تشكل الانتخابات محطة أساسية في المسلسل الديمقراطي لأي دولة، نظرا لكونها نقطة ارتكاز تؤسس لإنتاج نخب مستقبلية قادرة على حمل هموم وانتظارات الطبقة الاجتماعية، وقادرة على بلورة استراتيجيات تنموية تصب في مصلحة البلاد. فالانتخابات ليست فقط مرحلة يجب نسيانها أو تناسيها، وإنما هي مرآة عاكسة للتوجهات والخطط والنهج الذي سيعتمده الفاعل السياسي طيلة مدة انتخابه. فخلال هذه المدة سترهن البلاد وستكون إما فأل خير عليها أو عكس ذلك، وهو ما يرجع بالأساس لمدى إنتاج نخب سياسية قادرة على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها، تتحلى بالكفاءة والجودة، وذات رصيد كاف من التراكمات المرحلية، وذات تصور جاد لمختلف الضروريات التي تتطلبها تنمية البلاد.
فليس بالأمر المحمود، أن لا نتطرق لعنصر أساسي من العناصر الموضوعية التي تمكن من معرفة خبايا المنظومة السياسية ببلادنا، وتشكل محورا جادا في معرفة مدى صلاحية ومدى انسجام الطريقة والمرحلة الانتخابية لمخرجات القوانين التنظيمية المتعلقة بها، وللمبادئ الكبرى المؤطرة لها في دستور 2011، وبالخصوص مبادئ الحكامة الجيدة. لذلك، سنحاول من خلال هذا المقال، مقاربة وملامسة الانتخابات عن طريق مرحلتين مختلفين منها، وذلك بالتطرق لانتخابات ما قبل دستور 2011، ومعرفة الجديد والتطور الذي حدث في انتخابات ما بعد الدستور، وذلك عن طريق الاستعانة بما نصت عليه القوانين التنظيمية المتعلقة بالانتخابات. فهل يمكن القول بأن الانتخابات الأخيرة لما بعد دستور 2011 تجاوزت نواقصها وإكراهاتها وسلبياتها من رشوة وتزوير وغيرها، ودخلت بذلك صرح النموذج الانتخابي الديمقراطي المبني على الشفافية والمسؤولية والحكامة الجيدة؟ أم أنها مازالت تتعثر في مستنقع اختلالاتها ولم تستطع تجاوزها؟
وكيف يمكن الحديث عن حوكمة الشأن الانتخابي ببلادنا في أفق الاستحقاقات الانتخابية القادمة؟
- حكامة الانتخابات في عهد الملك الراحل الحسن الثاني
وقد حظيت الحملة الانتخابية التي امتدت من 29 مايو 1997 إلى غاية منتصف الليل من يوم 12 يونيو 1997 بعناية ملكية سامية، إذ قرر صاحب الجلالة رفع حصة مساعدة الدولة للهيئات السياسية ودعمها بمناسبة الانتخابات العامة من 20 إلى 90 مليون درهم، وإلى تقنين معايير توزيع هذه المساهمة. كما اتخذت اللجنة الوطنية خلال هذه المرحلة مجموعة من التدابير الهادفة إلى سلامة العمليات الانتخابية وتعزيز مكانة المؤسسات.
كما لم تخلوا العملية الانتخابية في حقبة مغرب ما قبل اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، من آفة التزوير والفساد التي طبعت تلك المرحلة، والتي شكلت مدخلا رئيسيا في عدم رقي العملية الانتخابية لمبادئ الشفافية والنزاهة والديمقراطية، وهو ما حدى بالمواطن المغربي، والفئة الشابة منه على وجه الخصوص، إلى التعبير عن سخطهم اتجاه هذه العملية من خلال انسحابهم تدريجيا من المشاركة بصوتهم أو عن طريق عدم انخراطهم الفعلي في الأحزاب السياسية، وهو ما يشكل نقطة سلبية في الحياة السياسية بالمغرب، والتي مازلنا نعيشها لحدود اليوم، وهو ما يؤكد النزعة الشخصية لهذه الأحزاب.
- حكامة الانتخابات في مرحلة ما بعد دستور 2011
الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات
.
وقد أكد الملك محمد السادس منذ اعتلاءه العرش على ضرورة العمل على التجسيد الحقيقي لانتخابات خالية من كافة الشوائب و أوجه الفساد أو التزوير، وهو ما أكده سنة 2001 من خلال قوله:" أن نجعل من نزاهة الانتخابات المدخل الأساسي لمصداقية المؤسسات التشريعية وأن تتحمل السلطات العمومية والأحزاب السياسية مسؤوليتها كاملة في توفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية لنزاهة الاقتراع وتخليق المسلسل الانتخابي".
هذا بالإضافة إلى خطابه الذي أكد من خلاله على ضرورة تحلي الفاعلين السياسيين بالنزاهة والتجرد، وتجاوز الخلافات السياسية التي تؤثر على المسار التنموي الذي تعيشه البلاد، داعيا في نفس الوقت جميع السياسيين إلى التنافس الجاد والشفاف من أجل خدمة الوطن والمواطنين، وهو ما يستشف من خلال قوله:" وكما تعلمون، فإن هذه السنة ستكون حافلة أيضا باستحقاقات هامة وفي مقدمتها إقامة الجهوية المتقدمة. وعلى بعد أقل من سنة، على الانتخابات المحلية والجهوية، أتوجه إلى جميع الفاعلين السياسيين: ماذا أعددتم من نخب وبرامج، للنهوض بتدبير الشأن العام ؟ إن التحدي الكبير الذي يواجه مغرب اليوم، لا يتعلق فقط بتوزيع السلط، بين المركز والجهات والجماعات المحلية، وإنما بحسن ممارسة هذه السلط، وجعلها في خدمة الموطن. ومن هنا، فإن الانتخابات المقبلة، لا ينبغي أن تكون غاية في حد ذاتها. وإنما يجب أن تكون مجالا للتنافس السياسي، بين البرامج والنخب. وليس حلبة للمزايدات والصراعات السياسوية".
بالإضافة إلى الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعي التاسعة، بتاريخ 10 أكتوبر 2014ـ، الذي أكد فيه الملك على ضرورة اختيار المواطنين لنخب قادرة على لعب أدوارها بشكل جيد، واختيار مرشحين مؤهلين متحلين بقيم المواطنة وروح المسؤولية المقترنة بالمحاسبة، واختيار أفضل البرامج والنخب القادرة على تحقيق الانطلاقة الجيدة لتطبيق الدستور، وإعطاء دفعة قوية للتحول الحاسم والجذري الذي تعرفه البلاد في اتجاه تحديث ودمقرطة الدولة، وتحقيق التنمية الشاملة والمستديمة. أكد عاهل البلاد أيضا، على أنه :" إذا كان عدد من المواطنين لا يهتمون كثيرا بالانتخابات ولا يشاركون فيها، فلأن بعض المنتخبين لا يقومون بواجبهم، على الوجه المطلوب. بل إن من بينهم من لا يعرف حتى منتخبيه. وهنا يجب التشديد على أن المنتخب، كالطبيب والمحامي والمعلم والموظف وغيرهم، يجب أن يشتغل كل يوم. بل عليه أن يعمل أكثر منهم، لأنه مسؤول على مصالح الناس، ولا يعمل لحسابه الخاص. غير أن هناك بعض المنتخبين يظنون أن دورهم يقتصر على الترشح فقط. وليس من أجل العمل. وعندما يفوزون في الانتخابات، يختفون لخمس أو ست سنوات، ولا يظهرون إلا مع الانتخابات الموالية. لذا، فإن التصويت لا ينبغي أن يكون لفائدة المرشح الذي يكثر من الكلام، ويرفع صوته أكثر من الآخرين، بشعارات فارغة أو لمن يقدم بعض الدراهم، خلال الفترات الانتخابية، ويبيع الوعود الكاذبة للمواطنين. فهذه الممارسات وغيرها ليست فقط أفعالا يعاقب عليها القانون، وإنما هي أيضا تعبير صارخ عن عدم احترام الناخبين. لذا، فإن التصويت يجب أن يكون لصالح المرشح، الذي تتوفر فيه شروط الكفاءة والمصداقية، والحرص على خدمة الصالح العام".
وقد حدد الفصل 11 من الدستور، أساسيات الفعل الانتخابي بالمغرب، المبني على الشفافية والنزاهة والحياد التام بين المرشحين، والوسائل التي يمكنها أن تشكل مورد إضافي بالنسبة للأحزاب السياسية، سواء تلك التي تدخل في نطاق وسائل الإعلام العمومية، والممارسة الكاملة للحريات والحقوق المرتبطة بالحملة الانتخابية، هذا بالإضافة إلى الوسائل التي يمكنها أن تشكل أداة ملاحظة ورقابة على العملية الانتخابية، إلى جانب الآليات المرتبطة بكيفية جذب المواطنات والمواطنين من أجل الانخراط الفعلي والفعال في الانتخابات.
إلى جانب ما حدده الفصل 11 من الدستور، فقد خول الفصل 30 منه لكل مواطن ومواطنة الحق في التصويت وفي الترشح بشرط بلوغ السن القانونية المحددة في
18 سنة، إلى جانب تكاف الفرص بين الرجال والنساء في ولوج الوظائف الانتخابية ( أحدث بحسب الفصل 19 من نفس الدستور هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، من أجل تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء)، واعتبر التصويت حق شخصي وواجب وطني، كما خول للأجانب المقيمين بالمغرب المشاركة في الانتخابات المحلية.
وعمل دستور 2011 على وضع هيئات ومؤسسات تهدف بالأساس إلى تخليق الحياة العامة من ظواهر تشكل بقع سوداء تضر بصورة المغرب على الصعيد الدولي، وهي في الآن ذاته وسائل ناجعة من أجل تخليق وحماية العملية الانتخابية من ظواهر الفساد التي تؤثر بشكل كبير على المسار الديمقراطي لهذه العملية. لذلك، عمل المشرع المغربي على إحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، وتم تغيير هذه التسمية بمقتضى الفصل 36 من الدستور إلى "هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها"، حيث تتولى هذه الهيئة مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة.
ويعتبر قانون رقم97-9 المتعلق بمدونة الانتخابات لسنة 1997، من بين القوانين التي تندرج حسب بيان الأسباب المتعلق بإصدار هذا القانون، ضمن الإصلاحات التي جاءت بها المراجعة الدستورية بتاريخ 13 سبتمبر 1996 تحقيقا لمطامح جلالة الملك الحسن الثاني نصره الله الهادفة إلى استكمال صرح الديمقراطية ومواصلة بناء دولة القانون ببلادنا. وتهدف هذه المدونة التي تم إعدادها في إطار منهج توافقي ومشاورات مفيدة وبناءة بين رؤساء الهيئات السياسية الممثلة في مجلس النواب والحكومة ممثلة في شخص وزير جلالة الملك في الداخلية إلى ضبط وتحيين الأحكام القانونية التي تهم اللوائح الانتخابية وتنظيم الاستفتاءات والانتخابات الخاصة بأعضاء المجالس الجهوية وأعضاء مجالس العمالات والأقاليم وأعضاء المجالس الجماعية وأعضاء الغرف المهنية. وتتضمن المدونة أحكاما مشتركة وأخرى خاصة بهذه الاستشارات
والانتخابات
.
وفي سنة 2015، تم تتميم وتغيير القانون رقم 9.97 المتعلق بمدونة الانتخابات، تم من خلاله إدخال تعديلات على القانون المتعلق بمدونة الانتخابات تهم الأحكام المتعلقة بالتسجيل في اللوائح الانتخابية الخاصة بغرف التجارة والصناعة والخدمات، وكذا الأحكام المتعلقة بتعريف الهيئات الناخبة لغرف الصيد البحري. هذا فضلا عن القوانين الأخرى المنظمة للعملية الانتخابية، خصوصا تلك التي تخص انتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية كالقانون التنظيمي رقم 34.15 القاضي بتغيير وتتميم القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية، وذلك تماشيا مع أحكام الفصل 135 من دستور 2011 التي تنص على أنه:"تنتخب مجالس الجهات والجماعات بالاقتراع العام المباشر"، وأيضا ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 146 من نفس الدستور، والتي تنص على أنه:"تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة: شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة".
في جانب آخر، عمل المشرع على التنصيص على مشروع القانون التنظيمي رقم 21.16، الذي يهدف إلى تغيير وتتميم القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.166 بتاريخ 24 من ذي القعدة 1432 الموافق لـ 22 أكتوبر 2011، وذلك لتمكين الأحزاب السياسية من تأسيس تحالفات فيما بينها بمناسبة انتخابات أعضاء مجلس النواب وضبط بعض المقتضيات المؤطرة للتمويل العمومي الممنوح للأحزاب السياسية.
زيادة على تغيير وتتميم القانون التنظيمي رقم 27.11 المتعلق بمجلس النواب الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.165 بتاريخ 16 من ذي القعدة 1432 الموافق لـ 14 أكتوبر 2011، عن طريق مشروع القانون التنظيمي رقم 20.16، وذلك من أجل إعادة النظر في النظام الانتخابي الخاص بالدائرة الانتخابية الوطنية، ثم نسبة العتبة المطلوبة للمشاركة في عملية توزيع المقاعد برسم الدوائر الانتخابية المحلية، وكذا الملائمة مع التعديلات التي تم اعتمادها بمناسبة الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2015 ولاسيما ما يتعلق بإمكانية تقديم الترشيحات من طرف تحالفات الأحزاب السياسية، ثم تحديث الإطار المنظم للحملة الانتخابية برسم انتخابات أعضاء مجلس النواب.
ويمكن القول بأن الانتخابات بالمغرب عرفت تحولا جذريا وواضحا بالمقارنة مع فترة ما قبل دستور 2011، الشيء الذي يحسب للعاهل المغربي الذي ساهم في ترسيخ جو انتخابي تنافسي مرهون بمبادئ الشفافية والنزاهة والجودة، وهو شيء يحسب أيضا للمشرع المغربي من خلال تنصيصه على عدد من القوانين التي أعطت للعملية الانتخابية ببلادنا معنى جديد مرتبط بالحكامة الجيدة وبالمبادئ الكبرى لدستور 2011، وشكل قطيعة مع الفترة السابقة المتسمة بالتزوير والفساد الانتخابي، والتي كانت تضر بشكل أو بآخر بصورة المغرب على الصعيد الدولي. لكن، هذا لا يمنع من التأكيد على أننا لازلنا لم نصل بعد للمبتغى والهدف الكامن في وجود عملية انتخابية ديمقراطية نزيهة وشفافة، نظرا لاستمرارية وجود خروقات كامنة في استعمال المال، وطريقة منح التزكيات، ووجود نخب ضعيفة تخدم فقط نفسها، ولا تنظر إلى الأمام وإلى مستقبل البلاد، إلى جانب ضعف الإقبال الشعبي على التصويت خصوصا في جانب الشباب، الشيء الذي يجب معه العمل على تشديد الرقابة على العملية الانتخابية وفي طريقة التعامل معها، وضرورة مشاركة الجميع في هذه العملية بمواطنة مسؤولة وإيجابية، حتى نصل إلى الهدف المنشود وهو صنع نخب قادرة على لعب أدوارها التنموية المنوطة بها، وقادرة على إنجاح الجهوية المتقدمة، وتكرس بشكل فعلي لمبادئ الحكامة الجيدة على مستوى الانتخابات التشريعية والمحلية.