الملخـــص:
يهدف هذا المقال إلى دراسة السلطة التقديرية الواسعة التي يملكها القاضي الجنائي في تحقيق الدعوى الجنائية من خلال تحليل سلطته في تقدير حالة المتهم الذهنية والتحقق من تزامن إصابة المتهم باضطراب ذهني مع لحظة ارتكاب الجريمة. وتقدير حالة المتهم الذهنية وإن كانت من المسائل الطبية، فإن ذلك لا يعني في المجال الجنائي بأن الطبيب الخبير في علاج الاضطرابات الذهنية هو من يقرر في مسؤولية المتهم الجنائية، وإنما مهمته تحديد نوع المرض الذي يعاني منه هذا الأخير و درجة تأثيره على الإدراك أو الإرادة لديه، مما يساعد القاضي الجنائي في استجماع كافة المعلومات عن الجاني من أجل تقدير مسؤوليته الجنائية. وهو ما يقودنا إلى القول بأن تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة مرتبطة بتقدير الواقع يملك القاضي الجنائي فيها سلطة واسعة، غير أن ذلك لا يعني أن القاضي الجنائي مخير في الأمر بإجراء خبرة طبية على الجاني المصاب باضطراب ذهني، وإنما عليه الأمر بها تلقائيا ولو لم يطلبها الأطراف لارتباط المسألة بجوانب طبية يحتاج فيها لرأي ذوي الاختصاص في علاج الاضطرابات الذهنية.
Abstract
This article aims to study the wide discretionary power that the criminal judge possesses in the investigation of the criminal case by analyzing his authority in estimating the mental state of the accused and verifying that the accused's mental disorder coincided with the moment of committing the crime. Estimating the accused’s state of mind, even if it is a medical issue, does not mean in the criminal field that the doctor who is an expert in the treatment of mental disorders is the one who decides on the criminal responsibility of the accused. This assists the criminal judge in gathering all the information about the offender in order to assess his criminal responsibility. Which leads us to say that estimating the accused’s state of mind is an issue related to estimating the reality in which the criminal judge has wide authority. However, this does not mean that the criminal judge has the option of ordering a medical experiment on the offender suffering from a mental disorder, but rather he must order it automatically even if the parties did not request it. Because the issue is related to medical aspects in which he needs the opinion of specialists in the treatment of mental disorders.
الكلمات المفتاحية: المسؤولية الجنائية، امتناع المسؤولية الجنائية، تخفيف المسؤولية الجنائية، السلطة التقديرية للقاضي الجنائي، حرية الاثبات في الميدان الجنائي، الخبرة الطبية، حالة المتهم الذهنية، معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة.
Keywords: criminal responsibility, abstention from criminal responsibility, mitigation of criminal responsibility, discretionary power of the criminal judge, freedom of evidence in the criminal field, medical experience, mental state of the accused, contemporaneous mental disorder at the time of the commission of the crime.
يهدف هذا المقال إلى دراسة السلطة التقديرية الواسعة التي يملكها القاضي الجنائي في تحقيق الدعوى الجنائية من خلال تحليل سلطته في تقدير حالة المتهم الذهنية والتحقق من تزامن إصابة المتهم باضطراب ذهني مع لحظة ارتكاب الجريمة. وتقدير حالة المتهم الذهنية وإن كانت من المسائل الطبية، فإن ذلك لا يعني في المجال الجنائي بأن الطبيب الخبير في علاج الاضطرابات الذهنية هو من يقرر في مسؤولية المتهم الجنائية، وإنما مهمته تحديد نوع المرض الذي يعاني منه هذا الأخير و درجة تأثيره على الإدراك أو الإرادة لديه، مما يساعد القاضي الجنائي في استجماع كافة المعلومات عن الجاني من أجل تقدير مسؤوليته الجنائية. وهو ما يقودنا إلى القول بأن تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة مرتبطة بتقدير الواقع يملك القاضي الجنائي فيها سلطة واسعة، غير أن ذلك لا يعني أن القاضي الجنائي مخير في الأمر بإجراء خبرة طبية على الجاني المصاب باضطراب ذهني، وإنما عليه الأمر بها تلقائيا ولو لم يطلبها الأطراف لارتباط المسألة بجوانب طبية يحتاج فيها لرأي ذوي الاختصاص في علاج الاضطرابات الذهنية.
Abstract
This article aims to study the wide discretionary power that the criminal judge possesses in the investigation of the criminal case by analyzing his authority in estimating the mental state of the accused and verifying that the accused's mental disorder coincided with the moment of committing the crime. Estimating the accused’s state of mind, even if it is a medical issue, does not mean in the criminal field that the doctor who is an expert in the treatment of mental disorders is the one who decides on the criminal responsibility of the accused. This assists the criminal judge in gathering all the information about the offender in order to assess his criminal responsibility. Which leads us to say that estimating the accused’s state of mind is an issue related to estimating the reality in which the criminal judge has wide authority. However, this does not mean that the criminal judge has the option of ordering a medical experiment on the offender suffering from a mental disorder, but rather he must order it automatically even if the parties did not request it. Because the issue is related to medical aspects in which he needs the opinion of specialists in the treatment of mental disorders.
الكلمات المفتاحية: المسؤولية الجنائية، امتناع المسؤولية الجنائية، تخفيف المسؤولية الجنائية، السلطة التقديرية للقاضي الجنائي، حرية الاثبات في الميدان الجنائي، الخبرة الطبية، حالة المتهم الذهنية، معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة.
Keywords: criminal responsibility, abstention from criminal responsibility, mitigation of criminal responsibility, discretionary power of the criminal judge, freedom of evidence in the criminal field, medical experience, mental state of the accused, contemporaneous mental disorder at the time of the commission of the crime.
مقدمة:
الأصل في القانون الجنائي أن كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يعد مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي ارتكبها. وهذا ما نادت به المدرسة التقليدية[1] التي قالت بحرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية، أي أن الشخص لا يسأل إلا عن الأفعال التي أتاها عن بينة واختيار.
فمناط المسؤولية الجنائية[2] هو القدرة على التمييز، ومعنى ذلك أن كل شخص قادرا على التمييز، يعد مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي ارتكبها[3]. و الشخص لا يمكن أن يكون قادرا على التمييز إلا إذا كان سليم العقل خاليا من أي اضطراب قد يؤثر على وجدانه أو أحاسيسه أو أفكاره أو سلوكه.
وبالرجوع إلى الدراسات القانونية التي تناولت موضوع آثار الاضطرابات العقلية والنفسية على المسؤولية الجنائية، نجدها قد ركزت على التحليل الفقهي والقانوني للنصوص الجنائية، والحال أن الموضوع له ارتباطات مهمة بالطب المتخصص في معالجة الاضطرابات الذهنية وبعلم النفس الجنائي[4] وعلم النفس القضائي وعلم النفس المرضي وعلم النفس الاكلينيكي.
ولم يعرف المشرع الجنائي المغربي الاضطراب الذهني، واكتفى بالإشارة إلى عبارة " خلل في قواه العقلية ". ويرى البعض[5] بأن المشرع اختار استعمال هذه العبارة للتنصيص على الإصابة بمرض من الأمراض العقلية أو النفسية، وهي عبارة واسعة تشمل كل ما يصيب العقل من اختلال وعاهات قد تفقده الإدراك أو الإرادة. أما جانب آخر فيرى بأن مصطلح " الخلل العقلي" الذي استعمله المشرع تدخل في نطاقه كل الاضطرابات التي تلحق بعقل الفاعل وتؤدي إلى إلحاق خلل به يفضي إلى القضاء على إدراكه، مما يؤدي إلى امتناع مسائلته من الناحية الجنائية[6].
أما البعض الآخر فقد عرف الاضطراب العقلي على أنه " اضطراب في أداء وظيفة فكرية أو نفسية"[7]. ويقصد بعبارة "وظيفة فكرية أو نفسية " كل ما يتصل بالذهن كالشعور والأحاسيس، والاضطراب في أداء هذه الوظيفة يعني حدوث تأثير على العمليات العقلية أو الذهنية التي يقوم بها العقل أو ما يعرف في علم النفس بالسيرورات[8] الذهنية.
وفي نفس الإطار، فقد حاول جانب من الفقه التمييز بين الاضطرابات العقلية والنفسية من حيث درجة خطورة كل منهما ومن حيث الوعي بالمرض، فقال " إن الفرق بين الأمراض العقلية والنفسية يكمن أولا في الدرجة، وثانيا في الوعي بالمرض، فإن كانت حدة المرض أخف فهو يصنف ضمن العصابيين، وإذا كانت أخطر فهو ضمن المرضى العقليين، ثانيا إذا كان المريض يعي مرضه فهو عصابي وإذا اعتقد في صدق أوهامه وهذيانه وهلاوسه يصبح مريضا عقليا، كما أن الأمراض العقلية غالبا ما يكون سببها عضوي في حين أن الأمراض النفسية يكون سببها نفسي"[9]، وهي (أي الأمراض النفسية) عبارة عن اختلال جزئي في الشخصية نتيجة الإصابة باضطراب نفسي دون أن يترتب عن ذلك انفصال المريض عن محيطه الاجتماعي[10]، مثل الهيستيريا والقلق النفسي والاعياء النفسي[11].
أما إذا تفحصنا الدراسات المنجزة في علم النفس الجنائي، نجد أن بعض الفقه يعتبر بأن الأمراض العقلية هي الأمراض التي يترتب عليها اضطرابات خطيرة في الشخصية، واختلال شديد في الملكات العقلية[12]. أما الفقه الجنائي فقد توسع في مفهوم الاضطراب العقلي ليشمل عددا من الحالات المشابهة التي يكون فيها الجاني فاقدا للإدراك والتمييز، كالجنون والأمراض العقلية الأخرى غير الجنون، كالاضطرابات التي تؤدي إلى خلل في القوى العقلية كاليقظة أثناء النوم والصرع والعته[13]. أما البعض الآخر فقد حاول تقسيم الأمراض العقلية إلى قسمين أو نوعين، يشمل القسم الأول الأمراض العقلية العضوية الناشئة عن علة عضوية تصيب أحد أجزاء الجهاز العصبي كالمخ مثلا، مما يؤدي إلى اختلال في وظائفه، ومن أهم مظاهره الجنون والصرع، أما القسم الثاني فيتمثل في الأمراض العقلية الوظيفية التي تتمثل في اضطرابات في الوظائف العقلية لدى المريض[14].
وإذا كان الفقه قد قسم الاضطرابات التي تصيب العقل (الذهنية) إلى اضطرابات عقلية وأخرى نفسية، فإن الأطباء المختصون في معالجة الاضطرابات الذهنبة و فقهاء علم النفس[15] يرون بأن تقسيم الاضطرابات التي تصيب العقل إلى اضطرابات عقلية (ذهانية) وأخرى نفسية (عصابية) هو تقسيم قديم يعود إلى مدرسة التحليل النفسي، وأن الاختلاف فقط في المصطلحات. وأن التصنيف المعتمد والمعمول به من طرف الأطباء المختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية هو التصنيف الدولي للاضطرابات الذهنية ICD-11 ( المراجعة رقم 11 الصادرة عن المنظمة العالمية للصحة والتي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2022) وكذا التصنيف الأمريكي 5-DSM (صادر عن الجمعية الامريكية للأطباء النفسيين). وبالرجوع إلى التصنيفين الدوليين المذكورين نجدهما يتحدثان عن اضطرابات النماء الذهني[16] والاضطرابات الذهانية، وهو المصطلح الأكثر تداولا، لذلك قررنا استعمال مصطلح " اضطراب ذهني " بدل باقي العبارات المستعملة من قبل المشرع والفقه مثل " خلل في القوى العقلية " و " المرض العقلي " و " المرض النفسي" و" العاهة العقلية " وغيرها من المصطلحات.
ومن الناحية القانونية، فالأصل في كل شخص ارتكب فعلا جرميا أنه كان سليم العقل إلا إذا ثبت عكس ذلك بناء على خبرة طبية. والعلاقة بين الاضطراب الذهني والمسؤولية الجنائية، تتجسد في أنه متى كانت الإرادة أو الإدراك لدى الجاني منعدمة بسبب إصابته باضطراب الذهني وقت ارتكابه الجريمة، ترتب عن ذلك امتناع مسؤوليته الجنائية بالتبعية، ومتى كان الإدراك[17] أو الإرادة[18] لديه ناقصتين بسبب إصابته بالاضطراب المذكور نقصت تبعا لذلك مسؤوليته الجنائية.
لكن الإشكال المطروح هو مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، أي مدى سلطته في التحقق من كون هذا الأخير كان وقت ارتكابه الجريمة يعاني من اضطراب ذهني أثر على إدراكه أو إرادته تأثيرا كاملا أو ناقصا.
وللإحاطة بالموضوع والإجابة على الإشكالية التي يطرحها ارتأينا تقسيمه إلى قسمين رئيسيين (مبحثين)، نتطرق في الأول إلى آثار الاضطرابات الذهنية على المسؤولية الجنائية، فيما سنخصص الثاني للحديث عن مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية على ضوء عمل محكمة النقض.
ولطبيعة الموضوع المركبة "قانوني- علمي" (يجمع بين الجوانب القانونية والطبية)، ارتأينا تناوله باعتماد المنهج التحليلي لتحليل النصوص القانونية وقرارات محكمة النقض في تعاطيها مع بعض المسائل القانونية، وكذا المنهج الاستدلالي من أجل إقامة البرهان على بعض المواقف التي سنعلنها، وكذا المنهج التاريخي لتتبع التطور التاريخي لبعض مواقف محكمة النقض بشأن نقطة قانونية معينة. كما سنعتمد في مقاربتنا للموضوع على آراء الأطباء المختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية اللذين سنجري معهم لقاءات باعتماد تقنية المقابلة النصف موجهةSemi-directive .
المبحـث الأول:
الاضطرابات الذهنية بين امتناع المسؤولية الجنائية وتخفيفها
ويعتبر الاضطراب الذهني الذي يفقد معه الشخص القدرة على التمييز، مانعا من موانع المسؤولية الجنائية (مطلب أول). ويقصد بموانع المسؤولية الجنائية الأسباب التي تفقد الشخص قدرته على التمييز أو الاختيار، أو كليهما، فتجعله غير أهل لتحمل المسؤولية الجنائية. أي هي الحالات التي ينتفي فيها الوعي أو الإرادة أو كليهما معا. وهذه الموانع لا تمحو الصفة الجرمية عن الفعل، بل يبقى في نظر القانون جريمة لكن تمتنع معاقبة الفاعل لسبب يقوم في شخصه لاعتبارات قررها القانون نفسه[19].
وتتميز موانع المسؤولية الجنائية بكونها شخصية متصلة بشخص المتهم (الجاني) ولا صلة لها بالجريمة ولا بظروفها، ولا أثر لها بالنسبة لباقي الشركاء والمساهمين، أي لا تنتج أثرها إلا فيمن توافرت فيه من الجناة سواء أصليين أو مساهمين أو شركاء في ارتكاب الجريمة.
أما إذا كان مستوى الإدراك أو الإرادة لدى المتهم ناقصا بسبب الإصابة باضطراب ذهني وتزامنت إصابة المتهم بهذا الاضطراب مع ارتكابه للجريمة، فإن مسؤوليته الجنائية تبعا لذلك تكون مخففة (مطلب ثاني).
المطلب الأول: الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه امتناع المسؤولية الجنائية
يشترط لقيام المسؤولية الجنائية تحقق أمرين اثنين، الإثم والإسناد، فالإثم أو الذنبla culpabilité هو إمكانية مساءلة الجاني عن الجريمة التي اقترفها، اعتبار لكون الخطأ هو أساس المسؤولية الجنائية[20]. أما الاسنـــاد: imputabilité فيعنى إسناد الاثم إلى الجاني إسنادا ماديا ومعنويا. والإسناد المعنوي يقتضي أن يكون الفاعل وقت ارتكابه الفعل الجرمي متمتعا بالإدراك والإرادة، وأن تكون هذه الإرادة حرة ومختارة. أما إذا لم يكن متمتعا بالإدراك والإرادة خلال ارتكابه الفعل الجرمي فإن هذا الأخير لا يمكن أن يسند إليه إسنادا معنويا.
ففي نطاق الإسناد المعنوي للجريمة إلى المجرم (أي في نطاق تحديد المسؤولية الجنائية) تظهر أهمية علم النفس الجنائي، باعتباره العلم الذي يبحث عوامل الجريمة وأسبابها الكامنة في نفسية المجرم، كالانحرافات في بعض الغرائز وجموح العواطف[21] وغيرها. وقد كان لمدرسة التحليل النفسي، الفضل في تحليل العوامل النفسية التي تدفع الشخص إلى الإجرام، وتتمحور هذه العوامل حول الاختلال الذي يصيب ملكات العقل، والاضطراب في التفكير، مما يؤدي إلى الإصابة بأمراض نفسية تفضي إلى نشوء سلوك معادي للمجتمع[22]، وعلى هذا الأساس فإن مدرسة التحليل النفسي وعلى رأسها أحد أقطابها العالم النمساوي (فرويد) تعتبر بأن الانسان ليس له اختيار فيما يعمل، إذ لا يستطيع أن يعمل غير ما قدر له أن يعمل، لأن الصفات الرئيسية لشخصيته مقررة وفق مؤثرات سابقة لا سلطان له في إيجادها وتحديدها، وليس له القدرة الكافية على تبديلها وتحويرها، فهي وليدة تفاعل ذاتي بين عوامل الوراثة المتمثلة في التنظيم الداخلي لخلايا التناسل وعوامل البيئة البادية في المقومات المحيطة بتلك الخلايا من ظروف متمايزة خلال مراحل حياتها[23].
والقاضي الجنائي عليه أن يحيط علما بالعوامل النفسية باعتبارها دوافع داخلية تدفع الجاني إلى الإجرام، وعليه أن ينظر إلي الجوانب النفسية لشخصية الجاني من حيث تأثيرها على الملكات العقلية لهذا الأخير وقت ارتكابه للجريمة، وذلك من أجل تقرير مسؤوليته الجنائية.
وللقول بامتناع مسؤولية[24] المتهم المصاب باضطراب ذهني لابد من تحقق شرطين أساسيين، الأول أن يكون الاضطراب الذهني كاملا، أي لدرجة يجعل المتهم يفقد الإدراك والإرادة بشكل مطلق (فقرة أولى)، والثاني يتمثل في معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: أن يكون الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم كاملا
إن الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه امتناع المسؤولية الجنائية، هو الاضطراب الذي يفقد بسببه المتهم الإدراك أو الإرادة[25]بشكل كلي أو مطلق (الفصل 134 من ق.ج). فالقانون لا يتطلب فقدان الادراك والإرادة معا، وإنما يكفي فقدان أحدهما لامتناع المسؤولية الجنائية، أما إذا لم يترتب على الاضطراب الذهني هذا الأثر فلا محل لامتناع المسؤولية الجنائية، لأن المشرع في هذه الحالة لا يعتد بالإرادة لأن الشروط المتطلبة لكي تكون ذات قيمة قانونية لم تتوافر، أما إذا توافرت هذه الشروط فإن الإرادة تحتفظ بكل قيمتها ولا وجه لامتناع المسؤولية الجنائية[26].
وما قيل عن الإرادة ينطبق على الادراك أو التمييز، فإذا ترتب عن الاضطراب الذهني فقدان المتهم القدرة على فهم ماهية الفعل المرتكب وطبيعته والآثار المترتبة عليه، امتنعت مسؤوليته الجنائية تبعا لذلك. أما إذا كان المتهم يميز بشكل واضح بين الخطأ والصواب ويدرك بأن ما أقدم عليه من فعل يعد جريمة ومع ذلك قرر ارتكابه، فلا مبرر لامتناع مسؤوليته الجنائية في هذه الحالة.
ومن الناحية العملية فالقاضي الجنائي يستعصي عليه التحقق من كون الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم قد أفقده الإدراك أو الإرادة، فيجد نفسه مضطرا لعرض المتهم على خبير في معالجة الاضطرابات الذهنية، حتى يستطيع جمع العديد من المعلومات حول حالة المتهم المرضية ودرجة تأثير ذلك الاضطراب على قدراته الذهنية.
وإذا كانت الخبرة الطبية تساعد القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، فإنها لا تؤدي بطريقة آلية إلى الجزم في مسؤوليته الجنائية والقول بامتناعها أو تخفيفها، بل أن القاضي هو من يقرر في حالة المتهم الذهنية بتقديره الخبرة الطبية ومقارنتها مع وقائع الدعوى الجنائية المعروضة عليه، وتحققه من معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب المتهم للجريمة.
الفقرة الثانية: معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة
إن العبرة في الاضطراب الذهني الذي يمنع المسؤولية الجنائية أن يكون المتهم مصابا به وقت ارتكابه الجريمة (تزامن ارتكاب الجريمة مع إصابة المتهم بالاضطراب الذهني)[27]، كما نص على ذلك الفصل 134 من القانون الجنائي في فقرته الأولى. و الشرط نفسه اشترطه المشرع الفرنسي، حيث جاء في الفصل 1-122 من القانون الجنائي الفرنسي " لا يكون مسؤولا جنائيا الشخص الذي كان لحظة الوقائع مصابا باضطراب نفسي أو عصبي نفسي، أفقده التمييز أو السيطرة على أفعاله"[28].
وإذا توافرت شروط امتناع المسؤولية الجنائية، صرح القاضي بأن الأفعال الجرمية التي أتاها المتهم هي ثابتة في حقه، غير أن مسؤوليته الجنائية امتنعت بسبب إصابته باضطراب ذهني، وصرح تبعا لذلك بإعفائه من العقاب. ولا يمكنه في هذه الحالة أن يتخذ في حقه أية عقوبة كيفما كان نوعها سواء حبسية أو مالية (غرامة)، ما عدا التدابير العلاجية المتمثلة في أيداعه[29] في مؤسسة متخصصة في علاج الاضطرابات الذهنية[30].
أما إذا طرأت إصابة المتهم باضطراب ذهني بعد ارتكابه الفعل الجرمي، فإنه يساءل جنائيا ومدنيا لأن العبرة بالحالة الذهنية للجاني أثناء ارتكابه الفعل الجرمي. أما إذا كان متابعا بجناية أو جنحة وثبت للمحكمة عن طريق الخبرة الطبية بأن اضطراب ذهني طرأ عليه أو اشتد بعد ارتكابه الفعل الجرمي، وأصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في الدعوى، فأنه يتوجب عليها طبقا للفصل 79 من ق.ج أن تأمر بوقـف النظر في الدعـوى وتأمـر بإدخاله في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، مع إمكانية استئناف المحاكمة بناء على ملتمس النيابة العامة بعد خروج الجاني من المؤسسة المذكورة بعد شفائه.
فالقاضي الجنائي عندما يصرح بامتناع مسؤولية المتهم الجنائية بسبب إصابته باضطراب ذهني، يحكم بإعفائه من العقاب لا ببراءته، لأن الجريمة المتابع بها تبقى قائمة ولو كانت في صورتها السلبية (الامتناع عن القيام بعمل أمر به القانون)، فالاضطراب الذهني يعدم المسؤولية الجنائية ولا يمحو الجريمة، حيث تبقى هذه الأخيرة قائمة وثابتة في حق المتهم المصاب باضطراب ذهني. وهذا ما أكدته محكمة النقض في قرار لها صادر بتاريخ 19 يونيو 2013 الذي بموجبه قضت بنقض قرار الغرفة الجنحية الاستئنافية بالمحكمة الابتدائية بالقنيطرة القاضي بتأييد الحكم الابتدائي القاضي ببراءة المتهم من جنحة إهمال الأسرة لكون هذا الأخير حسب تقرير الخبرة الطبية يعاني من اضطراب ذهني خطير أصبح معه فاقد للمسؤولية. وجاء في قرار محكمة النقض المذكور ما يلي: " ... وحيث إن محكمة الدرجة الأولى استندت في تصريحها ببراءة المطلوب في النقض إلى كون هذا الأخير حسب تقرير الخبرة الطبية يعاني من اضطراب نفسي خطير أصبح معه فاقدا للمسؤولية...، واعتبرت تبعا لذلك أن حالته النفسية تجعله غير قادر على الكسب والنفقة، وأن امتناعه عن الانفاق لم يكن متعمدا لانعدام الإدراك والتمييز لديه، وهو تعليل يتنافى بمقتضى الفصل 76 السابق الذكر مع ما انتهى إليه منطوق قرارها، وهي إذ قضت على النحو الوارد أعلاه تكون قد خرقت القانون خرقا ينزل منزلة انعدام التعليل الموجب للنقض والإبطال"[31].
فمحكمة الدرجة الأولى عندما حكمت ببراءة المتهم من جنحة الامتناع عمدا عن أداء النفقة بسبب إصابته باضطراب خطير أفقده القدرة على الإدراك والتمييز، تكون قد أساءت تطبيق الفصل 76 من ق.ج، الذي ينص صراحة على أن المحكمة عندما تثبت أن المتهم كان وقت ارتكاب الفعل في حالة اضطراب ذهني يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة، تصرح بانعدام مسؤوليته الجنائية مطلقا، وتحكم بإعفائه، والمحكمة عندما حكمت ببراءة المتهم عوض الحكم بإعفائه قد خالفت مقتضيات الفصل 76 من ق.ج التي جاءت صريحة و واضحة، وتعليلها لما انتهت إليه ينطوي على خرق صارح لقاعدة قانونية واضحة، لا تقبل إلا تأويلا واحدا، وينزل منزلة انعدام التعليل، وهو ما أكدته محكمة النقض في قرار آخر لها بتاريخ 08/03/2022 الذي خلصت فيه إلى أنه " يعتبر منعدم التعليل القرار الذي أورد تعليلا ينطوي على تجاوز لمقتضيات قانونية صريحة، أو خرق صارخ لقاعدة قانونية واضحة لا تقبل إلا تأويلا واحدا "[32].
وإذا كان كذلك، فما هو أثر الاضطراب الذهني غير الكامل على المسؤولية الجنائية للمتهم المصاب به؟
المطلب الثاني: الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه تخفيف المسؤولية الجنائية
من المؤكد أن درجة تأثير الاضطراب الذهني على مستوى الإدراك والإرادة لدى الجاني يعتمد في تحديد درجة المسؤولية الجنائية لهذا الأخير ، فمتى كان ذلك التأثير يعدم الإدراك أو الإرادة لدى المتهم انعدمت مسؤوليته الجنائية، ومتى كان التأثير المذكور لا يصل إلى درجة يفقد معها المتهم الإدراك أو الإرادة وإنما مستواهما ينقص لديه، فإن مسؤوليته الجنائية تنقص تبعا لذلك .
ويشترط لتخفيف المسؤولية الجنائية بسبب الإصابة باضطراب ذهني، أن يكون هذا الاضطراب ليس كليا، أي أنه لا يعدم الإرادة أو الإدراك لدى المتهم بشكل كلي، وإنما ينقصهما أو ينقص أحدهما فقط (فقرة أولى)، كما يشترط كذلك أن يتحقق تزامن بين ارتكاب المتهم للجريمة و إصابته باضطراب ذهني غير كامل (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: أن يكون الاضطراب الذهني لدى المتهم ناقصا
ويقصد به أن يكون المتهم وقت ارتكابه للفعل الجرمي ناقص الإدراك أو الإرادة، وهو ما اشترطه الفصل 135 من القانون الجنائي.
فكما سبق القول، فإن تحديد درجة تأثير الاضطراب الذهني على الإدراك أو الإرادة لدى الشخص المصاب به، يعود إلى الخبير في الطب المختص في علاج الاضطرابات الذهنية، فهو وحده المؤهل للحسم في هذه المسألة باتباع مجموعة من الخطوات والإجراءات التشخيصية لتحديد صنف الاضطراب وتحديد ما إذا كان عاديا كباقي الاضطرابات التي لا تأثير لها على الإدراك والإرادة أم أنه من الصنف الذي يؤثر عليهما فيضعف قدرة الشخص على الفهم والتمييز.
والقاضي الجنائي لا يستطيع أن يقرر بشأن المسؤولية الجنائية للشخص المصاب باضطراب ذهني - ولو كان المتهم يتجاوب مع المحكمة ويظهر وكأنه قادر على الدفاع عن نفسه - إلا إذا استعان بخبرة طبية توضح بدقة حالة المتهم المرضية ودرجة تأثيرها على مستوى الإدراك والإرادة لديه.
فإذا ثبت للقاضي الجنائي، بعد خبرة طبية، أن المتهم بارتكاب جناية أو جنحة، رغم أنه قادر على أن يدافع عن نفسه أثناء المحاكمة، غير أنه كان مصابا وقت ارتكابه للأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية يترتب عليه نقص مسؤوليته، فإنه يجب عليه حسب الفصل 78 من ق.ج أن يثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه، وأن يصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل، ويطبق عليه العقوبات أو التدابير الوقائية المقررة في الفصل 78 المذكور[33]، المتمثلة في إيداع المحكوم عليه في مؤسسة لعلاج الاضطرابات الذهنية، قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، على أن تخصم مدة بقائه في هذه المؤسسة من مدة العقوبة المحكوم بها[34].
ومن خلال المقتضيات القانونية المشار إليها يتبين بأن المشرع الجنائي المغربي قد لاءم بما فيه الكفاية المقتضيات القانونية المتعلقة بموانع المسؤولية الجنائية مع مقتضيات القانون الخاص بالوقاية والعلاج من الأمراض العقلية وحماية المرضى المصابين بها، ومع المواثيق الدولية ذات الصلة[35]، كما راعى درجة تأثير الإصابة باضطراب ذهني على المسؤولية الجنائية للتهم المصاب به، فميز بين امتناع المسؤولية الجنائية والتخفيف منها على خلاف بعض التشريعات المقارنة التي ساوت بين انعدام الإدراك والنقص في النمو الذهني واعتبرتهما سببين من أسباب انعدام المسؤولية الجنائية، كقانون العقوبات القطري رقم 14 لسنة 1971 الذي نص في مادته 19 على أنه " لا مسؤولية جزائية على فعل يقع من شخص تعوزه وقت ارتكابه القدرة على إدراك ماهية أفعاله أو كان عاجزا عن توجيه إرادته بسبب من الأسباب الآتية: أ- الجنون الدائم أو المؤقت أو النقص في النمو الذهني...". مع العلم أن الجنون المؤقت أو العرضي وكذا النقص في النمو الذهني هما نوعين من أنواع الاضطرابات الذهنية التي لا تعدم الإدراك والإرادة لدى الجاني المصاب به، أي أن الجاني المصاب بإحدى هذه الاضطرابات لا يكون عند ارتكابه للفعل الجرمي غير قادر على التمييز وإنما يكون تمييزه وإدراكه لخطورة الفعل الجرمي وللنتيجة الاجرامية ناقصا فقط.
وجدير بالإشارة أن المشرع المغربي اتبع رأي المدرسة التقليدية الحديثة[36] التي تأخذ بتدرج المسؤولية الجنائية من الكمال إلى النقصان إلى الانعدام بحسب درجة الإدراك والإرادة لدى المتهم مرتكب الجريمة خلافا للمدرسة التقليدية الأولى التي لا تأخذ بالتدرج في المسؤولية الجنائية، والتي ترى بأن الشخص إما أن يكون كامل الادراك والإرادة فيسأل مسؤولية كاملة، وإما ألا يكون كذلك فلا يسأل إطلاقا[37].
فغاية المشرع من ربط المسؤولية الجنائية للمتهم بدرجة تأثير الاضطراب الذهني الذي يعاني منه على إرادته وإدراكه، هي عدم تحميله عواقب أو تبعات أفعال ارتكبها وهو ليس في كامل قواه العقلية.
الفقرة الثانية: معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة
العبرة في الاضطراب الذهني الذي ينقص المسؤولية أن يكون الجاني مصابا به وقت ارتكابه للجريمة (الفصل 135 من القانون الجنائي في فقرته الأولى).
فالقاضي الجنائي وهو ينظر الدعوى الجنائية قد يجد ضمن وثائق ملف القضية ملفا طبيا للمتهم المتابع يثبت بأن هذا الأخير يتابع العلاج لدى طبيب مختص في معالجة الأمراض العقلية، وهنا يكون القاضي على علم بالحالة المرضية التي يعاني منها المتهم الماثل أمامه، وقد لا تظهر على هذا الأخير حالة الاضطراب الذهني بشكل واضح. لكن أحيانا قد يمثل المتهم أمام القاضي الجنائي ولا يكون بملف القضية ما يشير إلى كونه يعاني من اضطراب ذهني، ويكون المتهم قادرا على الدفاع عن نفسه ويتجاوب مع المحكمة بسلاسة، لكن مع ذلك فهو يعاني من اضطراب ذهني، حيث هنا يطرح التساؤل كيف يستطيع القاضي الجنائي أن يكتشف بأن المتهم يعاني من اضطراب ذهني حتى يأمر بعرضه على خبرة طبية؟
في هذه الحالة يصعب على القاضي الجنائي أن يكتشف بأن المتهم يعاني من اضطراب ذهني، إلا إذا تقدم الدفاع بطلب عرض موكله المتابع على خبرة طبية، أو تقدم ذوي المتهم وأدلوا بما يفيد أن المتهم (قريبهم) يعاني من اضطراب ذهني، وهنا على القاضي الجنائي أن يستجيب لطلب عرض المتهم على خبرة طبية للتأكد من حالته الذهنية.
وبعد توصل القاضي بخبرة طبية تثبت بأن المتهم يعاني من اضطراب ذهني، عليه أن يتحقق من كون المتهم كان مصابا بهذا الاضطراب أثناء ارتكابه للجريمة، وهي مسألة موضوعية متصلة بوقائع القضية وحيثياتها، التي يتضمنها محضر الضابطة القضائية (تصريحات الضحية أو ذويه، و الشهود، وتصريحات المتهم...)، حيث أن القاضي الجنائي حينما يتأكد من إصابة المتهم باضطراب ذهني استنادا إلى الملف الطبي للمتهم وتقرير الخبرة الطبية وتصريحات ذويه، ينتقل للتحقق من كون المتهم كان وقت ارتكابه الجريمة يعاني من ذلك الاضطراب ويعتمد في هذه الحالة على محضر الضابطة القضائية وما يتضمنه من وقائع ويقارن المعلومات المتعلقة بالحالة المرضية للمتهم الواردة بالمحضر المذكور مع الملف الطبي وآخر زيارة للطبيب والوصفة الطبية وتاريخها وتصريحات المصرحين والضحية، فتتكون له فكرة عن مسألة تزامن الجريمة مع الإصابة باضطراب ذهني من عدمه. وإذا ثبت لديه هذا التزامن صرح بكون مسؤولية المتهم الجنائية مسؤولية ناقصة.
ونظرا لأهمية الخبرة الطبية في إثبات الاضطراب الذهني، ولكون اعتمادها في تقرير المسؤولية الجنائية من قبل القاضي الجنائي يعد ضرورة لا محيد عنها، فهل هي تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي شأنها شأن باقي وسائل الاثبات؟ وهل تقدير الحالة الذهنية للمتهم مسألة طبية صرفة أم تدخل في نطاق السلطة التقديرية للقاضي الجنائي؟
المبحــــث الثانـــــي:
مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية على ضوء عمل محكمة النقض
الأصل أن القاضي الجنائي حر في تكوين اقتناعه الوجداني، وسلطته في ذلك لا تخضع لرقابة محكمة النقض لأنها من المسائل الموضوعية التي يختص بها، وله أن يأخذ بأي دليل يقتنع به. والخبرة كوسيلة إثبات تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، فهو مخير في الأمر بإجرائها استنادا إلى الفصل 194 من ق.م.ج في فقرته الأولى التي تنص على أنه " يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية، أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما بطلب من النيابة العامة أو من الأطراف ".
وتقدير حالة الاضطراب الذهني، وتحديد مدى تأثيره على الإدراك والإرادة إذا كان من الأمور التي يختص بها أهل الخبرة في معالجة الاضطرابات الذهنية، وهم من لهم الصلاحية في الحسم في هذا الأمر. فهل يمكن للقاضي الجنائي بحكم خبرته وتجربته القضائية وما له من سلطة تقديرية في تقدير جميع وسائل الإثبات دون استثناء، أن يقوم بتقدير حالة المتهم الذهنية انطلاقا من المناقشة التي يجريها مع هذا الأخير بالجلسة ومن خلال العمليات التفاعلية بينهما بالجلسة، أم أنه في حاجة إلى رأي أهل الخبرة في المجال للاستعانة به في تقدير حالة المتهم الذهنية، أم أن الأمر يخرج عن سلطته التقديرية وبالتالي فهو ملزم بالتقيد بتقرير الخبير المختص ؟
وحتى نتمكن من الإجابة على هذه الإشكالية، لابد من تحليل مجموعة من القرارات القضائية الصادرة عن محكمة النقض على ضوء رأي الأطباء المختصين في الطب النفسي.
فعند تفحصنا للعديد من قرارات محكمة النقض يتبين لنا وجود موقفين اثنين، فيما يتعلق بالأخذ بالخبرة الطبية في إثبات الاضطراب الذهني في علاقته بالسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، وكتوجه أولي لمحكمة النقض فقد كانت تخضع مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي باعتبارها مسألة من المسائل الموضوعية التي يستقل في تقدريها، وهنا يمكن أن ندخلها في نطاق تقدير الواقع (مطلب أول)، تم عادت واعتبرت المسألة من المسائل الفنية التي لا يمكن الحسم فيها إلا من قبل ذوي الاختصاص في الطب العقلي، أي هي من المسائل التي لا يملك معها القاضي الجنائي أية سلطة تقديرية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: التوجه الذي يخضع تقدير حالة المتهم الذهنية للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي
قبل الانتقال إلى موقف محكمة النقض من مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية في علاقتها بالخبرة الطبية كوسيلة إثبات في القضايا الطبية الدقيقة (فقرة أولى)، لابد من معرفة طبيعة عملية تقدير حالة المتهم الذهنية باعتبارها حالة متصلة بالجاني وقت ارتكابه الجريمة، أي في علاقتها بوقائع القضية كحالة موضوعية وليس كدافع للجريمة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة موضوعية مرتبطة بتقدير الواقــــع
يواجه القاضي صعوبة في التمييز بين تقديره الواقع و تقدير القانون، فقد يختلط عليه الأمر فيعتقد بأن الأمر يتعلق بالواقع في حين أنه من مسائل القانون والعكس، لذلك حاول الفقه إيجاد مجموعة من المعايير للتمييز بين سلطة تقدير الواقع وسلطة تقدير القانون، يمكن أجمالها في: المعيار الشكلي ومعيار الاستدلال القضائي المنطقي ومعيار مفترض القاعدة القانونية ومعيار الأثر القانوني ومعيار الأفكار المعرفة والأفكار غير المعرفة قانونا ومعيار التكييف القانوني[38].
كما أن بعض الأنظمة القانونية قد حاولت إيجاد حدود بين الواقع والقانون من خلال فصل مهمة تقدير الواقع عن مهمة تقدير القانون. فالنظام الأنكلوساكسوني مثلا جعل تقدير الواقع وحده اختصاصا لهيئة المحلفين، بينما جعل تقدير القانون اختصاصا حصريا للقاضي[39]. وهو حل من الصعب الأخذ به لأن القاضي لا يمكنه أن يبحث القضية إلا في شموليتها من الناحية الواقعية والقانونية.
ويأخذ الفقه المغربي بالمعيار الشكلي الذي يقول به الفقيهينGauguier et Bonnier الذي يقسم مراحل نشاط القاضي إلى ثلاثة مراحل، وهي التثبت من الوقائع ثم تكييفها فترتيب النتيجة القانونية، غير أن الفقه المغربي قد قسم مراحل نشاط القاضي إلى أربعة مراحل، بحيث قسم مرحلة الوقائع إلى مرحلتين وهما مرحلة استخلاص الوقائع ومرحلة إثباتها[40]. وبما أن مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية تعني استخلاص إصابة الجاني باضطراب ذهني وإثبات إصابته به، فإنها بذلك من المسائل المتعلقة بالواقع التي تستقل محكمة الموضوع في تقديرها.
ويتحقق القاضي الجنائي من تزامن ارتكاب الجريمة مع إصابة المتهم باضطراب ذهني، من خلال ما راج بالجلسة من مناقشات، ومن خلال الأسئلة التي يطرحها على المتهم والشهود، ومن ظروف وملابسات الواقعة كما هي مبينة بمحضر الضابطة القضائية، ويستعين في ذلك بتقرير الخبرة الطبية لاستكمال ما استجمعه من معلومات حول الحالة النفسية للمتهم الماثل أمامه، لأنه لا ينتقل إلى التحقق من التزامن المذكور إلا بعدما يطمئن إلى الخبرة الطبية وبعدما يقوم بتقديرها على ضوء ما توافر لديه من أدلة إثبات.
ومن هذا المنطلق نرى بأن الخبرة الطبية هي وسيلة أو إجراء مساعد للقاضي، يملك القاضي الجنائي معها السلطة في تقديرها كغيرها من وسائل الاثبات، وإلا كان حكمه أو قراره مبنيا على اقتناع الخبير لا على اقتناعه الوجداني الصميم. فالخبرة بوجه عام هي وسيلة توضيحية لمسألة فنية تخرج عن مجال تكوين القاضي وتساعد هذا الأخير في استكمال معلوماته[41]، فهي كما عرفها بعض الفقه ذلك " الإجراء الذي يستهدف الاستعانة بذوي الاختصاص، والاسترشاد بآرائهم لجلاء مسألة غامضة يحتاج حلها إلى دراية علمية فنية تخرج عن التكوين العام للقاضي "[42].
فقد يجادل البعض في المقولة الشهيرة التي مفادها أن " القاضي خبير الخبراء "، لكن القضاة الجنائيين بوجه خاص يكتسبون بحكم عملهم مهارات عالية جدا في التعامل مع المتهمين، وبحكم التجربة يستطيعون التمييز بين المتهم السوي والمتهم الذي يعاني اضطرابات ذهنية سببها الإدمان على المخدرات - خاصة إذا كان هذا الأخير متابع من أجل استعمال المخدرات - وهذه الخبرة يكتسبونها بالممارسة ومن خلال المناقشات مع العديد من المتهمين بالجلسة، فهو يلاحظ تصرفات المتهم الماثل أمامه وكيف يتجاوب مع المحكمة وأين ينظر وكيف يحرك جسمه أو يديه وكيف يرد على أسئلة المحكمة أو النيابة العامة أو الدفاع أو الضحية، وهل هو يتقيد بالسؤال أم يخرج عن نطاق هذا الأخير، وهل هو يجيب عن الأسئلة بكل طلاقة أم يجيب وهو في حالة من القلق والانفعال، وغيرها من أنواع السلوك التي تعطي صورة أو انطباع عن الحالة الذهنية للشخص الصادرة عنه. و هذا ما يجعلهم ينجحون عادة في التمييز بين المتهم السوي والمتهم غير السوي، والأمثلة كثيرة في هذا الباب. تم أنه من جهة ثانية، فالخبرة الطبية بحد ذاتها لا تقوم على اختبارات علمية دقيقة كتلك المعمول بها في تشخيص الأمراض العقلية العضوية (التخطيط الكهربائي[43]، والفحص بالأشعة، والتحاليل الطبية...)، وإنما هي عبارة عن عمليات تشخيصية تقوم على مقابلة وحوار يجريهما الطبيب مع المتهم، وبالتالي فهي تحتمل الخطأ والصواب، كما أن الأطباء في تشخيصهم للاضطرابات الذهنية لا يعتمدون على تصنيف واحد للاضطرابات الذهنية، فمنهم من يعتمد التصنيف الدولي ومنهم من يعتمد التصنيف الأمريكي. زد على ذلك مجموعة من الاكراهات التي يعاني منها الطبيب الخبير وخاصة عندما يكون المتهم معتقلا احتياطيا على دمة التحقيق أو المحاكمة، حيث لا يجد الخبير الظروف المواتية لتشخيص حالة المتهم الذهنية تشخيصا دقيقا، حيث تجري المقابلة عادة بين الطبيب والمتهم بقاعة بالمؤسسة السجنية تحت أنظار الموظف المكلف بحراسة المتهم السجين.
وعليه، فإن تشخيص المرض يجب أن يتم في العيادة أو المستشفى الخاص بعلاج الاضطرابات الذهنية، حتى يمكن للطبيب أن يجري مع المتهم عدة مقابلات ويستعين بالطاقم المكلف بتتبع المرضى في جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول سلوكه داخل المؤسسة العلاجية. كما يسمح وجود المتهم بمستشفى علاج الاضطرابات الذهنية بإمكانية إخضاعه لعدة عمليات تشخيصية، ويسمح كذلك للخبير بأخذ رأي باقي الأطباء المختصين بنفس المؤسسة الصحية، وهو ما يساعد الخبير على فهم حالة المتهم بشكل دقيق فيحسم في مسألة إصابته باضطراب ذهني من عدمه[44].
كما أنه من المحتمل أيضا أن ينجح المتهم في تظليل الطبيب الخبير بتمويهه بحركات أو سلوكات معينة من أجل التملص من المسؤولية الجنائية فيصور نفسه أمامه على أنه مصاب باضطراب ذهني والحال أنه لا يعاني من أي اضطراب من هذا القبيل، أو يمتنع عن الإجابة على أسئلة الطبيب الخبير فتتعقد مهمة هذا الأخير، سيما وأنه لا يوجد اضطراب ذهني يمنع صاحبه من الكلام بإجماع المختصين في علاج الاضطرابات الذهنية.
ويقول في هذا الصدد الدكتور يوسف مراد بأن المرأ يميل إلى أن يستدل بالمظاهر السلوكية على الحالة النفسية لمن يعاشرهم وعلى ما تنطوي عليه سريرتهم من نوايا ومقاصد. وقد يصدق الحكم أو لا يصدق لأن الشخص قادر على أن يخفي أفكاره وراء قناع من التصنع، وأن يحاول أن يعبر بكلامه وملامح وجهه عما يختلف تمام الاختلاف عن أفكاره الحقيقة وحالاته النفسية. غير أن كثيرا ما يكون إتقان التصنع دليلا عليه، كما أن التصنع يكون محصورا في الحركات الخاضعة للإرادة، أما الحركات العضلية المنعكسة كبعض الاختلاجات فمن المتعذر – إن لم يكن من المحال - منعها والتحكم فيها، هذا فضلا عن التغيرات الفسيولوجية الناشئة عن تنبيه الجهاز العصبي السمثاوي والتي لا تخضع للإرادة كالتغيرات التي تعتري حركات القلب والتنفس والدورة الدموية وإفرازات الغدد[45].
ولتفادي كل هذه الإشكالات، فعلى القاضي الجنائي عندما يأمر بإجراء خبرة طبية على متهم معتقلا احتياطيا عليه أن يأذن بإحالة هذا الأخير على مستشفى لعلاج الاضطرابات الذهنية من أجل عرضه على الخبير الذي عينه للقيام بالخبرة، كما يجب عليه ألا يقيد هذا الأخير بأجل معين من أجل إنجاز الخبرة المذكورة، لأن تشخيص الحالة المرضية مرتبط بدراسة سلوك المتهم، وهذه الدراسة لا تتأتى إلا إذا كان سلوك هذا الأخير تحت ملاحظة ومراقبة المختصين داخل المؤسسة الصحية (الأطباء المختصين في علاج الاضطرابات الذهنية والممرضين في غالب الأوقات). كما نرى بأنه يجب أن تكون الخبرة الطبية ثلاثية خاصة في قضايا الجنايات، لأنه كلما ازداد عدد الأطباء المكلفين بتشخيص حالة المتهم المرضية كلما تقلص هامش الخطأ في الخبرة الطبية، وحتى يمكن الاطمئنان إليها أكثر في تقرير المسؤولية الجنائية للمتهم.
لذلك، يجب أن تترك للقاضي الجنائي كامل السلطة في تقدير الخبرة الطبية، لأن حرية الإثبات هي الأصل في الميدان الجنائي، و لأن وقائع القضية بكاملها بين يديه، بما فيها الوضعية الجنائية للمتهم المعني بالأمر (سوابقه القضائية)، وأن أي تقييد لسلطته في تقدير وسائل الإثبات من شأنه المساس بقواعد المحاكمة الجنائية العادلة.
الفقرة الثانية: تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة موضوعية يختص بها القاضي الجنائي
يرى بعض الفقه المغربي، بأن ثبوت الاضطراب الذهني يرجع إلى محكمة الموضوع، فهي وحدها التي لها أن تقرر فيما إذا كان المتهم وقت ارتكابه للفعل الجرمي مصابا به أم لا، وسلطتها في ذلك لا تخضع لرقابة محكمة النقض، شريطة أن تؤسس وجهة نظرها في ذلك على أسباب سائغة و منطقية[46].
أما على مستوى القضاء، فقد سبق لمحكمة النقض أن ذهبت إلى أن مسألة تقدير حالة المتهم العقلية (الذهنية) من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع في تقديرها وهي غير ملزمة بإجراء خبرة طبية من أجل تحديد مدى تأثير الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم على مسؤوليته الجنائية، إذ جاء في أحد قراراتها " المحكمة غير ملزمة بندب خبير فني في الدعوى لتحديد مدى تأثير مرض الطاعن على مسؤوليته الجنائية، بعد أن وضحت لها الدعوى إذ الأصل أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقيم تقديرها على أسباب سائغة"[47].
فمحكمة النقض تعتبر بأن مسألة تقدير وسائل الإثبات بوجه عام، تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا تخضع فيها لرقابة محكمة النقض، والخبرة الطبية كوسيلة إثبات تدخل في نطاق هذه السلطة، وبالتالي فالقاضي الجنائي غير ملزم بانتداب خبير في علاج الاضطرابات الذهنية من أجل تنوير رأيه بخصوص إصابة المتهم الماثل أمامه باضطراب ذهني من عدمه، فخبرته القضائية وما يملكه من سلطة في تقدير وسائل الإثبات تمكنه من الحسم في المسألة.
أما عن الفقه والقضاء المقارنين، فقد اتجها إلى أن ثبوت الاضطراب الذهني يعود لمحكمة الموضوع، فهي وحدها التي لها أن تقرر ما إذا كان الفاعل وقت ارتكابه للجريمة في حالة اضطراب ذهني أم لا، ولا رقابة عليها في هذا الشأن من طرف محكمة النقض، شريطة أن تؤسس وجهة نظرها على أسباب سائغة ومنطقية. كما ذهب ذات الفقه والقضاء إلى أنه لا داع لإلزام المحكمة باللجوء إلى الخبرة الفنية لتنوير وجهة نظرها في مسألة انتفاء الخلل العقلي ( الاضطراب الذهني) أو ثبوته[48].
فالقضاء الكويتي على سبيل المقارنة، قد استقر على أن تقدير حالة المتهم العقلية (الذهنية) هي من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها، وأنها غير ملزمة باللجوء إلى أهل الخبرة إلا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها أن تشق طريقها فيه، حيث ذهبت محكمة التمييز الكويتية في أحد قراراتها إلى أنه " من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقيم تقديرها على أسباب سائغة، وكان المرض العقلي الذي تنعدم به المسؤولية الجزائية قانونا وعلى ما تقضي به الفقرة الأولى من المادة 22 من قانون الجزاء هو ذاك المرض الذي من شأنه أن يعدم الإرادة والإدراك، أما سائر الأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص إرادته وإدراكه، فلا تعد سببا لانعدام المسؤولية"[49].
ونتفق هنا مع رأي محكمة النقض الذي يرى بأن مسألة تقدير الخبرة الطبية فيما يتعلق بتقدير حالة المتهم العقلية (الذهنية) تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي شأنها شأن باقي وسائل الإثبات، غير أنه في ذات الوقت نرى بأنه من الواجب على القاضي الجنائي أن يستعين في ذلك بخبرة طبية من أجل استكمال المعطيات المتوفرة لديه حول الحالة الذهنية للمتهم حتى يستطيع الجزم بشأن مسؤولية هذا الأخير الجنائية.
فإذا كان هذا التوجه هو الأصل، لكونه ينسجم مع سلطة القاضي الجنائي التقديرية في تقدير وسائل الإثبات، وهي سلطة عامة لا يمكن تقييدها بأي قيد إجرائي بما في ذلك إجراء الخبرة الطبية، فهل يعتبر التوجه الثاني لمحكمة النقض استثناء؟
المطلب الثاني: التوجه الذي يخضع تقدير حالة المتهم الذهنية للخبير في علاج الاضطرابات الذهنية
إذا كان الأصل أن القاضي الجنائي حر في تكوين اقتناعه الوجداني الصميم وله أن يأخذ بأي دليل يطمئن إليه استنادا إلى مبدأ حرية الاثبات[50]، فإنه في تقديره لحالة المتهم الذهنية يجب عليه أن يستند إلى خبرة طبية، وهو ما يستفاد من عبارة " بعد خبرة طبية " المشار إليها في الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج (فقرة أولى). وفي هذه الحالة هل تعتبر الخبرة الطبية ملزمة للقاضي الجنائي وبالتالي مقيدة لسلطته في تقدير وسائل الإثبات؟
وللجواب على هذا التساؤل، سنقوم بتحليل مجموعة من قرارات محكمة النقض لفهم وبيان وجهة نظر هذه الأخيرة كمحكمة قانون فيما يتعلق بسلطة القاضي الجنائي في تقدير الخبرة الطبية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة فنية تتوقف على خبـــرة طبيــــــة
بالرجوع إلى التشريع المغربي، نجد بأن المشرع اعتبر أن التأكد من الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه امتناع المسؤولية الجنائية أو تخفيفها أمر موكول لمحكمة الموضوع تتولاه بعد الاستعانة برأي ذوي الخبرة، وهو ما يفهم من استقراء الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج[51].
فحسب الفصل 76 من ق.ج، فإذا تبين لمحكمة الموضوع، بعد إجراء خبرة طبية، أن الشخص المتابع أمامها بجناية أو جنحة، كان عديم المسؤولية تماما وقت ارتكاب الفعل بسبب اضطراب ذهني، فإنه يجب عليها أن تثبت أن المتهم كان، وقت الفعل، في حالة اضطراب ذهني يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة، وأن تصرح بانعدام مسئوليته مطلقا وتحكم بإعفائه.
وحسب الفصل 78 من ق.ج، فإذا قررت محكمة الموضوع، بعد خبرة طبية، أن مرتكب جناية أو جنحة، رغم كونه قادرا على الدفاع عن نفسه في الدعوى، إلا أنه كان مصابا وقت الأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية يترتب عليه نقص مسؤوليته، فإنه يجب عليها، أن تثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه، وأن تصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل، وأن تصدر الحكم بالعقوبة.
وحسب الفصل 79 من ق.ج فإذا قررت محكمة الموضوع، بعد الخبرة الطبية، أن الشخص المتابع لديها بجناية أو جنحة كامل المسؤولية أو ناقص المسؤولية بالنسبة للوقائع المنسوبة إليه، ولكن بسبب خلل في قواه العقلية طرأ عليه أو اشتد أثره بعد ارتكاب الفعل، أصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في الدعوى، فإنه يجب عليها أن تقرر أن المتهم عاجز عن إبداء دفاعه بسبب خلل في قواه العقلية، و أن تأمر بوقف النظر في الدعوى، و أن تأمر بإدخاله في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
فعبارة " إذا قررت محكمة الموضوع " تعني بأن المحكمة هي من تقرر بكون المتهم المتابع مصابا باضطراب ذهني من عدمه، وهي من تقرر بأن هذه الإصابة كلية أي افقدت المتهم الإدراك أو الإرادة أو أنها جزئية ترتب عنها نقص في قدرته على الإدراك أو نقص في الإرادة، وذلك بناء على خبرة تستند إليها في اتخاذ أحد هذين القرارين.
فالقاضي الجنائي بالرغم مما يتمتع به من سلطة في تقدير وسائل الإثبات ومن حرية واسعة في تكوين اقتناعه الوجداني استنادا إلى مبدأ حرية الإثبات الجنائي، والتي من نتائجها أن القاضي الجنائي حر في الأخذ بأي دليل يقتنع به ويرى بأنه يؤدي إلى النتيجة التي سيخلص إليها في حكمه أو قراره، وأن سلطته في هذا المجال لا تخضع لرقابة محكمة النقض لكونها من المسائل الموضوعية لا القانونية. فإنه ومع ذلك يحتاج إلى أهل الخبرة فيما يتعلق بإثبات الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم المتابع. فعبارة بعد " خبرة طبية" التي استخدمها المشرع في الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج تفيد بأن القاضي الجنائي لا يمكنه أن يبت في المسؤولية الجنائية للمتهم المصاب باضطراب ذهني إلا بعد عرض هذا الأخير بموجب حكم تمهيدي[52] على خبير في معالجة الاضطرابات الذهنية من أجل التثبت من حالته الذهنية.
ويرى بعض الفقه الفرنسي بأن السلطة في اتخاذ القرار تعود إلى الطبيب، وهو وحده الذي يميز بين الإنسان السوي والأحمق وبين المجرم والمستلب غير المسؤول[53]. غير أنه إذا كان الطبيب بحكم تخصصه يمكنه الحسم بشأن حالة المتهم الذهنية، فإن التقرير في المسؤولية الجنائية لهذا الأخير من الناحية القانونية يرجع للقاضي الجنائي، فهو وحده من له السلطة في تقرير هذه المسؤولية.
وفي ذات السياق، يرى البعض بأن الخبرة الطبية، تشكل خطوة إلزامية تقريبا من أجل تحديد مسؤولية الجناة، فهي تساعد على فهم شخصية المصاب بشكل أفضل، وتوفر للقضاة العناصر الضرورية لتطبيق القواعد القانونية وهم على فهم تام بالأسباب، ولتحقيق هذه المهمة يجب على الطبيب المختص في معالجة الاضطرابات الذهنية معرفة قواعد كل إجراء والجوانب المحددة لهذا النوع من الممارسة وكيفية إجراء المقابلات أو كتابة التقارير[54].كما على الخبير أن يحدد في تقريره وبشكل دقيق درجة تأثير الاضطراب الذهني على الإدراك والإرادة لدى الجاني، وأن يتفادى استعمال بعض العبارات الغامضة كقوله مثلا " أن الاضطراب الذي يعاني منه المتهم من شأنه أن يؤثر على مستوى إدراكه "، فمثل هذه العبارات تطرح صعوبة لدى القاضي في تقرير المسؤولية الجنائية للمتهم، لأنها لا تحسم بشكل دقيق في درجة تأثير الاضطراب الذهني على الإدراك والإرادة لدى المتهم المتابع، فقد يعتقد القاضي الجنائي بأن المقصود بتلك العبارة أن الإصابة أفقدت المتهم المتابع الإدراك أو الإرادة فيصرح بامتناع مسؤوليته الجنائية، كما قد يفهم منها بأن الإصابة قد أثرت على إدراكه فأنقصت من درجة تمييزه فيصرح بكون مسؤوليته الجنائية مخففة.
ويستعين الخبير في تحديد نوع الاضطراب الذهني الذي يعاني منه الجاني المعروض عليه بالتصنيف الدولي للاضطرابات الذهنية، ويتبع مجموعة من خطوات[55] علم النفس الاكلينيكي كدراسة الحالة، والملاحظة، والمقابلة لتشخيص الاضطراب الذهني الذي يعاني منه هذا الأخير.
غير أنه إذا كانت الخبرة ضرورية في مسألة إثبات الإصابة باضطراب ذهني، فهذا لا يعني أن القاضي الجنائي لا يملك أي دور في ملاءمة الخبرة مع الوقائع المعروضة عليه، فالقاضي الذي أمر بالخبرة الطبية عليه أن يحدد بنفسه مجال تدخل الخبير، والإشارة بشكل محدد إلى الأسئلة التي يتعين على الخبير الرد عليها، وهو حر في وضع حدود لمهمة الخبير، وحريته تلك تبدو من الأمور البديهية والمنطقية[56].
فالقاضي هو من يحدد النقط التي تجرى فيها الخبرة الطبية في شكل أسئلة فنية لا علاقة لها مطلقا بالقانون، ويجب على الخبير أن يقدم جوابا محددا و واضحا، كما يمنع عليه الجواب على أي سؤال يخرج عن اختصاصه الفني وله علاقة بالقانون (الفصل 59 من ق.م.م)، كما يمكن للقاضي الجنائي الذي أمر بالخبرة الطبية أن يستبدل الخبير بخبير آخر غيره، كما له أن يصرح بإبطال الخبرة الطبية إذا لم يحترم الخبير شرط الحضورية (الفصل 63 من ق.م.م والفصل 324 من ق.م.ج)، وهي أمور له كامل الصلاحية في إجرائها من أجل تحقيق الدعوى الجنائية المحالة عليه، كما تدخل في إطار سلطته في تقدير وسائل الإثبات.
ونظرا لأهمية الخبرة الطبية في مساعدة القاضي الجنائي في التحقق من حالة المتهم الذهنية، فإن المشرع قد فرض على القاضي الجنائي اللجوء إليها قبل التقرير في مسؤولية المتهم الجنائية (الفصول 76 و 78 و 79 من ق.م.ج). غير أن إلزام القاضي الجنائي بإجراء خبرة طبية لا ينبغي أن يفهم منه بأن الخبير هو من يجزم في الحالة الذهنية للمتهم وبالتالي في مسؤولية هذا الأخير الجنائية، بل هو مساعد للقضاء وتقريره يخضع كباقي الوثائق والمستندات للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي الذي ينظر الدعوى العمومية.
غير أن محكمة النقض سيكون لها رأي آخر هذه المرة، حيث ستذهب إلى كون مسألة التحقق من حالة المتهم الذهنية مسألة فنية ولا يحسم فيها إلا ذوي الاختصاص في الميدان الطبي، هذا بعدما كانت في السابق تخضع مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي.
الفقرة الثانية: حالة المتهم الذهنية مسألة فنية لا يخضع تقديرها لسلطة القاضي الجنائي
فالأصل أن القاضي الجنائي أو محكمة الموضوع، له كامل السلطة في تقدير كافة وسائل الإثبات المعروضة عليه، ما عدا إذا تعلق الأمر بمسائل فنية لا يستطيع البت فيها انطلاقا من تكوينه القانوني وكانت هذه المسائل تدخل في نطاق اختصاص أهل الخبرة في المسائل الفنية، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض في أحد قراراتها، والذي جاء فيه " إنه إذا كان الأصل أن محكمة الموضوع لها كامل السلطة في تقدير وسائل الإثبات المعروضة عليها، فإن ذلك مشروط بأن تكون المسألة المعروضة ليست من المسائل الفنية البحتة التي لا تستطيع المحكمة بنفسها إبداء الرأي فيها مما يتعين معه عليها الاستعانة بأهل الخبرة"[57].
فهذا القرار جاء عاما، ولا يقصد مجالا فنيا بذاته، وهو يشمل جميع القضايا التي يختص بها ذوي الخبرة في الأمور الفنية كالهندسة والطب والتكنولوجيا وغيرها من الميادين التي تخرج عن اختصاص القاضي الجنائي.
أما فيما يتعلق بالتحقق من حالة المتهم الذهنية- موضوع الدراسة – فقد استقرت محكمة النقض على أن التقرير بشأنها من المسائل الطبية الدقيقة التي تخرج عن اختصاص محكمة الموضوع، ويعود الحسم فيها لذوي الاختصاص في الميدان الطبي، إذ جاء في قرار لها بتاريخ 15/11/2005 " وحيث إن الأمر يتعلق بمسألة طبية دقيقة لا يكون فيها الجزم إلا لمن تتوفر فيه الخبرة في ذلك الميدان، وأن المحكمة عندما اعتبرت الطاعن متمتعا بكامل قواه العقلية وأعرضت عن استدعاء الطبيبين المطلوب الاستماع إليهما، وبرفضها اللجوء إلى خبرة لاستجلاء الحقيقة، واعتمادها فقط على كون أجوبة المتهم كانت واضحة ومفهومة ولا توحي بأي اضطراب، تكون قد أبدت رأيها في موضوع لا دراية لها به، ودون الاستعانة بذوي الاختصاص في هذا الميدان، علما أن المطلوب هو حالة المتهم وقت ارتكابه الفعل الجرمي، مما تكون معه قد عرضت قرارها للنقض والابطال"[58].
وفي نفس الإطار، ذهبت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بفاس في أحد قراراتها إلى أن " تقدير حالة المتهم وإن كانت من المسائل الموضوعية التي تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه يتعين لكي يكون قضاؤها سليما أن تعين خبيرا في حالة ما إذا طلب الدفاع ذلك للبث في هذه الحالة وجودا أو عدما، لما يترتب عليها من قيام أو انتفاء مسؤولية المتهم، فإن لم تفعل كان عليها أن تبين الأسباب التي بنت عليها قضاؤها برفض هذا الطلب بيانا كافيا، وإلا كان حكمها معيبا بعيب القصور في التسبيب والإخلال بحق الدفاع "[59].
ويفهم من موقف محكمة النقض الذي أعلنته في قرارها المذكور، أن الحسم في مسألة إصابة المتهم باضطراب ذهني من عدمه مسألة طبية دقيقة تخرج عن السلطة التقديرية للقاضي الجنائي، ولا يمكن أن يحسم فيها بناء على ملاحظته الشخصية لسلوك المتهم خلال المناقشة بالجلسة، ولا يمكنه أن يتخذ موقفا بشأن هذه المسألة دون لجوئه لذوي الخبرة في معالجة الاضطرابات الذهنية، وبالتالي فعندما يطلب منه عرض المتهم على خبرة طبية أو استدعاء الخبير للحضور إلى الجلسة فعليه أن يأمر بذلك، من أجل الاستعانة برأي هؤلاء باعتبارهم أهل الخبرة في الميدان المذكور.
والموقف نفسه ستؤكده محكمة النقض في قرار آخر لها بتاريخ 06/01/2011 والذي جاء فيه " تكون المحكمة قد جانبت الصواب لما ردت طلب إجراء خبرة طبية على المتهم بعلة أنه كان في حالة صحية طبيعية أثناء المحاكمة ولم يظهر عليه أي عارض من عوارض المرض العقلي أو النفسي، وقضت بمسؤوليته الجنائية عن الفعل المرتكب، في حين أن التقرير في مدى سلامته العقلية أو النفسية للمتهم مسألة طبية يتولاها ذوو الاختصاص وتخرج عن ولاية المحكمة"[60].
كما ذهبت ذات المحكمة في قرار آخر إلى أن محكمة الموضوع ملزمة بالرد على الدفع الموضوعي المتعلق بإجراء خبرة عقلية ردا كافيا وسائغا وإلا اعتبر ذلك نقصانا في التعليل. وأن المجال الطبي البحث لا يتأتى الجزم فيه إلا لذوي الدراية من الأطباء المختصين في ميدان الطب العقلي والنفسي لارتباط موضوعه بالمسؤولية الجنائية[61].
ومن خلال ما تقدم، نتوصل إلى أن الخبرة الطبية لها أهمية كبيرة في مساعدة القاضي الجنائي في التحقق من حالة المتهم الذهنية، متى أحسن القاضي الجنائي تقديرها، ومتى كانت تحترم الشروط الشكلية المطلوبة قانونا. وفي هذه الحالة لا يمكن للقاضي الجنائي استبعادها[62] بعد الأمر بإجرائها، لأن استبعادها يستدعي الارتكاز على دليل طبي أقوى منها مع بيان سبب استبعاده للخبرة الأولى حتى تتمكن محكمة النقض من بسط رقابتها فيما يتعلق بهذه النقطة. وفي هذا الإطار ذهبت محكمة النقض في أحد قراراتها إلى ما يلي" حيث لئن كان من حق المحكمة تقدير قيمة المستندات والوثائق المعروضة عليها بما فيها تقرير الخبرة، فإنه عليها أن تتجنب في ذلك تحريفها وسوء تقديرها. وعليه، فإن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه من جهة أولى عندما انتهت من خلال مناقشتها لتقرير الخبرة الطبية للدكتور (ر ن) إلى أن الطاعن يعاني من مرض نفسي لا يعدمه المسؤولية، والحال أن التقرير المذكور المؤكد من طرف صاحبه خلال جلسة 22/12/2014 يجزم في أنه مصاب بمرض عقلي يسمى (بارانوياكريتشمير)، وأن هذا المرض جعله وقت ارتكابه للأفعال عديم المسؤولية، تكون حرفت مستندا منتجا في الدعوى وحاسما فيها. ومن جهة ثانية، فإنها عندما استبعدت نتيجة الخبرة الطبية المذكورة تأسيسا على معاينتها للحالة الظاهرية للطاعن من خلال جوابه عن أسئلتها بكل تلقائية، من غير أن تستند في ذلك على خبرة طبية مثلها أو أقوى منها، ومن غير أن تجيب عما طلبه الأطراف في هذا الشأن من احتكام لخبرة طبية ثلاثية تحسم في المسألة، تكون بنت قرارها بهذا الخصوص على تعليل فاسد مما يستدعي نقضه وإبطاله"[63].
فقرار محكمة النقض المذكور أكد على مسألة غاية في الأهمية تتمثل في أن تقدير قيمة الخبرة الطبية تدخل في إطار سلطة القاضي الجنائي (محكمة الموضوع) في تقدير قيمة المستندات والوثائق المعروضة عليه، وعليه فإن القاضي الجنائي هو من يقرر في آخر المطاف في قيمة الخبرة الطبية كوسيلة لإثبات الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم، أي أنه هو من يضع الخبرة المذكورة في الميزان ليتحقق من قيمتها الإثباتية في علاقتها بحيثيات وظروف وملابسات القضية. لكن المحظور عليه - وهذا لا يشكل في نظرنا انتقاصا من سلطته في تقدير وسائل الإثبات - هو أنه عندما يناقش الخبرة عليه ألا يؤولها أو يحرفها بل عليه أن يتحقق من مفهوم العبارات التي استعملها الخبير وذلك حتى يقدر الخبرة الطبية تقديرا سليما، أما إذا وجد صعوبة في تقديرها كما لو كان تقرير الخبير غير واضح أو يتضمن عبارات غامضة، فهو (أي القاضي الجنائي) إما أن يرجع التقرير إلى الخبير ويطلب منه توضيحا بشأن تلك العبارات التي يكتنفها الغموض، وإما أن يستدعي هذا الأخير للحضور إلى الجلسة من أجل توضيح ما اكتنف تقريره من غموض بالجلسة، وتضمين تلك التوضيحات في محضر الجلسة من قبل كاتب الضبط لتعتبر تتمة لتقرير الخبرة.
فكلما كان تقرير الخبير واضحا سهل على القاضي الجنائي تقدير الخبرة الطبية وبالتالي الحسم بشأن حالة المتهم الذهنية، و درجة تأثير الاضطراب الذهني الذي يعاني منه على إدراكه أو إرادته، لينتقل إلى التحقق من مصاحبة الاضطراب الذهني لارتكاب الجريمة. وفي هذا الإطار ذهبت محكمة النقض في قرار لها بتاريخ 14/01/2015 إلى ما يلي " حيث إن المحكمة مصدرة القرار، قضت بانعدام مسؤولية المتهم الجنائية دون أن تميز بشكل كاف ما إن كان وقت ارتكاب الفعل في حالة يستحيل عليه معه الإدراك أو الإرادة نتيجة الخلل في قواه العقلية، واكتفت بالقول بأنه كان يعاني من اضطرابات ذهنية تدخل في نطاق مرض انفصام الشخصية، وأن هذا المرض يعرقـل القدرات الشخصية في إصدار الأحكام والإدراك، وأن استهلاك المخدرات زاد في هذه الأعراض، وأن عبارة يعرقل قدرات المتهم التي أوردها القرار، لا تعني بوضوح استحالة الادراك المنصوص عليها بالفصل 134 من ق ج، فمحكمة القرار لم تناقش مقتضيات الفصل 137 من نفس القانون التي تنص على أن السكر وحالات الانفعال العاطفي أو الناشئ عن تعاطي المخدرات عمدا، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعدم المسؤولية أو ينقصها، والقرار المطعون فيه ناقص التعليل الموازي لانعدامه الموجب للنقض والإبطال"[64].
فمحكمة الموضوع المصدرة للقرار حاولت تفسير ما جاء في تقرير الخبرة الطبية، فاستعملت عبارة عامة "يعرقل القدرات الشخصية " فسقطت في المحظور – كما قلنا سابقا – وهي عبارة لا تعني أو لا تفيد فقدان الإدراك أو الإرادة لدى المتهم المتابع. كما أن المحكمة المذكورة لم تناقش مقتضيات الفصل 137 من ق.ج والذي ينص على أن حالات الانفعال الناشئ عن تعاطي المخدرات عمدا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعدم المسؤولية الجنائية أو تنقصها، واكتفت بالقول " أن استهلاك المخدرات زاد في الأعراض "، والحال أن الاضطرابات الذهنية الناجمة عن تعاطي المخدرات لا يترتب عنها امتناع المسؤولية الجنائية أو نقصانها، وبذلك فالمحكمة لم تعلل حكمها بناء على هذا الفصل الذي جاء صريحا و واضحا، هذا من الناحية الموضوعية. أما من الناحية الإجرائية، فقد كان بإمكان المحكمة – كما قلنا سابقا - أن ترجع الخبرة الطبية إلى الخبير وتطلب منه أن يحدد بدقة و وضوح انعكاسات تلك الاضطرابات الذهنية التي يعاني منها الجاني وقت ارتكابه الفعل الجرمي على قدراته العقلية (الإرادة والإدراك)، وهل تلك الاضطرابات ناجمة عن تعاطي الجاني للمخدرات أم أن هذا العامل غير مؤثر في الإدراك والإرادة لدى الجاني المدمن على استهلاكها (أي أن تأثيرها ثانوي فقط)، لأن الطبيب الخبير في مجال معالجة الاضطرابات الذهنية هو وحده المؤهل لتحديد درجة تأثير الاضطراب الذهني على إرادة وإدراك الشخص المصاب به.
فباطلاعنا على موقفي محكمة النقض فيما يتعلق بسلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، وبقراءتنا لمقتضيات الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج قراءة معمقة على ضوء السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي الجنائي والتي لا يخضع في تطبيقها لرقابة محكمة النقض، نجد بأن المشرع الجنائي لا ينكر أهمية الخبرة الطبية في إثبات الإصابة باضطراب ذهني، لكن من جهة أخرى - وهو ما نؤكد عليه بشدة - فإنه خص القاضي الجنائي بسلطة تقدير حالة المتهم الذهنية واعتبر الخبرة الطبية وسيلة يستند إليها في تقدير حالة المتهم الذهنية، وبالتالي فإن القاضي الجنائي هو في النهاية من يقرر بشأن الحالة الذهنية للمتهم بمساعدة من الخبير، من خلال تقريره الذي ينجزه ويضعه بين يديه ويبين فيه بوضوح الحالة المرضية التي يعاني منها المتهم ودرجة تأثيرها على إدراك وإرادة هذا الأخير.
وإذا كان القاضي الجنائي كأصل يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في تقدير وسائل الإثبات، فإن هذه السلطة لا يجب تقييدها بأي قيد إجرائي أو موضوعي، ولو كان الأمر يتعلق بمسائل فنية، لأن المسؤولية الجنائية للمتهم وإن كانت مسألة متصلة بالجاني فقط، فإن مناقشة عناصرها وشروطها لا يتم بمعزل عن الواقعة القانونية المحالة بها الدعوى الجنائية على أنظاره، فهو من يبرز تزامن إصابة المتهم باضطراب ذهني مع زمن ارتكابه للجريمة، وهو من يتحقق من قانونية الخبرة الطبية وهو من يقارنها مع باقي أدلة الإثبات المعروضة عليه وله في هذا الإطار مجموعة من الصلاحيات كما أشرنا إليها سابقا، والتي لا يمكن تقييدها بأي حال من الأحوال، لأن أي تقييد لسلطته في تقدير وسائل الإثبات يشكل تقييدا لسلطته في تحقيق الدعوى الجنائية.
وعليه، نرى بأن مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية تدخل في نطاق السلطة التقديرية للقاضي الجنائي ولا يمكنها أن تشكل استثناء لهذا المبدأ، شريطة استعانة القاضي الجنائي في ذلك بخبرة طبية تساعده من أجل الحسم في مسألة إصابة المتهم باضطراب ذهني من عدمه وبشأن درجة تأثير هذا الاضطراب على إرادة أو إدراك هذا الأخير حتى يستطيع الحسم في مسؤوليته الجنائية.
فالخبرة في هذه الحالة يمكن القول بأنها إلزامية وعلى القاضي الجنائي أن يأمر بها تلقائيا لتعلق الأمر بمسألة طبية يصعب عليه فهمها في غياب تقرير طبيب مختص، والذي يعتبر من العناصر الضرورية التي يبني عليها القاضي الجنائي اقتناعه الصميم، من خلال مقارنة مضمونه مع باقي وسائل الإثبات التي يتضمنها ملف القضية، و ما راج أمامه بالجلسة من مناقشات مع المتهم المتابع وما جاء في تصريحات المصرحين، وظروف وملابسات القضية المعروضة عليه.
خاتمة:
من خلال كل ما تقدم، نتوصل إلى أن المشرع المغربي قد أخد بالمدرسة التقليدية الحديثة فيما يتعلق بحرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية، و ربط درجة المسؤولية الجنائية بمستوى حرية الاختيار التي يتمتع بها الجاني، فكلما كانت حرية اختيار هذا الأخير منعدمة امتنعت مسؤوليته الجنائية وكلما كانت مخففة خففت تبعا لذلك مسؤوليته الجنائية.
كما ألزم المشرع القاضي الجنائي قبل التقرير في المسؤولية الجنائية للمتهم - الذي يبدو أو الذي يدعي دفاعه أو ذويه بأنه مصاب باضطراب ذهني - على خبرة طبية، وهو ما يستفاد من عبارة " بعد خبرة طبية " التي استخدمها المشرع والتي يمكن اعتبارها شرطا ضروريا يتعين على القاضي الجنائي الالتزام به.
فسلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات فيما يتعلق بالبت في المسؤولية الجنائية للمتهم المصاب باضطراب ذهني، تصبح مقيدة بقيد إجرائي، وهو الخبرة الطبية التي يجريها طبيب مختص في معالجة الاضطرابات الذهنية، إذ في غيابها لا يمكن له أن يقرر في المسؤولية الجنائية للمتهم المذكور، وأن أي إجراء مخالف لذلك يعرض حكمه أو قراره للإبطال.
غير أنه إذا كان المشرع قد اعتبر بأن الخبرة الطبية ضرورية، ويستعين بها القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، فإن ذلك لا يعني بأنها – أي الخبرة الطبية- لا تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، بل شأنها شأن باقي وسائل الإثبات التي يملك معها هذا الأخير سلطة تقديرية واسعة لا يخضع في إعمالها لرقابة محكمة النقض.
فالقاضي كأصل حر في تكوين اقتناعه الوجداني بشأن حالة المتهم الذهنية، حيث هو من يقوم في الأخير بتقدير الخبرة الطبية ويضعها في الميزان من أجل التثبت من حالة المتهم الذهنية، وله في هذا الإطار كل السلطة في الأخذ بتقرير الخبير أو استبعاده شريط تعليل قراره، وله أن يرجعها إلى الخبير من أجل توضيح نقطة معينة أو من أجل الجواب على أحد أو بعض الأسئلة التي حددها في أمره التمهيدي، وغيرها من الصلاحيات المومإ إليها سلفا في التحليل. فضلا على أنه هو من يقوم بالتحقق من تزامن الإصابة باضطراب ذهني مع ارتكاب المتهم للجريمة المتابع بها.
فالخبرة الطبية مهمة من الناحية العملية نظرا لما تقدمه من خدمات للقاضي الجنائي، فهي تساعده في تقدير حالة المتهم الذهنية في إطار سلطته في تقدير وسائل الإثبات، حيث يوفر التقرير الطبي للقاضي الجنائي معلومات فنية حول الحالة المرضية التي يعاني منها المتهم المتابع، والتي يضيفها إلى باقي المعلومات الأخرى التي استجمعها من وقائع الدعوى الجنائية المعروضة عليه، فتتضح له الرؤيا بشأن حالة المتهم الذهنية، وعلى ضوء ذلك يحسم في مسؤوليته الجنائية.
وبذلك، فتوجهي محكمة النقض المذكورين لا يجب اعتبارهما توجهين متناقضين، بل يجب أن ينظر إلى كل واحد منهما باعتباره مكملا للآخر ، فالقول بكون تقدير حالة المتهم الذهنية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها يجب أن يبقى هو الأصل لانسجامه مع فلسفة المشرع الجنائية التي تعطي للقاضي الجنائي سلطة واسعة في تقدير وسائل الإثبات حتى يستطيع تكوين اقتناعه بكل حرية وتجرد. غير أن ذلك لا يعني بأن القاضي الجنائي مخير في اللجوء إلى خبرة طبية، بل يجب عليه أن يأمر بإجرائها تلقائيا أو بناء على طلب لتعلق الأمر بمسألة طبية صرفة بعيدة عن مجال اختصاصه القانوني، وذلك حتى يستطيع فهم الحالة المرضية للمتهم التي على ضوئها يقرر في مسؤوليته الجنائية.
و ختاما لابد من تقديم بعض التوصيات التي توصلنا إليها من خلال هذه الدراسة، ويتعلق الأمر بما يلي:
-------------------------------------
قائمة المراجع
- عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي – القسم العام، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثامنة، 2018.
- عبد الرزاق الجباري، المجتبى من عمل محكمة النقض في المادة الجنائية- سلسلة العمل الفقهي والقضائي، الجزء الأول، العدد 6، مطبعة الأمنية - الرباط، طبعة 2019.
- محمد بفقير، مجموعة القانون الجنائي والعمل القضائي المغربي، منشورات دراسات قضائية، سلسلة القانون والعمل القضائي المغربيين، العدد 4، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الخامسة 2018.
- إيهاب عبد المطلب و سمير صبحي، الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح القانون الجنائي، في ضوء الفقه وأحكام المجلس الأعلى المغربي ومحكمة النقض المصرية، المجلد الأول، المركز القومي للإصدارات القانونية، التوزيع بالمغرب : مكتبة الرشاد – السطات، الطبعة الأولى 2010-2011.
- عبد الكريم بلحاج، المدخل إلى علم النفس المعرفي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط- حسان، الطبعة الأولى، 2009.
- فتوح عبد الله الشادلي، أساسيات علم الاجرام والعقاب، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، 2009.
- ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، السنة 2006.
- محمد التغدويني، النظرية العامة للتعليق على الأحكام القضائية، مطبعة آنفو – برانت، فاس، الطبعة الثانية، السنة 2006.
- محمد محجوبي، دعوى نقل الملكية واجراءاتها أمام المحكمة الإدارية، مطبعة دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، 2004.
- شادية الشومي، في القانون الجنائي العام، الطبعة الثانية، السنة 2001.
- مولاي ادريس العلوي العبدلاوي، الوسيط في شرح المسطرة المدنية، ج1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998.
- عبد الرحمن عيسوي، علم النفس القضائي مع دراسة ميدانية للاتجاه نحو القانون، دار النهضة العربية للطباعة والنشر – بيروت، السنة 1992.
1-2) المقالات:
- عبد الرحمان اللمتوني، '' سلطة القاضي في تقدير الواقع والقانون ''، مجلة رئاسة النيابة العامة، العدد الثاني، يونيو 2021.
- عبد الكافي ورياشي،" الأمراض العقلية والنفسية وأثرها على المسؤولية الجنائية "، مجلة منبر النيابة العامة، مجلة خاصة بقضاة النيابة العامة تصدر عن النيابة العامة لدى محكمة النقض ، العدد الثالث، 2013.
- مقال نشر لنا (سعيد المفقي) تحت عنوان: "دور النيابة العامة في دعم حقوق المرضى عقليا ونفسيا"، مجلة الملف (مجلة قانونية – ورقية)، العدد 21، أكتوبر 2013.
- مصطفى عبد الباقي وآلاء حماد، " موانع المسؤولية الجزائية وفقا لقانون العقوبات الأردني الساري في الضفة الغربية ومشروع قانون العقوبات الفلسطيني"، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد31(4)، 2017، منشور بالموقع الالكتروني: https://journals.najah.edu
- صلاح حسن أحمد، "مذاهب تفسير المسؤولية الجنائية"، موقع المجلات الأكاديمية العلمية العراقية: https://www.iasj.net
- المسؤولية الجنائية (موانع المسؤولية – أسباب الإباحة)، من إعداد اللجنة العلمية لمعهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، 2018-2019، منشور بالموقع الالكتروني https://www.kijls.moj.gov.kw
2 – LES OUVRAGES ETRANGERS
- JONAS Carol, SENON Jean-Louis, VOYER Mélanie, DELBREIL Alexia, Méthodologie de l’expertise en psychiatrie, collection Psychothérapies, Dunod, 2013, P.1, Mis en ligne sur Cairn.info le 12/04/2022, consulté le 25/02/2023 à 11.25.
- ALEXANDRE Marie, Le rôle de l’expert psychiatre en procédure pénale, Mémoire du Master, Université de Cergy-Pontoise, Année Universitaire 2013-2014.
_ BORE Jacques et BORE Louis, La cassation en matière civile, 4ème édition, Dalloz, Paris, 2008.
- SENON Jean-Louis, Les enjeux actuels de l’expertise pénale entre prison et hôpital, Collectif Recherche Information Multidisciplinaire Criminologie Université de Poitiers, 2006.
- GUIGUE Sophine, L’approche juridique du trouble mental, Thèse pour obtenir le doctorat de L’université Montpellier 1, soutenue le 6 décembre 2011.
الأصل في القانون الجنائي أن كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يعد مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي ارتكبها. وهذا ما نادت به المدرسة التقليدية[1] التي قالت بحرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية، أي أن الشخص لا يسأل إلا عن الأفعال التي أتاها عن بينة واختيار.
فمناط المسؤولية الجنائية[2] هو القدرة على التمييز، ومعنى ذلك أن كل شخص قادرا على التمييز، يعد مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي ارتكبها[3]. و الشخص لا يمكن أن يكون قادرا على التمييز إلا إذا كان سليم العقل خاليا من أي اضطراب قد يؤثر على وجدانه أو أحاسيسه أو أفكاره أو سلوكه.
وبالرجوع إلى الدراسات القانونية التي تناولت موضوع آثار الاضطرابات العقلية والنفسية على المسؤولية الجنائية، نجدها قد ركزت على التحليل الفقهي والقانوني للنصوص الجنائية، والحال أن الموضوع له ارتباطات مهمة بالطب المتخصص في معالجة الاضطرابات الذهنية وبعلم النفس الجنائي[4] وعلم النفس القضائي وعلم النفس المرضي وعلم النفس الاكلينيكي.
ولم يعرف المشرع الجنائي المغربي الاضطراب الذهني، واكتفى بالإشارة إلى عبارة " خلل في قواه العقلية ". ويرى البعض[5] بأن المشرع اختار استعمال هذه العبارة للتنصيص على الإصابة بمرض من الأمراض العقلية أو النفسية، وهي عبارة واسعة تشمل كل ما يصيب العقل من اختلال وعاهات قد تفقده الإدراك أو الإرادة. أما جانب آخر فيرى بأن مصطلح " الخلل العقلي" الذي استعمله المشرع تدخل في نطاقه كل الاضطرابات التي تلحق بعقل الفاعل وتؤدي إلى إلحاق خلل به يفضي إلى القضاء على إدراكه، مما يؤدي إلى امتناع مسائلته من الناحية الجنائية[6].
أما البعض الآخر فقد عرف الاضطراب العقلي على أنه " اضطراب في أداء وظيفة فكرية أو نفسية"[7]. ويقصد بعبارة "وظيفة فكرية أو نفسية " كل ما يتصل بالذهن كالشعور والأحاسيس، والاضطراب في أداء هذه الوظيفة يعني حدوث تأثير على العمليات العقلية أو الذهنية التي يقوم بها العقل أو ما يعرف في علم النفس بالسيرورات[8] الذهنية.
وفي نفس الإطار، فقد حاول جانب من الفقه التمييز بين الاضطرابات العقلية والنفسية من حيث درجة خطورة كل منهما ومن حيث الوعي بالمرض، فقال " إن الفرق بين الأمراض العقلية والنفسية يكمن أولا في الدرجة، وثانيا في الوعي بالمرض، فإن كانت حدة المرض أخف فهو يصنف ضمن العصابيين، وإذا كانت أخطر فهو ضمن المرضى العقليين، ثانيا إذا كان المريض يعي مرضه فهو عصابي وإذا اعتقد في صدق أوهامه وهذيانه وهلاوسه يصبح مريضا عقليا، كما أن الأمراض العقلية غالبا ما يكون سببها عضوي في حين أن الأمراض النفسية يكون سببها نفسي"[9]، وهي (أي الأمراض النفسية) عبارة عن اختلال جزئي في الشخصية نتيجة الإصابة باضطراب نفسي دون أن يترتب عن ذلك انفصال المريض عن محيطه الاجتماعي[10]، مثل الهيستيريا والقلق النفسي والاعياء النفسي[11].
أما إذا تفحصنا الدراسات المنجزة في علم النفس الجنائي، نجد أن بعض الفقه يعتبر بأن الأمراض العقلية هي الأمراض التي يترتب عليها اضطرابات خطيرة في الشخصية، واختلال شديد في الملكات العقلية[12]. أما الفقه الجنائي فقد توسع في مفهوم الاضطراب العقلي ليشمل عددا من الحالات المشابهة التي يكون فيها الجاني فاقدا للإدراك والتمييز، كالجنون والأمراض العقلية الأخرى غير الجنون، كالاضطرابات التي تؤدي إلى خلل في القوى العقلية كاليقظة أثناء النوم والصرع والعته[13]. أما البعض الآخر فقد حاول تقسيم الأمراض العقلية إلى قسمين أو نوعين، يشمل القسم الأول الأمراض العقلية العضوية الناشئة عن علة عضوية تصيب أحد أجزاء الجهاز العصبي كالمخ مثلا، مما يؤدي إلى اختلال في وظائفه، ومن أهم مظاهره الجنون والصرع، أما القسم الثاني فيتمثل في الأمراض العقلية الوظيفية التي تتمثل في اضطرابات في الوظائف العقلية لدى المريض[14].
وإذا كان الفقه قد قسم الاضطرابات التي تصيب العقل (الذهنية) إلى اضطرابات عقلية وأخرى نفسية، فإن الأطباء المختصون في معالجة الاضطرابات الذهنبة و فقهاء علم النفس[15] يرون بأن تقسيم الاضطرابات التي تصيب العقل إلى اضطرابات عقلية (ذهانية) وأخرى نفسية (عصابية) هو تقسيم قديم يعود إلى مدرسة التحليل النفسي، وأن الاختلاف فقط في المصطلحات. وأن التصنيف المعتمد والمعمول به من طرف الأطباء المختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية هو التصنيف الدولي للاضطرابات الذهنية ICD-11 ( المراجعة رقم 11 الصادرة عن المنظمة العالمية للصحة والتي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2022) وكذا التصنيف الأمريكي 5-DSM (صادر عن الجمعية الامريكية للأطباء النفسيين). وبالرجوع إلى التصنيفين الدوليين المذكورين نجدهما يتحدثان عن اضطرابات النماء الذهني[16] والاضطرابات الذهانية، وهو المصطلح الأكثر تداولا، لذلك قررنا استعمال مصطلح " اضطراب ذهني " بدل باقي العبارات المستعملة من قبل المشرع والفقه مثل " خلل في القوى العقلية " و " المرض العقلي " و " المرض النفسي" و" العاهة العقلية " وغيرها من المصطلحات.
ومن الناحية القانونية، فالأصل في كل شخص ارتكب فعلا جرميا أنه كان سليم العقل إلا إذا ثبت عكس ذلك بناء على خبرة طبية. والعلاقة بين الاضطراب الذهني والمسؤولية الجنائية، تتجسد في أنه متى كانت الإرادة أو الإدراك لدى الجاني منعدمة بسبب إصابته باضطراب الذهني وقت ارتكابه الجريمة، ترتب عن ذلك امتناع مسؤوليته الجنائية بالتبعية، ومتى كان الإدراك[17] أو الإرادة[18] لديه ناقصتين بسبب إصابته بالاضطراب المذكور نقصت تبعا لذلك مسؤوليته الجنائية.
لكن الإشكال المطروح هو مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، أي مدى سلطته في التحقق من كون هذا الأخير كان وقت ارتكابه الجريمة يعاني من اضطراب ذهني أثر على إدراكه أو إرادته تأثيرا كاملا أو ناقصا.
وللإحاطة بالموضوع والإجابة على الإشكالية التي يطرحها ارتأينا تقسيمه إلى قسمين رئيسيين (مبحثين)، نتطرق في الأول إلى آثار الاضطرابات الذهنية على المسؤولية الجنائية، فيما سنخصص الثاني للحديث عن مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية على ضوء عمل محكمة النقض.
ولطبيعة الموضوع المركبة "قانوني- علمي" (يجمع بين الجوانب القانونية والطبية)، ارتأينا تناوله باعتماد المنهج التحليلي لتحليل النصوص القانونية وقرارات محكمة النقض في تعاطيها مع بعض المسائل القانونية، وكذا المنهج الاستدلالي من أجل إقامة البرهان على بعض المواقف التي سنعلنها، وكذا المنهج التاريخي لتتبع التطور التاريخي لبعض مواقف محكمة النقض بشأن نقطة قانونية معينة. كما سنعتمد في مقاربتنا للموضوع على آراء الأطباء المختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية اللذين سنجري معهم لقاءات باعتماد تقنية المقابلة النصف موجهةSemi-directive .
المبحـث الأول:
الاضطرابات الذهنية بين امتناع المسؤولية الجنائية وتخفيفها
ويعتبر الاضطراب الذهني الذي يفقد معه الشخص القدرة على التمييز، مانعا من موانع المسؤولية الجنائية (مطلب أول). ويقصد بموانع المسؤولية الجنائية الأسباب التي تفقد الشخص قدرته على التمييز أو الاختيار، أو كليهما، فتجعله غير أهل لتحمل المسؤولية الجنائية. أي هي الحالات التي ينتفي فيها الوعي أو الإرادة أو كليهما معا. وهذه الموانع لا تمحو الصفة الجرمية عن الفعل، بل يبقى في نظر القانون جريمة لكن تمتنع معاقبة الفاعل لسبب يقوم في شخصه لاعتبارات قررها القانون نفسه[19].
وتتميز موانع المسؤولية الجنائية بكونها شخصية متصلة بشخص المتهم (الجاني) ولا صلة لها بالجريمة ولا بظروفها، ولا أثر لها بالنسبة لباقي الشركاء والمساهمين، أي لا تنتج أثرها إلا فيمن توافرت فيه من الجناة سواء أصليين أو مساهمين أو شركاء في ارتكاب الجريمة.
أما إذا كان مستوى الإدراك أو الإرادة لدى المتهم ناقصا بسبب الإصابة باضطراب ذهني وتزامنت إصابة المتهم بهذا الاضطراب مع ارتكابه للجريمة، فإن مسؤوليته الجنائية تبعا لذلك تكون مخففة (مطلب ثاني).
المطلب الأول: الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه امتناع المسؤولية الجنائية
يشترط لقيام المسؤولية الجنائية تحقق أمرين اثنين، الإثم والإسناد، فالإثم أو الذنبla culpabilité هو إمكانية مساءلة الجاني عن الجريمة التي اقترفها، اعتبار لكون الخطأ هو أساس المسؤولية الجنائية[20]. أما الاسنـــاد: imputabilité فيعنى إسناد الاثم إلى الجاني إسنادا ماديا ومعنويا. والإسناد المعنوي يقتضي أن يكون الفاعل وقت ارتكابه الفعل الجرمي متمتعا بالإدراك والإرادة، وأن تكون هذه الإرادة حرة ومختارة. أما إذا لم يكن متمتعا بالإدراك والإرادة خلال ارتكابه الفعل الجرمي فإن هذا الأخير لا يمكن أن يسند إليه إسنادا معنويا.
ففي نطاق الإسناد المعنوي للجريمة إلى المجرم (أي في نطاق تحديد المسؤولية الجنائية) تظهر أهمية علم النفس الجنائي، باعتباره العلم الذي يبحث عوامل الجريمة وأسبابها الكامنة في نفسية المجرم، كالانحرافات في بعض الغرائز وجموح العواطف[21] وغيرها. وقد كان لمدرسة التحليل النفسي، الفضل في تحليل العوامل النفسية التي تدفع الشخص إلى الإجرام، وتتمحور هذه العوامل حول الاختلال الذي يصيب ملكات العقل، والاضطراب في التفكير، مما يؤدي إلى الإصابة بأمراض نفسية تفضي إلى نشوء سلوك معادي للمجتمع[22]، وعلى هذا الأساس فإن مدرسة التحليل النفسي وعلى رأسها أحد أقطابها العالم النمساوي (فرويد) تعتبر بأن الانسان ليس له اختيار فيما يعمل، إذ لا يستطيع أن يعمل غير ما قدر له أن يعمل، لأن الصفات الرئيسية لشخصيته مقررة وفق مؤثرات سابقة لا سلطان له في إيجادها وتحديدها، وليس له القدرة الكافية على تبديلها وتحويرها، فهي وليدة تفاعل ذاتي بين عوامل الوراثة المتمثلة في التنظيم الداخلي لخلايا التناسل وعوامل البيئة البادية في المقومات المحيطة بتلك الخلايا من ظروف متمايزة خلال مراحل حياتها[23].
والقاضي الجنائي عليه أن يحيط علما بالعوامل النفسية باعتبارها دوافع داخلية تدفع الجاني إلى الإجرام، وعليه أن ينظر إلي الجوانب النفسية لشخصية الجاني من حيث تأثيرها على الملكات العقلية لهذا الأخير وقت ارتكابه للجريمة، وذلك من أجل تقرير مسؤوليته الجنائية.
وللقول بامتناع مسؤولية[24] المتهم المصاب باضطراب ذهني لابد من تحقق شرطين أساسيين، الأول أن يكون الاضطراب الذهني كاملا، أي لدرجة يجعل المتهم يفقد الإدراك والإرادة بشكل مطلق (فقرة أولى)، والثاني يتمثل في معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: أن يكون الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم كاملا
إن الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه امتناع المسؤولية الجنائية، هو الاضطراب الذي يفقد بسببه المتهم الإدراك أو الإرادة[25]بشكل كلي أو مطلق (الفصل 134 من ق.ج). فالقانون لا يتطلب فقدان الادراك والإرادة معا، وإنما يكفي فقدان أحدهما لامتناع المسؤولية الجنائية، أما إذا لم يترتب على الاضطراب الذهني هذا الأثر فلا محل لامتناع المسؤولية الجنائية، لأن المشرع في هذه الحالة لا يعتد بالإرادة لأن الشروط المتطلبة لكي تكون ذات قيمة قانونية لم تتوافر، أما إذا توافرت هذه الشروط فإن الإرادة تحتفظ بكل قيمتها ولا وجه لامتناع المسؤولية الجنائية[26].
وما قيل عن الإرادة ينطبق على الادراك أو التمييز، فإذا ترتب عن الاضطراب الذهني فقدان المتهم القدرة على فهم ماهية الفعل المرتكب وطبيعته والآثار المترتبة عليه، امتنعت مسؤوليته الجنائية تبعا لذلك. أما إذا كان المتهم يميز بشكل واضح بين الخطأ والصواب ويدرك بأن ما أقدم عليه من فعل يعد جريمة ومع ذلك قرر ارتكابه، فلا مبرر لامتناع مسؤوليته الجنائية في هذه الحالة.
ومن الناحية العملية فالقاضي الجنائي يستعصي عليه التحقق من كون الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم قد أفقده الإدراك أو الإرادة، فيجد نفسه مضطرا لعرض المتهم على خبير في معالجة الاضطرابات الذهنية، حتى يستطيع جمع العديد من المعلومات حول حالة المتهم المرضية ودرجة تأثير ذلك الاضطراب على قدراته الذهنية.
وإذا كانت الخبرة الطبية تساعد القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، فإنها لا تؤدي بطريقة آلية إلى الجزم في مسؤوليته الجنائية والقول بامتناعها أو تخفيفها، بل أن القاضي هو من يقرر في حالة المتهم الذهنية بتقديره الخبرة الطبية ومقارنتها مع وقائع الدعوى الجنائية المعروضة عليه، وتحققه من معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب المتهم للجريمة.
الفقرة الثانية: معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة
إن العبرة في الاضطراب الذهني الذي يمنع المسؤولية الجنائية أن يكون المتهم مصابا به وقت ارتكابه الجريمة (تزامن ارتكاب الجريمة مع إصابة المتهم بالاضطراب الذهني)[27]، كما نص على ذلك الفصل 134 من القانون الجنائي في فقرته الأولى. و الشرط نفسه اشترطه المشرع الفرنسي، حيث جاء في الفصل 1-122 من القانون الجنائي الفرنسي " لا يكون مسؤولا جنائيا الشخص الذي كان لحظة الوقائع مصابا باضطراب نفسي أو عصبي نفسي، أفقده التمييز أو السيطرة على أفعاله"[28].
وإذا توافرت شروط امتناع المسؤولية الجنائية، صرح القاضي بأن الأفعال الجرمية التي أتاها المتهم هي ثابتة في حقه، غير أن مسؤوليته الجنائية امتنعت بسبب إصابته باضطراب ذهني، وصرح تبعا لذلك بإعفائه من العقاب. ولا يمكنه في هذه الحالة أن يتخذ في حقه أية عقوبة كيفما كان نوعها سواء حبسية أو مالية (غرامة)، ما عدا التدابير العلاجية المتمثلة في أيداعه[29] في مؤسسة متخصصة في علاج الاضطرابات الذهنية[30].
أما إذا طرأت إصابة المتهم باضطراب ذهني بعد ارتكابه الفعل الجرمي، فإنه يساءل جنائيا ومدنيا لأن العبرة بالحالة الذهنية للجاني أثناء ارتكابه الفعل الجرمي. أما إذا كان متابعا بجناية أو جنحة وثبت للمحكمة عن طريق الخبرة الطبية بأن اضطراب ذهني طرأ عليه أو اشتد بعد ارتكابه الفعل الجرمي، وأصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في الدعوى، فأنه يتوجب عليها طبقا للفصل 79 من ق.ج أن تأمر بوقـف النظر في الدعـوى وتأمـر بإدخاله في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، مع إمكانية استئناف المحاكمة بناء على ملتمس النيابة العامة بعد خروج الجاني من المؤسسة المذكورة بعد شفائه.
فالقاضي الجنائي عندما يصرح بامتناع مسؤولية المتهم الجنائية بسبب إصابته باضطراب ذهني، يحكم بإعفائه من العقاب لا ببراءته، لأن الجريمة المتابع بها تبقى قائمة ولو كانت في صورتها السلبية (الامتناع عن القيام بعمل أمر به القانون)، فالاضطراب الذهني يعدم المسؤولية الجنائية ولا يمحو الجريمة، حيث تبقى هذه الأخيرة قائمة وثابتة في حق المتهم المصاب باضطراب ذهني. وهذا ما أكدته محكمة النقض في قرار لها صادر بتاريخ 19 يونيو 2013 الذي بموجبه قضت بنقض قرار الغرفة الجنحية الاستئنافية بالمحكمة الابتدائية بالقنيطرة القاضي بتأييد الحكم الابتدائي القاضي ببراءة المتهم من جنحة إهمال الأسرة لكون هذا الأخير حسب تقرير الخبرة الطبية يعاني من اضطراب ذهني خطير أصبح معه فاقد للمسؤولية. وجاء في قرار محكمة النقض المذكور ما يلي: " ... وحيث إن محكمة الدرجة الأولى استندت في تصريحها ببراءة المطلوب في النقض إلى كون هذا الأخير حسب تقرير الخبرة الطبية يعاني من اضطراب نفسي خطير أصبح معه فاقدا للمسؤولية...، واعتبرت تبعا لذلك أن حالته النفسية تجعله غير قادر على الكسب والنفقة، وأن امتناعه عن الانفاق لم يكن متعمدا لانعدام الإدراك والتمييز لديه، وهو تعليل يتنافى بمقتضى الفصل 76 السابق الذكر مع ما انتهى إليه منطوق قرارها، وهي إذ قضت على النحو الوارد أعلاه تكون قد خرقت القانون خرقا ينزل منزلة انعدام التعليل الموجب للنقض والإبطال"[31].
فمحكمة الدرجة الأولى عندما حكمت ببراءة المتهم من جنحة الامتناع عمدا عن أداء النفقة بسبب إصابته باضطراب خطير أفقده القدرة على الإدراك والتمييز، تكون قد أساءت تطبيق الفصل 76 من ق.ج، الذي ينص صراحة على أن المحكمة عندما تثبت أن المتهم كان وقت ارتكاب الفعل في حالة اضطراب ذهني يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة، تصرح بانعدام مسؤوليته الجنائية مطلقا، وتحكم بإعفائه، والمحكمة عندما حكمت ببراءة المتهم عوض الحكم بإعفائه قد خالفت مقتضيات الفصل 76 من ق.ج التي جاءت صريحة و واضحة، وتعليلها لما انتهت إليه ينطوي على خرق صارح لقاعدة قانونية واضحة، لا تقبل إلا تأويلا واحدا، وينزل منزلة انعدام التعليل، وهو ما أكدته محكمة النقض في قرار آخر لها بتاريخ 08/03/2022 الذي خلصت فيه إلى أنه " يعتبر منعدم التعليل القرار الذي أورد تعليلا ينطوي على تجاوز لمقتضيات قانونية صريحة، أو خرق صارخ لقاعدة قانونية واضحة لا تقبل إلا تأويلا واحدا "[32].
وإذا كان كذلك، فما هو أثر الاضطراب الذهني غير الكامل على المسؤولية الجنائية للمتهم المصاب به؟
المطلب الثاني: الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه تخفيف المسؤولية الجنائية
من المؤكد أن درجة تأثير الاضطراب الذهني على مستوى الإدراك والإرادة لدى الجاني يعتمد في تحديد درجة المسؤولية الجنائية لهذا الأخير ، فمتى كان ذلك التأثير يعدم الإدراك أو الإرادة لدى المتهم انعدمت مسؤوليته الجنائية، ومتى كان التأثير المذكور لا يصل إلى درجة يفقد معها المتهم الإدراك أو الإرادة وإنما مستواهما ينقص لديه، فإن مسؤوليته الجنائية تنقص تبعا لذلك .
ويشترط لتخفيف المسؤولية الجنائية بسبب الإصابة باضطراب ذهني، أن يكون هذا الاضطراب ليس كليا، أي أنه لا يعدم الإرادة أو الإدراك لدى المتهم بشكل كلي، وإنما ينقصهما أو ينقص أحدهما فقط (فقرة أولى)، كما يشترط كذلك أن يتحقق تزامن بين ارتكاب المتهم للجريمة و إصابته باضطراب ذهني غير كامل (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: أن يكون الاضطراب الذهني لدى المتهم ناقصا
ويقصد به أن يكون المتهم وقت ارتكابه للفعل الجرمي ناقص الإدراك أو الإرادة، وهو ما اشترطه الفصل 135 من القانون الجنائي.
فكما سبق القول، فإن تحديد درجة تأثير الاضطراب الذهني على الإدراك أو الإرادة لدى الشخص المصاب به، يعود إلى الخبير في الطب المختص في علاج الاضطرابات الذهنية، فهو وحده المؤهل للحسم في هذه المسألة باتباع مجموعة من الخطوات والإجراءات التشخيصية لتحديد صنف الاضطراب وتحديد ما إذا كان عاديا كباقي الاضطرابات التي لا تأثير لها على الإدراك والإرادة أم أنه من الصنف الذي يؤثر عليهما فيضعف قدرة الشخص على الفهم والتمييز.
والقاضي الجنائي لا يستطيع أن يقرر بشأن المسؤولية الجنائية للشخص المصاب باضطراب ذهني - ولو كان المتهم يتجاوب مع المحكمة ويظهر وكأنه قادر على الدفاع عن نفسه - إلا إذا استعان بخبرة طبية توضح بدقة حالة المتهم المرضية ودرجة تأثيرها على مستوى الإدراك والإرادة لديه.
فإذا ثبت للقاضي الجنائي، بعد خبرة طبية، أن المتهم بارتكاب جناية أو جنحة، رغم أنه قادر على أن يدافع عن نفسه أثناء المحاكمة، غير أنه كان مصابا وقت ارتكابه للأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية يترتب عليه نقص مسؤوليته، فإنه يجب عليه حسب الفصل 78 من ق.ج أن يثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه، وأن يصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل، ويطبق عليه العقوبات أو التدابير الوقائية المقررة في الفصل 78 المذكور[33]، المتمثلة في إيداع المحكوم عليه في مؤسسة لعلاج الاضطرابات الذهنية، قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، على أن تخصم مدة بقائه في هذه المؤسسة من مدة العقوبة المحكوم بها[34].
ومن خلال المقتضيات القانونية المشار إليها يتبين بأن المشرع الجنائي المغربي قد لاءم بما فيه الكفاية المقتضيات القانونية المتعلقة بموانع المسؤولية الجنائية مع مقتضيات القانون الخاص بالوقاية والعلاج من الأمراض العقلية وحماية المرضى المصابين بها، ومع المواثيق الدولية ذات الصلة[35]، كما راعى درجة تأثير الإصابة باضطراب ذهني على المسؤولية الجنائية للتهم المصاب به، فميز بين امتناع المسؤولية الجنائية والتخفيف منها على خلاف بعض التشريعات المقارنة التي ساوت بين انعدام الإدراك والنقص في النمو الذهني واعتبرتهما سببين من أسباب انعدام المسؤولية الجنائية، كقانون العقوبات القطري رقم 14 لسنة 1971 الذي نص في مادته 19 على أنه " لا مسؤولية جزائية على فعل يقع من شخص تعوزه وقت ارتكابه القدرة على إدراك ماهية أفعاله أو كان عاجزا عن توجيه إرادته بسبب من الأسباب الآتية: أ- الجنون الدائم أو المؤقت أو النقص في النمو الذهني...". مع العلم أن الجنون المؤقت أو العرضي وكذا النقص في النمو الذهني هما نوعين من أنواع الاضطرابات الذهنية التي لا تعدم الإدراك والإرادة لدى الجاني المصاب به، أي أن الجاني المصاب بإحدى هذه الاضطرابات لا يكون عند ارتكابه للفعل الجرمي غير قادر على التمييز وإنما يكون تمييزه وإدراكه لخطورة الفعل الجرمي وللنتيجة الاجرامية ناقصا فقط.
وجدير بالإشارة أن المشرع المغربي اتبع رأي المدرسة التقليدية الحديثة[36] التي تأخذ بتدرج المسؤولية الجنائية من الكمال إلى النقصان إلى الانعدام بحسب درجة الإدراك والإرادة لدى المتهم مرتكب الجريمة خلافا للمدرسة التقليدية الأولى التي لا تأخذ بالتدرج في المسؤولية الجنائية، والتي ترى بأن الشخص إما أن يكون كامل الادراك والإرادة فيسأل مسؤولية كاملة، وإما ألا يكون كذلك فلا يسأل إطلاقا[37].
فغاية المشرع من ربط المسؤولية الجنائية للمتهم بدرجة تأثير الاضطراب الذهني الذي يعاني منه على إرادته وإدراكه، هي عدم تحميله عواقب أو تبعات أفعال ارتكبها وهو ليس في كامل قواه العقلية.
الفقرة الثانية: معاصرة الاضطراب الذهني لزمن ارتكاب الجريمة
العبرة في الاضطراب الذهني الذي ينقص المسؤولية أن يكون الجاني مصابا به وقت ارتكابه للجريمة (الفصل 135 من القانون الجنائي في فقرته الأولى).
فالقاضي الجنائي وهو ينظر الدعوى الجنائية قد يجد ضمن وثائق ملف القضية ملفا طبيا للمتهم المتابع يثبت بأن هذا الأخير يتابع العلاج لدى طبيب مختص في معالجة الأمراض العقلية، وهنا يكون القاضي على علم بالحالة المرضية التي يعاني منها المتهم الماثل أمامه، وقد لا تظهر على هذا الأخير حالة الاضطراب الذهني بشكل واضح. لكن أحيانا قد يمثل المتهم أمام القاضي الجنائي ولا يكون بملف القضية ما يشير إلى كونه يعاني من اضطراب ذهني، ويكون المتهم قادرا على الدفاع عن نفسه ويتجاوب مع المحكمة بسلاسة، لكن مع ذلك فهو يعاني من اضطراب ذهني، حيث هنا يطرح التساؤل كيف يستطيع القاضي الجنائي أن يكتشف بأن المتهم يعاني من اضطراب ذهني حتى يأمر بعرضه على خبرة طبية؟
في هذه الحالة يصعب على القاضي الجنائي أن يكتشف بأن المتهم يعاني من اضطراب ذهني، إلا إذا تقدم الدفاع بطلب عرض موكله المتابع على خبرة طبية، أو تقدم ذوي المتهم وأدلوا بما يفيد أن المتهم (قريبهم) يعاني من اضطراب ذهني، وهنا على القاضي الجنائي أن يستجيب لطلب عرض المتهم على خبرة طبية للتأكد من حالته الذهنية.
وبعد توصل القاضي بخبرة طبية تثبت بأن المتهم يعاني من اضطراب ذهني، عليه أن يتحقق من كون المتهم كان مصابا بهذا الاضطراب أثناء ارتكابه للجريمة، وهي مسألة موضوعية متصلة بوقائع القضية وحيثياتها، التي يتضمنها محضر الضابطة القضائية (تصريحات الضحية أو ذويه، و الشهود، وتصريحات المتهم...)، حيث أن القاضي الجنائي حينما يتأكد من إصابة المتهم باضطراب ذهني استنادا إلى الملف الطبي للمتهم وتقرير الخبرة الطبية وتصريحات ذويه، ينتقل للتحقق من كون المتهم كان وقت ارتكابه الجريمة يعاني من ذلك الاضطراب ويعتمد في هذه الحالة على محضر الضابطة القضائية وما يتضمنه من وقائع ويقارن المعلومات المتعلقة بالحالة المرضية للمتهم الواردة بالمحضر المذكور مع الملف الطبي وآخر زيارة للطبيب والوصفة الطبية وتاريخها وتصريحات المصرحين والضحية، فتتكون له فكرة عن مسألة تزامن الجريمة مع الإصابة باضطراب ذهني من عدمه. وإذا ثبت لديه هذا التزامن صرح بكون مسؤولية المتهم الجنائية مسؤولية ناقصة.
ونظرا لأهمية الخبرة الطبية في إثبات الاضطراب الذهني، ولكون اعتمادها في تقرير المسؤولية الجنائية من قبل القاضي الجنائي يعد ضرورة لا محيد عنها، فهل هي تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي شأنها شأن باقي وسائل الاثبات؟ وهل تقدير الحالة الذهنية للمتهم مسألة طبية صرفة أم تدخل في نطاق السلطة التقديرية للقاضي الجنائي؟
المبحــــث الثانـــــي:
مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية على ضوء عمل محكمة النقض
الأصل أن القاضي الجنائي حر في تكوين اقتناعه الوجداني، وسلطته في ذلك لا تخضع لرقابة محكمة النقض لأنها من المسائل الموضوعية التي يختص بها، وله أن يأخذ بأي دليل يقتنع به. والخبرة كوسيلة إثبات تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، فهو مخير في الأمر بإجرائها استنادا إلى الفصل 194 من ق.م.ج في فقرته الأولى التي تنص على أنه " يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية، أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما بطلب من النيابة العامة أو من الأطراف ".
وتقدير حالة الاضطراب الذهني، وتحديد مدى تأثيره على الإدراك والإرادة إذا كان من الأمور التي يختص بها أهل الخبرة في معالجة الاضطرابات الذهنية، وهم من لهم الصلاحية في الحسم في هذا الأمر. فهل يمكن للقاضي الجنائي بحكم خبرته وتجربته القضائية وما له من سلطة تقديرية في تقدير جميع وسائل الإثبات دون استثناء، أن يقوم بتقدير حالة المتهم الذهنية انطلاقا من المناقشة التي يجريها مع هذا الأخير بالجلسة ومن خلال العمليات التفاعلية بينهما بالجلسة، أم أنه في حاجة إلى رأي أهل الخبرة في المجال للاستعانة به في تقدير حالة المتهم الذهنية، أم أن الأمر يخرج عن سلطته التقديرية وبالتالي فهو ملزم بالتقيد بتقرير الخبير المختص ؟
وحتى نتمكن من الإجابة على هذه الإشكالية، لابد من تحليل مجموعة من القرارات القضائية الصادرة عن محكمة النقض على ضوء رأي الأطباء المختصين في الطب النفسي.
فعند تفحصنا للعديد من قرارات محكمة النقض يتبين لنا وجود موقفين اثنين، فيما يتعلق بالأخذ بالخبرة الطبية في إثبات الاضطراب الذهني في علاقته بالسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، وكتوجه أولي لمحكمة النقض فقد كانت تخضع مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي باعتبارها مسألة من المسائل الموضوعية التي يستقل في تقدريها، وهنا يمكن أن ندخلها في نطاق تقدير الواقع (مطلب أول)، تم عادت واعتبرت المسألة من المسائل الفنية التي لا يمكن الحسم فيها إلا من قبل ذوي الاختصاص في الطب العقلي، أي هي من المسائل التي لا يملك معها القاضي الجنائي أية سلطة تقديرية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: التوجه الذي يخضع تقدير حالة المتهم الذهنية للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي
قبل الانتقال إلى موقف محكمة النقض من مدى سلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية في علاقتها بالخبرة الطبية كوسيلة إثبات في القضايا الطبية الدقيقة (فقرة أولى)، لابد من معرفة طبيعة عملية تقدير حالة المتهم الذهنية باعتبارها حالة متصلة بالجاني وقت ارتكابه الجريمة، أي في علاقتها بوقائع القضية كحالة موضوعية وليس كدافع للجريمة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة موضوعية مرتبطة بتقدير الواقــــع
يواجه القاضي صعوبة في التمييز بين تقديره الواقع و تقدير القانون، فقد يختلط عليه الأمر فيعتقد بأن الأمر يتعلق بالواقع في حين أنه من مسائل القانون والعكس، لذلك حاول الفقه إيجاد مجموعة من المعايير للتمييز بين سلطة تقدير الواقع وسلطة تقدير القانون، يمكن أجمالها في: المعيار الشكلي ومعيار الاستدلال القضائي المنطقي ومعيار مفترض القاعدة القانونية ومعيار الأثر القانوني ومعيار الأفكار المعرفة والأفكار غير المعرفة قانونا ومعيار التكييف القانوني[38].
كما أن بعض الأنظمة القانونية قد حاولت إيجاد حدود بين الواقع والقانون من خلال فصل مهمة تقدير الواقع عن مهمة تقدير القانون. فالنظام الأنكلوساكسوني مثلا جعل تقدير الواقع وحده اختصاصا لهيئة المحلفين، بينما جعل تقدير القانون اختصاصا حصريا للقاضي[39]. وهو حل من الصعب الأخذ به لأن القاضي لا يمكنه أن يبحث القضية إلا في شموليتها من الناحية الواقعية والقانونية.
ويأخذ الفقه المغربي بالمعيار الشكلي الذي يقول به الفقيهينGauguier et Bonnier الذي يقسم مراحل نشاط القاضي إلى ثلاثة مراحل، وهي التثبت من الوقائع ثم تكييفها فترتيب النتيجة القانونية، غير أن الفقه المغربي قد قسم مراحل نشاط القاضي إلى أربعة مراحل، بحيث قسم مرحلة الوقائع إلى مرحلتين وهما مرحلة استخلاص الوقائع ومرحلة إثباتها[40]. وبما أن مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية تعني استخلاص إصابة الجاني باضطراب ذهني وإثبات إصابته به، فإنها بذلك من المسائل المتعلقة بالواقع التي تستقل محكمة الموضوع في تقديرها.
ويتحقق القاضي الجنائي من تزامن ارتكاب الجريمة مع إصابة المتهم باضطراب ذهني، من خلال ما راج بالجلسة من مناقشات، ومن خلال الأسئلة التي يطرحها على المتهم والشهود، ومن ظروف وملابسات الواقعة كما هي مبينة بمحضر الضابطة القضائية، ويستعين في ذلك بتقرير الخبرة الطبية لاستكمال ما استجمعه من معلومات حول الحالة النفسية للمتهم الماثل أمامه، لأنه لا ينتقل إلى التحقق من التزامن المذكور إلا بعدما يطمئن إلى الخبرة الطبية وبعدما يقوم بتقديرها على ضوء ما توافر لديه من أدلة إثبات.
ومن هذا المنطلق نرى بأن الخبرة الطبية هي وسيلة أو إجراء مساعد للقاضي، يملك القاضي الجنائي معها السلطة في تقديرها كغيرها من وسائل الاثبات، وإلا كان حكمه أو قراره مبنيا على اقتناع الخبير لا على اقتناعه الوجداني الصميم. فالخبرة بوجه عام هي وسيلة توضيحية لمسألة فنية تخرج عن مجال تكوين القاضي وتساعد هذا الأخير في استكمال معلوماته[41]، فهي كما عرفها بعض الفقه ذلك " الإجراء الذي يستهدف الاستعانة بذوي الاختصاص، والاسترشاد بآرائهم لجلاء مسألة غامضة يحتاج حلها إلى دراية علمية فنية تخرج عن التكوين العام للقاضي "[42].
فقد يجادل البعض في المقولة الشهيرة التي مفادها أن " القاضي خبير الخبراء "، لكن القضاة الجنائيين بوجه خاص يكتسبون بحكم عملهم مهارات عالية جدا في التعامل مع المتهمين، وبحكم التجربة يستطيعون التمييز بين المتهم السوي والمتهم الذي يعاني اضطرابات ذهنية سببها الإدمان على المخدرات - خاصة إذا كان هذا الأخير متابع من أجل استعمال المخدرات - وهذه الخبرة يكتسبونها بالممارسة ومن خلال المناقشات مع العديد من المتهمين بالجلسة، فهو يلاحظ تصرفات المتهم الماثل أمامه وكيف يتجاوب مع المحكمة وأين ينظر وكيف يحرك جسمه أو يديه وكيف يرد على أسئلة المحكمة أو النيابة العامة أو الدفاع أو الضحية، وهل هو يتقيد بالسؤال أم يخرج عن نطاق هذا الأخير، وهل هو يجيب عن الأسئلة بكل طلاقة أم يجيب وهو في حالة من القلق والانفعال، وغيرها من أنواع السلوك التي تعطي صورة أو انطباع عن الحالة الذهنية للشخص الصادرة عنه. و هذا ما يجعلهم ينجحون عادة في التمييز بين المتهم السوي والمتهم غير السوي، والأمثلة كثيرة في هذا الباب. تم أنه من جهة ثانية، فالخبرة الطبية بحد ذاتها لا تقوم على اختبارات علمية دقيقة كتلك المعمول بها في تشخيص الأمراض العقلية العضوية (التخطيط الكهربائي[43]، والفحص بالأشعة، والتحاليل الطبية...)، وإنما هي عبارة عن عمليات تشخيصية تقوم على مقابلة وحوار يجريهما الطبيب مع المتهم، وبالتالي فهي تحتمل الخطأ والصواب، كما أن الأطباء في تشخيصهم للاضطرابات الذهنية لا يعتمدون على تصنيف واحد للاضطرابات الذهنية، فمنهم من يعتمد التصنيف الدولي ومنهم من يعتمد التصنيف الأمريكي. زد على ذلك مجموعة من الاكراهات التي يعاني منها الطبيب الخبير وخاصة عندما يكون المتهم معتقلا احتياطيا على دمة التحقيق أو المحاكمة، حيث لا يجد الخبير الظروف المواتية لتشخيص حالة المتهم الذهنية تشخيصا دقيقا، حيث تجري المقابلة عادة بين الطبيب والمتهم بقاعة بالمؤسسة السجنية تحت أنظار الموظف المكلف بحراسة المتهم السجين.
وعليه، فإن تشخيص المرض يجب أن يتم في العيادة أو المستشفى الخاص بعلاج الاضطرابات الذهنية، حتى يمكن للطبيب أن يجري مع المتهم عدة مقابلات ويستعين بالطاقم المكلف بتتبع المرضى في جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول سلوكه داخل المؤسسة العلاجية. كما يسمح وجود المتهم بمستشفى علاج الاضطرابات الذهنية بإمكانية إخضاعه لعدة عمليات تشخيصية، ويسمح كذلك للخبير بأخذ رأي باقي الأطباء المختصين بنفس المؤسسة الصحية، وهو ما يساعد الخبير على فهم حالة المتهم بشكل دقيق فيحسم في مسألة إصابته باضطراب ذهني من عدمه[44].
كما أنه من المحتمل أيضا أن ينجح المتهم في تظليل الطبيب الخبير بتمويهه بحركات أو سلوكات معينة من أجل التملص من المسؤولية الجنائية فيصور نفسه أمامه على أنه مصاب باضطراب ذهني والحال أنه لا يعاني من أي اضطراب من هذا القبيل، أو يمتنع عن الإجابة على أسئلة الطبيب الخبير فتتعقد مهمة هذا الأخير، سيما وأنه لا يوجد اضطراب ذهني يمنع صاحبه من الكلام بإجماع المختصين في علاج الاضطرابات الذهنية.
ويقول في هذا الصدد الدكتور يوسف مراد بأن المرأ يميل إلى أن يستدل بالمظاهر السلوكية على الحالة النفسية لمن يعاشرهم وعلى ما تنطوي عليه سريرتهم من نوايا ومقاصد. وقد يصدق الحكم أو لا يصدق لأن الشخص قادر على أن يخفي أفكاره وراء قناع من التصنع، وأن يحاول أن يعبر بكلامه وملامح وجهه عما يختلف تمام الاختلاف عن أفكاره الحقيقة وحالاته النفسية. غير أن كثيرا ما يكون إتقان التصنع دليلا عليه، كما أن التصنع يكون محصورا في الحركات الخاضعة للإرادة، أما الحركات العضلية المنعكسة كبعض الاختلاجات فمن المتعذر – إن لم يكن من المحال - منعها والتحكم فيها، هذا فضلا عن التغيرات الفسيولوجية الناشئة عن تنبيه الجهاز العصبي السمثاوي والتي لا تخضع للإرادة كالتغيرات التي تعتري حركات القلب والتنفس والدورة الدموية وإفرازات الغدد[45].
ولتفادي كل هذه الإشكالات، فعلى القاضي الجنائي عندما يأمر بإجراء خبرة طبية على متهم معتقلا احتياطيا عليه أن يأذن بإحالة هذا الأخير على مستشفى لعلاج الاضطرابات الذهنية من أجل عرضه على الخبير الذي عينه للقيام بالخبرة، كما يجب عليه ألا يقيد هذا الأخير بأجل معين من أجل إنجاز الخبرة المذكورة، لأن تشخيص الحالة المرضية مرتبط بدراسة سلوك المتهم، وهذه الدراسة لا تتأتى إلا إذا كان سلوك هذا الأخير تحت ملاحظة ومراقبة المختصين داخل المؤسسة الصحية (الأطباء المختصين في علاج الاضطرابات الذهنية والممرضين في غالب الأوقات). كما نرى بأنه يجب أن تكون الخبرة الطبية ثلاثية خاصة في قضايا الجنايات، لأنه كلما ازداد عدد الأطباء المكلفين بتشخيص حالة المتهم المرضية كلما تقلص هامش الخطأ في الخبرة الطبية، وحتى يمكن الاطمئنان إليها أكثر في تقرير المسؤولية الجنائية للمتهم.
لذلك، يجب أن تترك للقاضي الجنائي كامل السلطة في تقدير الخبرة الطبية، لأن حرية الإثبات هي الأصل في الميدان الجنائي، و لأن وقائع القضية بكاملها بين يديه، بما فيها الوضعية الجنائية للمتهم المعني بالأمر (سوابقه القضائية)، وأن أي تقييد لسلطته في تقدير وسائل الإثبات من شأنه المساس بقواعد المحاكمة الجنائية العادلة.
الفقرة الثانية: تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة موضوعية يختص بها القاضي الجنائي
يرى بعض الفقه المغربي، بأن ثبوت الاضطراب الذهني يرجع إلى محكمة الموضوع، فهي وحدها التي لها أن تقرر فيما إذا كان المتهم وقت ارتكابه للفعل الجرمي مصابا به أم لا، وسلطتها في ذلك لا تخضع لرقابة محكمة النقض، شريطة أن تؤسس وجهة نظرها في ذلك على أسباب سائغة و منطقية[46].
أما على مستوى القضاء، فقد سبق لمحكمة النقض أن ذهبت إلى أن مسألة تقدير حالة المتهم العقلية (الذهنية) من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع في تقديرها وهي غير ملزمة بإجراء خبرة طبية من أجل تحديد مدى تأثير الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم على مسؤوليته الجنائية، إذ جاء في أحد قراراتها " المحكمة غير ملزمة بندب خبير فني في الدعوى لتحديد مدى تأثير مرض الطاعن على مسؤوليته الجنائية، بعد أن وضحت لها الدعوى إذ الأصل أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقيم تقديرها على أسباب سائغة"[47].
فمحكمة النقض تعتبر بأن مسألة تقدير وسائل الإثبات بوجه عام، تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا تخضع فيها لرقابة محكمة النقض، والخبرة الطبية كوسيلة إثبات تدخل في نطاق هذه السلطة، وبالتالي فالقاضي الجنائي غير ملزم بانتداب خبير في علاج الاضطرابات الذهنية من أجل تنوير رأيه بخصوص إصابة المتهم الماثل أمامه باضطراب ذهني من عدمه، فخبرته القضائية وما يملكه من سلطة في تقدير وسائل الإثبات تمكنه من الحسم في المسألة.
أما عن الفقه والقضاء المقارنين، فقد اتجها إلى أن ثبوت الاضطراب الذهني يعود لمحكمة الموضوع، فهي وحدها التي لها أن تقرر ما إذا كان الفاعل وقت ارتكابه للجريمة في حالة اضطراب ذهني أم لا، ولا رقابة عليها في هذا الشأن من طرف محكمة النقض، شريطة أن تؤسس وجهة نظرها على أسباب سائغة ومنطقية. كما ذهب ذات الفقه والقضاء إلى أنه لا داع لإلزام المحكمة باللجوء إلى الخبرة الفنية لتنوير وجهة نظرها في مسألة انتفاء الخلل العقلي ( الاضطراب الذهني) أو ثبوته[48].
فالقضاء الكويتي على سبيل المقارنة، قد استقر على أن تقدير حالة المتهم العقلية (الذهنية) هي من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها، وأنها غير ملزمة باللجوء إلى أهل الخبرة إلا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها أن تشق طريقها فيه، حيث ذهبت محكمة التمييز الكويتية في أحد قراراتها إلى أنه " من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقيم تقديرها على أسباب سائغة، وكان المرض العقلي الذي تنعدم به المسؤولية الجزائية قانونا وعلى ما تقضي به الفقرة الأولى من المادة 22 من قانون الجزاء هو ذاك المرض الذي من شأنه أن يعدم الإرادة والإدراك، أما سائر الأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص إرادته وإدراكه، فلا تعد سببا لانعدام المسؤولية"[49].
ونتفق هنا مع رأي محكمة النقض الذي يرى بأن مسألة تقدير الخبرة الطبية فيما يتعلق بتقدير حالة المتهم العقلية (الذهنية) تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي شأنها شأن باقي وسائل الإثبات، غير أنه في ذات الوقت نرى بأنه من الواجب على القاضي الجنائي أن يستعين في ذلك بخبرة طبية من أجل استكمال المعطيات المتوفرة لديه حول الحالة الذهنية للمتهم حتى يستطيع الجزم بشأن مسؤولية هذا الأخير الجنائية.
فإذا كان هذا التوجه هو الأصل، لكونه ينسجم مع سلطة القاضي الجنائي التقديرية في تقدير وسائل الإثبات، وهي سلطة عامة لا يمكن تقييدها بأي قيد إجرائي بما في ذلك إجراء الخبرة الطبية، فهل يعتبر التوجه الثاني لمحكمة النقض استثناء؟
المطلب الثاني: التوجه الذي يخضع تقدير حالة المتهم الذهنية للخبير في علاج الاضطرابات الذهنية
إذا كان الأصل أن القاضي الجنائي حر في تكوين اقتناعه الوجداني الصميم وله أن يأخذ بأي دليل يطمئن إليه استنادا إلى مبدأ حرية الاثبات[50]، فإنه في تقديره لحالة المتهم الذهنية يجب عليه أن يستند إلى خبرة طبية، وهو ما يستفاد من عبارة " بعد خبرة طبية " المشار إليها في الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج (فقرة أولى). وفي هذه الحالة هل تعتبر الخبرة الطبية ملزمة للقاضي الجنائي وبالتالي مقيدة لسلطته في تقدير وسائل الإثبات؟
وللجواب على هذا التساؤل، سنقوم بتحليل مجموعة من قرارات محكمة النقض لفهم وبيان وجهة نظر هذه الأخيرة كمحكمة قانون فيما يتعلق بسلطة القاضي الجنائي في تقدير الخبرة الطبية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: تقدير حالة المتهم الذهنية مسألة فنية تتوقف على خبـــرة طبيــــــة
بالرجوع إلى التشريع المغربي، نجد بأن المشرع اعتبر أن التأكد من الاضطراب الذهني الذي يترتب عنه امتناع المسؤولية الجنائية أو تخفيفها أمر موكول لمحكمة الموضوع تتولاه بعد الاستعانة برأي ذوي الخبرة، وهو ما يفهم من استقراء الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج[51].
فحسب الفصل 76 من ق.ج، فإذا تبين لمحكمة الموضوع، بعد إجراء خبرة طبية، أن الشخص المتابع أمامها بجناية أو جنحة، كان عديم المسؤولية تماما وقت ارتكاب الفعل بسبب اضطراب ذهني، فإنه يجب عليها أن تثبت أن المتهم كان، وقت الفعل، في حالة اضطراب ذهني يمنعه تماما من الإدراك أو الإرادة، وأن تصرح بانعدام مسئوليته مطلقا وتحكم بإعفائه.
وحسب الفصل 78 من ق.ج، فإذا قررت محكمة الموضوع، بعد خبرة طبية، أن مرتكب جناية أو جنحة، رغم كونه قادرا على الدفاع عن نفسه في الدعوى، إلا أنه كان مصابا وقت الأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية يترتب عليه نقص مسؤوليته، فإنه يجب عليها، أن تثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه، وأن تصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكاب الفعل، وأن تصدر الحكم بالعقوبة.
وحسب الفصل 79 من ق.ج فإذا قررت محكمة الموضوع، بعد الخبرة الطبية، أن الشخص المتابع لديها بجناية أو جنحة كامل المسؤولية أو ناقص المسؤولية بالنسبة للوقائع المنسوبة إليه، ولكن بسبب خلل في قواه العقلية طرأ عليه أو اشتد أثره بعد ارتكاب الفعل، أصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في الدعوى، فإنه يجب عليها أن تقرر أن المتهم عاجز عن إبداء دفاعه بسبب خلل في قواه العقلية، و أن تأمر بوقف النظر في الدعوى، و أن تأمر بإدخاله في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
فعبارة " إذا قررت محكمة الموضوع " تعني بأن المحكمة هي من تقرر بكون المتهم المتابع مصابا باضطراب ذهني من عدمه، وهي من تقرر بأن هذه الإصابة كلية أي افقدت المتهم الإدراك أو الإرادة أو أنها جزئية ترتب عنها نقص في قدرته على الإدراك أو نقص في الإرادة، وذلك بناء على خبرة تستند إليها في اتخاذ أحد هذين القرارين.
فالقاضي الجنائي بالرغم مما يتمتع به من سلطة في تقدير وسائل الإثبات ومن حرية واسعة في تكوين اقتناعه الوجداني استنادا إلى مبدأ حرية الإثبات الجنائي، والتي من نتائجها أن القاضي الجنائي حر في الأخذ بأي دليل يقتنع به ويرى بأنه يؤدي إلى النتيجة التي سيخلص إليها في حكمه أو قراره، وأن سلطته في هذا المجال لا تخضع لرقابة محكمة النقض لكونها من المسائل الموضوعية لا القانونية. فإنه ومع ذلك يحتاج إلى أهل الخبرة فيما يتعلق بإثبات الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم المتابع. فعبارة بعد " خبرة طبية" التي استخدمها المشرع في الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج تفيد بأن القاضي الجنائي لا يمكنه أن يبت في المسؤولية الجنائية للمتهم المصاب باضطراب ذهني إلا بعد عرض هذا الأخير بموجب حكم تمهيدي[52] على خبير في معالجة الاضطرابات الذهنية من أجل التثبت من حالته الذهنية.
ويرى بعض الفقه الفرنسي بأن السلطة في اتخاذ القرار تعود إلى الطبيب، وهو وحده الذي يميز بين الإنسان السوي والأحمق وبين المجرم والمستلب غير المسؤول[53]. غير أنه إذا كان الطبيب بحكم تخصصه يمكنه الحسم بشأن حالة المتهم الذهنية، فإن التقرير في المسؤولية الجنائية لهذا الأخير من الناحية القانونية يرجع للقاضي الجنائي، فهو وحده من له السلطة في تقرير هذه المسؤولية.
وفي ذات السياق، يرى البعض بأن الخبرة الطبية، تشكل خطوة إلزامية تقريبا من أجل تحديد مسؤولية الجناة، فهي تساعد على فهم شخصية المصاب بشكل أفضل، وتوفر للقضاة العناصر الضرورية لتطبيق القواعد القانونية وهم على فهم تام بالأسباب، ولتحقيق هذه المهمة يجب على الطبيب المختص في معالجة الاضطرابات الذهنية معرفة قواعد كل إجراء والجوانب المحددة لهذا النوع من الممارسة وكيفية إجراء المقابلات أو كتابة التقارير[54].كما على الخبير أن يحدد في تقريره وبشكل دقيق درجة تأثير الاضطراب الذهني على الإدراك والإرادة لدى الجاني، وأن يتفادى استعمال بعض العبارات الغامضة كقوله مثلا " أن الاضطراب الذي يعاني منه المتهم من شأنه أن يؤثر على مستوى إدراكه "، فمثل هذه العبارات تطرح صعوبة لدى القاضي في تقرير المسؤولية الجنائية للمتهم، لأنها لا تحسم بشكل دقيق في درجة تأثير الاضطراب الذهني على الإدراك والإرادة لدى المتهم المتابع، فقد يعتقد القاضي الجنائي بأن المقصود بتلك العبارة أن الإصابة أفقدت المتهم المتابع الإدراك أو الإرادة فيصرح بامتناع مسؤوليته الجنائية، كما قد يفهم منها بأن الإصابة قد أثرت على إدراكه فأنقصت من درجة تمييزه فيصرح بكون مسؤوليته الجنائية مخففة.
ويستعين الخبير في تحديد نوع الاضطراب الذهني الذي يعاني منه الجاني المعروض عليه بالتصنيف الدولي للاضطرابات الذهنية، ويتبع مجموعة من خطوات[55] علم النفس الاكلينيكي كدراسة الحالة، والملاحظة، والمقابلة لتشخيص الاضطراب الذهني الذي يعاني منه هذا الأخير.
غير أنه إذا كانت الخبرة ضرورية في مسألة إثبات الإصابة باضطراب ذهني، فهذا لا يعني أن القاضي الجنائي لا يملك أي دور في ملاءمة الخبرة مع الوقائع المعروضة عليه، فالقاضي الذي أمر بالخبرة الطبية عليه أن يحدد بنفسه مجال تدخل الخبير، والإشارة بشكل محدد إلى الأسئلة التي يتعين على الخبير الرد عليها، وهو حر في وضع حدود لمهمة الخبير، وحريته تلك تبدو من الأمور البديهية والمنطقية[56].
فالقاضي هو من يحدد النقط التي تجرى فيها الخبرة الطبية في شكل أسئلة فنية لا علاقة لها مطلقا بالقانون، ويجب على الخبير أن يقدم جوابا محددا و واضحا، كما يمنع عليه الجواب على أي سؤال يخرج عن اختصاصه الفني وله علاقة بالقانون (الفصل 59 من ق.م.م)، كما يمكن للقاضي الجنائي الذي أمر بالخبرة الطبية أن يستبدل الخبير بخبير آخر غيره، كما له أن يصرح بإبطال الخبرة الطبية إذا لم يحترم الخبير شرط الحضورية (الفصل 63 من ق.م.م والفصل 324 من ق.م.ج)، وهي أمور له كامل الصلاحية في إجرائها من أجل تحقيق الدعوى الجنائية المحالة عليه، كما تدخل في إطار سلطته في تقدير وسائل الإثبات.
ونظرا لأهمية الخبرة الطبية في مساعدة القاضي الجنائي في التحقق من حالة المتهم الذهنية، فإن المشرع قد فرض على القاضي الجنائي اللجوء إليها قبل التقرير في مسؤولية المتهم الجنائية (الفصول 76 و 78 و 79 من ق.م.ج). غير أن إلزام القاضي الجنائي بإجراء خبرة طبية لا ينبغي أن يفهم منه بأن الخبير هو من يجزم في الحالة الذهنية للمتهم وبالتالي في مسؤولية هذا الأخير الجنائية، بل هو مساعد للقضاء وتقريره يخضع كباقي الوثائق والمستندات للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي الذي ينظر الدعوى العمومية.
غير أن محكمة النقض سيكون لها رأي آخر هذه المرة، حيث ستذهب إلى كون مسألة التحقق من حالة المتهم الذهنية مسألة فنية ولا يحسم فيها إلا ذوي الاختصاص في الميدان الطبي، هذا بعدما كانت في السابق تخضع مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي.
الفقرة الثانية: حالة المتهم الذهنية مسألة فنية لا يخضع تقديرها لسلطة القاضي الجنائي
فالأصل أن القاضي الجنائي أو محكمة الموضوع، له كامل السلطة في تقدير كافة وسائل الإثبات المعروضة عليه، ما عدا إذا تعلق الأمر بمسائل فنية لا يستطيع البت فيها انطلاقا من تكوينه القانوني وكانت هذه المسائل تدخل في نطاق اختصاص أهل الخبرة في المسائل الفنية، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض في أحد قراراتها، والذي جاء فيه " إنه إذا كان الأصل أن محكمة الموضوع لها كامل السلطة في تقدير وسائل الإثبات المعروضة عليها، فإن ذلك مشروط بأن تكون المسألة المعروضة ليست من المسائل الفنية البحتة التي لا تستطيع المحكمة بنفسها إبداء الرأي فيها مما يتعين معه عليها الاستعانة بأهل الخبرة"[57].
فهذا القرار جاء عاما، ولا يقصد مجالا فنيا بذاته، وهو يشمل جميع القضايا التي يختص بها ذوي الخبرة في الأمور الفنية كالهندسة والطب والتكنولوجيا وغيرها من الميادين التي تخرج عن اختصاص القاضي الجنائي.
أما فيما يتعلق بالتحقق من حالة المتهم الذهنية- موضوع الدراسة – فقد استقرت محكمة النقض على أن التقرير بشأنها من المسائل الطبية الدقيقة التي تخرج عن اختصاص محكمة الموضوع، ويعود الحسم فيها لذوي الاختصاص في الميدان الطبي، إذ جاء في قرار لها بتاريخ 15/11/2005 " وحيث إن الأمر يتعلق بمسألة طبية دقيقة لا يكون فيها الجزم إلا لمن تتوفر فيه الخبرة في ذلك الميدان، وأن المحكمة عندما اعتبرت الطاعن متمتعا بكامل قواه العقلية وأعرضت عن استدعاء الطبيبين المطلوب الاستماع إليهما، وبرفضها اللجوء إلى خبرة لاستجلاء الحقيقة، واعتمادها فقط على كون أجوبة المتهم كانت واضحة ومفهومة ولا توحي بأي اضطراب، تكون قد أبدت رأيها في موضوع لا دراية لها به، ودون الاستعانة بذوي الاختصاص في هذا الميدان، علما أن المطلوب هو حالة المتهم وقت ارتكابه الفعل الجرمي، مما تكون معه قد عرضت قرارها للنقض والابطال"[58].
وفي نفس الإطار، ذهبت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بفاس في أحد قراراتها إلى أن " تقدير حالة المتهم وإن كانت من المسائل الموضوعية التي تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه يتعين لكي يكون قضاؤها سليما أن تعين خبيرا في حالة ما إذا طلب الدفاع ذلك للبث في هذه الحالة وجودا أو عدما، لما يترتب عليها من قيام أو انتفاء مسؤولية المتهم، فإن لم تفعل كان عليها أن تبين الأسباب التي بنت عليها قضاؤها برفض هذا الطلب بيانا كافيا، وإلا كان حكمها معيبا بعيب القصور في التسبيب والإخلال بحق الدفاع "[59].
ويفهم من موقف محكمة النقض الذي أعلنته في قرارها المذكور، أن الحسم في مسألة إصابة المتهم باضطراب ذهني من عدمه مسألة طبية دقيقة تخرج عن السلطة التقديرية للقاضي الجنائي، ولا يمكن أن يحسم فيها بناء على ملاحظته الشخصية لسلوك المتهم خلال المناقشة بالجلسة، ولا يمكنه أن يتخذ موقفا بشأن هذه المسألة دون لجوئه لذوي الخبرة في معالجة الاضطرابات الذهنية، وبالتالي فعندما يطلب منه عرض المتهم على خبرة طبية أو استدعاء الخبير للحضور إلى الجلسة فعليه أن يأمر بذلك، من أجل الاستعانة برأي هؤلاء باعتبارهم أهل الخبرة في الميدان المذكور.
والموقف نفسه ستؤكده محكمة النقض في قرار آخر لها بتاريخ 06/01/2011 والذي جاء فيه " تكون المحكمة قد جانبت الصواب لما ردت طلب إجراء خبرة طبية على المتهم بعلة أنه كان في حالة صحية طبيعية أثناء المحاكمة ولم يظهر عليه أي عارض من عوارض المرض العقلي أو النفسي، وقضت بمسؤوليته الجنائية عن الفعل المرتكب، في حين أن التقرير في مدى سلامته العقلية أو النفسية للمتهم مسألة طبية يتولاها ذوو الاختصاص وتخرج عن ولاية المحكمة"[60].
كما ذهبت ذات المحكمة في قرار آخر إلى أن محكمة الموضوع ملزمة بالرد على الدفع الموضوعي المتعلق بإجراء خبرة عقلية ردا كافيا وسائغا وإلا اعتبر ذلك نقصانا في التعليل. وأن المجال الطبي البحث لا يتأتى الجزم فيه إلا لذوي الدراية من الأطباء المختصين في ميدان الطب العقلي والنفسي لارتباط موضوعه بالمسؤولية الجنائية[61].
ومن خلال ما تقدم، نتوصل إلى أن الخبرة الطبية لها أهمية كبيرة في مساعدة القاضي الجنائي في التحقق من حالة المتهم الذهنية، متى أحسن القاضي الجنائي تقديرها، ومتى كانت تحترم الشروط الشكلية المطلوبة قانونا. وفي هذه الحالة لا يمكن للقاضي الجنائي استبعادها[62] بعد الأمر بإجرائها، لأن استبعادها يستدعي الارتكاز على دليل طبي أقوى منها مع بيان سبب استبعاده للخبرة الأولى حتى تتمكن محكمة النقض من بسط رقابتها فيما يتعلق بهذه النقطة. وفي هذا الإطار ذهبت محكمة النقض في أحد قراراتها إلى ما يلي" حيث لئن كان من حق المحكمة تقدير قيمة المستندات والوثائق المعروضة عليها بما فيها تقرير الخبرة، فإنه عليها أن تتجنب في ذلك تحريفها وسوء تقديرها. وعليه، فإن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه من جهة أولى عندما انتهت من خلال مناقشتها لتقرير الخبرة الطبية للدكتور (ر ن) إلى أن الطاعن يعاني من مرض نفسي لا يعدمه المسؤولية، والحال أن التقرير المذكور المؤكد من طرف صاحبه خلال جلسة 22/12/2014 يجزم في أنه مصاب بمرض عقلي يسمى (بارانوياكريتشمير)، وأن هذا المرض جعله وقت ارتكابه للأفعال عديم المسؤولية، تكون حرفت مستندا منتجا في الدعوى وحاسما فيها. ومن جهة ثانية، فإنها عندما استبعدت نتيجة الخبرة الطبية المذكورة تأسيسا على معاينتها للحالة الظاهرية للطاعن من خلال جوابه عن أسئلتها بكل تلقائية، من غير أن تستند في ذلك على خبرة طبية مثلها أو أقوى منها، ومن غير أن تجيب عما طلبه الأطراف في هذا الشأن من احتكام لخبرة طبية ثلاثية تحسم في المسألة، تكون بنت قرارها بهذا الخصوص على تعليل فاسد مما يستدعي نقضه وإبطاله"[63].
فقرار محكمة النقض المذكور أكد على مسألة غاية في الأهمية تتمثل في أن تقدير قيمة الخبرة الطبية تدخل في إطار سلطة القاضي الجنائي (محكمة الموضوع) في تقدير قيمة المستندات والوثائق المعروضة عليه، وعليه فإن القاضي الجنائي هو من يقرر في آخر المطاف في قيمة الخبرة الطبية كوسيلة لإثبات الاضطراب الذهني الذي يعاني منه المتهم، أي أنه هو من يضع الخبرة المذكورة في الميزان ليتحقق من قيمتها الإثباتية في علاقتها بحيثيات وظروف وملابسات القضية. لكن المحظور عليه - وهذا لا يشكل في نظرنا انتقاصا من سلطته في تقدير وسائل الإثبات - هو أنه عندما يناقش الخبرة عليه ألا يؤولها أو يحرفها بل عليه أن يتحقق من مفهوم العبارات التي استعملها الخبير وذلك حتى يقدر الخبرة الطبية تقديرا سليما، أما إذا وجد صعوبة في تقديرها كما لو كان تقرير الخبير غير واضح أو يتضمن عبارات غامضة، فهو (أي القاضي الجنائي) إما أن يرجع التقرير إلى الخبير ويطلب منه توضيحا بشأن تلك العبارات التي يكتنفها الغموض، وإما أن يستدعي هذا الأخير للحضور إلى الجلسة من أجل توضيح ما اكتنف تقريره من غموض بالجلسة، وتضمين تلك التوضيحات في محضر الجلسة من قبل كاتب الضبط لتعتبر تتمة لتقرير الخبرة.
فكلما كان تقرير الخبير واضحا سهل على القاضي الجنائي تقدير الخبرة الطبية وبالتالي الحسم بشأن حالة المتهم الذهنية، و درجة تأثير الاضطراب الذهني الذي يعاني منه على إدراكه أو إرادته، لينتقل إلى التحقق من مصاحبة الاضطراب الذهني لارتكاب الجريمة. وفي هذا الإطار ذهبت محكمة النقض في قرار لها بتاريخ 14/01/2015 إلى ما يلي " حيث إن المحكمة مصدرة القرار، قضت بانعدام مسؤولية المتهم الجنائية دون أن تميز بشكل كاف ما إن كان وقت ارتكاب الفعل في حالة يستحيل عليه معه الإدراك أو الإرادة نتيجة الخلل في قواه العقلية، واكتفت بالقول بأنه كان يعاني من اضطرابات ذهنية تدخل في نطاق مرض انفصام الشخصية، وأن هذا المرض يعرقـل القدرات الشخصية في إصدار الأحكام والإدراك، وأن استهلاك المخدرات زاد في هذه الأعراض، وأن عبارة يعرقل قدرات المتهم التي أوردها القرار، لا تعني بوضوح استحالة الادراك المنصوص عليها بالفصل 134 من ق ج، فمحكمة القرار لم تناقش مقتضيات الفصل 137 من نفس القانون التي تنص على أن السكر وحالات الانفعال العاطفي أو الناشئ عن تعاطي المخدرات عمدا، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعدم المسؤولية أو ينقصها، والقرار المطعون فيه ناقص التعليل الموازي لانعدامه الموجب للنقض والإبطال"[64].
فمحكمة الموضوع المصدرة للقرار حاولت تفسير ما جاء في تقرير الخبرة الطبية، فاستعملت عبارة عامة "يعرقل القدرات الشخصية " فسقطت في المحظور – كما قلنا سابقا – وهي عبارة لا تعني أو لا تفيد فقدان الإدراك أو الإرادة لدى المتهم المتابع. كما أن المحكمة المذكورة لم تناقش مقتضيات الفصل 137 من ق.ج والذي ينص على أن حالات الانفعال الناشئ عن تعاطي المخدرات عمدا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعدم المسؤولية الجنائية أو تنقصها، واكتفت بالقول " أن استهلاك المخدرات زاد في الأعراض "، والحال أن الاضطرابات الذهنية الناجمة عن تعاطي المخدرات لا يترتب عنها امتناع المسؤولية الجنائية أو نقصانها، وبذلك فالمحكمة لم تعلل حكمها بناء على هذا الفصل الذي جاء صريحا و واضحا، هذا من الناحية الموضوعية. أما من الناحية الإجرائية، فقد كان بإمكان المحكمة – كما قلنا سابقا - أن ترجع الخبرة الطبية إلى الخبير وتطلب منه أن يحدد بدقة و وضوح انعكاسات تلك الاضطرابات الذهنية التي يعاني منها الجاني وقت ارتكابه الفعل الجرمي على قدراته العقلية (الإرادة والإدراك)، وهل تلك الاضطرابات ناجمة عن تعاطي الجاني للمخدرات أم أن هذا العامل غير مؤثر في الإدراك والإرادة لدى الجاني المدمن على استهلاكها (أي أن تأثيرها ثانوي فقط)، لأن الطبيب الخبير في مجال معالجة الاضطرابات الذهنية هو وحده المؤهل لتحديد درجة تأثير الاضطراب الذهني على إرادة وإدراك الشخص المصاب به.
فباطلاعنا على موقفي محكمة النقض فيما يتعلق بسلطة القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، وبقراءتنا لمقتضيات الفصول 76 و 78 و 79 من ق.ج قراءة معمقة على ضوء السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي الجنائي والتي لا يخضع في تطبيقها لرقابة محكمة النقض، نجد بأن المشرع الجنائي لا ينكر أهمية الخبرة الطبية في إثبات الإصابة باضطراب ذهني، لكن من جهة أخرى - وهو ما نؤكد عليه بشدة - فإنه خص القاضي الجنائي بسلطة تقدير حالة المتهم الذهنية واعتبر الخبرة الطبية وسيلة يستند إليها في تقدير حالة المتهم الذهنية، وبالتالي فإن القاضي الجنائي هو في النهاية من يقرر بشأن الحالة الذهنية للمتهم بمساعدة من الخبير، من خلال تقريره الذي ينجزه ويضعه بين يديه ويبين فيه بوضوح الحالة المرضية التي يعاني منها المتهم ودرجة تأثيرها على إدراك وإرادة هذا الأخير.
وإذا كان القاضي الجنائي كأصل يتمتع بسلطة تقديرية واسعة في تقدير وسائل الإثبات، فإن هذه السلطة لا يجب تقييدها بأي قيد إجرائي أو موضوعي، ولو كان الأمر يتعلق بمسائل فنية، لأن المسؤولية الجنائية للمتهم وإن كانت مسألة متصلة بالجاني فقط، فإن مناقشة عناصرها وشروطها لا يتم بمعزل عن الواقعة القانونية المحالة بها الدعوى الجنائية على أنظاره، فهو من يبرز تزامن إصابة المتهم باضطراب ذهني مع زمن ارتكابه للجريمة، وهو من يتحقق من قانونية الخبرة الطبية وهو من يقارنها مع باقي أدلة الإثبات المعروضة عليه وله في هذا الإطار مجموعة من الصلاحيات كما أشرنا إليها سابقا، والتي لا يمكن تقييدها بأي حال من الأحوال، لأن أي تقييد لسلطته في تقدير وسائل الإثبات يشكل تقييدا لسلطته في تحقيق الدعوى الجنائية.
وعليه، نرى بأن مسألة تقدير حالة المتهم الذهنية تدخل في نطاق السلطة التقديرية للقاضي الجنائي ولا يمكنها أن تشكل استثناء لهذا المبدأ، شريطة استعانة القاضي الجنائي في ذلك بخبرة طبية تساعده من أجل الحسم في مسألة إصابة المتهم باضطراب ذهني من عدمه وبشأن درجة تأثير هذا الاضطراب على إرادة أو إدراك هذا الأخير حتى يستطيع الحسم في مسؤوليته الجنائية.
فالخبرة في هذه الحالة يمكن القول بأنها إلزامية وعلى القاضي الجنائي أن يأمر بها تلقائيا لتعلق الأمر بمسألة طبية يصعب عليه فهمها في غياب تقرير طبيب مختص، والذي يعتبر من العناصر الضرورية التي يبني عليها القاضي الجنائي اقتناعه الصميم، من خلال مقارنة مضمونه مع باقي وسائل الإثبات التي يتضمنها ملف القضية، و ما راج أمامه بالجلسة من مناقشات مع المتهم المتابع وما جاء في تصريحات المصرحين، وظروف وملابسات القضية المعروضة عليه.
خاتمة:
من خلال كل ما تقدم، نتوصل إلى أن المشرع المغربي قد أخد بالمدرسة التقليدية الحديثة فيما يتعلق بحرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية، و ربط درجة المسؤولية الجنائية بمستوى حرية الاختيار التي يتمتع بها الجاني، فكلما كانت حرية اختيار هذا الأخير منعدمة امتنعت مسؤوليته الجنائية وكلما كانت مخففة خففت تبعا لذلك مسؤوليته الجنائية.
كما ألزم المشرع القاضي الجنائي قبل التقرير في المسؤولية الجنائية للمتهم - الذي يبدو أو الذي يدعي دفاعه أو ذويه بأنه مصاب باضطراب ذهني - على خبرة طبية، وهو ما يستفاد من عبارة " بعد خبرة طبية " التي استخدمها المشرع والتي يمكن اعتبارها شرطا ضروريا يتعين على القاضي الجنائي الالتزام به.
فسلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات فيما يتعلق بالبت في المسؤولية الجنائية للمتهم المصاب باضطراب ذهني، تصبح مقيدة بقيد إجرائي، وهو الخبرة الطبية التي يجريها طبيب مختص في معالجة الاضطرابات الذهنية، إذ في غيابها لا يمكن له أن يقرر في المسؤولية الجنائية للمتهم المذكور، وأن أي إجراء مخالف لذلك يعرض حكمه أو قراره للإبطال.
غير أنه إذا كان المشرع قد اعتبر بأن الخبرة الطبية ضرورية، ويستعين بها القاضي الجنائي في تقدير حالة المتهم الذهنية، فإن ذلك لا يعني بأنها – أي الخبرة الطبية- لا تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، بل شأنها شأن باقي وسائل الإثبات التي يملك معها هذا الأخير سلطة تقديرية واسعة لا يخضع في إعمالها لرقابة محكمة النقض.
فالقاضي كأصل حر في تكوين اقتناعه الوجداني بشأن حالة المتهم الذهنية، حيث هو من يقوم في الأخير بتقدير الخبرة الطبية ويضعها في الميزان من أجل التثبت من حالة المتهم الذهنية، وله في هذا الإطار كل السلطة في الأخذ بتقرير الخبير أو استبعاده شريط تعليل قراره، وله أن يرجعها إلى الخبير من أجل توضيح نقطة معينة أو من أجل الجواب على أحد أو بعض الأسئلة التي حددها في أمره التمهيدي، وغيرها من الصلاحيات المومإ إليها سلفا في التحليل. فضلا على أنه هو من يقوم بالتحقق من تزامن الإصابة باضطراب ذهني مع ارتكاب المتهم للجريمة المتابع بها.
فالخبرة الطبية مهمة من الناحية العملية نظرا لما تقدمه من خدمات للقاضي الجنائي، فهي تساعده في تقدير حالة المتهم الذهنية في إطار سلطته في تقدير وسائل الإثبات، حيث يوفر التقرير الطبي للقاضي الجنائي معلومات فنية حول الحالة المرضية التي يعاني منها المتهم المتابع، والتي يضيفها إلى باقي المعلومات الأخرى التي استجمعها من وقائع الدعوى الجنائية المعروضة عليه، فتتضح له الرؤيا بشأن حالة المتهم الذهنية، وعلى ضوء ذلك يحسم في مسؤوليته الجنائية.
وبذلك، فتوجهي محكمة النقض المذكورين لا يجب اعتبارهما توجهين متناقضين، بل يجب أن ينظر إلى كل واحد منهما باعتباره مكملا للآخر ، فالقول بكون تقدير حالة المتهم الذهنية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها يجب أن يبقى هو الأصل لانسجامه مع فلسفة المشرع الجنائية التي تعطي للقاضي الجنائي سلطة واسعة في تقدير وسائل الإثبات حتى يستطيع تكوين اقتناعه بكل حرية وتجرد. غير أن ذلك لا يعني بأن القاضي الجنائي مخير في اللجوء إلى خبرة طبية، بل يجب عليه أن يأمر بإجرائها تلقائيا أو بناء على طلب لتعلق الأمر بمسألة طبية صرفة بعيدة عن مجال اختصاصه القانوني، وذلك حتى يستطيع فهم الحالة المرضية للمتهم التي على ضوئها يقرر في مسؤوليته الجنائية.
و ختاما لابد من تقديم بعض التوصيات التي توصلنا إليها من خلال هذه الدراسة، ويتعلق الأمر بما يلي:
- توحيد المصطلحات باستخدام عبارة " اضطرابات ذهنية" بدل باقي العبارات المتعددة من قبيل "خلل في القوى العقلية " و " الأمراض العقلية والنفسية " و " العاهة العقلية " وغيرها، وذلك تماشيا مع التصنيف الدولي للاضطرابات الذهنية ICD.
- توحيد العمل بالتصنيفات الدولية للاضطرابات الذهنية من قبل الأطباء المختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية.
- التنصيص صراحة على ضرورة الأمر بإجراء خبرة طبية لإثبات الإصابة باضطراب ذهني، مع التنصيص في ذات الآن على سلطة القاضي الجنائي في تقدير الخبرة المذكورة شأنها شأن باقي وسائل الاثبات الأخرى.
- التنصيص صراحة على أن الخبرة يجريها الخبير بمستشفى علاج الاضطرابات الذهنية، بإذن من القاضي الجنائي الذي أمر بها يسمح من خلاله بنقل المتهم السجين من المؤسسة السجنية إلى مؤسسة لعلاج الاضطرابات الذهنية و وضعه رهن إشارة الخبير المنتدب من أجل إنجاز الخبرة في ظروف مناسبة تضمن الحصول على نتائج دقيقة.
- التنصيص صراحة على حق المتهم في المؤازرة بمحامي يعينه له القاضي الجنائي الذي ينظر القضية تلقائيا في إطار المساعدة القضائية.
-------------------------------------
قائمة المراجع
- المراجع بالعربية
- عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي – القسم العام، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثامنة، 2018.
- عبد الرزاق الجباري، المجتبى من عمل محكمة النقض في المادة الجنائية- سلسلة العمل الفقهي والقضائي، الجزء الأول، العدد 6، مطبعة الأمنية - الرباط، طبعة 2019.
- محمد بفقير، مجموعة القانون الجنائي والعمل القضائي المغربي، منشورات دراسات قضائية، سلسلة القانون والعمل القضائي المغربيين، العدد 4، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الخامسة 2018.
- إيهاب عبد المطلب و سمير صبحي، الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح القانون الجنائي، في ضوء الفقه وأحكام المجلس الأعلى المغربي ومحكمة النقض المصرية، المجلد الأول، المركز القومي للإصدارات القانونية، التوزيع بالمغرب : مكتبة الرشاد – السطات، الطبعة الأولى 2010-2011.
- عبد الكريم بلحاج، المدخل إلى علم النفس المعرفي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط- حسان، الطبعة الأولى، 2009.
- فتوح عبد الله الشادلي، أساسيات علم الاجرام والعقاب، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، 2009.
- ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، السنة 2006.
- محمد التغدويني، النظرية العامة للتعليق على الأحكام القضائية، مطبعة آنفو – برانت، فاس، الطبعة الثانية، السنة 2006.
- محمد محجوبي، دعوى نقل الملكية واجراءاتها أمام المحكمة الإدارية، مطبعة دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، 2004.
- شادية الشومي، في القانون الجنائي العام، الطبعة الثانية، السنة 2001.
- مولاي ادريس العلوي العبدلاوي، الوسيط في شرح المسطرة المدنية، ج1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998.
- عبد الرحمن عيسوي، علم النفس القضائي مع دراسة ميدانية للاتجاه نحو القانون، دار النهضة العربية للطباعة والنشر – بيروت، السنة 1992.
1-2) المقالات:
- عبد الرحمان اللمتوني، '' سلطة القاضي في تقدير الواقع والقانون ''، مجلة رئاسة النيابة العامة، العدد الثاني، يونيو 2021.
- عبد الكافي ورياشي،" الأمراض العقلية والنفسية وأثرها على المسؤولية الجنائية "، مجلة منبر النيابة العامة، مجلة خاصة بقضاة النيابة العامة تصدر عن النيابة العامة لدى محكمة النقض ، العدد الثالث، 2013.
- مقال نشر لنا (سعيد المفقي) تحت عنوان: "دور النيابة العامة في دعم حقوق المرضى عقليا ونفسيا"، مجلة الملف (مجلة قانونية – ورقية)، العدد 21، أكتوبر 2013.
- مصطفى عبد الباقي وآلاء حماد، " موانع المسؤولية الجزائية وفقا لقانون العقوبات الأردني الساري في الضفة الغربية ومشروع قانون العقوبات الفلسطيني"، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد31(4)، 2017، منشور بالموقع الالكتروني: https://journals.najah.edu
- صلاح حسن أحمد، "مذاهب تفسير المسؤولية الجنائية"، موقع المجلات الأكاديمية العلمية العراقية: https://www.iasj.net
- المسؤولية الجنائية (موانع المسؤولية – أسباب الإباحة)، من إعداد اللجنة العلمية لمعهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، 2018-2019، منشور بالموقع الالكتروني https://www.kijls.moj.gov.kw
2 – LES OUVRAGES ETRANGERS
- JONAS Carol, SENON Jean-Louis, VOYER Mélanie, DELBREIL Alexia, Méthodologie de l’expertise en psychiatrie, collection Psychothérapies, Dunod, 2013, P.1, Mis en ligne sur Cairn.info le 12/04/2022, consulté le 25/02/2023 à 11.25.
- ALEXANDRE Marie, Le rôle de l’expert psychiatre en procédure pénale, Mémoire du Master, Université de Cergy-Pontoise, Année Universitaire 2013-2014.
_ BORE Jacques et BORE Louis, La cassation en matière civile, 4ème édition, Dalloz, Paris, 2008.
- SENON Jean-Louis, Les enjeux actuels de l’expertise pénale entre prison et hôpital, Collectif Recherche Information Multidisciplinaire Criminologie Université de Poitiers, 2006.
- GUIGUE Sophine, L’approche juridique du trouble mental, Thèse pour obtenir le doctorat de L’université Montpellier 1, soutenue le 6 décembre 2011.
الهوامش
[1]- نشأت هذه المدرسة حسب ما هو مدون بجميع كتب علم الاجرام وعلم العقاب، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، على يد الايطالي Beccaria صاحب كتاب " الجريمة والعقاب "، ومن أهم روادها Bentham الإنجليزي صاحب المذهب الفلسفي المعروف باسم " النفعية "، والعالم الألماني Foerback الذي كان أول من استخدم مصطلح السياسة الجنائية بمفهومها الأكاديمي La politique criminelle سنة 1803م.
[2]- والمسؤولية الجنائية عند جانب من الفقه، هي ذلك الأثر القانوني المترتب عن الجريمة كواقعة قانونية، وتقوم على أساس تحمل الفاعل للعقاب الذي تفرضه القواعد القانونية الجنائية بسبب خرقه للأحكام التي تقررها هذه القواعد. عبد الرؤوف مهدي، المسؤولية عن الجرائم الاقتصادية، ص.16، أشار إليه عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي – القسم العام، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثامنة ، 2018، ص.323.
فيما عرفها جانب آخر من الفقه بأنها " تحمل تبعة الأفعال التي ارتكبها الانسان المخاطب بنص القاعدة الجزائية ". فايز عايد الظفيري و محمد عبد الرحمن بوزبر، المبادئ العامة في قانون الجزاء الكويتي، الطبعة الخامسة، 2014-2015، مطبعة المقهوي الأولى، الكويت، ص 2013 وما بعدها، أشير إليه في مقال بعنوان، المسؤولية الجنائية (موانع المسؤولية – أسباب الإباحة)، من إعداد اللجنة العلمية لمعهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، 2018- 2019، ص. 7، منشور بالموقع الالكتروني https://www.kijls.moj.gov.kw، قمنا بزيارته بتاريخ 14/01/2023 على الساعة 19 و 42.
فيما عرفها جانب آخر من الفقه بأنها " تحمل تبعة الأفعال التي ارتكبها الانسان المخاطب بنص القاعدة الجزائية ". فايز عايد الظفيري و محمد عبد الرحمن بوزبر، المبادئ العامة في قانون الجزاء الكويتي، الطبعة الخامسة، 2014-2015، مطبعة المقهوي الأولى، الكويت، ص 2013 وما بعدها، أشير إليه في مقال بعنوان، المسؤولية الجنائية (موانع المسؤولية – أسباب الإباحة)، من إعداد اللجنة العلمية لمعهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، 2018- 2019، ص. 7، منشور بالموقع الالكتروني https://www.kijls.moj.gov.kw، قمنا بزيارته بتاريخ 14/01/2023 على الساعة 19 و 42.
[3]- الفصل 132 من القانون الجنائي.
[4] - وهو العلم الذي يعنى بدراسة التكوين النفسي للمجرم لتحديد أوجه الخلل النفسي الذي قد يكون هو السبب في انزلاقه إلى الإجرام.
- فتوح عبد الله الشادلي، أساسيات علم الاجرام والعقاب، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، 2009، ص. 13.
- فتوح عبد الله الشادلي، أساسيات علم الاجرام والعقاب، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، 2009، ص. 13.
[5]- الأستاذ عبد الكافي ورياشي،" الأمراض العقلية والنفسية وأثرها على المسؤولية الجنائية "، مجلة منبر النيابة العامة، مجلة خاصة بقضاة النيابة العامة تصدر عن النيابة العامة لدى محكمة النقض ، العدد الثالث، 2013، ص. 84.
[6] - عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص.341.
[7] - GUIGUE Sophine, L’approche juridique du trouble mental, Thèse pour obtenir le doctorat de L’université Montpellier 1, soutenue le 6 décembre 2011, p.10.
[8]- السيرورة Processus هي " وحدة أولية للاشتغال الذهني ذات طابع وظيفي، وهي مصطلح تم اعتماده في علم النفس المعرفي من حيث اعتبار ما تفيد به كوحدة أساسية للمعالجة الإنسانية للمعلومات مقارنة مع المعالجة الآلية".
- عبد الكريم بلحاج، المدخل إلى علم النفس المعرفي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط- حسان، الطبعة الأولى، 2009، ص.70.
- عبد الكريم بلحاج، المدخل إلى علم النفس المعرفي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط- حسان، الطبعة الأولى، 2009، ص.70.
[9]- عكاشة بن المصطفى، "دروس في مادة علم النفس الجنائي"، محاضرات ألقيت على طلبة الإجازة المتخصصة في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – جامعة محمد الأول بوجدة، الموسم الجامعي 2010/2011، ص.12، أشار إليه الأستاذ عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص.78.
[10]- أكرم نشأت، علم النفس الجنائي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2005، ص 92، أشار إليه الأستاذ عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص 78.
[11]- عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 78- 80.
[12]- حسين علي الغول، علم النفس الجنائي، الإطار والمنهجية، الطبعة الأولى 2003، دار الفكر العربي، القاهرة، ص. 221، أشار إليه الأستاذ عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 71.
[13]- أنظر د. عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي- القسم العام، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثامنة 2018، ص 341 - 342.
[14]- الأستاذ عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 71- 72.
[15]- رأي أحد الأطباء النفسانيين الممارسين بمدينة فاس، قمنا بإجراء مقابلة نصف موجهة معه بتاريخ 31/03/2023 على الساعة 21 و 35 مساءا.
- ورأي أحد أساتذة علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، قمنا بمقابلته بتاريخ 11/04/2023 على الساعة 12 و 10 دقائق.
- ورأي أحد أساتذة علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، قمنا بمقابلته بتاريخ 11/04/2023 على الساعة 12 و 10 دقائق.
[16] - تجدر الإشارة إلى كون الاضطرابات الذهنية تتكاثر بشكل مستمر وكل مرة تنضاف إليها حالات جديدة لم تكن معروفة من قبل، وهو ما يجعل التصنيفات المقترحة من قبل الهيئات الدولية المختصة في المجال تخضع مرارا للتعديل والتجديد. ومن الأمثلة على ذلك، فقد اعتبرت المنظمة العالمية للصحة بموجب المراجعة 11 أن اضطرابات ألعاب الفيديو مشكلة ذهنية (الموقع الالكتروني للمنظمة).
[17]- يعتبر الإدراك Perception في علم النفس من المواضيع الكبرى التي استأثرت مند القدم باهتمام العلماء والباحثين، وذلك من منطلق اعتباره بمثابة عملية عقلية أساسية يتفاعل بواسطتها الكائن مع مثيرات وموضوعات العالم المحيط به، فهو وفق هذا المعنى العملية الشعورية التي تتضمن علاقة توافقية للفرد بالبيئة عبر الأحاسيس.
- عبد الكريم بلحاج، نفس المرجع السابق، ص.71.
أما الفقه الجنائي، فقد عرف " الإدراك " بكونه المقدرة على فهم ماهية الفعل المرتكب وطبيعته والآثار المترتبة عليه من زاوية ماديات الفعل دون تكييفها القانوني.
- محمد صبحي نجم، شرح قانون العقوبات الأردني، القسم العام، منشورات الجامعة الأردنية، الطبعة الأولى، عمان، السنة 1988، ص.181، أشار إليه عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 82.
- أما البعض الأخر فيعرف الادراك أو التمييز على أنه قدرة الشخص على فهم حقيقة فعله، وتقدير أبعاده، وتوقيع نتائجه وآثاره، ولا يدخل في نطاقه القدرة على معرفة التكييف القانوني للفعل.
- إيهاب عبد المطلب و سمير صبحي، الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح القانون الجنائي، في ضوء الفقه وأحكام المجلس الأعلى المغربي ومحكمة النقض المصرية، المجلد الأول، المركز القومي للإصدارات القانونية، التوزيع بالمغرب : مكتبة الرشاد – السطات، الطبعة الأولى 2010-2011، ص. 540.
- عبد الكريم بلحاج، نفس المرجع السابق، ص.71.
أما الفقه الجنائي، فقد عرف " الإدراك " بكونه المقدرة على فهم ماهية الفعل المرتكب وطبيعته والآثار المترتبة عليه من زاوية ماديات الفعل دون تكييفها القانوني.
- محمد صبحي نجم، شرح قانون العقوبات الأردني، القسم العام، منشورات الجامعة الأردنية، الطبعة الأولى، عمان، السنة 1988، ص.181، أشار إليه عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 82.
- أما البعض الأخر فيعرف الادراك أو التمييز على أنه قدرة الشخص على فهم حقيقة فعله، وتقدير أبعاده، وتوقيع نتائجه وآثاره، ولا يدخل في نطاقه القدرة على معرفة التكييف القانوني للفعل.
- إيهاب عبد المطلب و سمير صبحي، الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح القانون الجنائي، في ضوء الفقه وأحكام المجلس الأعلى المغربي ومحكمة النقض المصرية، المجلد الأول، المركز القومي للإصدارات القانونية، التوزيع بالمغرب : مكتبة الرشاد – السطات، الطبعة الأولى 2010-2011، ص. 540.
- [18] ويعرف البعض "الإرادة" بكونها نشاط نفسي يتجلى في قدرة الانسان على توجيه نفسه لارتكاب فعل معين أو للامتناع عنه. أكرم نشأت، نفس المرجع السابق، ص. 111. أما البعض الآخر فقد عرفها بأنها " قدرة الشخص على توجيه سلوكه على نحو معين بحرية واختيار". شادية الشومي، في القانون الجنائي العام، الطبعة الثانية، السنة 2001، ص. 144.
[19]- فخري الحديثي و خالد الزغبي، شرح قانون العقوبات، القسم العام، دار الثقافة، عمان، 2010، ص 268، أشار إليه مصطفى عبد الباقي وآلاء حماد، " موانع المسؤولية الجزائية وفقا لقانون العقوبات الأردني الساري في الضفة الغربية ومشروع قانون العقوبات الفلسطيني"، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد31(4)، 2017، منشور بالموقع الالكتروني: https://journals.najah.edu، تم الاطلاع عليه بتاريخ: 10/03/2023 على الساعة 23.35.
[20]- فكما سبقت الإشارة إلى ذلك فالمشرع المغربي اتبع المدرسة التقليدية، وحسب هذه المدرسة فإن المسؤولية الجنائية تقوم على أساس "الخطأ"، وأن الشخص ما دام يتمتع بحرية اختيار ومع ذلك سلك مسلك الجريمة فإنه يعد مسؤولا مسؤولية أدبية أو أخلاقية وبالتبعية مسؤولا مسؤولية جنائية كما يرى ذلك عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص 334.
[21]- عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص.338.
[22]- صلاح حسن أحمد، "مذاهب تفسير المسؤولية الجنائية"، ص. 10، مقال منشور بموقع المجلات الأكاديمية العلمية العراقية: https://www.iasj.net، قمنا بزيارته بتاريخ 25/02/2023 على الساعة 22 و 13.
[23]- أكرم نشأت إبراهيم، علم النفس الجنائي، مطبعة دار المعرفة، بغداد، السنة 1998، ص. 20، أشار إليه، صلاح حسن أحمد، نفس المرجع السابق، ص.10.
[24]- يجب التمييز هنا بين امتناع المسؤولية الجنائية )التي تهمنا في هذه الدراسة) وانعدام المسؤولية الجنائية، فالأولى تتحقق عندما يكون الجاني لحظة ارتكابه الجريمة فاقدا للتمييز (الادراك) أو الإرادة (أي فاقدا للتمييز بشكل كلي كأن يكون سنه أقل من 12 سنة) وإما فاقدا للإدراك كإصابته بالجنون مثلا، أما انعدام المسؤولية الجنائية فمردها لانعدام العنصر المعنوي للجريمة (القصد الجنائي) لا لفقدان الجاني للإدراك أو الإرادة.
- عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، هامش الصفحة 344.
- عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، هامش الصفحة 344.
[25]- ويرى العالم الإيطالي فيري (1856– 1929)، أن إجرام ذوي العاهات العقلية يرجع إلى شذوذ عقلي على درجة بالغة من الخطورة، وأن الاطار الاجتماعي لهذه الفئة من المجرمين له دور في إجرامها، وإلا فما الذي يمكن أن يفسر أن الأفراد المصابين بذات العاهة العقلية ليسوا جميعا مجرمين؟ فرغم إصابتهم بنفس الخلل العقلي لا يتحولون إلى مجرمين، بل أن منهم من يعيش في عالمه الخاص دون أن يلج إلى عالم الجريمة.
- فتوح عبد الله الشادلي، نفس المرجع السابق، ص. 94.
- فتوح عبد الله الشادلي، نفس المرجع السابق، ص. 94.
[26] - إيهاب عبد المطلب و سمير صبحي، نفس المرجع السابق، ص.563.
[27] - و هو توجه قضائي قديم، إذ جاء في قرار صادر عن la Cour du Banc de la reine يعود لسنة 1834 في صيغته الفرنسية ما يلي:
«...pour établir un moyen de défense fondé sur l’aliénation mentale, il faut que soit clairement prouvé qu’au moment de la commission de l’acte, l’accusé était affecté par une absence totale de discernement causé par une maladie mentale, qu’il ne connaissait ni la nature ni la qualité de l’acte qu’il effectuait ou qu’il ne savait pas que ce qu’il faisait était mal.. ».
- Cette décision est mentionnée par : SENON Jean-Louis, Les enjeux actuels de l’expertise pénale entre prison et hôpital, Collectif Recherche Information Multidisciplinaire Criminologie Université de Poitiers, 2006. p. 35.
«...pour établir un moyen de défense fondé sur l’aliénation mentale, il faut que soit clairement prouvé qu’au moment de la commission de l’acte, l’accusé était affecté par une absence totale de discernement causé par une maladie mentale, qu’il ne connaissait ni la nature ni la qualité de l’acte qu’il effectuait ou qu’il ne savait pas que ce qu’il faisait était mal.. ».
- Cette décision est mentionnée par : SENON Jean-Louis, Les enjeux actuels de l’expertise pénale entre prison et hôpital, Collectif Recherche Information Multidisciplinaire Criminologie Université de Poitiers, 2006. p. 35.
[28] - جاء الفصل 1-122 من القانون الجنائي الفرنسي )الفقرة الأولى منه) في صيغته الفرنسية كما يلي:
« n’est pas pénalement responsable la personne qui était atteinte, au moment des faits, d’un trouble psychique ou neuropsychique ayant aboli son discernement ou le contrôle de ses actes ».
« n’est pas pénalement responsable la personne qui était atteinte, au moment des faits, d’un trouble psychique ou neuropsychique ayant aboli son discernement ou le contrôle de ses actes ».
[29] - ويقصد بالإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية هو أن يوضع شخص في مؤسسة مختصة، بمقتضى قرار من محكمة الموضوع إذا كان متهما بارتكاب جناية أو جنحة أو بالمساهمة أو المشاركة فيها، ولكنه، كان وقت ارتكاب الفعل، في حالة خلل عقلي ثبت بناء على خبرة طبية، استوجب التصريح بانعدام مسؤوليته مطلقا وإعفائه من العقوبة (الفصل 75 من ق ج).
أما إذا تعلق الأمر بمخالفة وكان الشخص الذي يحكم بإعفائه يشكل خطرا على النظام العام، فإن هذا الأخير يتم تسليمه إلى السلطة الإدارية (الفقرة الثالثة من الفصل 134 من ق ج).
أما إذا تعلق الأمر بمخالفة وكان الشخص الذي يحكم بإعفائه يشكل خطرا على النظام العام، فإن هذا الأخير يتم تسليمه إلى السلطة الإدارية (الفقرة الثالثة من الفصل 134 من ق ج).
[30]- وذلك للقضاء على مصادر الخطورة الاجرامية لدى الجاني وعدم إضراره بالمجتمع، وهذا هو الغرض من التدابير الاحترازية بالنسبة للمدرسة الوضعية، حيث اعتبرتها وسيلة دفاع تهدف إلى توقي الخطورة الاجتماعية عن طريق وضع الجاني في حالة لا يستطيع معها الاضرار بالمجتمع، إما باستئصال العوامل الاجرامية لدى الجاني بالعلاج والتهذيب، وإما باستئصال الجاني نفسه إن كان استئصال العوامل الاجرامية غير ممكن.
- فتوح عبد الله الشادلي، نفس المرجع السابق، ص. 452.
- فتوح عبد الله الشادلي، نفس المرجع السابق، ص. 452.
[31] - قـــرار عـدد: 682 في الملف الجنائي عدد 17873/6/2012، نشرة قرارات محكمة النقض – الغرفة الجنائية، السلسلة 3، الجزء 14، السنة 2014، ص. 31- 33.
[32] - قرار صادر عن جميع الغرف عدد 253/12،بتاريخ 08/03/2022، في ملف إعادة النظر عدد 11954/6/12/2018، أشار إليه السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية " محمد عبد النباوي " في كلمته التي ألقاها بتاريخ 06/02/2023 بمناسبة افتتاح السنة القضائية 2023 (مشار إليها بموقع المجلس الأعلى للسلطة القضائية).
[33]- أما في المخالفات فتطبق عليه العقوبات مع مراعاة حالة المتهم الذهنية (الفقرة الثانية من الفصل 135 من ق.ج).
[34]- مع مراعاته مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 77 من ق ج التي تنص على أنه " إذا استقر رأي الطبيب المعالج على إنهاء الإيداع، فإنه يجب أن يخطر بذلك رئيس النيابة العامة بمحكمة الاستئناف الذي له أن يطعن في قرار الإخراج في ظرف عشرة أيام ابتداء من تسلمه ذلك الإخطار، وذلك وفق الشروط المقررة في الفصل 28 من ظهير 21 شوال 1378 الخاص بالوقاية والعلاج من الأمراض العقلية وحماية المرضى المصابين بها، وهذا الطعن يوقف مفعول الأمر بالإخراج".
[35] - فقد جاء في دستور منظمة الصحة العالمية الصادر سنة 1946 على أن " التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة هو أحد الحقوق الرئيسية لكل شخص دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الجنس أو العقيدة السياسية أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي".
كما تضمنت مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي أو تحسين العناية بالصحة العقلية المعتمدة والمنشورة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 119/46 المؤرخ في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1991 مجموعة من الحقوق الخاصة بالمصابين بمرض عقلي.
كما نصت المادة 39 من الميثاق العربي لحقوق الانسان لسنة 2004 والذي تبنته جامعة الدول العربية، على حق كل فرد في المجتمع في التمتع بأعلى مستوى من الصحة البدنية والعقلية.
كما تضمنت مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي أو تحسين العناية بالصحة العقلية المعتمدة والمنشورة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 119/46 المؤرخ في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1991 مجموعة من الحقوق الخاصة بالمصابين بمرض عقلي.
كما نصت المادة 39 من الميثاق العربي لحقوق الانسان لسنة 2004 والذي تبنته جامعة الدول العربية، على حق كل فرد في المجتمع في التمتع بأعلى مستوى من الصحة البدنية والعقلية.
- أنظر في هذا الإطار، مقالنا (سعيد المفقي) تحت عنوان: "دور النيابة العامة في دعم حقوق المرضى عقليا ونفسيا"، مجلة الملف (مجلة قانونية – ورقية)، العدد 21، أكتوبر 2013، الصفحة من 98 إلى 110.
[36] - رفضت هذه المدرسة الطابع المجرد والجامد لفكرة حرية الاختيار، وعرفتها بأنها القدرة على مقاومة البواعث الشريرة، وهذه القدرة تختلف من شخص إلى آخر، وبذلك كان لها طابع نسبي، فهي تختلف باختلاف الأفراد، وبالنسبة للفرد الواحد قد يختلف دور حرية الاختيار من جريمة لأخرى. كما كان لأفكار هذه المدرسة تأثير في إدخال تعديلات سنة 1832 على قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1810، حيث خففت العقوبات، وألغيت عقوبة الإعدام سنة 1848، وأعطيت للقاضي سلطة تقديرية واسعة في تقدير العقوبة بين حدين أدنى وأقصى. كما كان للمدرسة تأثيرا واضحا في قانون العقوبات الألماني لسنة 1870، و قانون العقوبات الإيطالي لسنة 1889.
- فتوح عبد الله الشاذلي، نفس المرجع السابق، ص.341.
- فتوح عبد الله الشاذلي، نفس المرجع السابق، ص.341.
[37]- عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص. 348.
[38] - للوقوف على مضمون كل معيار على حدى، الرجوع إلى عبد الرحمان اللمتوني، '' سلطة القاضي في تقدير الواقع والقانون ''، مجلة رئاسة النيابة العامة، العدد الثاني، يونيو 2021، ص. 34 - 39.
[39] - BORE Jacques et BORE Louis, La cassation en matière civile, 4ème édition, Dalloz, Paris, 2008, p. 248.
- أشار إليه عبد الرحمان اللمتوني، نفس المرجع السابق، ص. 33 - 34.
- أشار إليه عبد الرحمان اللمتوني، نفس المرجع السابق، ص. 33 - 34.
[40] - عبد الرحمان اللمتوني، نفس المرجع السابق، ص. 40.
[41]- كانت الخبرة محل جدل فقهي بين من يعتبرها وسيلة من وسائل الاثبات وبين من يعتبرها مجرد وسيلة لتقدير عنصر إثبات في الدعوى وبين من يعتبرها وسيلة أو إجراء مساعد للقاضي في تكملة معلوماته. وللتوسع في هذا الموضوع يراجع مولاي ادريس العلوي العبدلاوي، الوسيط في شرح المسطرة المدنية، ج1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998، ص 519 – 520.
[42]- محمد محجوبي، دعوى نقل الملكية واجراءاتها أمام المحكمة الإدارية، مطبعة دار القلم- الرباط، الطبعة الأولى، 2004، ص. 124.
[43]- حسب رأي أحد الأطباء المختصين في علاج الاضطرابات الذهنية بفاس، فإن هذا التخطيط لا يصلح إلا لاكتشاف الصرع وحده، قمنا بمقابلته بتاريخ 31/03/2023 على الساعة 21 و 35 مساءا. وحسب هذا الرأي فإن الطب العقلي في تطور مستمر وحاليا يتم البحث عن وسائل علمية لتشخيص بعض الاضطرابات الذهنية كالتحاليل الطبية لمعرفة مستوى بعض الهرمونات التي ينتج عن اختلال توازنها بالجسم حدوث اضطرابات في المزاج.
[44] - حسب رأي أحد الأطباء المختصين في علاج الإضرابات الذهنية بفاس، قمنا بمقابلته بتاريخ 31/03/2023 على الساعة 21 و 35 مساءا.
[45]- يوسف مراد، مبادئ علم النفس العام، دار المعارف- مصر، السنة 1982، أورده عبد الرحمن عيسوي، علم النفس القضائي مع دراسة ميدانية للاتجاه نحو القانون، دار النهضة العربية للطباعة والنشر – بيروت، السنة 1992، ص. 139.
[46] - عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص. 342.
[47]- نقض 31/10/1970، طعن 766، أشار إليه عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 90.
[48]- المرحوم السنتيسي، ص.148، و حافظ أبو الفتوح، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، أشار إليهما عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص.342. وعن القضاء المقارن نورد الحكم الصادر بتاريخ 13 ماي 1940 مجموعة القواعد القانونية، الجزء الأول، ص. 172، قاعدة رقم 5، أورده أبو الفتوح، نفس المرجع السابق، ص.293، أشار إليه عبد الواحد العلمي، نفس المرجع السابق، ص.342، والذي جاء فيه: " فإذا كان الدفاع قد استند إلى أن المتهم غير مسؤول لأنه كان قد أصيب منذ سنوات بالجنون، وقدم شهادة من أحد الأطباء دالة على ذلك، ورأت المحكمة من إجابات المتهم في التحقيق الذي أجري عقب الحادثة مباشرة، أنه كان سليم العقل وقت ارتكاب الجريمة، ثم قالت أن الشهادة الطبية المقدمة لا تتعارض مع ما رأته من ذلك لأنها فضلا عن صدورها عن غير أخصائي وعن حادث وقع قبل تحريرها بسنوات، لا تدل بذاتها على أن المتهم وقت اقترافه للجريمة كان في حالة جنون فذلك باعتباره تقديرا للوقائع المعروضة على المحكمة يجب أن يترك أمره لها وحدها، ولا يصح إلزامها بالاستعانة فيه برأي فني".
[49]- تمييز جزائي الطعن رقم 179 لسنة 2011، ق جلسة29/1/2012، مجلة القضاء والقانون، س40 ج 1 ص 355، أشير إليه في مقال بعنوان، المسؤولية الجنائية (موانع المسؤولية – أسباب الإباحة)، من إعداد اللجنة العلمية لمعهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، نفس المرجع السابق، ص. 16.
[50] - المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية.
[51]- عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص. 91.
[52]- ويقصد بالأحكام التمهيدية حسب بعض الفقه، " تلك الأحكام التي تتعلق بالبت في إجراء من إجراءات الدعوى أثناء سيرها وذلك بهدف تهيئ الفصل في النزاع المعروض على المحكمة ".
- محمد التغدويني، النظرية العامة للتعليق على الأحكام القضائية، مطبعة آنفو – برانت، فاس، الطبعة الثانية، السنة 2006، ص69.
- محمد التغدويني، النظرية العامة للتعليق على الأحكام القضائية، مطبعة آنفو – برانت، فاس، الطبعة الثانية، السنة 2006، ص69.
[53] - ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، السنة 2006، ص. 149.
[54] - JONAS Carol, SENON Jean-Louis, VOYER Mélanie, DELBREIL Alexia, Méthodologie de l’expertise en psychiatrie, collection Psychothérapies, Dunod, 2013, P.1, Mis en ligne sur Cairn.info le 12/04/2022, consulté le 25/02/2023 à 11.25.
[55]- ونحن نبحث في طريقة إنجاز الخبرة الطبية الذهنية، توصلنا إلى أن بعض المهتمين والمختصين في معالجة الاضطرابات الذهنية بفرنسا، قد أوصوا ببعض الخطوات التي يتعين على الخبير اتباعها من أجل تشخيص الحالة المرضية التي يعاني منها الشخص موضوع الخبرة. يمكن الاطلاع عليها إلكترونيا:
- Recommandation de la commission d’audition avec le soutien de la direction générale de la santé, « Expertise psychiatrique pénale », Audition publique, 25 et 26 Janvier 2007, Ministère de la santé et des Solidarités – Paris, P.8 , En ligne 11 Juillet 2007, consulté le 26/02/2022 a 14.56, https://www.has-sante.fr.
- Recommandation de la commission d’audition avec le soutien de la direction générale de la santé, « Expertise psychiatrique pénale », Audition publique, 25 et 26 Janvier 2007, Ministère de la santé et des Solidarités – Paris, P.8 , En ligne 11 Juillet 2007, consulté le 26/02/2022 a 14.56, https://www.has-sante.fr.
[56] - ALEXANDRE Marie, Le rôle de l’expert psychiatre en procédure pénale, Mémoire du Master, Université de Cergy-Pontoise, Année Universitaire 2013-2014, P.22.
[57]- قرار عدد: 758/4 بتاريخ 03/04/2002، في الملف الجنحي عدد: 10154/2001، مشار إليه بمجلة العلوم الجنائية، مطبعة دار القلم - الرباط، العدد الثامن، السنة 2021، ص. 214.
[58]- قرار عدد 1130/9 بتاريخ 15 نونبر 2005، في الملف الجنحي عدد 11783/2003، أشار إليه عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، ص 91.
- في نفس هذا الاتجاه ذهبت ذات المحكمة في قرار لها تحت عدد 3241/3 بتاريخ 8 نونبر 2006، أشار إليه عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، بهامش الصفحة 91، والذي جاء فيه "حيث إن الطاعن تقدم بواسطة دفاعه بملتمس يرمي إلى عرضه على خبرة لتحديد قدراته العقلية والنفسية قبل وأثناء وبعد ارتكاب الفعل، وبالتالي تحديد مدى مسؤوليته الجنائية، وعزز ملتمسه بالحالة التي كان يوجد عليها المتهم قبل ارتكاب الفعل، وأدلى بشهادة طبية مؤكدا أنه كان يعالج بمستشفى الأمراض العقلية من مرض نفسي، وأن المحكمة ردت الملتمس معللة ذلك بما عاينته من حالة المتهم أثناء جلسة المناقشة ولم تعتبر ما قد تكون عليه حالته العقلية وقت ارتكاب الفعل، الأمر الذي جاء معه القرار المطعون فيه ناقص التعليل".
- في نفس هذا الاتجاه ذهبت ذات المحكمة في قرار لها تحت عدد 3241/3 بتاريخ 8 نونبر 2006، أشار إليه عبد الكافي ورياشي، نفس المرجع السابق، بهامش الصفحة 91، والذي جاء فيه "حيث إن الطاعن تقدم بواسطة دفاعه بملتمس يرمي إلى عرضه على خبرة لتحديد قدراته العقلية والنفسية قبل وأثناء وبعد ارتكاب الفعل، وبالتالي تحديد مدى مسؤوليته الجنائية، وعزز ملتمسه بالحالة التي كان يوجد عليها المتهم قبل ارتكاب الفعل، وأدلى بشهادة طبية مؤكدا أنه كان يعالج بمستشفى الأمراض العقلية من مرض نفسي، وأن المحكمة ردت الملتمس معللة ذلك بما عاينته من حالة المتهم أثناء جلسة المناقشة ولم تعتبر ما قد تكون عليه حالته العقلية وقت ارتكاب الفعل، الأمر الذي جاء معه القرار المطعون فيه ناقص التعليل".
[59]- قرار عدد 50، بتاريخ 05/10/2012، غير منشور.
[60]- قرار عدد 23 بتاريخ 06/01/2011، نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة، الغرفة الجنائية، السلسلة 2، العدد 8، مطبعة الأمنية – الرباط، ص 126.
[61]- قرار عدد 164/09، بتاريخ 04/10/2000، في الملف عدد 2170/97 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 57 و 58 ص. 475 وما يليها، أشار إليه محمد بفقير، مجموعة القانون الجنائي والعمل القضائي المغربي، منشورات دراسات قضائية، سلسلة القانون والعمل القضائي المغربيين، العدد 4، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الخامسة 2018، ص. 127.
[62]- وتبقى الإشارة هنا واجبة، إلى كون الدفع بانعدام المسؤولية الجنائية هو من الدفوع المتصلة بالموضوع، ويمكن إثارتها في جميع مراحل الدعوى الجنائية ولو لأول مرة أمام محكمة النقض، لأن الأمر يتعلق بتطبيق قاعدة موضوعية. كما أن عدم الجواب على الدفع المذكور يعتبر إخلال بضمانات الدفاع، وخرقا لحق أقره القانون للمتهم وهو حقه في العلاج بمؤسسة لعلاج الاضطرابات الذهنية بدل عقابه.
[63]- قرار عدد 1037 بتاريخ 21/10/2015 في الملف الجنائي عدد 8289/6/5/2015، أورده عبد الرزاق الجباري، المجتبى من عمل محكمة النقض في المادة الجنائية- سلسلة العمل الفقهي والقضائي، الجزء الأول، العدد 6، مطبعة الأمنية - الرباط، طبعة 2019، ص. 75 - 80.
[64] - قرار عدد 59/3 بتاريخ 14/01/2015 في الملف عدد 11490/6/3/2014 أورده عبد الرزاق الجباري، نفس المرجع السابق، ص. 243- 245.