لا شك فيه أن إشكالية اكتظاظ السجون مردها بالأساس إلى كثرة المعتقلين الاحتياطيين، ورغم أن مشرع قانون المسطرة الجنائية نص صراحة على أن هذا التدبير استثنائي بصريح الفصل 159 من قانون المسطرة الجنائية، والذي جاء فيه:" الوضع تحت المراقبة القضائية والاعتقال الاحتياطي تدبيران استثنائيان...."، إلا أن الظاهر غير ذلك.
ولا مناص من التأكيد، على قاعدتين أساسيتين:
الأولى: أن الأحكام الصادرة في المادة الجنائية تكون غير قابلة للتنفيذ إلا بعد أن تكتسب قوة الشيء المقضي به، أي بعد استنفاذ أو فوات أجل: التعرض-الاستئناف- النقض.
وتلك القاعدة يقررها الفصل 597 من قانون المسطرة الجنائية.
والثانية: أن تلك القاعدة تنبني على مبدأ أن البراءة هي الأصل، وبالتالي فإن المتهم يظل بريئا إلى أن تثبت إدانته.
وهذا المبدأ تحول بدوره إلى قاعدة قانونية في قانون المسطرة الجنائية الجديد، بالتنصيص على أن كل متهم أو مشتبه فيه يظل بريئا إلى أن تثبت إدانته بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به.
وهكذا، فإن الحكم الابتدائي القاضي بالإدانة لا ينفي قرينة البراءة، فيظل المتهم بريئا أمام محكمة الاستئناف، كما أن القرار الاستئنافي حتى ولو كان حضوريا لا ينفي قرينة البراءة أمام محكمة النقض.
تلك القاعدة الجوهرية تنبني على أن حرية الإنسان هي الأصل، وأنها عنوان إنسانيته.
لذا، فإن إخضاع المتهم أو المشتبه فيه للاعتقال قبل المحاكمة، إنما هو حرمان الإنسان من حريته قبل أن تثبت إدانته، بل وقد ينتهي معه التحقيق أو المحاكمة إلى عدم متابعته أو إعفائه أو براءته، فيكون اعتقاله، احتياطيا، وبصفة مسبقة، بمثابة ظلم فادح وإهدار لحريته وكرامته.
ولذلك فإن اللجوء إلى الاعتقال، يتعين أن يكون لجوءا استثنائيا.
إذ أن الحرية هي القاعدة، والاعتقال هو الاستثناء(1).
وتعتبر هاته الإشكالية هي من بين الإشكاليات التي ثار جدال فقهي وقانوني حولها، وانقسمت بالتالي الآراء حول هاته النقطة إلى فريقين متعارضين، كل واحد منهما يدافع على وجهة نظره بمنظاره الخاص، ويستند على حجج ومبررات يدافع عنها بقوة.
وسنحاول أن نتطرق إلى هذا كله، وذلك من خلال إبداء وجهة نظر كل فريق والحجج والدعائم التي يعتمد عليها كل فريق في مطلب خاص، وسنبدي في الختام وجهة نظرنا القانونية التي تستنبط دعائمها من حجج علمية وعملية وقانونية.
المطلب الأول: وجهة نظر الفريق الأول.
تؤكد هاته النظرية التي خلفت أثارها على المجال العملي على أن الاعتقال الاحتياطي يستند إلى عدة مبررات وجيهة تجعل منه نظاما لا غنى عنه، وهي مبررات معروفة ومكررة في كتب الفقه من بينها:
أ) حفظ وصيانة الدليل الجنائي، إذ أن اعتقال المتهم يكفي العدالة الجنائية مغبة طمس معالم الجريمة وإتلاف أدلتها، فقد يعمد المتهم غير المعتقل إلى إخفاء ما تبقى من أدوات الجريمة التي يمكن أن تقود إلى الحقيقة، وقد يؤثر على الشهود ترغيبا أو ترهيبا فيدفعهم إلى تغيير الشهادة أو عدم إدلائها أصلا، كما أن تأثيره قد يمتد إلى الضحية حتى إلى الخبراء المنتدبين في القضية.
ب) الحيلولة دون فرار المتهم أو اختفائه، لأن إطلاق سراحه قد يغريه بالهروب خاصة إذا كان مقترفا فعلا للجريمة المتابع من أجلها، وأن هناك أدلة كافية لإدانته، أو قد يدفعه إلى الاختفاء عن الأنظار في انتظار تقادم العقوبة التي سيحكم بها عليه.
ت) سهولة إدارة التحقيق وسرعته، إذ أن الاحتفاظ بالمتهم رهن الاعتقال يسهل على القاضي المحقق عملية البحث والتقصي ويجعله يباشرها بكيفية سريعة لا تباطؤ فيها، فلا يضطر إلى إنفاق الكثير من الوقت في إجراءات استدعاء المتهم المسرح، والذي قد يتخلف عن الحضور مرات ومرات فلا يتمكن من استنطاقه ولا تتيسر له مواجهته بباقي المتهمين وبالشهود والضحايا ويتعذر عليه عرضه على خبرة طبية.
ث) وقاية المتهم من نقمة الجمهور والمجني عليه وأهله، لأنه قد يتعرض لرد فعل عدائي من طرف هؤلاء تغذيه مشاعر الاستنكار والانتقام بالإضافة إلى وقاية المجتمع نفسه من خطورة المتهم الذي يقترف جرائم أخرى إذا ما ترك حرا طليقا.
وعلى أي حال فإن الاعتقال الاحتياطي له مبررات واقعية وقانونية متينة تجعل منه حسب بعض الفقه الذي أجاد التعبير- إجراء ضروريا تسلم به التشريعات وبقبله الفقه والقضاء على كره منه، باعتباره إجراءا بغيضا دعت إليه الضرورة التي لا مفر منها(2).
المطلب الثاني: وجهة نظر الفريق الثاني.
حملت هاته النظرية التي خلفت بدورها أثرها على المجال العملي والتي تسير في الاتجاه المعاكس للنظرية الأولى، حملة شديدة على الاعتقال الاحتياطي، وحشدوا جملة من المؤاخذات للنيل منه، وتصيدوا الكثير من العيوب رموه بها للحط من قيمته، ومما انتقدوه على نظام الاعتقال الاحتياطي أنه يتعارض مع مبدأ قرينة البراءة التي هي الأصل، كما انه يعد بمثابة عقوبة سابقة تنزل على المتهم قبل إدانته وتصادر حريته قبل الأوان، علاوة على أنه يلحق بالمعتقل أفدح الأضرار، فهو يقطع روابطه العائلية ويشل نشاطه المهني ويشوه سمعته قبل التأكد من نسبة الجريمة إليه، وهذا مخالف أبسط مبادئ العدل والإنصاف.
فالتسليم بضرورة الاعتقال الاحتياطي، حسب أنصار هذه النظرية، لا يعني أن يكتوي الناس بناره، فيظلمون وتهضم حقوقهم تذرعا به، نعم حينما يحكم على المتهم الذي يتخذ في مواجهته هذا الإجراء بعقوبة سالبة للحرية تفوق مدتها المدة التي قضاها رهن الاعتقال الاحتياطي فلا يطرح أي مشكل، ولكن المسألة تتعقد حينما ينتهي البحث في الملف بإصدار أمر بعدم المتابعة أو حكم بالبراءة أو حكم بعقوبة مالية أو بعقوبة سالبة للحرية ولكن مدتها تقل عن المدة التي قضاها المتهم فعليا رهن الاعتقال الاحتياطي فهنا
يثور سؤال حاد وعميق حول عدالة هذا النوع من الاعتقال الاحتياطي الخاطئ، ألا يجب أن نفرق بين ضرورة الاعتقال الاحتياطي وبين أضرار الاعتقال الاحتياطي؟(3
المطلب الثالث: تقييم وجهتي النظر مع إبداء وجهة نظرنا في هاته الإشكالية.
لا شك فيه أن تقييم كل وجهة نظر مهما كانت مزاياها وعيوبها يرجع أساسا إلى اعتبار أن أهمها وأجداها هو الأكثر نفعا والأقل ضررا، استنادا إلى أن من أهم مبادئ الاجتهاد الفقهي في الشريعة الإسلامية هو جلب المنافع ودرء المفاسد، وهو قصد المشرع المغربي من وراء التنصيص على فصول قانون المسطرة الجنائية باعتباره هو الذي ينظم الإجراءات المسطرية في الميدان الجنائي.
فأهم وجهة نظر هي التي تحقق هدف المشرع وتسير بناء على الهدف المتوخى من وراء قصد المشرع وتحترم المبادئ التي تنظم خطة العدالة وأهمها حسن سير العدالة(4
ولذلك كان لأنصار النظرية الأولى ما يبرر توجههم من حجج وبراهين معقولة، إذ لا مناص من الاستغناء عن الاعتقال الاحتياطي، إلا أنه مع كل ما ذكر فهو لا يعدوا أن يكون تدبير استثنائي، يجب ألا يتجاوز نطاق الاستثناء.
أما بالنسبة لأصحاب التوجه المعاكس ومؤيدي النظرية الثانية، فإن طرحهم لا يقل درجة من الأهمية، فهم بدورهم يؤيدون نظرية من وجهة نظر تحترم، لها سنداتها فيما أصبح يلاحظ بأن الاعتقال الاحتياطي هو الأصل والاستثناء هو المتابعة في حالة سراح.
وعلى هدي ما سبق، وحسب رأينا المتواضع فإنه يجب عدم إساءة استعمال مسطرة الاعتقال الاحتياطي، حتى يظل هذا الاعتقال ضيقا ومحافظا على طابعه الاستثنائي، وإلا فإن قاعدة البراءة هي الأصل، واعتبار المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته، ستصبح هي الاستثناء، في حين يصبح الاعتقال الاحتياطي بوصفه مجرد تدبير استثنائي هو القاعدة، وهذا ملا ينسجم مع إرادة المشرع.
ومن وجهة نظرنا المتواضعة، فإن ما يجعل هذا التدبير يحسن استعماله من طرف المختصين، هو وجوب التعويض عن الاعتقال الاحتياطي الخاطئ سيرا على نهج العديد من التشريعات المعاصرة، فحق ضحايا الاعتقال الاحتياطي الخاطئ في التعويض هو فرع من أصل هو حق ضحايا الخطأ القضائي عموما في التعويض، وهو حق معترف به دستوريا بصريح الفصل 122من الدستور المغربي الجديد، والذي ينص على:" يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة".
ولا ينبغي أن يثنينا عن ذلك الخوف على ميزانية الدولة من تكاثر دعاوى التعويض بشكل تعسفي، فإذا أحكم التنظيم القانوني لهذه الدعاوى وأحيطت ممارستها بالضمانات والقيود القانونية اللازمة مثل الآجال والشروط الشكلية والموضوعية والجزاءات، كالغرامات المالية في حالة التعسف أو المجازفة(5)، فلن يبقى هناك أي إشكال في هذا الإجراء.
لكن كيف تتصور مسطرة التعويض عن الاعتقال الاحتياطي الخاطئ؟ هذا ما سنتناوله بإيجاز ضمن المشاركة التالية في هذا الموقع المفيد المحكم.
الهوامش
(1) الأستاذ الطيب لزرق، محام بهيئة الرباط – الاعتقال الاحتياطي بين قانون المسطرة الجنائية الحالي وقانون المسطرة الجنائية الجديد. مقال منشور بمجلة القصر، العدد 6 – ص:41.
(2) الأستاذ يوسف وهابي، محام بهيئة المحامين بالجديدة. التعويض عن الاعتقال الاحتياطي الخاطئ وقانون المسطرة الجنائية. مقال منشور بجريدة بمجلة الإشعاع، العدد السادس والعشرون ص:37.
(3) الأستاذ يوسف وهابي، المرجع السابق.
(4) الأستاذ رياضي عبد الغاني، نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بفاس، قضايا ووجهة نظر، الطبعة الأولى 2001.
(5) الأستاذ يوسف وهابي، المرجع السابق.
ولا مناص من التأكيد، على قاعدتين أساسيتين:
الأولى: أن الأحكام الصادرة في المادة الجنائية تكون غير قابلة للتنفيذ إلا بعد أن تكتسب قوة الشيء المقضي به، أي بعد استنفاذ أو فوات أجل: التعرض-الاستئناف- النقض.
وتلك القاعدة يقررها الفصل 597 من قانون المسطرة الجنائية.
والثانية: أن تلك القاعدة تنبني على مبدأ أن البراءة هي الأصل، وبالتالي فإن المتهم يظل بريئا إلى أن تثبت إدانته.
وهذا المبدأ تحول بدوره إلى قاعدة قانونية في قانون المسطرة الجنائية الجديد، بالتنصيص على أن كل متهم أو مشتبه فيه يظل بريئا إلى أن تثبت إدانته بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به.
وهكذا، فإن الحكم الابتدائي القاضي بالإدانة لا ينفي قرينة البراءة، فيظل المتهم بريئا أمام محكمة الاستئناف، كما أن القرار الاستئنافي حتى ولو كان حضوريا لا ينفي قرينة البراءة أمام محكمة النقض.
تلك القاعدة الجوهرية تنبني على أن حرية الإنسان هي الأصل، وأنها عنوان إنسانيته.
لذا، فإن إخضاع المتهم أو المشتبه فيه للاعتقال قبل المحاكمة، إنما هو حرمان الإنسان من حريته قبل أن تثبت إدانته، بل وقد ينتهي معه التحقيق أو المحاكمة إلى عدم متابعته أو إعفائه أو براءته، فيكون اعتقاله، احتياطيا، وبصفة مسبقة، بمثابة ظلم فادح وإهدار لحريته وكرامته.
ولذلك فإن اللجوء إلى الاعتقال، يتعين أن يكون لجوءا استثنائيا.
إذ أن الحرية هي القاعدة، والاعتقال هو الاستثناء(1).
وتعتبر هاته الإشكالية هي من بين الإشكاليات التي ثار جدال فقهي وقانوني حولها، وانقسمت بالتالي الآراء حول هاته النقطة إلى فريقين متعارضين، كل واحد منهما يدافع على وجهة نظره بمنظاره الخاص، ويستند على حجج ومبررات يدافع عنها بقوة.
وسنحاول أن نتطرق إلى هذا كله، وذلك من خلال إبداء وجهة نظر كل فريق والحجج والدعائم التي يعتمد عليها كل فريق في مطلب خاص، وسنبدي في الختام وجهة نظرنا القانونية التي تستنبط دعائمها من حجج علمية وعملية وقانونية.
المطلب الأول: وجهة نظر الفريق الأول.
تؤكد هاته النظرية التي خلفت أثارها على المجال العملي على أن الاعتقال الاحتياطي يستند إلى عدة مبررات وجيهة تجعل منه نظاما لا غنى عنه، وهي مبررات معروفة ومكررة في كتب الفقه من بينها:
أ) حفظ وصيانة الدليل الجنائي، إذ أن اعتقال المتهم يكفي العدالة الجنائية مغبة طمس معالم الجريمة وإتلاف أدلتها، فقد يعمد المتهم غير المعتقل إلى إخفاء ما تبقى من أدوات الجريمة التي يمكن أن تقود إلى الحقيقة، وقد يؤثر على الشهود ترغيبا أو ترهيبا فيدفعهم إلى تغيير الشهادة أو عدم إدلائها أصلا، كما أن تأثيره قد يمتد إلى الضحية حتى إلى الخبراء المنتدبين في القضية.
ب) الحيلولة دون فرار المتهم أو اختفائه، لأن إطلاق سراحه قد يغريه بالهروب خاصة إذا كان مقترفا فعلا للجريمة المتابع من أجلها، وأن هناك أدلة كافية لإدانته، أو قد يدفعه إلى الاختفاء عن الأنظار في انتظار تقادم العقوبة التي سيحكم بها عليه.
ت) سهولة إدارة التحقيق وسرعته، إذ أن الاحتفاظ بالمتهم رهن الاعتقال يسهل على القاضي المحقق عملية البحث والتقصي ويجعله يباشرها بكيفية سريعة لا تباطؤ فيها، فلا يضطر إلى إنفاق الكثير من الوقت في إجراءات استدعاء المتهم المسرح، والذي قد يتخلف عن الحضور مرات ومرات فلا يتمكن من استنطاقه ولا تتيسر له مواجهته بباقي المتهمين وبالشهود والضحايا ويتعذر عليه عرضه على خبرة طبية.
ث) وقاية المتهم من نقمة الجمهور والمجني عليه وأهله، لأنه قد يتعرض لرد فعل عدائي من طرف هؤلاء تغذيه مشاعر الاستنكار والانتقام بالإضافة إلى وقاية المجتمع نفسه من خطورة المتهم الذي يقترف جرائم أخرى إذا ما ترك حرا طليقا.
وعلى أي حال فإن الاعتقال الاحتياطي له مبررات واقعية وقانونية متينة تجعل منه حسب بعض الفقه الذي أجاد التعبير- إجراء ضروريا تسلم به التشريعات وبقبله الفقه والقضاء على كره منه، باعتباره إجراءا بغيضا دعت إليه الضرورة التي لا مفر منها(2).
المطلب الثاني: وجهة نظر الفريق الثاني.
حملت هاته النظرية التي خلفت بدورها أثرها على المجال العملي والتي تسير في الاتجاه المعاكس للنظرية الأولى، حملة شديدة على الاعتقال الاحتياطي، وحشدوا جملة من المؤاخذات للنيل منه، وتصيدوا الكثير من العيوب رموه بها للحط من قيمته، ومما انتقدوه على نظام الاعتقال الاحتياطي أنه يتعارض مع مبدأ قرينة البراءة التي هي الأصل، كما انه يعد بمثابة عقوبة سابقة تنزل على المتهم قبل إدانته وتصادر حريته قبل الأوان، علاوة على أنه يلحق بالمعتقل أفدح الأضرار، فهو يقطع روابطه العائلية ويشل نشاطه المهني ويشوه سمعته قبل التأكد من نسبة الجريمة إليه، وهذا مخالف أبسط مبادئ العدل والإنصاف.
فالتسليم بضرورة الاعتقال الاحتياطي، حسب أنصار هذه النظرية، لا يعني أن يكتوي الناس بناره، فيظلمون وتهضم حقوقهم تذرعا به، نعم حينما يحكم على المتهم الذي يتخذ في مواجهته هذا الإجراء بعقوبة سالبة للحرية تفوق مدتها المدة التي قضاها رهن الاعتقال الاحتياطي فلا يطرح أي مشكل، ولكن المسألة تتعقد حينما ينتهي البحث في الملف بإصدار أمر بعدم المتابعة أو حكم بالبراءة أو حكم بعقوبة مالية أو بعقوبة سالبة للحرية ولكن مدتها تقل عن المدة التي قضاها المتهم فعليا رهن الاعتقال الاحتياطي فهنا
يثور سؤال حاد وعميق حول عدالة هذا النوع من الاعتقال الاحتياطي الخاطئ، ألا يجب أن نفرق بين ضرورة الاعتقال الاحتياطي وبين أضرار الاعتقال الاحتياطي؟(3
المطلب الثالث: تقييم وجهتي النظر مع إبداء وجهة نظرنا في هاته الإشكالية.
لا شك فيه أن تقييم كل وجهة نظر مهما كانت مزاياها وعيوبها يرجع أساسا إلى اعتبار أن أهمها وأجداها هو الأكثر نفعا والأقل ضررا، استنادا إلى أن من أهم مبادئ الاجتهاد الفقهي في الشريعة الإسلامية هو جلب المنافع ودرء المفاسد، وهو قصد المشرع المغربي من وراء التنصيص على فصول قانون المسطرة الجنائية باعتباره هو الذي ينظم الإجراءات المسطرية في الميدان الجنائي.
فأهم وجهة نظر هي التي تحقق هدف المشرع وتسير بناء على الهدف المتوخى من وراء قصد المشرع وتحترم المبادئ التي تنظم خطة العدالة وأهمها حسن سير العدالة(4
ولذلك كان لأنصار النظرية الأولى ما يبرر توجههم من حجج وبراهين معقولة، إذ لا مناص من الاستغناء عن الاعتقال الاحتياطي، إلا أنه مع كل ما ذكر فهو لا يعدوا أن يكون تدبير استثنائي، يجب ألا يتجاوز نطاق الاستثناء.
أما بالنسبة لأصحاب التوجه المعاكس ومؤيدي النظرية الثانية، فإن طرحهم لا يقل درجة من الأهمية، فهم بدورهم يؤيدون نظرية من وجهة نظر تحترم، لها سنداتها فيما أصبح يلاحظ بأن الاعتقال الاحتياطي هو الأصل والاستثناء هو المتابعة في حالة سراح.
وعلى هدي ما سبق، وحسب رأينا المتواضع فإنه يجب عدم إساءة استعمال مسطرة الاعتقال الاحتياطي، حتى يظل هذا الاعتقال ضيقا ومحافظا على طابعه الاستثنائي، وإلا فإن قاعدة البراءة هي الأصل، واعتبار المتهم بريئا إلى أن تثبت إدانته، ستصبح هي الاستثناء، في حين يصبح الاعتقال الاحتياطي بوصفه مجرد تدبير استثنائي هو القاعدة، وهذا ملا ينسجم مع إرادة المشرع.
ومن وجهة نظرنا المتواضعة، فإن ما يجعل هذا التدبير يحسن استعماله من طرف المختصين، هو وجوب التعويض عن الاعتقال الاحتياطي الخاطئ سيرا على نهج العديد من التشريعات المعاصرة، فحق ضحايا الاعتقال الاحتياطي الخاطئ في التعويض هو فرع من أصل هو حق ضحايا الخطأ القضائي عموما في التعويض، وهو حق معترف به دستوريا بصريح الفصل 122من الدستور المغربي الجديد، والذي ينص على:" يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة".
ولا ينبغي أن يثنينا عن ذلك الخوف على ميزانية الدولة من تكاثر دعاوى التعويض بشكل تعسفي، فإذا أحكم التنظيم القانوني لهذه الدعاوى وأحيطت ممارستها بالضمانات والقيود القانونية اللازمة مثل الآجال والشروط الشكلية والموضوعية والجزاءات، كالغرامات المالية في حالة التعسف أو المجازفة(5)، فلن يبقى هناك أي إشكال في هذا الإجراء.
لكن كيف تتصور مسطرة التعويض عن الاعتقال الاحتياطي الخاطئ؟ هذا ما سنتناوله بإيجاز ضمن المشاركة التالية في هذا الموقع المفيد المحكم.
الهوامش
(1) الأستاذ الطيب لزرق، محام بهيئة الرباط – الاعتقال الاحتياطي بين قانون المسطرة الجنائية الحالي وقانون المسطرة الجنائية الجديد. مقال منشور بمجلة القصر، العدد 6 – ص:41.
(2) الأستاذ يوسف وهابي، محام بهيئة المحامين بالجديدة. التعويض عن الاعتقال الاحتياطي الخاطئ وقانون المسطرة الجنائية. مقال منشور بجريدة بمجلة الإشعاع، العدد السادس والعشرون ص:37.
(3) الأستاذ يوسف وهابي، المرجع السابق.
(4) الأستاذ رياضي عبد الغاني، نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بفاس، قضايا ووجهة نظر، الطبعة الأولى 2001.
(5) الأستاذ يوسف وهابي، المرجع السابق.