة او المعفية من المسؤولية العقدية، على ان نتناول في (الفقرة الثانية) الاتفاقات المشددة للمسؤولية العقدية.
الفقرة الأولى: الاتفاقات المخففة او المعفية من المسؤولية العقدية
ان القاعدة في مجال المسؤولية العقدية، هو جواز اتفاق الأطراف على ادراج الشروط التي تسمح بالتخفيف او الاعفاء من المسؤولية العقدية، وذلك بخلاف الامر بالنسبة للمسؤولية التقصيرية التي تعتبر قواعدها من النظام العام. وبالرغم من ان المشرع المغربي لم ينص على هذه القاعدة بشكل صريح، الا انها تستشف من قراءة الفصل 232 من ق.ل.ع. الذي جاء فيه "لا يجوز ان يشترط مقدما عدم مسؤولية الشخص عن خطئه الجسيم وتدليسه".
وذلك ان هذا الفصل يثير ملاحظتين أساسيتين، الاولى، انه عن طريق مفهوم المخالفة لهذا الفصل فان المشرع المغربي يسمح بجواز الاتفاق على التخفيف والاعفاء من المسؤولية العقدية. اما الملاحظة الثانية، فهي عدم جواز اتفاق المتعاقدين على اعفاء المدين من مسؤوليته العقدية إذا صاحب اخلاله بتنفيذ التزامه خطأ جسيم أو تدليس.
عموما، فإنه إذا كانت القاعدة العامة تقضي بجواز الاتفاق على التخفيف والإعفاء من المسؤولية العقدية، إلا أن هناك مجموعة من لاستثناءات التي لا يجوز فيها مثل هذه الاتفاقات، لعل أهمها:
حالة الخطأ الجسيم والتدليس، تطبيقا للفصل 232 من ق.ل.ع[4]. الذي نص على أنه لا يجوز ان يشترط مقدما عدم مسؤولية الشخص عن خطئه الجسيم وتدليسه، ويدخل ضمن هذه الأخيرة الحالة التي يكون فيها المدين سيء النية، كما هوا الشأن بالنسبة للبائع الذي يشترط عدم مسؤوليته عن أي ضمان، فإذا كان المبدئ هو جواز مثل هذا الاتفاق تطبيقا للفقرة الثانية من الفصل 571 من ق. ل.ع[5]. إلا أن مثل الاتفاق يصبح باطلا إذا كان سيء النية كما نص على ذلك الفصل 574 من ق.ل.ع. الذي جاء فيه "... كما لا يحق له التمسك بأي شرط آخر من شأنه أن يضيق حدود الضمان المقرر عليه، ويعتبر سيء النية كل بائع يستعمل طرقا احتيالية ليلحق بالشيء المبيع عيوبا أو ليخفيها"[6].
حالة الاخلال بالالتزامات المتعلقة بالنظام العام؛ حيث لا يمكن للمتعاقدين الاتفاق على الاعفاء من المسؤولية الناتجة عن الالتزامات المرتبطة بالنظام العام؛ من قبل هذه الالتزامات تلك المتعلقة بالتعويض الاتفاقي إذا كان زهيدا، حيث يخول الفصل 264 من ق.ل.ع[7] للقاضي إمكانية الرفع منها، بل ان الفقرة الأخيرة من هذا الفصل جعلت هذه السلطة من النظام العام ومن ثم لا يمكن الاتفاق على خلافها. كما يتضح لنا من قراءة هذه الفقرة التي جاد فيها "يقع باطلا كل شرط يخالف ذلك"؛
الحالة التي يكون فيها للشرط تأثير علي سلامة وصحة الافراد؛ كما هو الشزن بالنسبة لعقد المقاولة، حيث يمنع علي المقاول ادراج أي شرط من شأنه اعفاؤه من المسؤولية[8]، تطبيقا للفصل 772 من ق.ل.ع الذي جاء فيه: "يبطل كل شرط موضوعه إنقاص او اسقاط ضمان اجير الصنع لعيوب صنعه، وعلى الأخص إذا كان قد اخفى عن قصد هذه العيوب، او كانت هذه العيوب ناشئة عن تفريطه الجسيم"[9]؛
حالة الشروط المدرجة من قبل المهنيين الهادفة الي الغاء حق المستهلك في الحصول على التعويض او تخفف منه، وغيرها من الشروط التي تعتبر تعسفية حسب مقتضيات القسم الثالث من القانون 31.08[10] القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك[11].
الفقرة الثانية: الاتفاقات المشددة للمسؤولية العقدية
كما هو الشأن بالنسبة لجواز الشروط المخففة أو المعفية من المسؤولية العقدية، فإن الدائن يمكن أن يشترط تشديد مسؤولية المدين؛ من قبيل ذلك، جعل التزام هذا الأخير التزاما بتحقيق غاية بدلا من كونه التزاما ببذل عناية. والأكثر من ذلك، فإنه حتى بالنسبة لهذا النوع من الالتزام -الالتزام بتحقيق نتيجة-، فإن الدائن يمكن أن يشترط على المدين تشديد مسؤوليته، عن طريق تحميله السبب الأجنبي؛ أي، المدين في مثل هذه الحالة يكون مسؤولا في جميع الأحوال. ومن جهة أخرى، فإن تشديد مسؤولية المدين قد تتم عن طريق اتفاق أطراف العقد على إمكانية تعويض الضرر غير المتوقع[12].
وبما انه ليس هناك ما يمنع الدائن من ان يشترط التشديد في مسؤولية المدين وضمانه، ففي عقد البيع مثلا يمكن للمشتري ان يدرج في العقد شرطا يحمل البائع تبعة ضمان العيوب البسيطة او الظاهرة[13]، غير ان الاشتراطات التي تهدف الى تشديد المسؤولية والضمان هي من الندرة بمكان إذا ما قورنت بغيرها من الاتفاقات الضيقة لهما ويرجع السبب على حد قول الفقيه (جروس Gross) الى اعتقاد المتعاقدين بأن الضمان القانوني هو اقصى ما يمكن توفيره للطرف الدائن[14].
الا اننا نلاحظ انه بالإضافة لما ذكره الفقيه (جروس) فان عدم انتشار هذا النوع من الاشتراطات يرجع في نظرنا الى عجز الدائن عن فرض هذه الشروط على الطرف المدين خصوصا عندما يتم التعاقد بين اشخاص محترفين وآخرين ليست لديهم قدرة على التفاوض في هذا المجال، ويتعلق الامر هنا بفئة المستهلكين العاديين الذين هم في حاجة الى الحماية ضد الشروط المفروضة عليهم من الجانب الآخر[15].
اما في ميدان المسؤولية العقدية المترتبة على العقود المبنية على المساومة الحرة، فاننا نلاحظ ان العادة جرت على ادراج البنود المشددة للمسؤولية الملقاة على عاتق المدين، ويمثل الشرط الجزائي (Clause Pénale)[16] واحدا من أبرز أوجه تشديد هذه المسؤولية في حق المدين حيث يتم الاتفاق على تقدير التعويض بطريقة جزافية قبل حصول الفعل الموجب لاستحقاق التعويض[17].
والأصل أيضا أنه لا يعتد بدرجة جسامة الخطأ في مقدار التعويض، ولكن القضاء يسير في العمل في أغلب الأوقات على منح تعويض أكبر إذا كان الخطأ جسيما، سيما فيما يتعلق بتقدير الضرر الأدبي، وقد أدى هذا الاعتبار العملي بالمشرع المغربي أن يتبناه فجاء يقضي في الفقرة الثانية من المادة 98[18] على أنه: "يجب على المحكمة أن تقدر الأضرار بكيفية مختلفة حسبما تكون ناتجة عن المدين أو عن تدليسه" ويجوز للقاضي عند نظره دعوى المسؤولية إذا رأى أن تقدير التعويض النهائي يتطلب وقتا يطول، أن يحكم على المسؤول بنفقة مؤقتة للمضرور -وتسمى بالتعويض المؤقت- على أن يخصم ما يدفع له من المبلغ الذي يحكم له كتعويض نهائي[19].
ويرى الفقه[20]، إلى أنه بالرغم من جواز إدراج الاتفاقات المشددة للمسؤولية العقدية من الناحية النظرية، إلا أنه على المستوى التطبيقي تعتبر مثل هذه الاتفاقات قليلة مقارنة بتلك المخففة أو المعفية من المسؤولية؛ ولعل السبب الأساسي في ذلك هو اعتقاد المتعاقدين بأن الضمان القانوني هو أقصى ما يمكن توفيره للدائن. إضافة إلى عجز هذا الأخير عن فرض مثل هذه الشروط على المدين، لاسيما إذا كان هذا الطرف الثاني مهنيا بينها الدائن مجرد طرف ضعيف أو ما يسمى بالمستهلك، حيث إن وضعه لا يسمح له بفرض شروطه على المحترف.
والقصد من تقرير المسؤولية العقدية، ان يحرص الملتزم على تنفيذ التزامه الناشئ عن العقد، وان يحافظ على أداء الواجبات المتفق عليها فيه، لان هذا هو موجب العقد، ولا تتحقق الفائدة المرجوة منه، الا بالقيام بالتنفيذ على الوجه المتفق في بنود العقد، فاذا لم يلتزم بالتنفيذ، كان حريا بالقانون ان يحمله بمسؤوليته التي ينشئها العقد، وتتمثل في رد الفعل المقابل والمناسب لإخلاله بعدم تنفيذه او تأخره، عن القيام بالتزاماته الواجبة عليه بمقتضى العقد[21].
خاتمة:
في الختام، فإن الاتفاقات المعدلة للمسؤولية العقدية، سواء كانت مخففة أو معفية أو مشددة، تمثل أداة قانونية هامة تسهم في تنظيم العلاقات التعاقدية بين الأطراف. تسعى هذه الاتفاقات إلى تحقيق توازن بين حقوق الأطراف وواجباتهم، من خلال تحديد نطاق المسؤولية والتقليل من المخاطر المرتبطة بالعقد، أو العكس، عبر تحميل طرف معين مسؤولية أكبر.
ومع أهمية هذه الاتفاقات في تعزيز مرونة العقود وتحقيق العدالة التعاقدية، فإن استخدامها يتطلب دقة وحذرًا قانونيًا، خاصة في الحالات التي قد تؤدي فيها إلى اختلال التوازن بين الأطراف أو المساس بمبادئ العدالة والمساواة. في ظل ذلك، يجب على المشرعين والقضاة أن يراعوا حماية الأطراف الضعيفة، خصوصًا في الاتفاقات التي قد تفرط في تحميل أحد الأطراف المسؤولية، أو تعفي الطرف الآخر بشكل مفرط.
من خلال هذه الدراسة، يتضح أن تحقيق التوازن بين الحرية التعاقدية وحماية الحقوق القانونية للأفراد يتطلب فهماً عميقاً للآثار القانونية والاقتصادية لهذه الاتفاقات، بالإضافة إلى ضرورة وجود إطار تشريعي واضح يضمن التطبيق العادل والمنصف لها.
الهوامش
[1]عبد القادر العرعاري، مصادر الالتزامات، الكتاب الثاني، المسؤولية المدنية، مطبعة دار الأمان – الرباط - الطبعة الثانية 2005، ص 49.
[2] ينص الفصل 232 من ق ل ع على ما يلي: "لا يجوز ان يشترط مقدما عدم مسؤولية الشخص عن خطئه الجسيم وتدليسه."
[3] ادريس العلوي العبدلاوي، م.س، ص: 195.
[4] يراجع الفصل 232 من ق.ل.ع.
[5] يراجع الفصل 571 من ق.ل.ع.
[6] يراجع الفصل 574 من ق.ل.ع.
[7] يراجع الفصل 264 من ق.ل.ع.
[8] عبد القادر العرعاري، المسؤولية العقدية للمقاول والمهندس العماري بالمغرب، توزيع دار الأمان – الرباط، ط الاولى 2009، ص: 172-173.
[9] يراجع الفصل 772 من ق.ل.ع.
[10]ظهير شريف رقم 1.11.03 صادر في 14 من ربيع الأول 1432 (18 فبراير 2011)، بمثابة القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5932 بتاريخ 3 جمادى الأولى 1432 (7 ابريل 2011)، ص 1072.
[11] عبد الرحمان الشرقاوي، م.س، ص: 340.
[12] عبد الرحمان الشرقاوي، القانون المدني، مصادر الالتزام، جزء الأول، م.س، ص: 341.
[13] عبد القادر العرعاري، " المسؤولية العقدية للمقاول والمهندس المعماري بالمغرب" أطروحة لنيل درجة الدكتوراه الدولة في القانون الخاص، كلية الحقوق الرباط، سنة 1990، ص: 191.
[14] Gross (B) “ La notion de garantie dans le droit des contrat » Paris, 1964.
[15] Pascal (A) “La garantie conventionnelle des vices cachés dans les conditions générales de vente en Matière mobilière » (R.T.D. Com) 1979, P. 206 N˚ 4.
- نزهة الخالدي، "الحماية المدنية للمستهلك ضد الشروط التعسفية – عق البيع نموذجا -" أطروحة لنيل درجة دكتوراه الدولة في القانون الخاص، كلية الحقوق – اكدال، الرباط - 2005 ص: 52.
[16] Selon l’ancien article 1126 du Code civil, « la clause pénale est celle par laquelle une personne, pour assurer l’exécution d’une convention, s’engage à quelque chose en cas d’inexécution ».
- وفقا للمادة 1126 السابقة من القانون المدني، "الشرط الجزائي هو الشرط الذي يتعهد به الشخص، لضمان تنفيذ الاتفاقية، بالقيام بشيء ما في حالة عدم الأداء".
- وفقا للمادة 1126 السابقة من القانون المدني، "الشرط الجزائي هو الشرط الذي يتعهد به الشخص، لضمان تنفيذ الاتفاقية، بالقيام بشيء ما في حالة عدم الأداء".
[17] عبد القادر العرعاري، مصادر الالتزام، الكتاب الثاني، المسؤولية المدنية، م.س، ص: 50.
[18] يراجع الفصل 98 من ق.ل.ع.
[19] ادريس العلوي العبدلاوي، م.س، ص: 194.
[20] عبد القادر العرعاري، المسؤولية العقدية للمقاول والمهندس المعماري بالمغرب، دار الأمان، الرباط – 2009، ص: 171.
[21] محمد الشحات الجندي، ضمان العقد او المسؤولية العقدية في الشريعة الإسلامية، مقارنا بالقانون المدني، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 1990 م، ص: 10.