الدكتورة فتيحة الشافعي
ملخص الأطروحة
بـسم الله الرحمن الرحيم
موضوع الأطروحة يناقش التزاما من أهم الالتزامات بين الزوجين وهو التزام المساكنة على ضوء قانون 1957 وتعديلات 1993 قبل أن يرى مشروع مدونة الأسرة النور. والذي رافقنا مراحله كلها وما صاحبها من إرهاصات على الساحة الفكرية القانونية.
ورغم السرية التامة التي طبعت أعمال اللجنة الملكية لمراجعة المدونة ، فإن الهم المشترك الذي يجمع كل مغربي ومغربية في ترقب صدور قانون للأسرة يحقق العدل والمساواة بين أطرافها ،كان دافعا قويا لنا للمساهمة ولو بنصيب ضئيل في إبراز مظاهر الخلل في قانون مدونة الأحوال الشخصية الإطار القانوني لموضوع البحث، وعجزه عن مسايرة التطورات المجتمعية التي مست كيان الأسرة المغربية ، وآثار ذلك على العلاقة بين الزوجين ، مع اقتراح حلول نرى ونحن نناقش هذه الأطروحة ، أنها جاءت في إطار التوجه السامي لجلالته ولأعمال اللجنة الملكية الموقرة لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية .
وقد عملنا قدر المستطاع ، على إلقاء الضوء على أهم مظاهر الخلل الذي يشوب هذا الالتزام ، في دراسة تحليلية اعتمدت الجانب الفقهي والقانوني والقضائي ، دون إغفال المحيط الاجتماعي والاقتصادي ارتباطا مع الواقع المعيش .
ويظل موضوع البحث مفيدا رغم أننا حصرناه في الفترة الزمنية من 1957 إلى 1993 وقبل صدور قانون الأسرة ،حيث تتجلى أهميته في تمكين الباحث والمهتم من مقارنة ما كان عليه الوضع بالنسبة لموضوع "المساكنة "،وما يترتب عنها من الحقوق والواجبات بين الزوجين ، وكيفية الوفاء بها منهما ، وآثار الإخلال بها من أحدهما أو هما معا ، مقارنة مع المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة في هذا الموضوع ، وسنعمل إن شاء الله على تحيين ذلك في القريب العاجل .
ولي ولكم التوفيق
إن التزام المساكنة بين الزوجين وآثار الإخلال بها ، موضوع يمس كل فرد في أهم خصوصياته التي هي العلاقة الزوجية ، إذ أن المساكنة من أهم آثار عقد الزواج ، بل إنها عماد هذا العقد وأساسه لما تتطلبه من سكن مادي وروحي ، وما قد يعتري هذا السكن من مظاهر الخلل التي قد تعصف به وتحيل تماسكه إلى تفكك وانهيار، خصوصا في ظل التغيرات المجتمعية التي عرفتها الأسرة والتي أثرت على العلاقة بين الزوجين، وعلى الحقوق والواجبات المتبادلة بينهما . ففي الوقت الذي عرفت فيه هذه الأخيرة تزايدا واتساعا في الدول الغربية ، نجدها في أغلب دول العالم الإسلامي مرتبطة بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد التي يصعب زحزحتها من الوعي الفردي، حيث أصبحت الأوضاع بين الزوجين غير متوازنة، ما أدى إلى بروز صدامات وصراعات بين طرفيها، ومن ثم كان من الضروري التساؤل :
ـ حول عدالة توزيع تلك الحقوق والواجبات ،
ـ وهل لهذا التوزيع سند شرعي من القرآن والسنة ،
ـ وعن مدى حرية استعمال الزوجين لتلك الحقوق وكيفية الوفاء بالواجبات،
ـ وما هو دور المشرع في تدعيم هذا التوزيع بجزاءات تضمن الوفاء بها وعدم استعمالها استعمالا جائرا،
ـ وهل هناك توازن في توقيع الجزاء على المخل بها دون تمييز أو تحيز بسبب الجنس ، سواء كان الجزاء مدنيا أو جنائيا؟
هكذا تتبين أهمية هذا الموضوع خاصة في ظروف يعرف فيها المجتمع المغربي حركية تشريعية هامة مست جميع الميادين ، ومنها قانون الأحوال الشخصية الإطار القانوني للبحث ، والذي كان موضوع محاولات تعديل متعددة لم تر النور إلا في سنة 1993 ، مما أتاح لنا فرصة كبيرة واستثنائية للخوض في الجدل القائم حول هذا القانون ، والإسهام المتواضع في محاولة إعادة صياغة بعض مقتضياته مع اقتراح حلول للإشكاليات المتصلة بموضوع هذه المناقشة ، لتحقيق نوع من التوازن في المخاطبة بالحقوق والواجبات بين الزوجين، سواء عند الوفاء أو الإخلال بها ، يتفق وسنة التطور والتغيير للأفضل دون المساس أو الابتعاد عن نظم الإسلام وقيمه، وذلك في محاولة لحماية كيان الأسرة من التفكك على أساس من الترابط وصيانة الحقوق وأداء الواجبات.
فموضوع البحث يدخل إذن في نطاق محاولة استكشاف جانب مهم في العلاقة الزوجية لم يعر مشرع مدونة الأحوال الشخصية أهمية لتحديد مضمونه ونطاقه رغم الحساسية التي تميزه، ولدور الوفاء به من طرف الزوجين معا في استتباب الاستقرار داخل الأسرة ، وما للإخلال به منهما أو من أحدهما من إضرار بالعلاقة الزوجية والدفع بها إلى الانهيار ، ونقصد به "التزام المساكنة ".
فالمشرع المغربي لم يتعرض لهذا الالتزام إلا بصورة مقتضبة في معرض حديثه عن الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين في المادة 34 م.ح.ش ، كما أن آثار الإخلال به لا تندرج تحت ترتيب منهجي يسهل الرجوع إليه كأهم التزام تبادلي بين الزوجين .
وقد كان الهدف من دراسة هذا الموضوع المساهمة في رفع الغموض الذي يكتنف الفقرة الأولى من المادة 34 من م.ح.ش التي اعتبرت من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين " المساكنة الشرعية " ، وكذا الرغبة في جمع شتات أحكام هذا الحق والواجب التبادلي سواء :
ـ في الفقه الإسلامي ، خاصة الفقه المالكي الذي يعتبر المصدر التكميلي لمدونة الأحوال الشخصية الإطار القانوني للموضوع ،
ـ أوفي قانون الالتزامات والعقود المغربي فيما يتعلق بالقواعد العامة للمسؤولية المدنية، انطلاقا من أن الحقوق مقيدة بعدم التعسف في استعمالها استعمالا يلحق ضررا بالغير , وأن الامتناع عن الوفاء بالالتزامات القانونية أو العقدية يشكل إخلالا موجبا للتعويض ، أو الضمان إن توافرت شروطه كما هو معروف في الفقه الإسلامي .
ـ أو في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية مادام الإخلال ببعض صور هذا الالتزام تترتب عليه جزاءات جنائية كانت وما تزال مثار انتقاد من طرف بعض الفقه الحديث لتعارضها مع طبيعة العلاقة الزوجية وعدم فعاليتها من جهة ، أو من طرف البعض الآخر الذي لا يراها كافية من جهة أخرى .
وللتوصل إلى هذه الغاية ، كان من الضروري علينا ، تحديد المفهوم القانوني للمساكنة بإبراز عناصرها ومضمون تلك العناصر وكيفية الوفاء بها .
على أن تحديد هذا المفهوم تطلب منا دراسة موضوع هام آخر أصبح يطرح الآن بحدة على الساحة القانونية ويبدو كبديل قد يخفف من حدة المشاكل التي تصادف الزوجين بعد عقد الزواج أو يتلافاها ، وهو موضوع الشروط الاتفاقية ومدى تأثيرها على المفهوم القانوني للمساكنة إما بتحجيم نطاقه أو التوسيع منه فيما يراه الزوجان في مصلحتهما .
ولم يكتمل هذا التصور إلا بتعقب الآثار المترتبة عن عدم الوفاء بالتزام المساكنة سواء بالنسبة للالتزامات القانونية المترتبة عنه ، أو بالنسبة لتلك الالتزامات التي ارتضى الزوجان إضافتها لعقد الزواج، مع مناقشة تلك الآثار ومدى تحقيقها للتوازن المرغوب في العلاقة بين الزوجين ، وذلك على ضوء ما جاء في الفقه والمدونة والتشريعات المقارنة، ودون إغفال موقف القضاء المغربي والمقارن في تعامله مع هذه الآثار .
وهكذا يستمد الموضوع أهميته من وجهتين : علمية وعملية :
فمن الناحية العلمية : لم ينظم مشرع مدونة 1957 المساكنة بين الزوجين ، ولا حدد عناصرها ، واكتفى بالنص عليها كحق من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين في المادة 34 م.ح.ش ب، فغاب المفهوم القانوني لهذا الالتزام في عمومية النص، وانعكس ذلك سلبا على تحديد مضمونه، وجاءت صور الإخلال به متفرقة في كتب الفقه الإسلامي وفي قوانين وضعية أخرى غير نصوص المدونة . إضافة إلى أن المساكنة بين الزوجين التزام قانوني ، والالتزام له وجهان، ، فهو التزام في جانب الشخص الملزم به ، مقابل حق للطرف الآخر .
والحقوق والواجبات الزوجية موضوع يطرح إشكاليات تتطلب البحث والتحليل . فالشريعة الإسلامية أولت اهتماما كبيرا لتنظيم حقوق وواجبات الزوجين، وذهب فقهاء الشريعة الأقدمون في تفسير هذه الحقوق والواجبات على أسس تباينت واختلفت، إلا أنها وصلت إلى نتيجة واحدة هي توزيعها توزيعا يخضع لمفهومي الطاعة والقوامة . وسار على نهجهم العديد من الفقهاء المحدثين الذين أصبغوا على تلك التفسيرات صبغة دينية ، بل ذهب بعضهم إلى نعت كل من يحاول الاقتراب من هذه المنطقة المحرمة بالكفر والإلحاد، وهذا ما يفسر فشل كل محاولة لتغيير أو تعديل قوانين الأسرة في الدول العربية.
وإذا ما استثنينا الدراسات الفقهية التي تعرضت لحقوق الزوجين وواجباتهما في معرض حديثها عن آثار عقد الزواج ، يبقى موضوع حقوق وواجبات الزوجين من الدراسات القانونية والاجتماعية الهامة التي يجب طرحها بطريقة علمية وموضوعية، حان الوقت لتنظيمها بعيدا عن ذلك المنظور الفقهي المغالي في إعطاء السلطة الزوجية هالة دينية كبرى تتعارض من جهة ، مع مبدأ التوازن في توزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين كما نصت عليه الشريعة الإسلامية في إطار مبادئها للعدل والإحسان وعدم الجور ، ولا تتلاءم من جهة أخرى مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مست بنية الأسرة العربية بصفة عامة ، والأسرة المغربية بصفة خاصة.
ثم إن الوفاء بالالتزامات القانونية المترتبة عن التزام المساكنة ، وكذا الوفاء بالشروط الاتفاقية المرتبطة بمفاهيمها القانونية كما سيتم تحديدها ، يتطلب بالضرورة وجود جزاء حال الإخلال بها ، وذلك عند الامتناع عن تنفيذها أو تنفيذها تنفيذا جزئيا أو مشوبا بالتعسف، الشيء الذي دفعنا إلى طرح عدة تساؤلات :
ـ هل نظم القانون المغربي ، وخاصة المدونة ، جزاء عند الإخلال بالالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة أو عند الإخلال بالشروط الاتفاقية بين الزوجين ؟
ـ وهل في الرجوع إلى الفقه الإسلامي بصفة عامة ، وإلى الفقه المالكي بحكم الإحالة الصريحة عليه في مدونة الأحوال الشخصية، استقراء للموقف الفقهي العام من الإخلال بالالتزامات القانونية والشروط الاتفاقية، ما يرضي فضول الباحث ويجيب عن هذه التساؤلات ؟
وقد جرتنا هذه التساؤلات إلى طرح تساؤلات أخرى لا تقل عنها أهمية وهي :
ـ في حالة ترتيب آثار للإخلال بالتزام المساكنة من أحد طرفي العلاقة الزوجية، هل حققت هذه الآثار ، خاصة في الفقه الإسلامي ، التوازن والعدل المرغوبين في العلاقة بين الزوجين ؟
ـ أم يجب الرجوع في ذلك إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في أهم مقصد من مقاصدها وهو تحقيق العدل والمساواة في هذه العلاقة السامية التي قال عنها الحق تعالى بأنها سكن ومودة ورحمة ؟
ـ أو يجب اللجوء إلى القوانين الوضعية والمواثيق الدولية لإيجاد حلول لهذه الإشكالية . مع الأخذ بعين الاعتبار ما يثيره هذا الموضوع من نقاش حاد وغير متزن في غالب الأحوال بين الاتجاهين المحافظ والحداثي، الأمر الذي يؤثر سلبا على المجتمع المغربي بكافة توجهاته في موضوع يفترض مناقشته بتعقل وحكمة من أجل مصلحة الأسرة والمجتمع ككل، ولعل هذا هو السبب في فشل كل محاولات تعديل مدونة الأحوال الشخصية ابتداء من سنة 1961 مرورا بمشروع التعديل الذي تقدمت به وزارة العدل سنة 1981 ولم ير النور إلى تعديل سنة 1993 ، أول تعديل محتشم كان من أهم ميزاته نزع القدسية عن نصوص مدونة الأحوال الشخصية ، وهو مكسب هام مهد لما جاء فيما بعد من مطالبات أكثر جرأة وموافقة لمطالب المجتمع المدني ومبادئ حقوق الإنسان ، وإن صاحب هذا التعديل الأخير لعدم تحقيقه لسقف المطالب ، عدة إرهاصات أهمها ما استتبع مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية من احتجاجات الاتجاه المحافظ ، وصلت إلى حد التكفير واستحلال دم القائلين بها ، والتعثر الذي شاب أعمال اللجنة الملكية لمراجعة المدونة في أول مراحل أشغالها نتيجة هذا الصدام الفكري الذي لم يكن إلا انعكاسا لاتجاهات الرأي المختلفة إزاء تأويل الأحكام الفقهية والاختيارات السياسية والاقتصادية وتأثيرها على الرأي العام المغربي في كل ما يمس موضوع الأسرة والمرأة، إضافة إلى ما يلاحظ على أرض الواقع من ضعف الوازع الديني الذي كان يمثل ضمير المؤمن وكابح غضبه وجوره وتعنته عند ممارسة الحقوق والوفاء بالواجبات التي يغلب عليها الطابع الأخلاقي ما يفرض النظر إلى الموضوع بجدية وحكمة .
ـ فما هي الحلول الكفيلة بتمكين المتضرر من اقتضاء حقه وتحميل المخل مسؤولية إخلاله بما لا يتعارض مع أصالتنا من جهة ،ومع التزاماتنا الدولية من جهة أخرى ؟
لقد برزت في السنوات العشر الأخيرة دراسات هامة تتناول بمنظور مغاير توزيع هذه الحقوق والالتزامات في نطاق دراسة انتقادية لإطارها القانوني ، كما أن تعديلات 10 شتنبر 1993 دفعت بالكثير من الباحثين القانونيين والاجتماعيين في ميدان الأسرة والعلاقة بين الزوجين إلى تناول هذا الموضوع بجرأة كبيرة نزعت الصبغة القدسية الموروثة عن قانون الأحوال الشخصية الذي ظل لسنين طويلة دائرة محرمة على كل من يحاول تناوله بالنقد أو التغيير ، و كان لنضال الجمعيات الديموقراطية دور كبير في الدفع بالمشرع إلى إعادة النظر في القانون المنظم للأسرة وإعادة توزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين على أسس تراعي التحولات المجتمعية التي مست كيان الأسرة وأثرت على العلاقات بين أطرافها دون المساس بالثوابت الإسلامية .
و من الناحية العملية : تعتبر مدونة الأحوال الشخصية الإطار القانوني لموضوع البحث، مما جعل دراسة هذا النص القانوني المنظم للعلاقة بين الزوجين ولحقوقهما وواجباتهما المتبادلة أمرا على جانب كبير من الأهمية ، خصوصا والكل يعلم الخضوع التام والتشبث الكامل لهذا النص بالفقه الإسلامي خاصة الفقه المالكي .
كما انصب موضوع البحث على العلاقة الزوجية والأسرة وعلى أهم التزام يجمع بين الزوجين ، ولا يمكن دراسة هذه المحاور بعيدا عن التحولات التي عرفها المجتمع الدولي والتي أثرت بشكل أو بآخر على هذه المفاهيم في المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المجتمع المغربي ، الشيء الذي انعكس بكيفية واضحة على توزيع الحقوق والالتزامات بين الزوجين ، وخاصة التزام المساكنة موضوع بحثنا ، انعكاسا جعل بعض المفاهيم الفقهية عاجزة عن إيجاد حلول للمشاكل التي ترتبت عن هذاالتطور. فخروج المرأة للعمل المأجور ، وتوفرها على استقلال مادي ، ومساهمتها في التدبير المادي للأسرة ، ورغبتها في متابعة تعليمها ، وسفرها في الكثير من الأحيان بدون زوجها ، ووعيها بدورها في العلاقة الزوجية ، بل وإحساسها بضرورة وضع شروط في عقد زواجها ضمانا وحماية لها من تعسف الزوج في استعمال سلطته الزوجية، كلها تحولات مست مفهومي الطاعة والقوامة اللذين تبين لنا خلال هذا البحث طغيانهما على التزام المساكنة بين الزوجين سواء عند الوفاء به ، أو عند ترتيب آثار لإخلال أحد الزوجين به ، وما أفرزه التشبث الفقهي المبالغ فيه بهذين المبدأين من نتائج غير منطقية ، بعيدة كل البعد عن المنظور الإسلامي لتوزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين.
وقد تطلب منا تحديد الموضوع وضع إطار لأهم الإشكاليات التي يطرحها ورسم معالمها واستبعاد كل المواضيع التي قد تشوش على المسائل الرئيسية التي تثيرها .
وهكذا كان لزاما علينا في إطار هذا التصور :
ـ استبعاد الأحكام التي يرجع فيها إلى ضمير المسلم وأخلاقه، فلسنا هنا بصدد التزامات خلقية أدبية يمكن للفرد إغفالها دون أن يخشى ردعا ولا تدخلا من جانب السلطة العامة، بل بصدد التزامات يحميها القانون وتسهر السلطة على تنفيذها حفاظا على استقرار الأسرة وتماسكها ، فتأخذ المخل فيها بإخلاله ، وترغمه على القيام بما أغفله منها، بل وتعاقبه عند الإخلال بواجباته وتمنح للمتضرر في العلاقة الزوجية الوسائل القانونية ـ وفي مقدمتها القضاء ـ لجبر ضرره.
ذلك أن التزام المساكنة الشرعية له عناصر قانونية تترتب ، عند الإخلال بها من أحد طرفي العلاقة الزوجية ، آثار أو جزاءات تتراوح بين الإجبار على التنفيذ ،أو فصم العلاقة الزوجية مع التعويض عن الضرر إن كان له محل ، إضافة إلى آثار أخرى نجدها خاصة في القانون الجنائي ، وبالتالي فإن هذا الالتزام واجب التنفيذ قضاء لا ديانة.
وقد تطلب منا تحديد هذا الجانب البحث في أمرين اثنين :
أولهما تعريف المساكنة و البحث عن مضمون الالتزامات القانونية المترتبة عنها،
وثانيهما ،أن نطاق هذه الالتزامات مرتبط أساسا بمدى تأثير الشروط الاتفاقية على مضمونها وكيفية الوفاء بها ، مما يؤدي حتما إلى توسيع هذا النطاق أو التضييق منه.
ولتحليل ذلك طرحنا التساؤلات التالية :
1 ـ كيف يمكننا استنباط العناصر أو الالتزامات المترتبة عن المساكنة ، أمام عمومية وغموض المادة 34 م.ح.ش المتعلقة بهذا الالتزام الذي وصفته مدونة الأحوال الشخصية كحق وواجب متبادل بين الزوجين ؟
ـ هل في الرجوع إلى مشتقات لفظ المساكنة في قواميس اللغة ما يقربنا من هذا التحديد؟
ـ هل في الرجوع إلى الفقه الإسلامي ، وخاصة الفقه المالكي بمقتضى الإحالة الصريحة عليه في المدونة ، ما يسعفنا في ذلك ؟
ـ هل الرجوع إلى الآيات القرآنية التي ورد فيها أصل كلمة "المساكنة " ومشتقاته ما يساعدنا على استنباط هذه العناصر ؟
وقد تتبعنا هذه الخطوات احتراما لقاعدة التدرج فوجدنا أنه :
ـ بالرجوع إلى التحليل اللغوي للكلمة التي تشتق منها " المساكنة " في قواميس اللغة ، مجموعة من الالتزامات المترتبة عنها يمكن تلخيصها في ثلاثة أساسية:
• المسكن أو المكان الذي تتم فيه المعاشرة ،
• المعاشرة والتعايش بطريقة الأزواج ،
• السكن الروحي والمودة والرحمة.
ـ أما بالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية فقد لاحظنا عجز النص القانوني عن إسعافنا بتحديد واضح للمفهوم القانوني للمساكنة يمكننا من إبراز عناصرها ومضمونها . والقاعدة العامة أن الالتزام حين يكون غير واضح وغير محدد يتم تعيينه عن طريق تحديد ما للغير من حقوق إزاء الآخر. ويمكننا أن نضع التزام المساكنة في هذا الإطار من الالتزامات التي تتصف بكثير من المرونة عند تحديد مفهومها ونطاقها . وبالرجوع للنصوص المنظمة لحقوق وواجبات كل من الزوج والزوجة والتي نص عليها مشرع م.ح.ش في المادتين 35 و36 ، لاحظنا عدم التكافؤ في توزيع الحقوق بين تلك الممنوحة للزوج أو الممنوحة للزوجة ما زاد من صعوبة استنباط مفهوم قانوني للمساكنة كالتزام وحق وصفه المشرع بأنه تبادلي ، وخالف هذا التبادل بالتوزيع غير العادل لها بين الزوجين ، الأمر الذي دفعنا للتساؤل عن الأساس الذي اعتمده المشرع في هذا التوزيع اللامتكافئ وهل للمرجعية الفقهية لمدونة الأحوال الشخصية دور في ذلك؟
ـ في المرحلة التالية ، حاولنا استقراء المفهوم القانوني لالتزام المساكنة بين الزوجين لدى الفقه الإسلامي عموما والفقه المالكي على وجه الخصوص ، مع ملاحظة أنه نادرا ما نعثر على لفظ المساكنة في الكتب الفقهية ، وإن وجد فهو يعني الجانب المادي فقط أي السكن . وإن كانت عناصرها القانونية التي سنتوصل إلى تحديد مفهومها واضحة ، إلا أنها موزعة في أبواب عديدة ومتفرقة ، كما أن آثارها متفرقة وغارقة في جزئيات وخلافات فقهية حتى داخل المذهب الواحد يعجز القارئ العادي عن وضعها في إطار هذا الالتزام .
وقد انعكس غموض النص القانوني الخاص بالمساكنة ، وتشتت أحكام هذا الالتزام وتفرق آثار الإخلال به في الكتب الفقهية بمختلف مذاهبها ، على محاولة الفقه المغربي إيجاد مفهوم قانوني لهذا الالتزام ، فجاءت محاولات أغلبه مطبوعة هي الأخرى بنفس الغموض وعدم التحديد .
كما انعكس هذا الاختلاف والغموض في تحديد المفهوم القانوني لهذا الالتزام على أغلب التشريعات المقارنة العربية منها والأجنبية، فيما لم يستقر الاجتهاد القضائي من جهته على حل العديد من مشاكله . فإذا علمنا أن تحديد المفهوم القانوني لالتزام المساكنة ضروري لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات المترتبة عنه، ولتوضيح صور الإخلال بها مع ما يستتبع ذلك من آثار، وأن عدم التحديد هذا يتناقض مع الوضوح الذي يتطلبه هذا الالتزام ، أدركنا أهمية البحث عن مفهومه القانوني.
ـ وهنا بدا ملحا الرجوع إلى السند الشرعي " للمساكنة " لاستنباط هذا المفهوم ، إلا أن البحث أبان عدم ذكر هذا اللفظ بطريقة مباشرة في النصوص القرآنية، فيما وجدنا مشتقاتها واردة في آيات عديدة :
قال الله سبحانه وتعالى :
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها " ،
فالسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار، وهي في الآية على الإلزام وليس على التخيير، لأن السكون ألزم لوازم الأسرة ، إذا تحقق حققت أهدافها.
وفي آية أخرى "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " ،
وفي أخرى "وجعل منها زوجها ليسكن إليها "،
" والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " .
وقد وجدنا أن التفسيرات التي أعطيت لمشتقات لفظ المساكنة في الآيات المذكورة منحت هذا اللفظ مفهوما واسعا ونطاقا شمل الناحية الجسدية والمعنوية ، دون إغفال المكان الذي يجمع بين الزوجين في إطار من حسن المعاشرة والمودة والرحمة . فالعلاقة بين الزوج والزوجة مبناها المساكنة، وهي حق مشترك ومتبادل بين الزوجين بالمعنى المادي والمعنوي للكلمة. وليس السكن الذي يقصد به البيت فقط وإن شمله.
2 ـ وبالنسبة لمدى تأثير الشروط ـ التي ارتضى أحد الزوجين أو هما معا التحمل بها ـ على نطاق الالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة ، توصلنا إلى أنها بنود أو شروط تضاف إلى عقد الزواج ، تكون فيها مصلحة لأحدهما أو كليهما ويلتزمان باحترامها وتنفيذها شريطة ألا تتعارض مع طبيعة العقد أو مع أحكام قانون الأسرة، وذلك باعتبار أن الآثار القانونية التي تترتب عن عقد الزواج بحكم القانون ودون الحاجة إلى النص عليها في بنود العقد لا تمنع طرفيه من تحمل التزامات إضافية شريطة عدم مساسها بالنظام العام.
وقد أثار بحث هذا الموضوع الأسئلة التالية :
ـ هل يحق للزوجين أن يقرنا عقد الزواج بشروط أم لا ؟
ـ وهل يمكن لإرادة الزوجين أن تغير من المفهوم القانوني للمساكنة ـ وهي إحدى أهم آثار عقد الزواج ـ بالزيادة في بعض الالتزامات المترتبة عنها أو الانتقاص منها ؟
وحتى نتمكن من الإجابة عن هذين السؤالين كان من اللازم تحديد نوع الشروط التي تثير جدلا فقهيا وقانونيا وقضائيا .
وللوصول إلى هذا التحديد كان من الضروري توضيح نقطتين هامتين هما :
ـ أن هناك شروطا تعتبر ميدانا حرا لإرادة العاقدين أطلق فيه الشرع لإرادتهم سلطانها ضمن حدود حقوقهم ، شريطة ألا تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام،
ـ وأن هناك شروطا ممنوعة شرعا لا سلطان لإرادة العاقدين فيها، لأنها تمس أحكاما أساسية تعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام .
وإذا كان هناك إجماع فقهي حول الشروط التي تخالف مقتضى عقد الزواج وتخل بمقصوده الأصلي بتقرير بطلانها بل وبطلان العقود التي ارتبطت بها، وإذا كان نفس الإجماع منعقدا كذلك على صحة الشروط التي تؤكد التزامات الزوجين ولا فائدة من اشتراطها ، فإن الخلاف الفقهي يرتكز أساسا حول الشروط التي لا تخالف روح العقد ولكنها تغير من التزامات طرفيه، وسبب هذا الخلاف الفقهي يرجع فيما يخص عقد الزواج إلى مفهومي الطاعة والقوامة اللذين يمكن المساس بهما عن طريق إدراج مثل هذه الشروط، وهذا النوع من الشروط هو الذي كان موضوع بحثنا .
3ـ وفي إطار تحديد الموضوع دائما ، فإن مدونة الأحوال الشخصية لا تعترف إلا بالأسرة الشرعية ، لذلك اختار المشرع وصف المساكنة " بالشرعية " ، مع ملاحظة أن مصطلح " شرعي" يحيلنا إلى أمرين :
ـ الأول أن الإطار القانوني للمساكنة وهو مدونة الأحوال الشخصية كان وما يزال مرتبطا بالنصوص الفقهية الإسلامية . وعليه، فالمقصود بالمساكنة المراد بحثها في هذا الموضوع ، المساكنة التي تخضع في مفهومها وصور إخلالها وآثار ذلك الإخلال للنصوص الفقهية أي الشرعية ، وخاصة منها الفقه المالكي الذي تحيل عليه مدونة الأحوال الشخصية بصريح العبارة في موادها 82 و172 و216 و 297 .
ـ الثاني أن " المساكنة الشرعية " تعني أيضا " المساكنة القانونية " ، أي المساكنة في إطار عقد الزواج المستوفي لشروطه القانونية ، تمييزا لها عن أنواع من المساكنة في العصر الجاهلي ، أو ما بدت بوادره في الظهور حاليا في الوقت الراهن ، كالمساكنة الحرة أوالمساكنة الفعلية التي لا يترتب عنها أي التزام لكلا الطرفين. فهذا الشكل الأخير وإن كان لا يشكل في مجتمعاته موضوعا للنقاش ، لكنه في الدول العربية الإسلامية خروج عن قواعد الارتباط بمعناه الشرعي والاجتماعي والأخلاقي.
وقد فضلنا التخلي عن وصف المساكنة "بالشرعية " وتحديدها في المساكنة بين الزوجين، أي المساكنة القانونية في إطار عقد الزواج المستوفي لشروطه الجوهرية والشكلية ووفقا لمرجعيته الفقهية، فما يعبر عنه في مباحث الفقه الإسلامي بلفظ "الشرع" ، يعبر عنه الباحثون في نظرية الالتزامات بلفظ " القانون" . لذا سنستبعد جميع أشكال المساكنة التي لا تعترف بها المدونة أو الفقه المالكي باعتباره المصدر التكميلي لهذا النص التشريعي .
ـ كما أن الإحالة الصريحة بالمدونة على الفقه المالكي كمصدر تكميلي لها يحتم استقراء موقفه من كثير من المواضيع المتعلقة بهذا الالتزام ، خاصة في غياب نص صريح بالمدونة. إلا أن ضرورة توضيح بعض المواضيع برؤية أكثر شمولية استوجب إبراز بعض الأحكام المتعلقة بالموضوع من وجهة نظر أئمة المذاهب الأخرى ، خاصة منها تلك التي من شأنها إغناء الموضوع أو الإتيان بحلول إيجابية تفيد الإشكاليات المطروحة.
ـ كما عرف الإطار القانوني للموضوع ، وهو هنا مدونة الأحوال الشخصية ، محاولات تعديل متكررة أفرزت بعد جهد جهيد تعديلات سنة 1993 التي انعكست بعض موادها المعدلة على مفهوم المساكنة بين الزوجين، الشيء الذي حتم علينا إبراز تأثير هذه التعديلات الأخيرة إيجابا أو سلبا على هذا الالتزام .
ـ ومن النقط الهامة التي تتطلب التحديد أيضا مدى إمكانية الرجوع إلى القانون المدني في قواعده العامة ـ باعتباره أصلا والمدونة فرعا ـ في حالة عدم وجود نص في هذه الأخيرة أو عدم مسايرة أحكام الفقه المالكي للتطورات المستجدة والمشاكل التي تفرزها العلاقة الزوجية ، باعتبار أن عقد الزواج عقد مدني يقوم على التراضي بين الطرفين، وأن الأضرار التي قد تصيب أحد عاقديه نتيجة إخلال الطرف الآخر بأحد التزاماته القانونية أو شروطه الاتفاقية يجب ألا يكتفى فيها بالفسخ ـ وهو ما تقتصر مدونة الأحوال الشخصية على تنظيمه ـ بل يجب أن يعطى للمتضرر الحق في طلب التعويض طبقا للقواعد العامة للمسؤولية المدنية .
فإذا تعذر ذلك بحكم " الصبغة الدينية" التي تسود أحكام المدونة
:
ـ فما هي الوسائل المتاحة أمام المتضرر من الزوجين لجبر الأضرار الحاصلة له من الإخلال بالالتزامات القانونية أو الاتفاقية ؟
ـ وهل في الرجوع إلى أحكام الفقه المالكي حل لهذه الإشكالية ؟
ـ وفي حالة عدم وجود أحكام كافية أو عدم مسايرتها للواقع المعيش ، هل في الرجوع إلى القواعد العامة للمسؤولية المدنية مساس بالصبغة " الدينية " التي تهيمن على مدونة الأحوال الشخصية ، مع ملاحظة أن هذه القواعد لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية بل تجد جذورها في الفقه الإسلامي تحت باب الضمان .
ـ وهل هناك جزاءات أخرى يمكن ترتيبها على المخل من الزوجين بالالتجاء إلى قوانين وضعية أخرى كالقانون الجنائي ؟ وهل هذه الجزاءات كافية؟ أم يجب تطعيمها بجزاءات أخرى ؟ وما هي نوعيتها؟.
يتضح إذن أن آثار الإخلال بالتزام المساكنة بين الزوجين توجد متفرقة في قوانين وضعية أخرى غير نص المدونة ، كالقانون الجنائي، والقانون المدني ، والمسطرتين المدنية والجنائية.
وبالتالي خضعت معالجة الموضوع لمنهج تحليلي قانوني ، اعتمد أساسا القانون المغربي وكيفية تناوله للعناصر الأساسية لموضوع البحث ، وإبراز أشكال الخلل فيه. ولم يتم التطرق لموقف الشريعة الإسلامية كأحد مصادر القانون المنظم لوضعية الأسرة إلا فيما يخص الرجوع إليها كسند شرعي لبعض الآيات التي تنظم الحقوق والواجبات بين الزوجين . فالشريعة اندمج فيها الاجتهاد الفقهي عن طريق تفسير نصوصها الأصلية في الكتاب والسنة، وهذا ما جعلنا نركز الحديث على الاجتهاد إلى جانب المصادر الأخرى .
فالنص الذي اعتمدناه هو قانون مدونة الأحوال الشخصية الصادر سنة 1957 ، وكذا التعديل الذي أدخل على بعض نصوصه سنة 1993 ، مع عدم إغفال الإحالة الصريحة على المذهب المالكي.
كما اعتمدنا المقتضيات والأحكام المتفرقة الخاصة بموضوع البحث والتي وجدناها في القانون المغربي ،كالقانون المدني والقانون الجنائي والمسطرتين المدنية و الجنائية.....
ثم إن المدونة قانون لا يمكن فصله عن النسق الاجتماعي الذي يحدد العلاقات بين الأفراد ونسق سلوكهم ، مما تطلب دراسة هذا الموضوع دون إغفال مقارنته بالواقع المعيش ومدى مسايرة القانون لهذا الواقع .
بعد تحديد الإطار العام للموضوع كما تقدم ، نمهد للإشكالية الأساسية التي تنطلق ، من أن أغلب الفقه سار على ضرورة وجود رئاسة للأسرة كمؤسسة مثل باقي المؤسسات التي ينشئها المجتمع الإنساني. إلا أن مضمون هذه الرئاسة هو الذي ينبغي التركيز عليه وتحديد مداه بالصورة التي تجعله يؤدي الوظائف المنوطة به .
فبالنسبة للأسرة العربية الإسلامية عامة، والأسرة المغربية بصفة خاصة ، ارتبطت ممارسة الرئاسة فيها، في الواقع التاريخي ، بكثير من صور الاستبداد والطغيان، ولذلك فإننا نجد الاجتهاد الفقهي ، عند تطبيقه لهذه الرئاسة في الأحكام الجزئية وفي العلاقات اليومية بين الزوجين ، متأثرا بهذا الواقع ، يضفي على رئاسة الرجل صلاحيات تسهل عليه ممارسة هذا الاستبداد الموروث . وهذه الصلاحيات جد متعددة ويثير استعمالها استعمالا متعسفا مشاكل تعصف بكيان الأسرة كخلية أساسية لبناء مجتمع سليم ، مما يوضح انحراف مفهوم الرئاسة في الممارسة الفعلية عن نهج التسيير والتوجيه في إطار التشاور والتشارك بين الزوجين في اتخاذ القرارات المتعلقة بالحياة الزوجية ، والمودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف ، كما تنص على ذلك الشريعة الإسلامية .
فما هي مجالات تطبيق الرئاسة والصلاحيات المخولة للزوج فيما يخص المفهوم القانوني للمساكنة وآثار الإخلال به ؟
إن هذه الصلاحيات وصور استعمالاتها نجدها بارزة فيما يخص موضوع البحث في:
ـ إعداد بيت الزوجية واختياره ،
ـ رسم حدود المكان الذي تتحرك فيه الزوجة،
ـ سلطة الزوج على جسد المرأة وحبسها داخل البيت بحجة الحفاظ على شرفها وسمعتها،
ـ استعمال حقه في التأديب إلى درجة قد تتعدى حدوده الشرعية في غالب الأحيان،
ـ إنهاء عقد الزواج بإرادته المنفردة ،
ـ عدم الالتزام بالقيود الشرعية للتعدد…….
هذه الصلاحيات التي تعتمد في تقريرها مبدأ الإنفاق مقابل الطاعة وما يستتبعه من واجبات تقيد المرأة وتشل حركاتها داخل بيت الزوجية وخارجه ، ما هو مصدرها وما هي الأسس التي تعتمد عليها؟
ـ هل لها سند شرعي في القرآن والسنة ، أم هي نتاج حقب تاريخية من العادات الموروثة؟ أم هي نتاج اجتهاد فقهي يمكن مراجعته على ضوء التحولات التي مست بنية الأسرة المغربية ، مادام الاجتهاد مجهود بشري قابل للصواب والخطأ ، وليس كلاما مقدسا ؟
ـ وهل المساكنة بين الزوجين حق وواجب تبادلي كما تنص على ذلك الفقرة الأولى من المادة 34 من م.ح.ش ؟ أم أن التفسيرات الفقهية التي أعطيت للسلطة الزوجية لا تحقق هذا التبادل ، فانعكس كل ذلك بالتالي سلبا عند إخلال أحد الطرفين بهذا الالتزام مما يجعل توقيع الجزاء على المخل يختلف بحسب ما إذا كان هذا الأخير الزوج أو الزوجة (التمييز في توقيع جزاء الإخلال
حسب الجنس) ؟
ـ وهل مفهوم التبادل كما تحاول المدونة أن تبرزه مفهوم مطبق على أرض الواقع؟
إن مفهوم التبادل أو التقابل في القيام بالحقوق وتحمل الوفاء بالواجبات يوحي بالمساواة والعدل، لكن تتبع آثاره في الفقه والقانون والواقع جعلنا نصطدم بحالة من التمييز وعدم التوازن ، مما يفرغ مفهوم التبادل من محتواه الحقيقي .
ـ فما هي الأسباب الحقيقية لذلك؟ وكيف يمكننا تحقيق التوازن في توزيع الحقوق والتحمل بالواجبات ، ومنها التزام المساكنة، بطريقة تتماشى مع المنظور الإسلامي لهذا الواجب المرتكز على العدل والمساواة داخل العلاقة الزوجية ؟
إن هذا التقديم الوجيز الذي يوضح الخلفية التاريخية والثقافية لصلاحيات الزوج ، وسيطرة مبدأي الطاعة والقوامة في تحديد كيفية الوفاء بالتزام المساكنة وتحمل آثار الإخلال بها ، هو مرحلة ضرورية لإبراز وفهم الإشكالية الأساسية التي كانت منطلقا لهذا البحث .
فهناك نص قرآني يشكل السند الشرعي لالتزام المساكنة هو الآية الكريمة:
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " .
وفي المقابل ، نجد نصا قرآنيا آخر يقرر أثرا للإخلال بالتزام السكن من طرف الزوجة وهو قوله تعالى: "... واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ".
وإذا أخل الزوج بهذا الالتزام فالآثار تتلخص في الصلح . يقول الحق تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا،والصلح خير" .
أما إذا كان الإخلال من طرف الزوجين معا فإن النص القرآني رتب عليه تدخل التحكيم لمعالجة الأمر بين الزوجين . يقول سبحانه وتعالى :" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " .
فإذن هناك نص قرآني يحث على المساكنة والمودة والرحمة والعشرة الطيبة ، ونص قرآني آخر يرتب أثرا على إخلال الزوجة بالمساكنة قد يبدو لأول وهلة مناقضا لهذا الالتزام، ونص قرآني ثالث يقتصر على مسطرة الصلح لمواجهة إخلال الزوج ، بينما يتعرض النص القرآني الأخير لمسطرة التحكيم كمحاولة لعلاج إخلال الزوجين معا أو ما يعرف شرعا وفقها "بالشقاق" .
فكيف يمكن التوفيق بين هذه النصوص رغبة في الوصول إلى تحقيق التوازن بين طرفين تفترض المساكنة توفرهما على مصالح موحدة ومعاملة أساسها المودة والرحمة؟.
لتوضيح الإشكالية نقول : إن هناك التزاما متبادلا بين الزوجين هو التزام المساكنة التي تعتبر النتيجة الطبيعية والمباشرة لعقد الزواج. فإذا وقع إخلال الزوجة بهذا الالتزام نجد له آثارا في الفقه الإسلامي ـ اعتمادا على تفسيره لآية نشوز الزوجة ـ تتلخص في السلطة التأديبية الممنوحة للزوج مقابل قيام الزوجة بالصلح حال إخلال الزوج بهذا الالتزام .
خطاب موحد بضرورة التساكن بين الزوجين واحترام هذا الالتزام التبادلي بينهما ، لكن المخاطبة تصبح غير متوازنة عند إخلال أحد الزوجين به، وذلك بحسب ما إذا كان المخل الزوج أو الزوجة. فهل انعكس هذا على النصوص القانونية الوضعية؟
وهل هذا التناقض جوهري وصحيح ؟ مع العلم بأننا نتكلم عن نصوص قرآنية منزهة عن الغلط والظلم .
مما يدفعنا إلى التساؤل التالي : هل التفسير الفقهي الذي اعتمد الرئاسة الزوجية ومبدأي الطاعة والقوامة كأساس لتحديد مدى حقوق وواجبات الزوجين هو الذي جعل النصين القرآنيين يبدوان متعارضين ظاهريا؟
إن الإشكالية الأساسية للبحث تستمد أهميتها إذن من محاولة البحث في هذا "التعارض الظاهري" الذي اعتمده الفقه لتبرير أخذه بمبدأي القوامة والطاعة دون البحث عن أسباب نزول تلك الآيات والوضع الاجتماعي الذي كان سائدا أثناء نزولها والحكمة الإلهية من تقريرها انطلاقا من مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة ومقاصدها الأساسية في العدل والقضاء على الظلم في العلاقات بين الأفراد ، وبالأحرى في العلاقة الزوجية التي وصفها الحق تعالى بأنها ميثاق غليظ .
وقد واجهتنا أثناء قيامنا بهذا البحث عدة صعوبات ، أولها كان أثناء مرحلة تجميع مصادر ومراجع المعلومات ، فرغم ثبتها الذي يظهر منه حجمها الكبير وتنوع مشاربها فإننا لم نعثر على مصدر أو مرجع واحد تناول موضوع "المساكنة " تناولا مباشرا ، وذلك أمر لا يقدح في قيمة المصادر والمراجع التي اطلعنا عليها، فغالبيتها لم تؤلف لهذا الموضوع خصوصا، بل جاء موضوع المساكنة فيها عبارة عن فقرة من فقرات الكتاب ، أو مبحثا صغيرا فيه لا يتعدى بضعة أسطر ، وفي أحسن الأحوال صفحتين أو ثلاث ، إضافة لعدم الاتفاق وللغموض الواضحين في تحديد العناصر القانونية المترتبة عن هذا الالتزام .
وغالبية المراجع التي تعرضت لمفهوم المساكنة وبهذا اللفظ بالذات ، هي من الكتب القانونية الحديثة المهتمة بالأحوال الشخصية ، خاصة منها تلك المتعلقة بغير المسلمين ، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن لفظ المساكنة جاء مقتبسا من القوانين الغربية ، وخاصة القانون المدني الفرنسي . فلا وجود لهذا اللفظ في الفقه الإسلامي، وحتى إن وجد في الكتب الفقهية فإن مفهومه يخالف المفهوم الذي قصدته تلك القوانين. ففي الوقت الذي تغلب فيه مفاهيم السكن والمودة والرحمة على هذا المفهوم في الفقه الإسلامي، يظل المفهوم المادي للسكن مسيطرا على المساكنة في المنظور الغربي دون الاهتمام بشرعية أو عدم شرعية هذا التساكن .
صعوبة أخرى برزت في محاولتنا التقريب بين النظريات الفقهية في تفسيرها للنصوص الشرعية. فالبحث في الفقه الإسلامي طريق صعب ومطلب عسير على كل باحث أراد الخوض فيه لتعدد المذاهب وتشعب الآراء حتى في المذهب الواحد ، بل وفي المسألة الواحدة . ورغم تقسيم الكتب الفقهية في طبعاتها الجديدة تقسيمات واضحة فقد وجدنا صعوبة كبرى في الحصول على ما نريده خصوصا وأن بعض الأحكام الفقهية غير مبوبة ويجب البحث عنها في أبواب متعددة حتى يتم الحصول على المنشود .
وقد اعتمدنا أساسا كتب الفقه المالكي، مع صعوبة التمييز في أحكامه بين ما هو راجح أو مشهور أو ما جرى به العمل ، وتمت مقارنة أحكامه مع أحكام أهم المذاهب الأخرى المتعلقة بالموضوع ، خصوصا منها تلك التي خرجت عنه وكان في خروجها أو إتيانها بحكم أو تفسير مخالف خدمة الهدف الأساسي من هذا البحث.
إضافة إلى أن الموضوع يمس تخصصات علمية متعددة ويخضع لتأثيرات إيديولوجية وسياسية متنوعة تتراوح بين الانغلاق والانفتاح ، ويطرح كذلك معادلات صعبة ناجمة عن إشكالية المرجعية في القانون المغربي ، خاصة قانون مدونة الأحوال الشخصية (الأصالة والمعاصرة ، التكامل والمساواة ، الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ) . كما أن ارتفاع حمى المطالبة بتغيير مدونة الأحوال الشخصية اثناء القيام بهذا البحث ، جعل الخوض في هذا الموضوع ذي الأرضية الشائكة مغامرة صعبة وإن لم تخل من المتعة والفضول العلميين اللذين تثيرهما مثل هذه المواضيع .
ثم إن كل الحقوق والواجبات المترتبة عن التزام المساكنة بين الزوجين لها سند شرعي من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وبما أن الآيات التي تم الاستناد إليها في هذا البحث كثيرة فإن الأمر تطلب منا الرجوع إلى تفسير كل آية على حدة ومقارنة كل تفسير بتفاسير أخرى لاختلاف الآراء حول تأويل كل آية أو حول دلالة النص القرآني ، بالإضافة إلى أن الاعتماد على الأحاديث النبوية كان نادرا لصعوبة تمييزنا بين الأحاديث الصحيحة و الموضوعة ، وهذا مجال صعب وبعيد عن تكويننا القانوني .
كما أن إضفاء الصبغة الدينية على الاجتهادات الفقهية مع أنها نتاج فكري بشري ، دفعنا إلى اعتماد الموضوعية والحكمة والتركيز ، في إيجاد تبريرات منطقية ومعقولة تفند القول بقدسية نص المدونة وإمكانية إعادة قراءته على ضوء التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحالية .
وأهم صعوبة واجهتنا تركزت في ندرة المراجع بخصوص تحديد مضمون المساكنة واستخراج مفاهيمها القانونية في القسم الأول ، مقابل كم هائل من المصادر والمراجع تتحدث عن حالات وآثار الإخلال بهذا الالتزام وإن لم تكن تدرسه تحت هذا العنوان . بل إن بعض الآثار تعتبر في حد ذاتها مواضيع مستقلة بذاتها وكانت محل دراسات وبحوث جامعية مفصلة ، كالتطليق للضرر أو الطلاق أو التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية ، الأمر الذي دفعنا إلى التركيز أساسا على الجانب التحليلي والتقييمي لهذه الآثار ومدى فعاليتها في تحقيق التوازن في العلاقة الزوجية أكثر من الجانب النظري ـ إلا بما يساعد في تحقيق هدف البحث ـ والإحالة على المصادر والمراجع المذكورة للمزيد من البحث والاطلاع . كما أن بعض الآثار يمكن دراستها من زوايا قانونية مختلفة وبحسب ما إذا كان المخل الزوج أو الزوجة ، الأمر الذي قد يعطي انطباعا بتكرار لبعض المواضيع حاولنا تلافيه قصد المستطاع .
ولقد كان عنوان البحث " التزام المساكنة بين الزوجين وآثار الإخلال بها " مفصحا عن المنهجية التي سيتم اتباعها . ذلك أنه يطرح إشكاليتين أساسيتين :
ـ تتمثل الأولى في تحديد المفهوم القانوني للمساكنة بين الزوجين عن طريق تحديد الالتزامات القانونية المترتبة عنها، ومضمونها ، وكيفية الوفاء بها ونطاقها .
ـ فيما تتجلى الإشكالية الثانية في تحديد بعض صور الإخلال بالالتزامات المترتبة عن المساكنة وآثاره لأهميتها ، وذلك بناء على قراءات نقدية متعددة المشارب أخذت ثلاثة أبعاد فقهية وقانونية وقضائية ، انطلاقا من التعارض الظاهري لآية السكن مع آثار الإخلال به في آيات النشوز.
وهكذا يمكن تلخيص منهجية البحث الذي حاولنا قدر المستطاع معالجة إشكاليته الرئيسية عبر قسمين:
منهجية القسم الأول
اعتمدنا فيه منهجا وصفيا عرضنا فيه لمضمون الالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة بين الزوجين ونطاقها بعد أن تم تحديدها بالرجوع إلى المفهوم اللغوي للمساكنة ، وإلى الفقه الإسلامي وخاصة بالرجوع إلى سندها الشرعي . وتبعا لذلك قسمنا هذا القسم إلى أربعة أبواب :
عالجنا في الأبواب الثلاثة الأولى منها مضمون كل التزام تم استنباطه حسب التدرج المشار إليه ، و كيفية الوفاء به سواء من طرف الزوج أو الزوجة أو هما معا في ظل مفهومي القوامة والطاعة المسيطرين على التزام المساكنة ، وفي إطار المرجعية الفقهية لمدونة الأحوال الشخصية . مع الإشارة إلى أن تحليل صور الوفاء بهذه المفاهيم قد يكون إيجابيا أو سلبيا . فالالتزام حسب القواعد العامة هو إما قيام بعمل أو امتناع عن عمل، وهكذا فالوفاء بمضامين المساكنة القانونية كان إما عرضا لصور الوفاء بها إيجابيا أو الوفاء بها سلبيا ، أي الامتناع عن كل ما يمكن أن يشكل إخلالا بأحد هذه المضامين .
ثم ختمنا في الباب الرابع بمدى تأثير الشروط الاتفاقية على المفهوم القانوني للمساكنة وذلك بإبراز الموقف الفقهي العام من سلطان الإرادة في عقد الزواج وهو موضوع له أهميته الخاصة في الوقت الراهن حاولنا إبرازه من خلال نماذج لبعض الشروط الاتفاقية المؤثرة في كل عنصر من العناصر المستخلصة للمساكنة بين الزوجين .
أما منهج الدراسة في القسم الثاني من البحث:
فكان منهجا تحليليا ارتكز على عرض آثار الإخلال بالالتزامات القانونية والاتفاقية للمساكنة بين الزوجين ، وذلك بالرجوع إلى الموقف الفقهي العام من كل حالة من حالات الإخلال ، خاصة موقف الفقه المالكي ، والتي اكتفينا بعرض أهمها وأكثرها إثارة للنقاش على الساحة الفكرية الآن، مع البحث عن الآثار التي رتبها القانون الوضعي على كل حالة من هذه الحالات سواء في قانون الأحوال الشخصية أو القانون المدني أو القانون الجنائي أو قانوني المسطرة المدنية والجنائية ، دون إهمال موقف بعض التشريعات العربية الإسلامية أو الأجنبية من هذه الحالات كلما لم يسعفنا النص القانوني أو الفقه في إيجاد الحل لمواجهة الإخلال بها ، مع إبراز الموقف القضائي من خلال تطبيقه للنص القانوني أو تأثره بالمذهب الفقهي ، وتوضيح مدى قربه أو بعده عن الواقع المعيش ومدى تحقيقه للتوازن المنشود في العلاقة الزوجية .
وهكذا احتلت المقارنة بين الاتجاهات الفقهية والتشريعية والقضائية دورا هاما في هذا القسم قصد إغنائه وتوضيح إشكالياته ، إما بإيضاح الحكم الشرعي ، أو تفسير اختيار المشرع أو اجتهاد القضاء ، كل ذلك للبحث عن صيغة للتوازن في مخاطبة الزوجين عند تحمل جزاء الإخلال بالتزام المساكنة دون اعتبار الجنس كعنصر تمييز في هذه المخاطبة ، ولإبراز الوسائل المتاحة قانونيا للمتضرر من كل إخلال بهذا الالتزام لجبر ضرره ومدى فعاليتها ، مع مناقشة هذه الوسائل مناقشة تأخذ بعين الاعتبار التحولات المجتمعية والتيارات الفكرية والمذهبية ، و كذا الطبيعة الخاصة لعقد الزواج الذي يهدف قبل كل شيء إلى السكن الروحي والمودة والرحمة .
وقد فرض هذا التصور المنهجي للقسم الثاني من البحث تقسيمه كسابقه إلى أربعة أبواب:
عرضنا في الأبواب الثلاثة الأولى منه ، لبعض حالات الإخلال بالالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة والتي تم تحديد مضمونها والوفاء بها في القسم الأول كما تمت الإشارة إلى ذلك ، مع تتبع الآثار التي رتبها كل من الفقه والقانون والقضاء على الإخلال بها، ثم عرضنا في الباب الرابع لآثار الإخلال بالشروط الاتفاقية فقها وقانونا وقضاء انطلاقا من نموذجين لها .
فكيف تم تحليل الأبواب الأربعة في كل من القسمين ؟ وما هي الاستنتاجات المستخلصة من كل تحليل ؟ وما هي المقترحات التي تم التوصل إليها ومبرراتها ؟
القسم الأول
بالنسبة للقسم الأول والباب الأول منه المتعلق بالتزام السكن بين الزوجين ، تمحورت الأسئلة بخصوصه كالتالي :
ـ هل استطاع المشرع المغربي تحديد مضمون بيت الزوجية ؟
ـ وفي حالة الإجابة بالنفي ، هل في الرجوع إلى المصدر التكميلي للمدونة وهو الفقه المالكي أن يسعفنا بتحديد هذا المضمون ؟
ـ وهل ستقربنا بعض التشريعات المقارنة من تصور هذا التحديد ؟
ـ وما تأثير ذلك على كيفية وفاء الزوجين بالتزام السكن ببيت الزوجية وفق المضمون المستخلص؟
وللإجابة عن الأسئلة المطروحة تعرضنا :
ـ لمضمون التزام السكن ببيت الزوجية عن طريق تحديد شروط المسكن في الفقه الإسلامي ، بينما تناولنا مضمون بيت الزوجية في مدونة الأحوال الشخصية وبعض التشريعات المقارنة العربية والأجنبية ، مع إبراز أوجه الاتفاق والاختلاف في تحديدها لهذا المضمون ، وخلصنا إلى أن مضمون بيت الزوجية يختلف في التشريعات العربية عنه في التشريعات الأجنبية . ففي الوقت الذي تميل فيه الأولى إلى توثيق العلاقة الزوجية بفرض التزام السكن بين الزوجين وتحت سقف واحد ، وتفرض شروطا شرعية لبيت الزوجية لتمكين الزوجة من الالتحاق به وتحقيق المساكنة في أحد أهم مفاهيمها القانونية، لاحظنا في الثانية على العكس من ذلك تغييبا لبيت يجمع الزوجين معا كمظهر مادي للمساكنة ، مقابل حرية في اختيار مكان إقامة الزوجين ولو بصفة منفصلة مع التأكيد على أن السكن المنفصل لا يؤثر في الالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين، فبأي منطق يمكنه قبول هذه النتيجة ؟؟
لكن إذا لاحظنا التغيرات التي يعرفها المجتمع الغربي وطغيان الحرية الفردية ولو على حساب مؤسسة هامة كمؤسسة الزواج ، وإذا تتبعنا التعديلات التي مست القوانين المدنية والجنائية لهذا المجتمع وآخرها إلغاء جريمة الزنى، وما في ذلك من تقويض لأهم أركان العلاقة الزوجية ، فإننا يمكن أن نقبل هذا المنطق الغريب مادامت نتائجه تساير تطور مجتمع يختلف تماما عن المجتمع العربي الإسلامي .
فبيت الزوجية في البلدان العربية والإسلامية مازال المظهر المادي الأساسي لتحقيق المساكنة بين الزوجين ، وما المقارنة بتشريعات غربية إلا وسيلة لإظهار عمق الفجوة في المفاهيم والرؤى لمؤسسة لها جذورها العميقة في التاريخ نرى أنها في طريق الاندثار في المجتمعات " المتقدمة " .
ـ وبالنسبة لكيفية الوفاء بالتزام السكن ببيت الزوجية تم طرح السؤال التالي :
ما هي الواجبات المترتبة عن التزام السكن بين الزوجين وتحت سقف واحد؟ وكيف يتم الوفاء بها؟
وقد تطلب الجواب عن السؤال المطروح التعرض لطبيعة هذا الوفاء وحدوده ، ثم لكيفية الوفاء به بالنسبة للزوج وهيمنة مفهوم القوامة عليه ، وكيفية الوفاء به بالنسبة للزوجة وهيمنة مفهوم الطاعة عليه .
وقد وجدنا أن أبرز مظاهر ترابط الطرفين بعقد الزواج هو تساكنهما معا بمحل واحد وإلا انتفت الغاية المقصودة من عقد الزواج ، والالتزام بالسكن تحت سقف واحد من الالتزامات التبادلية بين الزوجين حيث لا يعفى أحدهما منه إلا لعذر قاهر.
ورغم أن القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية هي مساكنة كل من الزوجين زوجه ، فإنه من الجائز في بعض الأحوال أن يعيش الزوجان في مكانين مختلفين ، كما إذا أقام الزوج في بلدة غير بلدة الزوجة بسبب عمله أو اشتراطها ذلك عليه ، حيث لا يكون له الحق في إجبارها على أن تتبعه، ويقتصر الأمر على زيارته لها من وقت لآخر.كما أن المساكنة قد لا تتحقق ، وبصورة جزئية ، في حالة تعدد الزوجات ، كما أن مرض الزوجة مرضا يقعدها عن الالتحاق ببيت الزوجية وإقامتها مع أهلها لرعايتها لا يحملها مسؤولية عدم مساكنة زوجها .
وقد تتوافر الرابطة الزوجية دون الإقامة ، كمغادرة أحد الزوجين منزل الزوجية وإقامته في مكان آخر لسفر أو عمل أو ما إلى ذلك ، أو كطرد أحدهما الآخر من المسكن الذي يستأجره أو يملكه باسمه، أو تركه إراديا إثر عدم الوفاق بينهما ، ويستمر الانفصال في الإقامة ، مع قيام رابطة الزوجية.
وبالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية فإنها لم تتعرض لموضوع القرار ببيت الزوجية، أما بالنسبة للتشريعات الأجنبية فلا يترتب عن تغيير أحد الزوجين محل إقامته التزام اللحاق بالزوج الآخر والسكن معه تحت سقف واحد ، حيث يمنح القانون للزوجين إمكانية السكنى في أي مكان من اختيارهما دون أن يمس ذلك بمفهوم المعيشة المشتركة كما هو الأمر في فرنسا والعديد من الدول الغربية .
وفي القضاء المقارن نجد أن مغادرة أحد الزوجين المسكن لسفر أو لوجوده بالخارج على سبيل الإعارة مثلا، أو إثر شقاق بينهما لا تنفي الإقامة التي تعد قائمة حكما .فالإقامة الحكمية تكفي للاستفادة من الامتداد القانوني ولو لم تكن فعلية .
ومن ثم فإن الأصل أن منزل الزوجية هو مكان الإقامة المعتادة لكل من الزوجين، وإقامة أحدهما خارجه مهما استطالت وأيا كان مبعثها ودواعيها تعد إقامة عرضية عابرة.
ـ وبالنسبة لكيفية وفاء الزوج بالتزام السكن ببيت الزوجية فإن هيمنة مفهوم القوامة عليه تجلى في الصور التالية :
• دعوة الزوج زوجته للالتحاق ببيت الزوجية،
• اختيار بيت الزوجية ، وهل الزوجة مطالبة بصورة آلية وحتمية بمساكنة زوجها في المكان الذي يختاره تبعا لهذه الصلاحية الممنوحة للزوج بحكم قوامته عليها ؟
• تسليم المعجل من المهر قبل البناء ، أو بقاؤه دينا على الزوج إذا سلمت الزوجة نفسها للزوج دون أخذ المعجل منه ،
• إعداد الزوج لبيت الزوجية وتجهيزه.
وقد تطلب منا تحليل هذه النقط ، إعطاء نظرة موجزة عن مفهومي القوامة والطاعة وتأثيرهما على كيفية وفاء الزوج بالتزام السكن ببيت الزوجية ، حيث لمسنا ثقل الديني والاجتماعي فيما يخص التزام السكن ببيت الزوجية وذلك بمنح الزوج سلطة اختيار بيت الزوجية دون اعتبار لرأي المرأة رغم خروجها لميدان العمل ومساهمتها في نفقات البيت كالمساهمة في كراء بيت الزوجية أو حتى شرائه ، مما دفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان يجب أن نخضع لأحكام تجاوزها العصر ، أم نحاول إيجاد نوع من التوازن في هذا الحق بطريقة لا تعرض الزوجة للطرد من بيت الزوجية في أي لحظة بحجة أن الزوج هو الذي اختاره سواء كان بملكيته أو يؤدي وجيبته الكرائية ، ولا تعرض الزوج كذلك للخروج منه تعسفيا بحجة ملكيته للزوجة أو سكن الزوج ببيت أهلها ؟؟
وعند التجائنا للمقارنة في محاولة لإيجاد أجوبة عن هذه المواضيع ، لاحظنا اختفاء هذه الإشكالية في التشريعات الأجنبية ـ لاختلاف المرجعيات ـ كفرنسا وألمانيا وبلجيكا، وذلك بظهور قوانين المساواة بين الزوجين التي ألغت مفهوم الطاعة ، وأصبح اختيار بيت الزوجية تبعا لذلك يتم باتفاقهما معا. وإن كان التطور الذي عرفته هذه التشريعات قد حاد بمفهوم المساكنة القانوني عن معناه الأصلي كما يتبين لكل متتبع لمراحل التطور الذي عرفه هذا المبدأ ، خاصة في فرنسا كما عرضناه في هذا البحث. وخلصنا إلى أن الزوجة إذن مجبرة قانونا على الالتحاق بالسكن الذي أعده لها الزوج متى وفر لها المسكن الشرعي ودعاها للالتحاق به وسلم لها معجل مهرها .
وفيما يتعلق بكيفية الوفاء بهذا الالتزام من طرف الزوجة ومدى هيمنة مبدأ الطاعة عليه، وجدنا أن مبدأ القوامة يستلزم حسب المنظور الفقهي طاعة الزوجة لزوجها ، وتتحقق الطاعة بامتثال الزوجة لأوامر زوجها المستمدة من رئاسته للأسرة وقوامته على بيت الزوجية .وتتجلى في:
ـ أن تتبع الزوجة زوجها وتنتقل معه.
ـ القيام بأعمال البيت والإشراف على شؤونه.
وقد تمت دراسة هذين الالتزامين والوفاء بهما فقها وقانونا وقضاء وتبين لنا أن الإشكالية تتلخص في التقسيم التقليدي للعمل بين المرأة والرجل و الذي اعتمد أساسا له بعض التفسيرات الفقهية المبالغ فيها لمبدأي الطاعة والقوامة ، والتي لها تأثير على تمتع المرأة بكافة حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية ،خاصة على مفهوم المساكنة في كل عناصرها . إضافة إلى التربية والوعي ، وهما عاملان مهمان لإنجاح أي مؤسسة في الحياة ، فكيف بأهم مؤسسة فيها وهي الأسرة ؟
وبالنسبة للباب الثاني فقد تم التعرض فيه لالتزام الزوجين بالإحصان ، حيث تم تحديد المضمون القانوني للإحصان باعتباره التزاما من التزامات المساكنة بين الزوجين:
ـ في تبادل المعاشرة الزوجية وفق شروطها الشرعية التي صورها الحق سبحانه وتعالى أحسن تصوير في الآية الكريمة :" هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " ،
ـ و في امتناع كلا الزوجين عن كل ما يمكن أن يمس أحدهما في شرفه وعرضه ، ويتحقق ذلك بإخلاص كل من الزوجين للآخر وعدم خيانته ، وكذا الالتزام بالعديد من السلوكات التي من شأنها إحصانهما ومنعهما من ارتكاب الفاحشة .
وقد تم تحليل مضمون كل من المعاشرة الزوجية والامتناع عن الخيانة الزوجية أو ما يعرف في القوانين الوضعية بالإخلاص . وتركز البحث في مضمون المعاشرة الزوجية في الأفعال المادية التي تتحقق بها ، أي مقدمات الفعل الجنسي ومضمونه ، دون إغفال أن للمعاشرة الزوجية، بالإضافة إلى البعد المادي المتمثل في العناصر السابق ذكرها ، بعدا معنويا . فالأسرة قبل أن تكون جنسا أو اقتصادا أو اجتماعا هي تجاوب مع متطلبات فطرة أصيلة في النفس الإنسانية نعني بها حالة الاستقرار والمشاعر الطيبة والود والاحترام التي لا تجد منطلقها إلا في جو هادئ مستقر ، والاستقرار ماديا ونفسيا لا يتحقق إلا في أسرة وبيت.
إلا أن هذه الصورة المثالية قد لا تتحقق . فقد يوجد الزوج جسديا مع زوجته لكن دون تقارب وجداني أو فكري أو نفسي بينهما ، وقد يهجر الزوج الفراش أو تقوم بذلك الزوجة دون عذر شرعي، وقد يغيب الزوج مدة طويلة تحرم فيها الزوجة من هذه المساكنة ، وقد يكون ذلك بقصد أو بدونه بسبب قوة قاهرة أو ظروف خاصة .
وتبدو الصورة أكثر وضوحا عندما نرى على أرض الواقع كثيرا من الأزواج يعيشون بعيدين عن بعضهم البعض ، بسبب العمل أو متابعة دراسة في تخصص علمي ينعدم وجوده في بلد أحد الأزواج . فظروف الحياة تفرض على الإنسان أن يسعى في أنحاء الأرض ، تارة لتحصيل العلم ، وأخرى من أجل المال، وكثيرا لدرء أخطار الفقر وتأمين الحياة الكريمة. فكيف يعيش الزوجان آثار الاغتراب ، وما تأثير ذلك على مفهوم المساكنة ؟؟
إن التباعد الزماني والمكاني وانشغال كل من الزوجين بعمله الخاص وأجوائه ، وتقليص العطاء الزوجي بمعناه الشامل ، وما يرافق هذه العناصر من تصرفات بعيدة عن أجواء الرحمة والمودة التي نص عليها الشارع الحكيم يجعل العلاقة الزوجية مهزوزة والثقة ضعيفة والتفاهم منعدما.
أما بالنسبة لمضمون الإخلاص باعتباره الوجه السلبي لالتزام الإحصان ، بمعنى التزام كلا الزوجين بالإخلاص للآخر بالامتناع عما يمس عرضه وشرفه ، فقد تم لتحليله استخدام منهج المقارنة بين بعض التشريعات الإسلامية التي بقيت متشبثة بالشريعة الإسلامية من جهة ، وتلك التي تأثرت بالمفهوم الغربي للإخلاص والأسس التي اعتمدها دون هجر المفهوم الشرعي ، ومنها مدونة الأحوال الشخصية ( عاقبت على الفساد والخيانة الزوجية) مقارنة مع التشريعات الأجنبية من جهة أخرى ، لاختلاف المرجعيات واختلاف نمط الحياة في الغرب عنه في الدول العربية الإسلامية . كما تمت المقارنة في بحث مفهوم الإخلاص بين القوانين التي تأخذ بالتعدد وتلك التي تجرمه لاختلاف المفهوم في كل منهما .
ويمكن تلخيص كيفية الوفاء بالتزام الإحصان في وجهيه الإيجابي والسلبي كالتالي :
ففيما يخص الوجه الإيجابي ، أي المعاشرة الزوجية ، تطلب البحث في كيفية الوفاء بها الإجابة عن التساؤلات التالية :
ـ ما هو الحد الأدنى الذي يتحقق به الوفاء بالتزام المعاشرة الزوجية ؟
ـ ما هي الحالات التي يتحقق فيها التعسف في المطالبة بالمعاشرة الزوجية ؟
ـ ما هي الحالات التي تؤثر على الوفاء بالمعاشرة الزوجية ؟
وقد كانت محاولة إيجاد أجوبة للتساؤلات المطروحة ضرورية لتوضيح الجوانب العملية والقانونية لكيفية الوفاء بهذا الالتزام في وجهه الإيجابي ، وإعطاء صورة تقريبية للإشكاليات التي تترتب عن الامتناع من الوفاء به أو الوفاء به جزئيا أو مشوبا بالتعسف، وتأثير ذلك على مفهوم المساكنة بين الزوجين .
فالوفاء بالمعاشرة الزوجية له أهمية قصوى في العلاقة الزوجية ويخاطب بها كل من الزوج والزوجة على قدم المساواة ولا يجب الامتناع عنه إلا لضرورة شرعية .
ورغم اعتراف الفقه بأهمية هذا الجانب إلا أنه جعله حقا للرجل دون المرأة يطالب به متى شاء وكيفما شاء مع اختلاف في ضرورة تواتره من عدمها ، بل إن بعض الفقه جعل الوفاء به ديانة لا قضاء ، وأن المرأة تستوفي حقها في الوطء مرة واحدة في العمر . وهي أحكام غريبة ومجحفة بالمرأة ، إضافة إلى منافاتها للطبيعة البشرية .
وكان على الفقه اقتداء بالسنة النبوية الشريفة ومراعاة لتعاليم القرآنية، اعتبار المعاشرة الزوجية حقا والتزاما مندرجا في سائر الحقوق والالتزامات المشتركة بين الزوجين لقوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " .
كما تطلب منا الجواب عن الأسئلة المطروحة أعلاه التعرض للأمراض والعيوب الجنسية ومدى تأثيرها على الوفاء بالمعاشرة الزوجية .
أما بالنسبة لكيفية الوفاء بواجب الإخلاص من طرف الزوجين ، فقد خلصنا، بعد استقراء أحكامه فقها وقانونا وقضاء ، إلى أن الفقه ـ إضافة إلى تناسيه حق المرأة في واجب المعاشرة الزوجية وجعلها متعة للرجل ـ قد أحاطها بالكثير من القيود التي تمس وجودها داخل البيت وخارجه وتمس طريقة لباسها وزينتها وعلاقتها مع الغير وعدم خروجها من البيت ولو لعيادة والديها إلا بإذن زوجها ، ولخص وجودها في وجود الرجل، بينما لم يتعرض لما يجب على الزوج اتباعه وفاء بواجب الإحصان ، وهذا ما لم تقل به الشريعة الإسلامية أبدا ، ولا يعتبر بأي وجه مقصدا من مقاصدها ، خصوصا وأنها قد خاطبت بهذا الالتزام كلا من الرجل والمرأة ورتبت على الإخلال به من كليهما نفس الحد .
وقد كان الباب الثالث موضوعا للبحث في التزام الزوجين بحسن المعاشرة ، وتمت دراسته على نفس المنوال الذي اتبع في البابين السابقين :
ـ تحديد مضمون هذا الالتزام بالرجوع إلى سنده الشرعي في القرآن الكريم وسنة الرسول ـ ص ـ القولية والفعلية ، ثم عرجنا على الموقف الفقهي العام منه وتساءلنا حول مدى التزامه بهذا السند ومقاصده الشرعية ، وهل خضع "حسن المعاشرة بالمعروف " الذي تعرضت له الآيات الكريمة لنفس المفاهيم التي اعتمدها الفقه في تحديد مضمون هذا الالتزام؟ أم هيمنت على تفسيراته مفاهيم الطاعة والقوامة كما برز ذلك بشكل واضح في الالتزامات المترتبة عن المساكنة والتي تم التعرض لها في هذا البحث؟ وما مدى تأثر مدونة الأحوال الشخصية وبعض التشريعات العربية بالتفسير الفقهي لمضمون الالتزام بحسن المعاشرة بحكم المرجعية الفقهية لهذه القوانين ؟.
وقد توصلنا إلى أن لكل من الزوجين الحق في استيفاء هذا الواجب ، إلا أن الخطاب موجه فيه للرجل أساسا لقوله تعالى مخاطبا الرجال : "وعاشروهن بالمعروف " ، حيث يقع عبء المعاشرة بالمعروف على الزوج أكثر من الزوجة ، لأن الزوجة تعتبر أمانة في يده، فهو مطالب بالحرص على هذه الأمانة وبذل كل جهده في صونها والحفاظ عليها بما يحقق المودة والرحمة ويحفظ كيان الأسرة من التفكك والانهيار .
وإذا كان الأمر بحسن العشرة موجها إلى الأزواج في الغالب ، فإن هذا لا يمنع من دخول الزوجات في هذا الأمر عن طريق الدلالة. فالأمر لا يستقيم بينهما إلا بحسن المعاشرة المتبادلة.
إلا أن الملاحظ هو تشبث أغلب الفقهاء بمبدأي القوامة والطاعة في تفسير حسن المعاشرة بالمعروف . كما أن "المعروف " لفظ صعب التحديد قد يتغير معناه بتغير الواقع الاجتماعي وملابساته . وانطلاقا من هذا المعيار وقع حيف كبير من طرف الفقه في تفسيره ، حيث أوكله للزوج ، وأصبحت الطاعة "بالمعروف " مسكنة ومذلة للزوجة ، ليس للقاضي حق التدخل لمنع الزوج من تجاوز هذا "المعروف" مما حاد عن تقريرهم لهذه القاعدة الشرعية في الكثير من جزئيات العلاقة الزوجية رغم التحليل الذي توصلنا فيه إلى أن هذا الالتزام التزام تبادلي .
فالطاعة بالمعروف ليس معناها الخضوع والاستكانة ، ولكنها تدخل في إطار علاقة يسودها تبادل المشاورة والاشتراك لصالح الزوجين والأسرة .ولا يمكن أن يكون المعروف في النص القرآني هو المعروف في تفسير الفقه ونتائجه السلبية على الزوجة.
فهل من حسن المعاشرة بالمعروف تخصيص الزوج بالرئاسة وإقبار الزوجة داخل جدران البيت وتهميش دورها في المشورة واتخاذ القرار؟ وهل من المعروف تحميل الزوجة واجب إكرام أهل الزوج دون التنصيص على تبادلية هذا الواجب ؟ بالإضافة إلى أحكام فقهية غريبة إن لم يأخذ بها القانون فقد تكفل القضاء بالإخلاص لها ، كرفض التعويض عن الأضرار المعنوية في العلاقة الزوجية، وغير ذلك من الأمثلة التي عرضنا لها بتفصيل في القسم الثاني من هذا البحث .
إن تقرير مثل هذه الأحكام وغيرها كثير ، وتناقضها مع قاعدة حسن المعاشرة ناتج عن فهم فقهي متشدد لمفهوم الطاعة بالمعروف وقوامة الرجل ، وتأثير كل ذلك على مضمون التزام المساكنة بصفة خاصة .
يتضح مما سبق عرضه أن مفهوم المعروف ظل لصيقا بمرجعيته الفقهية المتجمدة جمود المدونة التي تحيل عليها ، ولم يتجرأ أحد على المساس بها رغم محاولات التعديل التي ظلت مغيبة لم تر النور. إلا أن تعديل 1993 رسم بداية عهد قانوني جديد نزع الهالة القدسية عن نصوص مدونة الأحوال الشخصية ، وفتح الباب أمام كل ذي نية حسنة لجعل هذا القانون مسايرا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية . وقد عبرنا عن أملنا في أن يسير المشرع المغربي في تعديلاته المرتقبة أبعد من ذلك بمراجعة الكثير من المفاهيم الجامدة كمفهومي الطاعة والقوامة على أساس منظور عادل يحقق التوازن والمساواة في توزيع الحقوق والالتزامات بين الزوجين .
وقد تساءلنا في هذا السياق عن موقف قوانين الأسرة ومنها مدونة الأحوال الشخصية من هذا الالتزام؟ وهل سارت على نهج الشريعة الإسلامية في مبادئها العامة القائمة على العدل والمساواة وعدم الجور ، أم تأثرت بالتفسيرات الفقهية التي ربطت هذا الالتزام كغيره من الالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين بمفهومي الطاعة والقوامة ؟؟
وهكذا لاحظنا أن مدونة الأحوال الشخصية المغربية وبعض التشريعات العربية الإسلامية قد أشار جلها إلى وجوب حسن المعاشرة بطريقة مباشرة أو ضمنية يفهم منها تبادل هذا الحق المشترك بين الزوجين ، وإن قرنت أغلبيتها هذا الالتزام بطاعة الزوجة لزوجها، تأثرا منها بالاجتهادات الفقهية ، دون أن توضح ما يجب على الزوجة أن تطيع فيه زوجها ، وما مدى حدود هذه الطاعة ، والوسائل التي تمكنها من حماية نفسها من استعمال الزوج لهذا الحق بطريقة تعسفية ، مبتعدة في تقرير الأحكام الجزئية المتعلقة بهذا الحق عن السند الشرعي للالتزام بحسن المعاشرة ، وإن يلاحظ عليها أنها لم تسر في نهجها المتأثر بالفقه الإسلامي إلى النهاية بتطبيق أحكامه المترتبة عن الإخلال بواجب الطاعة ، كتحديد مدى السلطة التأديبية للزوج التي قد تصل إلى الضرب . وحتى عندما تبنت هذه التشريعات إسقاط النفقة أو إيقافها حسب المذاهب كأثر لنشوز الزوجة كما يتبين ذلك في القسم الثاني من هذا البحث، لم توضح طبيعة هذا الحكم هل هو جزاء أم وسيلة إجبار. فجاء الأمر بالطاعة عاما وغامضا وغير مقرون بوسائل إلزام أو جبر واضحة ومحددة عند الإخلال به ، الشيء الذي نتجت عنه أحكام تتعارض مع مبدأ حسن المعاشرة الذي يجب أن يسود العلاقة بين الزوجين .
يتبين مما سبق أن النص القانوني في المدونة يبدو لأول وهلة منسجما مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية في حثه على حسن المعاشرة بين الزوجين ، إلا أن وفاءه لمرجعيته الفقهية التي جعلت من حسن عشرة الزوجة لزوجها طاعتها له يبدو واضحا، وحتى بالنسبة لبعض التشريعات التي تجرأت وحذفت هذا المفهوم ـ كتونس ـ لم تستطع أن تسير إلى النهاية بتقريرها حق الزوجين معا في تسيير شؤون الأسرة ، واحتفظت بدور الرئاسة للزوج ، مما يبرز صعوبة زحزحة الموروث الثقافي في منظومة قوانين الأسرة العربية والإسلامية .
وقد تجلى لنا التناقض الذي وقع فيه بعض الفقه في الأحكام المرتبطة بكيفية الوفاء بهذا الالتزام بعد الاتفاق على وجوبه كمبدأ أساسي يجب أن يخضع له الزوجان في علاقتهما الزوجية .
فكيف يتم وفاء الزوجين بالتزام حسن المعاشرة ؟
يمكن تلخيص أهم صور الوفاء بهذا الالتزام في اجتناب الزوجين إضرار أحدهما بالآخر بأي وجه من وجوه الضرر ماديا كان أو معنويا ، وقد عرضنا لمفهوم الضرر المبرر للفرقة بين الزوجين وأوردنا صورا للضرر المادي والمعنوي .
فمن أهم صور الضرر المادي الإيذاء العمدي وخيانة الأمانة بين الزوجين ، وقد تم تحليل هاتين الصورتين فقها وقانونا وقضاء .
وبالنسبة للضرر المعنوي اتبعنا نفس المنهجية عند تناول أهم صوره وهي :
ـ الامتناع عن تقديم الرعاية ،
ـ التعاطي للآفات الاجتماعية من خمر ومخدرات وقمار ،
ـ السب والقذف ،
ـ الإساءة إلى الأهل والأقارب ،
ـ الشقاق والنفور وأسبابهما .
وبالنسبة لوفاء الزوج بهذا الالتزام ، أبرزنا أهم صوره وهي تقديم المساعدة المادية أو ما يعرف فقها بالإنفاق ، والعدل في العلاقة الزوجية سواء كان الزواج أحاديا أو تعدديا. وخلصنا في نهاية الأبواب الثلاثة من القسم الأول إلى:
أن التفسير الفقهي للصلاحيات الممنوحة للزوج عند الوفاء بالتزام المساكنة بعناصره الثلاثة ، اعتمد مفهوما خاصا وبعيدا عن المنظور الإسلامي لمصطلحين لهما علاقة بهذا الالتزام ونعني بذلك " الطاعة والقوامة " كأساس اعتمده الفقه لتحديد حقوق وواجبات الزوجين ، هذين المصطلحين اللذين احتفظا بنموذج النظام الاجتماعي في جانبه المنظم لعلاقات الرجل بالمرأة ولمركز رئيس الأسرة ومسؤوليته المادية المتمثلة في الإنفاق والذي كان سائدا قبل ظهور الإسلام، ورسخه التفسير الفقهي المتأثر بهذا الموروث الذي عرفت فيه المرأة أصنافا من الظلم والاستبداد مما جعل النصين القرآنيين موضوعي الإشكالية الأساسية في البحث يبدوان متعارضين من حيث الظاهر ،حيث غيبت الحكمة الإلهية من تقرير مفهومي الطاعة والقوامة طبقا لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة ومقاصدها الأساسية في العدل والقضاء على الظلم في العلاقات بين الأفراد ، وبالأخص في العلاقة الزوجية .
ولإزاحة هذا الغموض ، عملنا قدر المستطاع على إبراز الفرق الشاسع بين المنظورين الفقهي والإسلامي لمفهومي القوامة والطاعة .حيث ثبتت مبالغة الفقه اعتمادا على هذين المفهومين في منح سلطات للزوج ترتبت عنها نتائج غير منطقية ومجحفة بالزوجة مما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية في العدل والمودة والرحمة التي يجب أن تسود العلاقة الزوجية .
وقد كان طبيعيا بمقتضى الإحالة الصريحة للمدونة على المذهب المالكي أن يتأثر هذا الجسم القانوني بهذه التفسيرات الفقهية . فجاءت نصوصه مرتبطة من حيث الصياغة ارتباطا يكاد يكون كليا بفقه المذهب المالكي، وعدم تجاوزه هذا المذهب إلى فقه المذاهب الأخرى إلا في حالات استثنائية. كما طبعه الثقل الديني الذي يهيمن عليه مفهوما الطاعة والقوامة بكل تداعياتهما ، إضافة إلى الموروث الثقافي والاجتماعي الذي تسوده نزعة ذكورية بحتة نلمسها بوضوح في الآثار السلبية للتوزيع غير المتكافئ للحقوق والواجبات بين الزوجين . وهكذا ظلت مدونة الأحوال الشخصية ، النص القانوني الوحيد الذي قاوم بشدة المبادئ الأساسية للمساواة الكونية بين الرجل والمرأة دون مراعاة للواقع الاجتماعي الذي تغير كثيرا عما كان عليه وقت الإفتاء بالأحكام الفقهية .
فهو يرى حبس الزوجة بين جدران بيت الزوجية والتحكم في تنقلاتها داخله وخارجه إلى حد منع الزوجة من زيارة أهلها أو استقبالهم بحجة الحفاظ على عفتها وشرفها ، بل وحرمانها من لقمة العيش إذا خرجت دون إذن الزوج، هذا الخروج الذي قد يكون تعبيرا عن استحالة عيشها مع الزوج لإضراره بها ، بل إن المنع بحجة الحفاظ على عرضها وشرفها شمل عيادة والديها أو الخروج لأداء فرائضها في المسجد أو القيام بفريضة الحج . ولم يقف هذا الفقه المتشدد عند هذا الحد ، بل إنه ربط نفقتها ووسيلة عيشها مرة أخرى بالاستمتاع بها ، وفرض عدم إرضاع طفلها أو القيام بنوافلها من صلاة أو صيام أو التكسب لأن في ذلك تفويتا وانتقاصا لحق الزوج في الاستمتاع بها . وأكثر من ذلك فرض ضربها إن امتنعت من تسليم نفسها لزوجها دون البحث عما وراء تقرير هذه الوسيلة الشرعية وأسباب نزول الآية المتعلقة بها والحكمة منها ومفهوم الضرب المقصود فيها بما لا يتعارض مع مفهوم السكن والمودة والرحمة . كما أباح التعدد عليها دون مراعاة الطابع الاستثنائي لهذا الحق والحالات المبررة للالتجاء إليه ، إلى غير ذلك من الأحكام الجائرة التي نتجت عن تصور وتفسير بعض الفقه للقوامة والطاعة .
فأين نحن من المعاشرة بالمعروف؟ وهل من حسن المعاشرة وطء الزوجة مرة واحدة في العمر وما زاد على ذلك فهو ديانة لا قضاء ؟ وهل هذه هي القوامة والطاعة التي أشار إليهما القرآن الكريم؟ وأين نحن من عدم الإضرار والتضييق على الزوجات ؟ أليس في ترتيب هذه الآثار امتهان للزوجة وجعل نفقتها ، أي مصدر عيشها ، رهينا باستيفاء الزوج لرغباته الجنسية أو استفادته من خدمات زوجته داخل بيت الزوجية كأي جارية من جواري العصور البائدة ، والحال أن بعض الفقه اعتبر خدمة الزوجة للبيت تطوعا منها وأن عليها الإشراف عليه لا غير وأن على الزوج أن يوفر لها من يخدمها ، وشتان ما بين الإشراف والخدمة .
لقد حاد بعض الفقه في ذلك عن الهدف الأسمى للشريعة وهو العدل واستقرار الأسرة وتوازن حقوق وواجبات الزوجين ، ومنها المساكنة كأهم أثر لعقد الزواج .
ولم تسلم كذلك أغلب التشريعات العربية من هذا التأثير ، كما أن القضاء المغربي والمقارن كرسا هذه الأحكام بإخلاص، مما أفرز نتائج ظهرت سلبياتها واضحة على الأسرة، كالتفكك الأسري ، وارتفاع نسبة الطلاق وانحراف أطفال الطلاق أو إصابتهم بأمراض نفسية ، وانعدام التوازن داخل العلاقة الزوجية.
من كل هذا يمكن القول باختلاف مفهومي القوامة والطاعة بين نصوص القرآن وبين الثقافة السائدة المشكلة من التفسير الفقهي لتلك النصوص .
أما الباب الرابع والأخير من القسم الأول ، فقد تعرضنا فيه لمدى تأثير الشروط الاتفاقية على الالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين . وحتى نتمكن من إبراز هذا التأثير زيادة أو نقصانا لمصلحة أحد طرفي العلاقة الزوجية أو هما معا ، كان من الضروري التعرض لمفهوم الشرط الاتفاقي وللموقف الفقهي العام من طبيعة عقد الزواج ودور الإرادة فيه ، وذلك بالإجابة عن الأسئلة التالية :
• ما هو الموقف الفقهي العام من طبيعة عقد الزواج ،هل هو عقد مدني أو ديني؟
• وما هو التكييف القانوني للرابطة الزوجية ، أو بمعنى آخر هل الزواج أساسا عقد أو اتفاق أم نظام قانوني ؟ أم أنه يحمل صفات كل هذه المصطلحات ؟ وما مدى تأثير كل ذلك على إمكانية تغيير الآثار المترتبة عنه ومنها التزام المساكنة بإضافة شروط يتفق عليها الزوجان ؟ وما هي نماذج الشروط الاتفاقية التي يمكن أن تؤثر زيادة أو نقصا على التزام السكن ببيت الزوجية ؟
إن الغرض من البحث في طبيعة عقد الزواج هو إبراز مدى إمكانية إضافة الزوجين شروطا ارتضيا الالتزام بها في هذا العقد ، فإذا كان عقد الزواج عقدا مدنيا وتصرفا بسيطا فيمكن الإجابة بالإيجاب ، أما إذا كان عقد الزواج عقدا قدسيا فستنتفي معه إرادة كلا الزوجين إضافة إلى نتائج أخرى تمت الإشارة إليها فيما بعد .
وخلصنا إلى أن عقد الزواج عقد مدني رضائي وليس عقدا مقدسا . كما أنه لا يتطلب شكليات خاصة . واعتبار الزواج عقدا مدنيا رضائيا لا دينيا يؤدي إلى نتيجتين منطقيتين: أولهما إمكان إدراج الزوجين لشروط في عقد الزواج ارتضياها معا لفائدة أحدهما أو كليهما . وثانيهما أن الأحكام المتعلقة به يمكن مراجعتها وتعديلها كلما دعت الضرورة إلى ذلك .
إضافة إلى ذلك فإن اعتبار عقد الزواج عقدا مدنيا يجعل خضوع أحكامه لقواعد القانون المدني أمرا ممكنا . فالشريعة الإسلامية لا تعرف التمييز بين الأحوال الشخصية وبين غيرها بالنسبة لتقيد المسلم بأحكامها ، كما أن جل الفقهاء لم يميزوا في مؤلفاتهم الفقهية بين العبادات والمعاملات ، حيث تناولوا عقد الزواج أو " النكاح " مع عقود أخرى كعقد البيع والقسمة إلى جانب العبادات والحدود دون تخصيص .
فالإبقاء على الفصل بين ما هو " مدني " يدخل في اجتهاد الدولة ، وبين ما هو "شرعي" يختص العلماء بالاجتهاد فيه ، لا ينتج عنه أكثر من تعميق الهوة والإبقاء على الأحكام الشرعية بعيدة عن التطبيق.
والدليل على النتائج الشاذة لهذا الفصل ، استبعاد القضاء المغربي دون تعليل وجيه تطبيق قواعد القانون المدني حتى في مبادئه العامة كالمسؤولية المدنية على الأحوال الشخصية رغم أن أساس المسؤولية المدنية قد حظي بتنظيم كاف وشامل في كتب الفقه قبل أن تعرفه القوانين الوضعية .
والراجح أن عدم الفصل بين " المدني " و " الشرعي " دعوة للتفتح على القوانين الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة ، خاصة القانون المدني الذي يحمل في طياته نظريات هامة تجد أسسها في اجتهادات الفقه الإسلامي، كنظرية التعسف في استعمال الحق ، ونظرية الضرر والمسؤولية المدنية أو ما يعرف في الفقه بالضمان ،هذا القانون الذي يعتبر كذلك أصل ومصدر مدونة الأحوال الشخصية التي لم تنفصل عنه إلا لتنظيم علاقات أفراد الأسرة فيما بينهم وبصفتهم تلك ، مثلها مثل قوانين أخرى كالقانون التجاري الذي ينظم علاقات فئة التجار فيما بينهم ، وقانون الشغل الذي ينظم علاقات الأجراء والمأجورين ...ولم يقل أحد بأن هذه القوانين الأخيرة دينية مع أن الشريعة الإسلامية نظمت جميع العلائق بين البشر من نكاح وتجارة وقرض وهبة ... فالزواج تبعا لذلك عقد كبقية العقود المدنية الأخرى .
كما تم طرح التساؤل التالي : هل الزواج عقد أم اتفاق أم نظام قانوني ؟
وقد تم تحديد مفهوم المصطلحات الثلاثة وما تتفق أو تختلف فيه مع مبررات تسمية الزواج بالعقد أو الاتفاق أو النظام القانوني .
وبعد تحديد المراد بالعقد والاتفاق والنظام القانوني ، يمكن القول إن الزواج " عقد" انطلاقا من الآية الكريمة :" ...ولا تعزموا عقدة النكاح " ، حيث يبرز الجانب التعاقدي للزواج بوضوح. فهو عقد بين رجل وامرأة لا يتحقق إلا بانعقاده بخالص الرضا بين طرفيه من أجل العيش المشترك بينهما ، وتبادل المعونة والرعاية والإحصان . كما أن الشكل القانوني لميثاق الزوجية يأتي في صيغة عقد له أركان وشروط كبقية العقود الأخرى.
وهو اتفاق بين طرفيه على إحداث أثر قانوني ، هي الرابطة الزوجية وما يترتب عنها من التزامات وحقوق .
وخلاصة القول إن الزواج اتفاق رضائي مبني على أساس من الإرادة الحرة والرضى التام لكل من الزوجين ، وهو عقد يقوم على أساس مدني لا يختلف عن أي عقد من العقود الأخرى التي يبرمها الإنسان . وبالرغم من أنه تصرف عقدي ينشأ باتفاق إرادي، إلا أن دور حرية الإرادة فيه جد محدود، وهذا ما يبرر وصفه بالنظام القانوني Institution) ( .
هكذا يبدو أن كلا من نظريتي " الزواج عقد ...الزواج نظام قانوني " ، تعبران عن جانب من الحقيقة دون استيعابها كاملة ، وبالتالي يمكن اعتبار كل منهما مكملة للأخرى. فالراجح اعتبار الزواج نظاما مختلطا ، فهو عقد يعبر فيه الأطراف عن رغبتهما في الدخول في نظام قانوني تحدد قواعده السلطة المختصة .
وهذه الطبيعة المزدوجة للزواج هي سبب الخلاف حول تحديد الطبيعة القانونية لعقد الزواج . ولا شك في أن الزواج عقد يتم بتلاقي إرادة طرفيه بنية الارتباط بينهما ، ولكن هذا العقد ليس كسائر العقود ، فلا تكفي إرادة الطرفين لإنشائه، إذ أن ذلك منظم بنصوص قانونية ملزمة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. كما أن إنهاءه قد يتم بإرادة الزوج المنفردة(الطلاق )، أو بإرادة الزوجة إن كانت تملك هذا الحق (التمليك)، أو بطلب من الزوجة (التطليق ) ،أو بطلب من الزوج في بعض التشريعات العربية كتونس، أو برضاهما معا وفق شروط خاصة ( الخلع )، وهو ما يتعارض مع مبدأ سلطان الإرادة في العقود الذي تنص عليه المادة 230 من ق.ل.ع المغربي بقولها: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون" ، وهو اختصار للقاعدة المشهورة " العقد شريعة المتعاقدين ولا يجوز إلغاؤه إلا بإرادتهما معا "، وهو ما يتعارض مع النصوص الشرعية التي تعطي للزوج الحق في إنهاء الرابطة الزوجية بإرادته المنفردة، أو تعطي هذا الحق للمرأة قضائيا في حالات وردت في المدونة على سبيل الحصر. فهو عقد من نوع خاص يتدخل القانون في تحديد أحكامه لا سيما بالنسبة للآثار القانونية التي تترتب عليه . فبعد الزواج تنتهي حرية الأفراد عند إبرام العقد، والآثار التي تنجم عنه يملك القانون وحده حق تقريرها، فالمبادئ التي تحكم الأسرة تتعلق بالميدان الآمر وذلك في نظر أغلب الفقه ...ولهذا يمكن وصف الزواج بأنه عقد ينشئ رابطة يحكمها نظام قانوني .
هذا ما شمله القسم الأول في أبوابه الأربعة المتعلقة بتحديد الالتزامات المترتبة عن المساكنة وإبراز مضمونها وكيفية الوفاء بها ونطاقها .
وقد انصبت اقتراحاتنا فيما يتعلق به ، و بعد تحديدنا للالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين فقها وقانونا وقضاء ، على :
ـ ضرورة تخلي المشرع المغربي عن الصيغة الغامضة في تقريره للمساكنة الشرعية كحق والتزام متبادل بين الزوجين دون تحديد ، باقتراح صيغة جديدة للمادة 34 م.ح.ش على الشكل التالي :
الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين :
1ـ المساكنة الشرعية وتشمل :
2ـ السكن ببيت الزوجية ،
3ـ إحصان كل منهما وإخلاصه للآخر ،
4ـ المعاشرة بالمعروف وتبادل الاحترام والعطف والمحافظة على مصلحة الأسرة .
و فيما يتعلق بالمادتين 35 و36 م.ح.ش المتعلقتين بتوزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين ، تم التأكيد على ضرورة :
ـ القضاء على أوجه التمييز وعدم التوازن في مخاطبة الزوج والزوجة بتلك الحقوق والواجبات ، وتحميل الالتزام بالوفاء بها على وجه المساواة ودون تمييز بسبب الجنس الذي كان وراء تأثر المشرع المغربي بالتفسير الفقهي لمفهومي الطاعة والقوامة.
وكان أول هذه الحقوق والالتزامات التي تتطلب مخاطبة متساوية والتي لها علاقة بموضوع البحث ، الفقرة الأولى من المادة 36 م.ح.ش التي جاءت على الشكل التالي :
ـ صيانة الزوجة نفسها وإحصانها .
وقد تم التعرض للانتقادات التي وجهت إلى هذه الفقرة باعتبار أن هذا الالتزام هو التزام وحق مشترك بين الزوجين بحكم المخاطبة المتساوية للشريعة الإسلامية عند الإخلال به من الزوجين أو أحدهما ، وما الصيغة التي اعتمدها المشرع إلا دليل على تأثره بالسلطة التي منحها الفقه للزوج على جسد الزوجة وتحركاتها داخل البيت وخارجه بحجة الحفاظ على شرفها .
وقد طالبنا قبل صدور مشروع مدونة الأسرة ـ في ترقبنا لما ستسفر عنه أعمال اللجنة الملكية لمراجعة المدونة ـ أن يعاد النظر في هذه الفقرة على الشكل الذي اعتمدناه في تحليل مفهوم الإحصان في وجهه الإيجابي ، أي المعاشرة الزوجية ، ووجهه السلبي ، أي الإخلاص وعدم الخيانة، وذلك بتبني المشرع الصيغة التالية :
ـ إحصان كل منهما الآخر وعدم خيانته .
وفي هذا الإطار تساءلنا ، والأمل يحدونا في ذلك ، فيما يتعلق بالتزام حسن المعاشرة، هل يمكن للمشرع أن يخطو خطوة شجاعة ويلغي مفهوم الطاعة كما سار على ذلك المشرع التونسي ، وأن يعيد النظر في كل ما يترتب عنها من تقسيم تقليدي للحقوق والواجبات بين الزوجين كزيارة أهلها واستزارتهم وإكرام والدي الزوج وأقاربه دون وضع هذا الالتزام على عاتق الزوجة فقط؟
وفرض علينا هذا التساؤل تساؤلا آخر وهو هل يمكن أن يسير المشرع في تعديله ، إلى إلغاء الرئاسة الزوجية بما يحقق الرؤية العادلة لتوجهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس للجنة الملكية بتحقيق المساواة بين الزوجين في علاقتهما داخل الأسرة بما يتوافق مع حقوق الإنسان والمرجعية الإسلامية ، خصوصا إذا علمنا ـ كما أوضحنا ذلك في هذا البحث ـ أن تطبيق مبدأ المساواة في توزيع هذه الحقوق والواجبات لن يمس في شيء المبادئ العليا للشريعة الإسلامية، بل على العكس من ذلك فإن إعادة النظر فيها هو عين العدل والمساواة .
القسم الثاني
وقد حاولنا أن نبرز فيه بعض حالات الإخلال بالالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة بين الزوجين ، وكذا الإخلال بالشروط الاتفاقية في عقد الزواج وآثار ذلك ، فالتمييز بين الزوجين في الآثار التي رتبها الفقه والقانون والقضاء على هذه الحالات كان واضحا، مما دفعنا إلى تقييم تلك الآثار واقتراح بدائل لها . ويمكن صياغة الملاحظات التي استنتجناها من خلال دراستنا وتحليلنا لهذه الآثار في سؤالين :
ـ هل استطاع الفقه والقانون والقضاء في ترتيبه لتلك الآثار تمكين المتضرر من الإخلال بالتزام المساكنة من اقتضاء حقه ورفع الضرر عنه ؟
ـ وهل كانت الوسائل المتاحة أمام المتضرر من الزوجين كفيلة بتحقيق التوازن في العلاقة الزوجية ورفع الظلم والجور عند الإخلال بالالتزامات الزوجية ومنها التزام المساكنة بين الزوجين؟
وقد اتضح لنا مرة أخرى ، التأثير السلبي لتفسير مفهومي القوامة والطاعة على آثار الإخلال بهذه الالتزامات، حيث جاءت المخاطبة بها غير عادلة وغير متوازنة بحسب ما إذا كان المخل هو الزوج أو الزوجة .
فالحقوق الزوجية ليست مطلقة بل مقيدة بهدفها الذي منحت من أجله ، فإذا أساء أحد الزوجين استعمالها وجب إيقاع الجزاء عليه إحقاقا للحق وجبرا للضرر. كما أن الالتزامات الزوجية هي قيود تلزم من تحمل بها بالوفاء بها وفاء تاما وبحسن نية ، فإذا أراد التملص منها سواء بضرر أو بدونه تحمل نتيجة الإخلال أو التقصير بالوفاء بها دون تمييز بسبب الجنس .
وهذه الآثار لا تعدو أن تكون :
ـ إجبارا على التنفيذ،
ـ أو فصما للرابطة الزوجية ،
ـ أو التعويض إن توافرت شروطه .
إضافة إلى آثار أخرى في القانون الجنائي .
ومن خلال دراسة فقهية وقانونية وقضائية مؤصلة لهذه الآثار ، ظهر تحيز الفقه للزوج ومحاولاته فرض شروط معجزة للزوجة للتخلص مثلا من علاقة زوجية لم تعد تحقق القصد والغاية منها ، سواء في حالات التطليق للغيبة أو عدم الإنفاق أو العيب أو الهجر أو الضرر. وقد كانت المدونة والقضاء المغربي وفيين لهذا التحيز ، بل إن القضاء المغربي أضاف فيما يخص التطليق للضرر كأثر لإخلال الزوج بالتزام المساكنة شروطا لا تعتمد حتى المرجعية الفقهية ، بل كانت متأثرة بالموروث الثقافي من عادات وتقاليد بعيدة عن مقاصد الشريعة الإسلامية في الفرقة ، مما جعل فصم الرابطة الزوجية من الأمور شبه المستحيلة .
كما برز التعسف في ممارسة حق التمسك بالعلاقة الزوجية أو إنهائها، وكل هذا يدل دلالة قاطعة على سلبيات التفسيرات الفقهية لمفهومي القوامة والطاعة وعلى ابتعادها كليا عن مفهوم السكن والمودة والرحمة بين الزوجين . وهذا ما جعلنا نتساءل :
ـ هل هناك حل قادر على إعادة التوازن بين حقوق وواجبات الزوجين وإعادة الاستقرار إلى الحياة الزوجية ؟
وقبل محاولة الإجابة عن التساؤل المطروح ، انطلقنا من مسلمة مفادها أن بلادنا عرفت في السنين الأخيرة تحولات عميقة شملت مختلف المجالات ، وكان لمجال حقوق الإنسان عموما ، وحقوق المرأة على وجه الخصوص ، نصيبها الأوفر في إطار هذه التحولات ، حيث طرحت عدة تحديات من أجل تحقيق الاحترام الواجب لشخصية المرأة وحقوقها باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا من جهة ، ولتأمين قيام أسرة متينة الأسس من جهة أخرى .
وفي هذا الإطار، كانت قضايا الأسرة والعلاقة بين الزوجين وما لهما من الحقوق وما عليهما من الواجبات في صلب اهتمامات تدبير الشأن العام الوطني . هذه التطورات المجتمعية التي تعرضت لها الأسرة المغربية أثرت بشكل كبير على نوعية العلائق داخلها، فبدا الفرق شاسعا بين الواقع المعيش وكثير من أحكام مدونة الأحوال الشخصية بحكم تأثرها بمرجعيتها الفقهية، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والواجبات بين الزوجين ومنها المساكنة ، مما جعل محور نشاط مجموع فعاليات المجتمع المدني المغربي ،المطالبة بمراجعة جذرية لنصوص المدونة بما يحقق العدل والمساواة داخل العلاقة الزوجية .
وقد تم التعرض في هذا البحث لأغلب التعديلات التي لم تر النور لما صاحبها ولا يزال من ردود فعل من طرف الاتجاه المحافظ الذي يرفض أي تعديل بحجة مساسه بمبادئ الشريعة الإسلامية ـ مع أن نص المدونة هو تفسير فقهي لهذه المبادئ يحتمل الخطأ والصواب ـ مقابل اتجاه متفتح حداثي يرى مراجعة المدونة انطلاقا من التغيرات المجتمعية وارتباط المغرب بالمعاهدات الدولية ومبادئ حقوق الإنسان .
وقد شهدت الساحة الفكرية القانونية في المغرب تداعيات هذا الصراع الذي خرج عن كل منطق وتعقل ووصل كما أشرنا لذلك سابقا ، إلى درجة اتهام كل مطالب بالتعديل بالكفر والإلحاد ، وذلك إثر عرض الحكومة لمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية سنة 1999.
وكانت الخطوة الجريئة لجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني في إطار توجهه العام منذ بداية التسعينات لفتح حوار بناء حول قضايا الأسرة بارتباط مع المسار التنموي للبلاد، بتعيين لجنة لمراجعة المدونة بما يحقق العدل والمساواة داخل الأسرة ويقضي على التفكك الأسري داخلها ، وكان من نتائجها التعديلات التي همت مدونة الأحوال الشخصية في شتنبر 1993 مسجلة بذلك خطوة هامة على طريق إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم المتصلة بالمرأة والأسرة عموما ، وقطيعة مع قدسية هذا القانون ورفض كل محاولة لتعديله . وفتح باب النقاش الحر المثمر أمام كل ذي نية سليمة ، وهو ما جعل النص ، بعد تعديله وبالرغم من بعض إيجابياته ، محط دراسة انتقادية هامة من طرف بعض الفقه المغربي .
وقد حرص جلالة الملك محمد السادس بعد توليه عرش آبائه وأجداده المنعمين على مواصلة هذا التوجه النبيل ، حيث أكد جلالته في غير ما مناسبة على ضرورة العمل على إدماج المرأة في التنمية وتحسين أوضاعها القانونية والاقتصادية والاجتماعية ، في انسجام تام والتزام كامل بثوابت مرجعيتنا الإسلامية ، مع الأخذ في الاعتبار في نفس الوقت ، انخراط بلادنا والتزامها بالعديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان عموما ، وحقوق المرأة والطفل بصفة خاصة .
ورغبة منه حفظه الله في وضع حد للصراع المقلق الذي بدت تداعياته واضحة على الساحة الفكرية المغربية بخصوص هذا الموضوع ، وفي إطار اهتمامه بالأسرة وقضاياها، جاء القرار الملكي بإحداث اللجنة الاستشارية الملكية لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية مراجعة لا تخرج عن ثوابتنا الإسلامية ولا تغفل في نفس الوقت ارتباط المغرب بالمجتمع الدولي ، ليتوج جلالته هذا المسار ويجعل من النهوض بأوضاع الأسرة والسير قدما نحو تحقيق مفاهيم العدل والمساواة والمودة داخل العلاقة بين طرفيها ضمن الأولويات الوطنية على مختلف الأصعدة .
وقد كان هذا البحث المتواضع موازيا لأعمال هذه اللجنة الموقرة التي ضمت خيرة العلماء والفقهاء ورجال القانون والباحثين الجامعيين ، مما حفزنا على الإسراع بإتمامه قبل صدور مدونة الأسرة الجديدة ، واضعين في اعتبارنا ، بغض النظر عن الدراسة الأكاديمية ، غاية أساسية هي المساهمة المتواضعة لما تصورنا تعديله في بنود المدونة ، خاصة ما يتعلق بموضوع بحثنا.
ذلك أنه حان الوقت في بلدنا الذي اختار هدفا له " دولة الحق والقانون " أن تسود الديموقراطية أهم خلية في المجتمع ، وأن يكون رائدا لكثير من الدول في تكريس المساواة والعدل بين الرجل والمرأة على هدي رسول الأنام ـ ص ـ " النساء شقائق الرجال في الأحكام" . خصوصا وأن جميع الظروف مواتية لذلك، فالإرادة السياسة متوفرة ، وجميع فعاليات المجتمع المدني متفقة على أنه حان الوقت لرفع مظاهر الظلم والجور اللذين سادا لحقبة طويلة العلاقة الزوجية دون تمييز بين الرجل والمرأة ، وذلك بتحديد التزامات كل منهما وحقوقه ، لأن الضحية الأولى هم الأطفال ثم الأسرة والمجتمع .
والتزاما منا بمنهجية البحث المعلن عنها في بدايته ، قمنا بتقسيم القسم الثاني إلى أربعة أبواب كالتالي:
الباب الأول وعرضنا فيه لبعض حالات الإخلال بالتزام السكن ببيت الزوجية وآثاره فقها وقانونا وقضاء ، حيث تبين لنا من خلال دراسة هذه الحالات أن الإخلال فيها قد تبدأ بوادره حتى قبل البدء بالمساكنة سواء من طرف الزوج أو الزوجة . فالزوج قد يمتنع عن دعوة الزوجة للدخول أو لا يسلم لها معجل صداقها أو لا يعد المسكن وفق شروطه الشرعية . كما أن الزوجة قد تمتنع عن الدخول لأسباب مختلفة ، وقد يكون عدم تسليم الزوج لها معجل صداقها أو عدم إعداد المسكن مبررا شرعيا لهذا الإخلال .
أما بعد الدخول فإن أهم حالات الإخلال بهذا الالتزام من طرف الزوج مغادرته لبيت الزوجية دون عذر شرعي ، وبالنسبة للزوجة النشوز .
فإذا كانت المدونة قد اعتبرت المساكنة الشرعية من الحقوق المتبادلة بين الزوجين، بمعنى أنه يجب على الزوج أن يستقر مع زوجته في بيت الزوجية وألا يهجره ، وأن يبيت معها فيه، وأن يقوم بواجبات الحياة الزوجية المعتادة ، وإذا كان من حق الزوج طلب إجبار الزوجة على الرجوع حال إخلالها بهذا الالتزام ، فإنه لا يوجد بنصوص المدونة ما يخول الزوجة إمكانية ممارسة هذا الحق من جانبها في حالة مغادرة الزوج لبيت الزوجية وعدم تحقيقه للمساكنة الشرعية وإن كان ذلك لعدة سنوات، وهذا يثبت بعض جوانب التفاوت والاختلاف بين الزوج والزوجة في المفهوم القانوني لالتزام المساكنة الشرعية الذي تقول عنه المدونة إنه التزام متبادل بين الزوجين ، وكل ما للزوجة في هذه الحالة هو متابعة الزوج بجريمة إهمال الأسرة إذا توافرت شروطها ، أو أن تطلب التطليق استنادا للمادة 57 م.ح.ش المتعلقة بالتطليق لغيبة الزوج.
فالمشرع المغربي لا يعتبر غياب الزوج عن بيت الزوجية دون عذر مقبول" نشوزا" من طرف الزوج ، ولم يحدد نصوصا جزائية لمواجهة هذا الإخلال بطريقة ترفع الظلم عن الزوجة ، بل اقتصر على منحها طلب التطليق ووفق شروط يصعب في أغلب الأحوال إثباتها.
فعلى ضوء ما سبق ذكره بخصوص غيبة الزوج عن بيت الزوجية فقها وقانونا وقضاء،رأينا ضرورة تدخل المشرع المغربي لإعادة صياغة المادة 57 م.ح.ش على الشكل التالي :
" إذا غاب الزوج عن زوجته مدة تزيد عن سنة سواء بعذر أو بلا عذر ، معلوم المكان أو مجهوله، أمكن للزوجة طلب التطليق لذلك ، ولو كان لزوجها مال تستطيع الإنفاق منه ".
وانصبت اقتراحاتنا على:
حذف الفقرة الثانية من المادة 57 م.ح.ش ، واعتبار تغيب الزوج أكثر من سنة دليلا على عدم رغبته في استمرار الحياة الزوجية . وحتى لو تبين أن له عذرا قاهرا فإن تغيبه مدة تزيد عن السنة يقوم حجة على إخلاله بالتزام المساكنة ببيت الزوجية وقرينة على الضرر الحاصل للزوجة مما يخولها الحق في طلب التطليق للضرر طبقا للمادة 56 م.ح.ش ، ولم لا الاستغناء كليا عن المادة 57 م.ح.ش والاكتفاء بالمادة 56 م.ح.ش المتعلقة بالتطليق للضرر لأنها تستوعب حالة الغياب والأضرار المترتبة عنه .
ويبدو التحيز والتمييز في ترتيب آثار الإخلال بالتزام السكن بالنسبة للزوجة واضحا . فالفقه بالغ كثيرا في تفسير مفهوم طاعة الزوجة للزوج والصلاحيات التي تخولها إياه القوامة إزاء شخصها وتصرفاتها داخل البيت وخارجه ، وهو ما انعكس بالتالي على تفسير النشوز ودلالاته الاصطلاحية حيث رتب الفقه على نشوز الزوجة أي خروجها من بيت الزوجية دون إذن زوجها ، سقوط أو إيقاف نفقتها ، وهو ما لم تنص عليه الشريعة الإسلامية التي اقتصرت على مواجهة نشوز الزوجة باتباع الوسائل التأديبية المشار إليها في الآية 34 من سورة النساء ، حيث احتل الضرب فيها المرتبة الأخيرة باعتباره وسيلة استثنائية حصر بعض الفقه استعمالها عند ارتكاب الزوجة للفاحشة ، وما لا يقبح الوجه أو يشوهه ، وآخرون قصروه على تخويفها بعود السواك أو رميها بما يعادل حفنة من أوراق الشجر وتفصيل ذلك في الهوامش .
وأبرزنا الموقف الفقهي المتشدد من هذه الوسيلة والذي لم يأخذ بعين الاعتبار في تفسيرها أسباب نزول الآية ولا الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ذلك الوقت ، والتي أصبحت تتعارض مع التطور الذي عرفته وضعية المرأة في الوقت الراهن ومع ما أوردناه في البحث عن معاملة الرسول ـ ص ـ لنسائه ونهيه عن ضرب النساء بصفة عامة ، الشيء الذي يجعل من الاحتفاظ بوسيلة التأديب هذه أمرا متجاوزا ومنافيا لمفهوم حسن المعاشرة بين الزوجين . كما عرضنا لموقف القانون والقضاء اللذين ظلا وفيين للتفسيرات الفقهية لأحكام نشوز الزوجة بحكم مرجعيتهما الفقهية . حيث رتبت المدونة على نشوز الزوجة إيقاف نفقتها متأثرة في ذلك بالمذهب الظاهري. ورغم ما قد يبدو من إحجام المشرع المغربي عن تبني الموقف الفقهي العام الذي رتب على نشوز الزوجة سقوط نفقتها حيث اقتصر على إيقافها فقط لحين رجوعها لبيت الزوجية ، فقد طالبنا بمراجعته لموقفه نظرا للطابع الإنساني للنفقة ولصبغتها المعاشية، الشيء الذي سيدفع بالزوجة التي لا معيل لها إلى نهج سبل تمس بكرامتها وشرفها وإنسانيتها ، وفي ذلك ما فيه من هدم للأخلاق والطعن في قيمنا وثوابتنا الإسلامية، وهذا ما لا تقول به الشريعة الإسلامية قطعا.
كما نجد القضاء المغربي في تطبيقه لإيقاف النفقة قد انتهج شروطا وإجراءات خاصة بمسطرة رجوع الزوجة إلى بيت الزوجية كانت محل عدة انتقادات من طرف بعض الفقه المغربي أوردناها في محلها .
وأمام عيوب مسطرة الرجوع ومن بعدها إيقاف النفقة وربطها بالطاعة والاستمتاع والاحتباس، وهي مفاهيم غالى الفقهاء في تفسيرها ورتبوا عليها نتائج غير منطقية أبرزناها بوضوح في هذا البحث، تبنينا رأي بعض الفقه المغربي لرجاحته، بتطبيق القضاء أحكام الشقاق المنصوص عليها في المذهب المالكي إذا بلغت العلاقة درجة من النفور والتصدع .
وبصفة عامة ، يتعين أن يخضع نشوز أي من الزوجين لتدخل القضاء بتطبيق آية "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا " ، مع الأخذ في تطبيقها بالرأي الفقهي الذي يقول بوجوب بعث الحكمين متى خيف الشقاق وليس بعد حدوثه فقط ، وبتوقيع الطلاق بعد العجز عن إصلاح ذات البين، وإلزام المخطئ من الزوجين بأداء تعويض إلى الزوج المتسبب في الشقاق ، أو بدون إلزام أي منهما بالأداء إن ارتضيا معا الفرقة . ومن هنا تبرز الحكمة الإلهية في هذه الآية التي وضعت بلسما وحلا لعدم التوافق بين الزوجين حسما لكل الآثار السلبية للنفور واستحالة العشرة .
وقد تناولنا في الباب الثاني حالات إخلال الزوجين بالإحصان في وجهيه الإيجابي والسلبي وآثاره فقها وقانونا وقضاء .
ففيما يتعلق بالإخلال بالتزام الإحصان في وجهه الإيجابي ، أي المعاشرة الزوجية ، اتضح لنا من خلال هذا البحث أن العلاقة الجنسية تحتل مكانة هامة في العلاقة الزوجية وأن من المؤثرات السلبية لعدم تحققها الأمراض والعيوب الجنسية . والسؤال الذي طرح نفسه هو : هل يمكن اعتبار كل العيوب والأمراض الجنسية إخلالا تترتب عنه آثاره ؟
وقد تطلبت منا الإجابة عن هذا السؤال التمييز :
ـ بين العيوب والأمراض الجنسية التي يتم إخفاؤها أو السكوت عنها قبل العقد أوقبل الدخول ، بقصد التغرير أو التدليس في كل الحالات ،
ـ وبين العيوب والأمراض الجنسية الحادثة بعد العقد والدخول والتي يستحيل معها تحقق الوفاء بالمعاشرة الزوجية حيث تعتبر في هذه الحالة ـ رغم أنها قضاء وقدر ـ إخلالا عقديا بعدم تحقق نتيجة ومقصد عقد الزواج .
وبعد عرض الموقف الفقهي العام من الحالتين وموقف المدونة وتطبيقات القضاء المغربي خلصنا إلى الاستنتاجات التالية :
ـ تصور مبالغ فيه لحقوق الرجل من ناحية ، وقسوة شديدة على المرأة من ناحية أخرى . فالمرأة إذا كانت عاجزة جنسيا أو مصابة بمرض معد فإن الرجل يستطيع أن يطلقها أو يتزوج زوجة ثانية ، أما إذا أصيب الرجل بأي مرض أو عيب ولو كان مانعا من المعاشرة الزوجية فليس أمامها سوى طلب التطليق وليس في كل الحالات. فإذا ضربنا حول هذه الإمكانية سياجا من الشروط والقيود التي وضعها القانون تأثرا منه بمرجعيته الفقهية ، كان ذلك خلافا للعدل وانعداما في تحقيق التوازن في العلاقة الزوجية وهما من خصوصيات الشريعة الإسلامية التي تحث على المعاشرة بالمعروف. فالزوجة يجب أن تعيش في كنف الزوج دون ضرر أو تعد أو خوف من ألا تقيم حدود الله ، فإن لم تتوفر هذه الشروط في العلاقة الزوجية وجب العمل بقوله تعالى : "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، مع منح المرأة الحق في التفريق لأي عيب أو مرض مؤثر في المعاشرة الزوجية سواء كان قبل الزواج أو بعده مع اعتماد الخبرة الطبية في ذلك .
ـ عدم تعرض المدونة لعيوب الرضا ومنها التدليس في إخفاء العيوب ،وهو نقص وثغرة يجب على المشرع تلافيها في إطار التعديلات المرتقبة .
وانطلاقا من قراءة المادة 54 م.ح.ش ومواد تشريعات بعض الدول العربية فيما يخص موقفها من التطليق للعيوب ،اقترحنا تعديل المادة المذكورة على الشكل التالي :
ـ لكل من الزوجين أن يطلب التفريق من القاضي إذا وجد بصاحبه علة تمنع تحقق المقصود من النكاح ، أو مرضا معديا أو منفرا أو قاتلا تتم العدوى به عن طريق المعاشرة الزوجية علم بها أم لم يعلم، مع الرجوع للقواعد العامة للمسؤولية المدنية فيما يخص العيوب أو الأمراض الخطيرة المدلس بها من طرف الزوج أو الزوجة باعتبار التدليس عملا غير مشروع تترتب عنه المسؤولية التقصيرية.
ـ يعتمد في وصف العلل على الأطباء ، فإن كان يرجى شفاؤها خلال سنة لم يفرق بينهما وإلا فرق بناء على طلب أحدهما.
ـ إذا أمكن إزالة العلة من المصاب بها بعملية جراحية أو علاج كيميائي ولو تعدى السنة سقط حق طلب التفريق إذا وافق المتضرر على ذلك.
ـ التفريق للعلل المذكورة طلاق بائن .
ومن الحالات التي تؤثر على المعاشرة الزوجية أيضا الإيلاء والهجر ، حيث لاحظنا أن صيغة المادة 58 م.ح.ش يبدو فيها بوضوح خلط المشرع بين الإيلاء والهجر ، مما يجعل المادة خاصة بالإيلاء الذي ندرت حالاته في وقتنا الحاضر ، مقابل الهجر الذي بدت ضرورة ترتيب أحكامه ملحة في هذه الظروف التي أفرزت حالات من الهجر، قد لا تعتبر إخلالا لأن قصد الإضرار فيها منعدم و لكن الضرر فيها محقق ، لم يتعرض المشرع المغربي لتنظيم أحكامها مع أن تأثيرها السلبي على العلاقة الزوجية محقق وهي حالة السجن وحالات الابتعاد المادي والمعنوي للزوج من أجل البحث عن لقمة العيش أو متابعة تعليمه أو لأسباب تتعلق بنوعية عمله وما يتطلبه من أسفار متكررة واستقرار قد يطول أكثر من سنة ، مما يعرض الزوجة للعنت والحرمان ويجعلها تعيش وضعية شاذة لا هي بالزوجة ولا بالمطلقة.
وقد اقترحنا حذف المادة 58 م.ح.ش لتعلقها في واقع الأمر بالإيلاء ، وتمكين الزوجة من طلب التطليق للضرر في هذه الحالات ، وإن كان اعتماد المشرع الأخذ بالتطليق للشقاق أهون على الزوجة لأنه سيعفيها من عبء الإثبات الذي تتبين صعوبته في هذه الحالات التي يحتل فيها الضرر المعنوي مكانة هامة ،وذلك إذا ما أضاف المشرع المغربي لحالات التطليق ( التطليق للشقاق )، إذ أن مصير كل زيجة أفرغت من معاني المعاشرة والتقارب والتوادد أن تخلق شقاقا قد يستحكم بمرور الوقت ولا يبقى معه إلا إنهاؤها .
وفيما يتعلق بالوجه السلبي للإحصان وهو إخلال الزوجين أو أحدهما بالتزام الإخلاص، ،كان اهتمامنا منصبا حول أخطر صوره وهي الخيانة الزوجية . وقد تمت دراسة هذا الإخلال انطلاقا من القانون الجنائي المغربي ومقارنته بقوانين العقوبات لبعض الدول العربية والأجنبية ، وبين البحث في أساس العقاب عن هذه الجريمة و خصوصيتها وما يترتب عن ذلك من نتائج . كما تطرقنا للآثار الجنائية والمدنية المترتبة عن الإخلال بالتزام الإخلاص مع تقييمها ، وخلصنا لعدم فعالية الجزاء الجنائي في كبح الغريزة الجنسية ، وكذا عيوب الالتجاء إلى فصم الرابطة الزوجية لنفس السبب.
وتم التساؤل ، أمام عدم فعالية الجزاءين الجنائي و المدني في مواجهة هذا الإخلال أو الحد من انتشاره ، حول ما إذا لم يحن الوقت بعد لتدخل المشرع المغربي سواء في الميدان الجنائي أو المدني لوضع نصوص قانونية فعالة لمواجهة جريمة الخيانة الزوجية وتداعياتها، ، خصوصا وأن المغرب يشهد الآن طفرة قوية في إطار تعديل مجموعة من القوانين كالقانون الجنائي وقانون مدونة الأحوال الشخصية ، مما دفعنا إلى اقتراح ثلاثة خيارات وضعناها أمام المشرع المغربي في محاولة لمواجهة زحف هذه الجريمة وتأثيرها على كيان الأسرة والمجتمع.
ـ فإما أن ينسجم مع سياسته العقابية التي انتهجها لهذه الجريمة ، ويمشي فيها إلى النهاية شأنه في ذلك شأن المشرع الفرنسي ويلغي هذه الجريمة نهائيا ،
ـ وإما أن ينقلها إلى مكانها الطبيعي وهو القانون المدني ،على اعتبار أن الزنى جريمة مدنية، سواء من حيث موضوعها – إذ عقد الزواج هو مصدرها – ، أو من حيث أساسها –لأنها إخلال بفكرة الإخلاص الزوجي – ، والقواعد المدنية كفيلة بحماية هذا الإخلاص . كما أن وضع الخيانة الزوجية في إطار القانون المدني سينهي سلطات النيابة العامة في متابعة الزوجة التي تمارس الخيانة علنا في حالة سفر الزوج، وهو وجه آخر من أوجه التمييز في المخاطبة بجزاء الإخلال بواجب الإخلاص بحسب ما إذا كان المخل الزوج أو الزوجة آن الأوان لتحقيق المساواة في المخاطبة به عند تعديل بنود القانون الجنائي .وما يؤيد هذا التصور أن جريمة الخيانة الزوجية من جرائم الشكوى ، لا يتابع فيها المتهم إلا بناء على شكوى يرفعها المتضرر من هذا الإخلال ، بل يمكنه وقف الدعوى في أي مرحلة من مراحلها.
ـ وإما التخلي عن الخلط الهجين بين الأخذ بالتشريعات الغربية والتشبث في نفس الوقت بالشريعة الإسلامية ، بتبني سياسة حمائية للأسرة كفيلة بالقضاء على هذه الجريمة بما يتناسب مع خصوصية المجتمع المغربي التي تختلف تماما عن خصوصيات المجتمع الغربي الذي استقى منه المشرع المغربي أسس العقاب على هذه الجريمة وجزاءها .
وقد ناقشنا الاحتمالات الثلاثة ومدى إمكانية تطبيقها بالنظر إلى الواقع المعيش من ناحية ، وتشبث المجتمع المغربي بمرجعيته الإسلامية ومبادئ حقوق الإنسان التي تحمي الحرية الشخصية للأفراد من ناحية ثانية.
وخلصنا إلى الاقتراحات التالية :
ـ ضرورة تعديل المشرع المغربي للمادة 491 ق.ج بشكل يخرج فيه عن هيمنة المشرع الفرنسي، واختياره نموذجا عقابيا ـ إذا ارتأى ضرورة بقاء هذه الجريمة في إطار القانون الجنائي ـ يتناسب من جهة مع رغبته الأكيدة في عقاب الفساد والخيانة الزوجية ، ويتماشى من جهة أخرى مع نهج التعايش بين الجنسين الذي اتخذ أبعادا هامة بفعل خروج المرأة للعمل والاختلاط بين الجنسين والخلوة بينهما لأسباب مهنية أو غيرها وسفر الأزواج دون الزوجات أو العكس لنفس الأسباب ، مما يفتح الباب واسعا أمام كل ذي نفس ضعيفة لارتكاب الفاحشة .
ـ ضرورة إعادة النظر في المنظومة التشريعية لقوانيننا بصفة عامة ، وعدم قصر تطبيق الشريعة الإسلامية،أو التفسير الفقهي لها على الأصح ، على ميدان الأسرة ، وذلك بنهج سياسة تشريعية تأخذ بعين الاعتبار من جهة ، التحولات المجتمعية والتزام بلدنا باتفاقيات حقوق الإنسان ، ولا تغفل من جهة أخرى مرجعيتنا الإسلامية وخصوصية العلاقة الزوجية، وذلك بالالتجاء إلى عقوبات إضافية يكون من شأنها ترهيب العازم على الإخلال بالتزام الإخلاص، خصوصا الرجوع عن نيته الآثمة ، كحرمان المخل منهما بالتزام الإحصان ، من حضانة الأطفال ، أو رؤيتهم لمدة معينة ، أو من ممارسة بعض حقوقه المدنية ، أو عرضه لإعادة تأهيله أخلاقيا في مؤسسات خاصة شبيهة بمؤسسات الأحداث من شأن الولوج إليها التقليل من شأنه وإشعاره بفداحة عمله.أو إبعاده عن بيت الزوجية فترة يعيد فيها تقييم تصرفاته والتراجع عنها مستقبلا ..والأمثلة كثيرة لهذه التدابير يمكن اقتباسها من التشريعات التي أثبتت نجاعتها. وأخيرا إعطاء الحق لمن لم يعد يطيق منهما حياة زوجية أفرغت من محتواها أن يلتجئ إلى مسطرة الشقاق ، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وكم من حياة زوجية بقاؤها أسوء من إنهائها. وإن كان المؤمل أن يصدر عن المشرع الجنائي المغربي تصريح مباشر بتبني اتجاه يعيد للعلاقة الزوجية حصانتها ويردع كل ماس بحرمتها ويضمن لها قدرا من الثبات والاستقرار بدلا من هذا التلقيح العشوائي للنصوص .
وقد كان الباب الثالث موضوعا لعرض حالات الإخلال بالتزام حسن المعاشرة بالمعروف بين الزوجين وآثاره ، وقد انتقينا أهم حالاته وأخطرها على استقرار الأسرة واستمرار العلاقة الزوجية وهي :
ـ إخلال الزوج بالتزام الإنفاق ،
ـ إضرار أحد الزوجين بالآخر بأي نوع من أنواع الإضرار،
ـ استعمال أحد الزوجين الإيذاء العمدي ،
ـ اتهام أحد الزوجين الآخر بالخيانة الزوجية ،
ـ تعسف الزوج أو الزوجة في إنهاء العلاقة الزوجية .
وقد تلخصت الآثار المترتبة عن حالات الإخلال المذكورة إما في الإجبار على التنفيذ، أو فصم الرابطة الزوجية بالطلاق أو التطليق أو الخلع مع التعويض عن الضرر إن توفرت شروطه ، إضافة إلى الجزاء الجنائي في بعض حالات الإخلال التي نص عليها المشرع المغربي كحالة الامتناع عن تنفيذ الحكم القاضي بالنفقة .
وقد خلصنا في هذه الدراسة التي اعتمدنا فيها الموقف الفقهي العام وموقف القانون والقضاء إلى بعض الملاحظات التي دفعتنا إلى الاقتراحات التالية :
ـ ضرورة إعادة النظر في مفهوم الإنفاق بالنظر إلى التحولات المجتمعية التي جعلت مساهمة المرأة فيه عاملا في تغيير صورة الزوج القوام والقادر على تحمل الإنفاق على زوجته وأسرته، وذلك بتدخل المشرع بنص صريح بضرورة مساهمة الزوجة في نفقة الأسرة ، خصوصا في حالة إعسار الزوج بالإنفاق مقابل يسر الزوجة أو توفرها على عمل مأجور ، شريطة ضمان هذه المساهمة بتمكينها من اقتسام الأموال التي اشتركت في جمعها مع الزوج بعد زواجهما ،
ـ تدخل تشريعي أكثر فعالية لضمان حقوق الزوجة في الإنفاق عليها وعلى أولادها وفي آجال قصيرة للصبغة المعاشية للنفقة ،
ـ تفعيل مقتضيات مشروع صندوق الضمان العائلي وجعله شاملا الزوجات المهملات والمطلقات وأبنائهن ،
ـ تجريم العنف الأسري بصفة عامة والعنف الزوجي بصفة خاصة ، بوضع جزاءات جنائية صارمة ورادعة قبل حدوث العنف وحتى قبله ، وبأشكاله الجسدي والمعنوي والجنسي، فقد أثبتت شهادات وإحصائيات مراكز الاستماع والجمعيات النسائية وأقسام الشرطة ، أن الضرب مثلا لا يمت بصلة للضرب المشار إليه في الآية الكريمة ، بل هو اعتداء جسدي يصل لحالاته القصوى في بعض الأحيان وهي الوفاة أو عاهات مستديمة أو أمراض نفسية خطيرة تستلزم العلاج لمدى الحياة ،
ـ جعل " الزوجية " ظرفا مشددا في حالات العنف ،
ـ تعزيز العقوبة الأصلية للعنف الأسري حال تنصيص المشرع عليه صراحة بإجراءات أو تدابير احترازية لردع المتسبب من الزوجين في الإيذاء ،
ـ إلغاء المادة 418 ق.ج المكرسة للتمييز في العقوبة بين الزوج والزوجة ، أو جعل العذر المخفف للعقوبة شاملا الزوج والزوجة في حالة رغبة المشرع في الاحتفاظ بها .
ـ التنصيص على عقوبة جنائية حال اتهام أحد الزوجين الآخر بالخيانة الزوجية مع تمكين المتضرر من الزوجين من تعويض عن الأضرار المعنوية الناجمة عن هذا الإخلال ،
ـ مراقبة القاضي لكل نزاع بين الزوجين تم رفعه إليه ، وذلك بأن يستعمل جميع الوسائل للإصلاح بينهما . وطالبنا في هذا الإطار بتفعيل قانون مجلس العائلة للقيام بدور الإصلاح بين الزوجين ، وجعل مسطرة الإصلاح إجبارية ، وفي حالة فشل الجهة المختصة سواء كانت القاضي أو الحكمين أو مجلس العائلة ، اللجوء إلى وسائل بديلة للإصلاح مع منح الزوجين مهلة للتفكير لا تتعدى الشهر وإلا فرق بينهما مع تحديد مسؤولية المتسبب في النزاع ،
ـ وفيما يتعلق بإضرار أحد الزوجين بالآخر ، لاحظنا ـ إضافة للشروط التي اعتمدها القضاء المغربي لتمكين الزوجة من التطليق للضرر مما يجعل اللجوء إلى هذه الوسيلة هدرا للوقت والمال ولا تؤدي في غالب الأحيان إلى تمكين الزوجة من التطليق ـ استبعاد القضاء تطبيق القانون المدني حتى في أهم قواعده العامة أي المسؤولية المدنية، وعدم مناقشته تطبيق مبدأ التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية في العلاقة الزوجية ـ .
وقد رأينا في موقف المجلس الأعلى ـ رغم أن كتب الفقه حافلة بتطبيقات عديدة لضمان الأضرار في جميع المجالات بما فيها المجال الأسري ـ تكلفا ظاهرا منه في التأويل يجب تفاديه مستقبلا . وإلى أن يراجع المجلس الأعلى موقفه هذا ، نقول بإمكانية الحكم بالتعويض عند إيقاع الفرقة بين الزوجين لشقاقهما، وفرض التعويض على المسيء والمتسبب في فصم العلاقة الزوجية ، مع أخذ جميع الأضرار الناجمة عن تصرفه بعين الاعتبار.
هذه أهم الملاحظات والاقتراحات التي تم الخروج بها من دراسة الأبواب الثلاثة من القسم الثاني من هذا البحث والمتعلقة بحالات الإخلال بالتزام المساكنة بين الزوجين وآثاره. وقد تم تخصيص الباب الرابع والأخير لآثار الإخلال بالشروط الاتفاقية في عقد الزواج ، انطلاقا من موقف الفقه قديمه وحديثه وكذا موقف القانون والقضاء مع تقييم لتلك المواقف ، وأوردنا آثار الإخلال بنموذجين هامين منها هما :
ـ اشتراط الزوجة عدم التزوج عليها ،
ـ اشتراط الزوجة تعويضا عند الطلاق .
وخلصنا إلى النتائج والاقتراحات المتعلقة بالشروط الاتفاقية نوجزها فيما يلي :
ـ أن للشروط الاتفاقية في عقد الزواج أهمية بالغة تؤثر إلى حد بعيد على مفهوم التزام المساكنة بين الزوجين بجميع عناصره التي توصلنا إليها ، ويبرز هذا التأثير في التخفيف من حدة مفهومي الطاعة والقوامة اللذين يهيمنان عليه ، و في تحجيم التفاوت في المخاطبة بهذا الالتزام عند الوفاء أو الإخلال به .وهذا يفرض تقرير الصفة الإلزامية للشروط المشروعة التي يلتزم بها أحد الزوجين في العقد أو في اتفاق لاحق وتنفيذها عينا ما أمكن ذلك ، مع تعزيز المادة 31 م.ح.ش بشرط جزائي عند إخلال الزوج بشرط عدم التزوج على الزوجة. ذلك أن الاتجاه الفقهي أو القانوني الذي يقول بفسخ عقد الزواج كجزاء لإخلال الزوج بالشرط دون تعويض لا يبدو سليما لأنه إذا كان الفسخ عاديا ومقبولا في العقود المدنية فهو ليس كذلك بالنسبة لعقد الزواج ، و إخلال المتعاقد بالتزامه يخول الطرف الآخر إما إجباره على التنفيذ إذا كان ممكنا، أو المطالبة بالفسخ مع التعويض عن الضرر الذي يلحقه، وقد تبين في البحث اقتصار المدونة على الفسخ دون التعويض .
ـ الإجبار على احترام الالتزام الشرطي بتقرير جزاءات مدنية متنوعة اقترحنا في البحث صورا لها انطلاقا من ملاحظات قيمة لبعض الفقه المغربي عند انتقاده لموضوع الشروط كما جاءت في المدونة .
ـ القضاء على اختلاف حكم الإخلال بالشروط كما ورد في المادتين 30 و31 م.ح.ش، والذي كان نتيجة تأثر المشرع المغربي بموقف الفقه المالكي الذي لا يعتد إلا بالشرط المقترن بالطلاق أو ما يعرف لديه بالتمليك . أما الشرط الخالي من التمليك فهو مستحب الوفاء به ولكنه لا يلزم .
ـ أن في استبعاد تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في موضوع الشروط جوانب سلبية مضرة بالزوجة ، دون إغفال أن تطبيقها التعسفي فيه إضرار مقابل للزوج كذلك ، لذا نرى أن على المشرع التدخل لبلورة الحكمة الشرعية من الوفاء بالعهود والالتزام بها وذلك آكد في عقد الزواج ، وعدم اقتصاره على نموذج واحد أو اثنين من الشروط ـ حالة التعدد والعمل بالمصالح العمومية ـ بل إقرار العمل بكل الشروط التي لا تحرم حلالا أو تحلل حراما ما دامت فيها مصلحة لأحد الزوجين أو هما معا ، كحالة اشتراط اقتسام الأموال المكتسبة بعد الزواج ، وفي حالة رفض الزوج الموافقة على هذا الشرط ـ أو مثيله ـ أن يمنح لها الحق في رفع تظلمها للقضاء لإنصافها وإجبار الزوج على الاعتراف لها بما ساهمت به ، وإن كان هذا الإجراء يتطلب توفر الزوجة على وسائل إثبات قوية وهو ما لا تتوفر عليه جل الزوجات لمساهمتهن العفوية والتلقائية دون توثيق ذلك في مستندات.
ذلك أنه عن طريق تنصيص المشرع على لزوم الشروط الاتفاقية وتعزيزها بجزاءات مدنية حال الإخلال بها سيساعد الزوجين على تلافي الثغرات التشريعية التي من شأنها خلق عدم التوازن داخل العلاقة الزوجية مما يجنبهما في مستقبل حياتهما الخوض في منازعات وخصامات تتعلق إما بالناحية المالية قي تسيير شؤون البيت، أو علاقتهما الخاصة كالسفر أو خروج الزوجة للعمل ، أو متابعة دراستها ، أو مساعدة أهلها ماديا ، والكثير من المشاكل التي كان من الممكن تلافيها لو أدرجا شروطا بها في عقد الزواج أو عقد لاحق .
هكذا يتبين لنا من خلال هذه الخلاصة أن الإشكالية الأساسية المطروحة تتمثل في :
"انعدام التوازن في توزيع الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة في المدونة خاصة التزام"المساكنة" ، التي اعتبرها المشرع المغربي في المادة 34 م.ح.ش حقا والتزاما تبادليا، سواء عند الوفاء أوالإخلال بها.
وتبين لنا كذلك أن السبب وراء انعدام هذا التوازن ليس في تعارض الآيات فهي منزهة عن التعارض أو الغلط ، وإنما السبب هو تشبث المشرع المغربي بحكم مرجعيته الفقهية بالتصور الفقهي المتشدد والمغرق في العادات والتقاليد للعلاقة الزوجية البعيدة كل البعد عن مبادئ العدل والمساواة التي تسود هذه العلاقة في المنظور الإسلامي ، وذلك باعتماد هذا الفقه تفسيرا خاصا لمفهومي الطاعة والقوامة نتجت عنه أحكام مجحفة بالمرأة ، وجعلت العلاقة الزوجية التي هي سكن ورحمة حلبة للصراع بين طرفين يفترض فيهما التعاون والتشارك لتحقيق أغراض الزواج من مودة ورحمة وسكن .
وما زاد في إظهار عدم التوازن هذا داخل الأسرة وخارجها، توقف الاجتهاد والاستمرار في ترديد الآراء وما اختلط بها من تقاليد وأعراف مما يحتم إعادة النظر في انعدام التوازن واللاتكافؤ اللذين يسودان تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين ، سواء عند الوفاء أو الإخلال بها، وذلك بتحقيق المساواة بتوافق مع الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان التي يحكمها المعروف والعدل ونبذ الجور والظلم ليس حماية للمرأة فقط ، بل حماية للأسرة أساسا ".
وإذا كان الاقتناع قد حصل الآن لدى الجميع بأن الحل يكمن في تعديل مدونة الأحوال الشخصية كإطار قانوني لهذه الحقوق والواجبات ، فإننا نقول إن التعديل غير كاف لتحقيق التوازن والعدالة داخل العلاقة الزوجية . لأن الأمر ليس رهين النصوص القانونية فقط ، بل تدخل فيه عدة عوامل أهمها :
ـ معالجة الواقع حتى يصبح مؤهلا لاستيعاب الإصلاحات، ولا يكفي لتغييره وضع تصورات أو صياغة أفكار مادام الوعي الاجتماعي محدودا، والأمية شبح يخيم على أكثر من نصف ساكنة المغرب، ومخلفات التقليد والمذهبية ما تزال سائدة، ونظام تشريعي حائر بين إرث الماضي وحضارة الغرب ، مقابل ضعف الوازع الديني وعلاقات بين الجنسين أصبحت تتجه نحو أشكال من الإباحية تهدد مؤسسة الأسرة في أهم ثوابتها وهي حلية عقد الزواج .
ـ إن النص على هذه الحقوق والواجبات في صلب القانون وتحقيق المساواة في المخاطبة بها دون تمييز بسبب الجنس غير كاف ، بل لابد من إحاطتها بالضمانات اللازمة، وذلك بالنص على جزاءات وعقوبات رادعة في حق من ينتهك تلك الحقوق والواجبات أو يخل بها مسببا أضرارا للغير؛ إذ غالبا ما تتم مخالفة النص التشريعي عن وعي وتعمد بسبب انعدام الجزاءات أو ضعفها أو عدم تناسبها مع ما سيجنيه المخل من فوائد شخصية نتيجة الإخلال، كما هو الشأن في الطلاق التعسفي ، أو الالتزام بشروط المسكن الشرعية ، أو التدليس بالعيوب ، أو الإخلال بالشروط ، وغيرها من النصوص التي تفتقر للجزاء وانعدام معايير محددة لتعويض الأضرار الناتجة عنه، وترك ذلك للسلطة التقديرية للقاضي، وغالبا ما تكون تلك التعويضات ضئيلة لا تغني المتضرر من الإخلال ولا تردع المتعسف.، وأن يعزز الجزاء بتدابير وقائية وتوفير الأطر المختصة لتنفيذها .
وإذا كانت هذه الملاحظات تنطبق على جميع النصوص القانونية فإنها تكتسي بالضرورة أهمية خاصة عند ما يتعلق النص القانوني بأهم العلاقات الإنسانية التي عرفها التاريخ، وهي العلاقة الزوجية، حماية لأطرافها من أي شكل من أشكال التعسف والإخلال، وبالتالي حماية الإطار الاجتماعي والقانوني لها ، أي مؤسسة الأسرة.ولن يتم ذلك إلا بالنظر إلى القانون برؤية شمولية، إذ يتعذر الحكم على نص قانوني معين بمعزل عن النظام القانوني ككل. ، وذلك بالركون إلى نص بصورة مجردة والتفاخر به بمعزل عن غيره من النصوص . فالحقوق يساند بعضها البعض أو العكس.كما يتعذر تحقيق هذه الغاية بمعزل عن الواقع المعيش وإكراهاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية .
إضافة إلى ما يلاحظ من التركيز المبالغ فيه على هذه الحقوق وتجسيدها تشريعيا أو إبرازها في المواثيق والمعاهدات الدولية مقابل إهمال شبه تام بالتذكير بالواجبات ، وهي رؤية مخالفة للرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية حيث الحقوق مرتبطة دائما بالواجبات وبعدم تعدي حدود الله .
لذا يتعين القيام بالتحديد السليم للمقاصد الضرورية للشريعة الإسلامية اعتمادا على استقراء مبادئها العامة ونظرتها المتكاملة إلى بناء المجتمع وعلاقات التعايش بين أفراده وخاصة بين الزوجين ، مع الاستئناس بما استجد من الأنظمة والعلاقات والتصورات الاجتماعية.وإننا لنأمل أن تسمح المراجعة الحالية بإعادة قراءة المدونة قراءة جديدة تتماشى مع التطور الحاصل في بنيات الأسرة, باعتماد الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان وإنسانيته ، مع الانفتاح على المستجدات التي تتضمنها المواثيق الدولية في هذا المجال.
وفي هذا الإطار، فإن علماءنا ومثقفينا وكل فعاليات المجتمع المدني ، مدعوون جميعا إلى تجسيد أكبر للمشروع الديمقراطي والمجتمعي الذي يقوده جلالة الملك حفظه الله على أرض الواقع، وإيلاء قضية المرأة المكانة التي تستحقها بما ينسجم مع قيمنا الحضارية وهويتنا الإسلامية النبيلة، وبما يترجم انفتاحنا على تجارب العالم واستيعابنا لثقافاته. ولن يتحقق هذا التحدي إلا بتمكين المجتمع المغربي من اجتهادات تستنبط من مقاصد الشريعة السمحة وتنفتح في نفس الوقت على تجارب الغير . وهذا يطرح إشكالية علاقة الحداثة بالموروث الثقافي المستمد من المرجعية الإسلامية شكلا لا مضمونا ، مما يتطلب وعيا حقيقيا بالقيمة التاريخية والعالمية للحداثة ورؤية نقدية جريئة للتراث لتجاوزه وإنتاج حداثة أصلية. فرغم ما يشوب فقهنا الإسلامي من تفسيرات لم تعد مسايرة للواقع المعيش ، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين ، فإنه يبقى حافلا بنظريات هامة لم تسبقه إليها أرقى التشريعات الغربية كنظرية التعسف في استعمال الحق ، ونظرية الشروط الاتفاقية كما أبرزناها عند المذهب الحنبلي ، ونظرية الضرر لدى الفقه المالكي . والمطلوب من ذوي الاختصاص البحث في بطون الكتب الفقهية لاستخراج هذه الذخيرة الثقافية بتحيينها وإعادة قراءتها بشكل يساير التطورات المجتمعية التي شهدتها الأسرة عموما ، والأسرة المغربية على وجه الخصوص ، وإلا فإنها الإعاقة الحتمية لانطلاقة حقيقية نحو الحداثة بمفهومها الشامل المرتكز على إعادة النظر في العلائق بين الجنسين انطلاقا من الخلية الأساسية للمجتمع ، وانتهاء بالمجتمع ككل .
وتأسيسا على هذه الاعتبارات، يبرز الدور الرئيسي والهام الذي يجب أن يقوم به القضاء في هذا الشأن، بحيث ينبغي توسيع دائرة تدخل القاضي ، وإعطاء مؤسسة الحكمين والمجلس العائلي المكانة الحقيقية لهما للقيام بالإصلاح بين الزوجين ما أمكن ذلك ، وتفعيل مؤسسة قاضي الأسرة التي بدأ العمل بها في بعض المحاكم وتعميمها على جميع ربوع المملكة ، مع تبسيط الشروط الواجب توفرها لإمكانية اللجوء إليها من لدن أي طرف في عقد الزواج اعتبر أن حقوقه قد مست ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالطلاق أوالتطليق أو تعدد الزوجات والتي يسودها البطء والتعجيز وإهدار جهود الطرفين.
ولن يكون تدخل القضاء المغربي ناجعا إلا بمسايرته الإصلاحات المرتقبة بتحديد المرجع والمسطرة الواجب اعتمادها من طرف القاضي في مجال العلاقات الأسرية ، والقضاء على البطء والتعقيد اللذين يسودان المسطرة القضائية الحالية ، وهي مسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف المعنية من قضاة ومساعدين ومحامين وعدول ، بل وحتى الزوج والزوجة موضوعي النزاع . وتحقيق ذلك رهين بتوفير العنصر البشري الكفء والإطار المادي الكفيل بتهييء الجو المناسب للنظر في القضايا ، وتدعيم طريقة العمل الإداري بالتقنيات الحديثة الكفيلة بحفظ القضايا والملفات ومسارها بكل دقة . كما أن من شأن هذه التقنيات المساهمة في مد الجهات المهتمة بقضايا الأسرة بإحصائيات تفيد في حصر أسباب التفكك الأسري لعرضها على الجهات المختصة لدراستها واتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهتها والتخفيف من حدتها .
ولا يغفل في هذا الإطار التذكير بأهمية الاجتهاد القضائي الذي يعتبر المحك الذي تثبت من ورائه قابلية النصوص للتطبيق أو عدم مسايرتها للواقع ، وذلك بتفعيل الإصلاحات المرتقبة حتى تستوعب التحولات التي تطرأ على المؤسسات القانونية ويوفق في معالجة الحالات التي تعرض عليه ويستشرف قصد المشرع من ورائها ، وأن يحسن استعمال سلطاته التقديرية دون تعسف لملء ما قد يشوب بعض النصوص المرتقبة من مثالب ، وأن يتخلى عن الشروط المجحفة ، خاصة بالمرأة ، في الإثبات أو التفريق والتي لم تعد ملائمة في تطبيقها للعصر الذي نعيشه ولا لخصوصية العلاقة بين الزوجين التي تتطلب مرونة أكبر على طريق تحقيق العدل والمساواة .
تلكم بعض الأفكار التي عنت لنا في خاتمة بيان المواضيع الأساسية التي تناولها هذا البحث ، استخلصناها من مجموع ما اعتمدناه من قراءات متعددة المشارب والاتجاهات الفقهية والقانونية والاجتماعية التي لها ارتباط بقضايا الأسرة بصفة عامة، والعلاقة بين الزوجين بصفة خاصة ، وحقوقهما وواجباتهما بشكل أخص ، آملين أن تكون إسهاما متواضعا لتحقيق التوازن في علاقة تمس كل فرد من أفراد المجتمع حان الوقت للقضاء على أوجه التمييز واللاتكافؤ بين طرفيها ، والتخفيف من حجم التفكك الذي يهدد كيانها حماية لها و للمجتمع ككل .ولا ندعي الكمال فيما توصلنا إليه فهو لله سبحانه وتعالى ، وحسبنا أننا بذلنا ما في وسعنا لإنجاز هذا العمل الذي نتمنى أن يكون مساهمة متواضعة في الجهود المبذولة في ميدان الأسرة والقضايا المرتبطة بها، غايتنا ليس الانتصار للتيارات الحديثة التي تنادي بعصرنة نصوص المدونة كردة فعل ضد التيار المتعصب للتقاليد الموروثة ، ولا المساس بمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة، بل النظر إلى موضوع الأسرة برؤية وسطية تعتمد مقاصد الشريعة الإسلامية في كلياتها ، والتفتح والاستفادة من تجارب الآخرين ، وبالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان بما لا يمس ثوابتنا ، للوصول إلى تحقيق معادلة التوازن في أهم التزام تبادلي بين الزوجين وعدم الإخلال به وهو التزام المساكنة ، وذلك بتوفير حماية قانونية كافية له بغض النظر عن المخل زوجا كان أو زوجة . وأملنا أن تسفر أعمال اللجنة الملكية الموقرة في مراجعتها لمدونة الأحوال الشخصية ، عما يحقق الهدف الأساسي من هذا الموضوع وفي إطار التصور الذي تبنيناه وهو تحقيق المساواة والعدل في العلاقة الزوجية، وذلك بتجاوز التفسيرات الفقهية لمفهومي الطاعة والقوامة البعيدين كل البعد عن مفهوميهما في المنظور الإسلامي الذي أولى الأسرة اهتماما كبيرا وجعل من العلاقة الزوجية علاقة سكن ومودة ورحمة . كما نأمل أن تكون أعمالها قد سايرت تطلعات المجتمع المغربي إلى حياة أفضل في إطار من الديموقراطية الحقة التي يجب أن تنطلق بداية من الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع ومن ثم إلى المجتمع ككل، وأن تكون بداية لمراجعة جدية وهادفة لمنظومتنا التشريعية ككل ، بتعزيز المؤسسات الدستورية والنظر إلى قانون الأسرة كغيره من القوانين وعدم تسييسه أو أدلجته ، وذلك في إطار ثوابتنا الإسلامية، وفتح باب الاجتهاد لمراجعة فقهنا الإسلامي وتحيينه بما يتناسب مع التحولات المجتمعية التي أثرت على العلائق بين الأفراد و بين الزوجين خاصة ، مع التفتح على تجارب الغير والاستفادة منها بما يتناسب مع وضعنا كمجتمع ديموقراطي حداثي لا يمكن أن ينعزل عن المنظومة الدولية.
ويبقى القانون ، مهما استجابت نصوصه ـ في إطار هذا التصور ـ لمبادئ العدل والمساواة مجرد أداة لتنظيم علاقة وصفها الحق تعالى بالميثاق الغليظ وجعل قوامها المودة والرحمة، أساسها التربية القويمة وقوة الوازع الديني للأفراد, إلا أن تدخله يصبح ضروريا عندما تضعف هذه الأسس ، فالقانون لمن حاد عن هذا الطريق وزرع في هذه العلاقة النبيلة بذور الهدم ، عند ذاك يجب التدخل الصارم والفعال إحقاقا للحق وحماية لنواة المجتمع من التفكك والانهيار. ومن الله العون، وهو الموفق للصواب.
بـسم الله الرحمن الرحيم
موضوع الأطروحة يناقش التزاما من أهم الالتزامات بين الزوجين وهو التزام المساكنة على ضوء قانون 1957 وتعديلات 1993 قبل أن يرى مشروع مدونة الأسرة النور. والذي رافقنا مراحله كلها وما صاحبها من إرهاصات على الساحة الفكرية القانونية.
ورغم السرية التامة التي طبعت أعمال اللجنة الملكية لمراجعة المدونة ، فإن الهم المشترك الذي يجمع كل مغربي ومغربية في ترقب صدور قانون للأسرة يحقق العدل والمساواة بين أطرافها ،كان دافعا قويا لنا للمساهمة ولو بنصيب ضئيل في إبراز مظاهر الخلل في قانون مدونة الأحوال الشخصية الإطار القانوني لموضوع البحث، وعجزه عن مسايرة التطورات المجتمعية التي مست كيان الأسرة المغربية ، وآثار ذلك على العلاقة بين الزوجين ، مع اقتراح حلول نرى ونحن نناقش هذه الأطروحة ، أنها جاءت في إطار التوجه السامي لجلالته ولأعمال اللجنة الملكية الموقرة لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية .
وقد عملنا قدر المستطاع ، على إلقاء الضوء على أهم مظاهر الخلل الذي يشوب هذا الالتزام ، في دراسة تحليلية اعتمدت الجانب الفقهي والقانوني والقضائي ، دون إغفال المحيط الاجتماعي والاقتصادي ارتباطا مع الواقع المعيش .
ويظل موضوع البحث مفيدا رغم أننا حصرناه في الفترة الزمنية من 1957 إلى 1993 وقبل صدور قانون الأسرة ،حيث تتجلى أهميته في تمكين الباحث والمهتم من مقارنة ما كان عليه الوضع بالنسبة لموضوع "المساكنة "،وما يترتب عنها من الحقوق والواجبات بين الزوجين ، وكيفية الوفاء بها منهما ، وآثار الإخلال بها من أحدهما أو هما معا ، مقارنة مع المستجدات التي جاءت بها مدونة الأسرة في هذا الموضوع ، وسنعمل إن شاء الله على تحيين ذلك في القريب العاجل .
ولي ولكم التوفيق
إن التزام المساكنة بين الزوجين وآثار الإخلال بها ، موضوع يمس كل فرد في أهم خصوصياته التي هي العلاقة الزوجية ، إذ أن المساكنة من أهم آثار عقد الزواج ، بل إنها عماد هذا العقد وأساسه لما تتطلبه من سكن مادي وروحي ، وما قد يعتري هذا السكن من مظاهر الخلل التي قد تعصف به وتحيل تماسكه إلى تفكك وانهيار، خصوصا في ظل التغيرات المجتمعية التي عرفتها الأسرة والتي أثرت على العلاقة بين الزوجين، وعلى الحقوق والواجبات المتبادلة بينهما . ففي الوقت الذي عرفت فيه هذه الأخيرة تزايدا واتساعا في الدول الغربية ، نجدها في أغلب دول العالم الإسلامي مرتبطة بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد التي يصعب زحزحتها من الوعي الفردي، حيث أصبحت الأوضاع بين الزوجين غير متوازنة، ما أدى إلى بروز صدامات وصراعات بين طرفيها، ومن ثم كان من الضروري التساؤل :
ـ حول عدالة توزيع تلك الحقوق والواجبات ،
ـ وهل لهذا التوزيع سند شرعي من القرآن والسنة ،
ـ وعن مدى حرية استعمال الزوجين لتلك الحقوق وكيفية الوفاء بالواجبات،
ـ وما هو دور المشرع في تدعيم هذا التوزيع بجزاءات تضمن الوفاء بها وعدم استعمالها استعمالا جائرا،
ـ وهل هناك توازن في توقيع الجزاء على المخل بها دون تمييز أو تحيز بسبب الجنس ، سواء كان الجزاء مدنيا أو جنائيا؟
هكذا تتبين أهمية هذا الموضوع خاصة في ظروف يعرف فيها المجتمع المغربي حركية تشريعية هامة مست جميع الميادين ، ومنها قانون الأحوال الشخصية الإطار القانوني للبحث ، والذي كان موضوع محاولات تعديل متعددة لم تر النور إلا في سنة 1993 ، مما أتاح لنا فرصة كبيرة واستثنائية للخوض في الجدل القائم حول هذا القانون ، والإسهام المتواضع في محاولة إعادة صياغة بعض مقتضياته مع اقتراح حلول للإشكاليات المتصلة بموضوع هذه المناقشة ، لتحقيق نوع من التوازن في المخاطبة بالحقوق والواجبات بين الزوجين، سواء عند الوفاء أو الإخلال بها ، يتفق وسنة التطور والتغيير للأفضل دون المساس أو الابتعاد عن نظم الإسلام وقيمه، وذلك في محاولة لحماية كيان الأسرة من التفكك على أساس من الترابط وصيانة الحقوق وأداء الواجبات.
فموضوع البحث يدخل إذن في نطاق محاولة استكشاف جانب مهم في العلاقة الزوجية لم يعر مشرع مدونة الأحوال الشخصية أهمية لتحديد مضمونه ونطاقه رغم الحساسية التي تميزه، ولدور الوفاء به من طرف الزوجين معا في استتباب الاستقرار داخل الأسرة ، وما للإخلال به منهما أو من أحدهما من إضرار بالعلاقة الزوجية والدفع بها إلى الانهيار ، ونقصد به "التزام المساكنة ".
فالمشرع المغربي لم يتعرض لهذا الالتزام إلا بصورة مقتضبة في معرض حديثه عن الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين في المادة 34 م.ح.ش ، كما أن آثار الإخلال به لا تندرج تحت ترتيب منهجي يسهل الرجوع إليه كأهم التزام تبادلي بين الزوجين .
وقد كان الهدف من دراسة هذا الموضوع المساهمة في رفع الغموض الذي يكتنف الفقرة الأولى من المادة 34 من م.ح.ش التي اعتبرت من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين " المساكنة الشرعية " ، وكذا الرغبة في جمع شتات أحكام هذا الحق والواجب التبادلي سواء :
ـ في الفقه الإسلامي ، خاصة الفقه المالكي الذي يعتبر المصدر التكميلي لمدونة الأحوال الشخصية الإطار القانوني للموضوع ،
ـ أوفي قانون الالتزامات والعقود المغربي فيما يتعلق بالقواعد العامة للمسؤولية المدنية، انطلاقا من أن الحقوق مقيدة بعدم التعسف في استعمالها استعمالا يلحق ضررا بالغير , وأن الامتناع عن الوفاء بالالتزامات القانونية أو العقدية يشكل إخلالا موجبا للتعويض ، أو الضمان إن توافرت شروطه كما هو معروف في الفقه الإسلامي .
ـ أو في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية مادام الإخلال ببعض صور هذا الالتزام تترتب عليه جزاءات جنائية كانت وما تزال مثار انتقاد من طرف بعض الفقه الحديث لتعارضها مع طبيعة العلاقة الزوجية وعدم فعاليتها من جهة ، أو من طرف البعض الآخر الذي لا يراها كافية من جهة أخرى .
وللتوصل إلى هذه الغاية ، كان من الضروري علينا ، تحديد المفهوم القانوني للمساكنة بإبراز عناصرها ومضمون تلك العناصر وكيفية الوفاء بها .
على أن تحديد هذا المفهوم تطلب منا دراسة موضوع هام آخر أصبح يطرح الآن بحدة على الساحة القانونية ويبدو كبديل قد يخفف من حدة المشاكل التي تصادف الزوجين بعد عقد الزواج أو يتلافاها ، وهو موضوع الشروط الاتفاقية ومدى تأثيرها على المفهوم القانوني للمساكنة إما بتحجيم نطاقه أو التوسيع منه فيما يراه الزوجان في مصلحتهما .
ولم يكتمل هذا التصور إلا بتعقب الآثار المترتبة عن عدم الوفاء بالتزام المساكنة سواء بالنسبة للالتزامات القانونية المترتبة عنه ، أو بالنسبة لتلك الالتزامات التي ارتضى الزوجان إضافتها لعقد الزواج، مع مناقشة تلك الآثار ومدى تحقيقها للتوازن المرغوب في العلاقة بين الزوجين ، وذلك على ضوء ما جاء في الفقه والمدونة والتشريعات المقارنة، ودون إغفال موقف القضاء المغربي والمقارن في تعامله مع هذه الآثار .
وهكذا يستمد الموضوع أهميته من وجهتين : علمية وعملية :
فمن الناحية العلمية : لم ينظم مشرع مدونة 1957 المساكنة بين الزوجين ، ولا حدد عناصرها ، واكتفى بالنص عليها كحق من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين في المادة 34 م.ح.ش ب، فغاب المفهوم القانوني لهذا الالتزام في عمومية النص، وانعكس ذلك سلبا على تحديد مضمونه، وجاءت صور الإخلال به متفرقة في كتب الفقه الإسلامي وفي قوانين وضعية أخرى غير نصوص المدونة . إضافة إلى أن المساكنة بين الزوجين التزام قانوني ، والالتزام له وجهان، ، فهو التزام في جانب الشخص الملزم به ، مقابل حق للطرف الآخر .
والحقوق والواجبات الزوجية موضوع يطرح إشكاليات تتطلب البحث والتحليل . فالشريعة الإسلامية أولت اهتماما كبيرا لتنظيم حقوق وواجبات الزوجين، وذهب فقهاء الشريعة الأقدمون في تفسير هذه الحقوق والواجبات على أسس تباينت واختلفت، إلا أنها وصلت إلى نتيجة واحدة هي توزيعها توزيعا يخضع لمفهومي الطاعة والقوامة . وسار على نهجهم العديد من الفقهاء المحدثين الذين أصبغوا على تلك التفسيرات صبغة دينية ، بل ذهب بعضهم إلى نعت كل من يحاول الاقتراب من هذه المنطقة المحرمة بالكفر والإلحاد، وهذا ما يفسر فشل كل محاولة لتغيير أو تعديل قوانين الأسرة في الدول العربية.
وإذا ما استثنينا الدراسات الفقهية التي تعرضت لحقوق الزوجين وواجباتهما في معرض حديثها عن آثار عقد الزواج ، يبقى موضوع حقوق وواجبات الزوجين من الدراسات القانونية والاجتماعية الهامة التي يجب طرحها بطريقة علمية وموضوعية، حان الوقت لتنظيمها بعيدا عن ذلك المنظور الفقهي المغالي في إعطاء السلطة الزوجية هالة دينية كبرى تتعارض من جهة ، مع مبدأ التوازن في توزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين كما نصت عليه الشريعة الإسلامية في إطار مبادئها للعدل والإحسان وعدم الجور ، ولا تتلاءم من جهة أخرى مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مست بنية الأسرة العربية بصفة عامة ، والأسرة المغربية بصفة خاصة.
ثم إن الوفاء بالالتزامات القانونية المترتبة عن التزام المساكنة ، وكذا الوفاء بالشروط الاتفاقية المرتبطة بمفاهيمها القانونية كما سيتم تحديدها ، يتطلب بالضرورة وجود جزاء حال الإخلال بها ، وذلك عند الامتناع عن تنفيذها أو تنفيذها تنفيذا جزئيا أو مشوبا بالتعسف، الشيء الذي دفعنا إلى طرح عدة تساؤلات :
ـ هل نظم القانون المغربي ، وخاصة المدونة ، جزاء عند الإخلال بالالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة أو عند الإخلال بالشروط الاتفاقية بين الزوجين ؟
ـ وهل في الرجوع إلى الفقه الإسلامي بصفة عامة ، وإلى الفقه المالكي بحكم الإحالة الصريحة عليه في مدونة الأحوال الشخصية، استقراء للموقف الفقهي العام من الإخلال بالالتزامات القانونية والشروط الاتفاقية، ما يرضي فضول الباحث ويجيب عن هذه التساؤلات ؟
وقد جرتنا هذه التساؤلات إلى طرح تساؤلات أخرى لا تقل عنها أهمية وهي :
ـ في حالة ترتيب آثار للإخلال بالتزام المساكنة من أحد طرفي العلاقة الزوجية، هل حققت هذه الآثار ، خاصة في الفقه الإسلامي ، التوازن والعدل المرغوبين في العلاقة بين الزوجين ؟
ـ أم يجب الرجوع في ذلك إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في أهم مقصد من مقاصدها وهو تحقيق العدل والمساواة في هذه العلاقة السامية التي قال عنها الحق تعالى بأنها سكن ومودة ورحمة ؟
ـ أو يجب اللجوء إلى القوانين الوضعية والمواثيق الدولية لإيجاد حلول لهذه الإشكالية . مع الأخذ بعين الاعتبار ما يثيره هذا الموضوع من نقاش حاد وغير متزن في غالب الأحوال بين الاتجاهين المحافظ والحداثي، الأمر الذي يؤثر سلبا على المجتمع المغربي بكافة توجهاته في موضوع يفترض مناقشته بتعقل وحكمة من أجل مصلحة الأسرة والمجتمع ككل، ولعل هذا هو السبب في فشل كل محاولات تعديل مدونة الأحوال الشخصية ابتداء من سنة 1961 مرورا بمشروع التعديل الذي تقدمت به وزارة العدل سنة 1981 ولم ير النور إلى تعديل سنة 1993 ، أول تعديل محتشم كان من أهم ميزاته نزع القدسية عن نصوص مدونة الأحوال الشخصية ، وهو مكسب هام مهد لما جاء فيما بعد من مطالبات أكثر جرأة وموافقة لمطالب المجتمع المدني ومبادئ حقوق الإنسان ، وإن صاحب هذا التعديل الأخير لعدم تحقيقه لسقف المطالب ، عدة إرهاصات أهمها ما استتبع مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية من احتجاجات الاتجاه المحافظ ، وصلت إلى حد التكفير واستحلال دم القائلين بها ، والتعثر الذي شاب أعمال اللجنة الملكية لمراجعة المدونة في أول مراحل أشغالها نتيجة هذا الصدام الفكري الذي لم يكن إلا انعكاسا لاتجاهات الرأي المختلفة إزاء تأويل الأحكام الفقهية والاختيارات السياسية والاقتصادية وتأثيرها على الرأي العام المغربي في كل ما يمس موضوع الأسرة والمرأة، إضافة إلى ما يلاحظ على أرض الواقع من ضعف الوازع الديني الذي كان يمثل ضمير المؤمن وكابح غضبه وجوره وتعنته عند ممارسة الحقوق والوفاء بالواجبات التي يغلب عليها الطابع الأخلاقي ما يفرض النظر إلى الموضوع بجدية وحكمة .
ـ فما هي الحلول الكفيلة بتمكين المتضرر من اقتضاء حقه وتحميل المخل مسؤولية إخلاله بما لا يتعارض مع أصالتنا من جهة ،ومع التزاماتنا الدولية من جهة أخرى ؟
لقد برزت في السنوات العشر الأخيرة دراسات هامة تتناول بمنظور مغاير توزيع هذه الحقوق والالتزامات في نطاق دراسة انتقادية لإطارها القانوني ، كما أن تعديلات 10 شتنبر 1993 دفعت بالكثير من الباحثين القانونيين والاجتماعيين في ميدان الأسرة والعلاقة بين الزوجين إلى تناول هذا الموضوع بجرأة كبيرة نزعت الصبغة القدسية الموروثة عن قانون الأحوال الشخصية الذي ظل لسنين طويلة دائرة محرمة على كل من يحاول تناوله بالنقد أو التغيير ، و كان لنضال الجمعيات الديموقراطية دور كبير في الدفع بالمشرع إلى إعادة النظر في القانون المنظم للأسرة وإعادة توزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين على أسس تراعي التحولات المجتمعية التي مست كيان الأسرة وأثرت على العلاقات بين أطرافها دون المساس بالثوابت الإسلامية .
و من الناحية العملية : تعتبر مدونة الأحوال الشخصية الإطار القانوني لموضوع البحث، مما جعل دراسة هذا النص القانوني المنظم للعلاقة بين الزوجين ولحقوقهما وواجباتهما المتبادلة أمرا على جانب كبير من الأهمية ، خصوصا والكل يعلم الخضوع التام والتشبث الكامل لهذا النص بالفقه الإسلامي خاصة الفقه المالكي .
كما انصب موضوع البحث على العلاقة الزوجية والأسرة وعلى أهم التزام يجمع بين الزوجين ، ولا يمكن دراسة هذه المحاور بعيدا عن التحولات التي عرفها المجتمع الدولي والتي أثرت بشكل أو بآخر على هذه المفاهيم في المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المجتمع المغربي ، الشيء الذي انعكس بكيفية واضحة على توزيع الحقوق والالتزامات بين الزوجين ، وخاصة التزام المساكنة موضوع بحثنا ، انعكاسا جعل بعض المفاهيم الفقهية عاجزة عن إيجاد حلول للمشاكل التي ترتبت عن هذاالتطور. فخروج المرأة للعمل المأجور ، وتوفرها على استقلال مادي ، ومساهمتها في التدبير المادي للأسرة ، ورغبتها في متابعة تعليمها ، وسفرها في الكثير من الأحيان بدون زوجها ، ووعيها بدورها في العلاقة الزوجية ، بل وإحساسها بضرورة وضع شروط في عقد زواجها ضمانا وحماية لها من تعسف الزوج في استعمال سلطته الزوجية، كلها تحولات مست مفهومي الطاعة والقوامة اللذين تبين لنا خلال هذا البحث طغيانهما على التزام المساكنة بين الزوجين سواء عند الوفاء به ، أو عند ترتيب آثار لإخلال أحد الزوجين به ، وما أفرزه التشبث الفقهي المبالغ فيه بهذين المبدأين من نتائج غير منطقية ، بعيدة كل البعد عن المنظور الإسلامي لتوزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين.
وقد تطلب منا تحديد الموضوع وضع إطار لأهم الإشكاليات التي يطرحها ورسم معالمها واستبعاد كل المواضيع التي قد تشوش على المسائل الرئيسية التي تثيرها .
وهكذا كان لزاما علينا في إطار هذا التصور :
ـ استبعاد الأحكام التي يرجع فيها إلى ضمير المسلم وأخلاقه، فلسنا هنا بصدد التزامات خلقية أدبية يمكن للفرد إغفالها دون أن يخشى ردعا ولا تدخلا من جانب السلطة العامة، بل بصدد التزامات يحميها القانون وتسهر السلطة على تنفيذها حفاظا على استقرار الأسرة وتماسكها ، فتأخذ المخل فيها بإخلاله ، وترغمه على القيام بما أغفله منها، بل وتعاقبه عند الإخلال بواجباته وتمنح للمتضرر في العلاقة الزوجية الوسائل القانونية ـ وفي مقدمتها القضاء ـ لجبر ضرره.
ذلك أن التزام المساكنة الشرعية له عناصر قانونية تترتب ، عند الإخلال بها من أحد طرفي العلاقة الزوجية ، آثار أو جزاءات تتراوح بين الإجبار على التنفيذ ،أو فصم العلاقة الزوجية مع التعويض عن الضرر إن كان له محل ، إضافة إلى آثار أخرى نجدها خاصة في القانون الجنائي ، وبالتالي فإن هذا الالتزام واجب التنفيذ قضاء لا ديانة.
وقد تطلب منا تحديد هذا الجانب البحث في أمرين اثنين :
أولهما تعريف المساكنة و البحث عن مضمون الالتزامات القانونية المترتبة عنها،
وثانيهما ،أن نطاق هذه الالتزامات مرتبط أساسا بمدى تأثير الشروط الاتفاقية على مضمونها وكيفية الوفاء بها ، مما يؤدي حتما إلى توسيع هذا النطاق أو التضييق منه.
ولتحليل ذلك طرحنا التساؤلات التالية :
1 ـ كيف يمكننا استنباط العناصر أو الالتزامات المترتبة عن المساكنة ، أمام عمومية وغموض المادة 34 م.ح.ش المتعلقة بهذا الالتزام الذي وصفته مدونة الأحوال الشخصية كحق وواجب متبادل بين الزوجين ؟
ـ هل في الرجوع إلى مشتقات لفظ المساكنة في قواميس اللغة ما يقربنا من هذا التحديد؟
ـ هل في الرجوع إلى الفقه الإسلامي ، وخاصة الفقه المالكي بمقتضى الإحالة الصريحة عليه في المدونة ، ما يسعفنا في ذلك ؟
ـ هل الرجوع إلى الآيات القرآنية التي ورد فيها أصل كلمة "المساكنة " ومشتقاته ما يساعدنا على استنباط هذه العناصر ؟
وقد تتبعنا هذه الخطوات احتراما لقاعدة التدرج فوجدنا أنه :
ـ بالرجوع إلى التحليل اللغوي للكلمة التي تشتق منها " المساكنة " في قواميس اللغة ، مجموعة من الالتزامات المترتبة عنها يمكن تلخيصها في ثلاثة أساسية:
• المسكن أو المكان الذي تتم فيه المعاشرة ،
• المعاشرة والتعايش بطريقة الأزواج ،
• السكن الروحي والمودة والرحمة.
ـ أما بالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية فقد لاحظنا عجز النص القانوني عن إسعافنا بتحديد واضح للمفهوم القانوني للمساكنة يمكننا من إبراز عناصرها ومضمونها . والقاعدة العامة أن الالتزام حين يكون غير واضح وغير محدد يتم تعيينه عن طريق تحديد ما للغير من حقوق إزاء الآخر. ويمكننا أن نضع التزام المساكنة في هذا الإطار من الالتزامات التي تتصف بكثير من المرونة عند تحديد مفهومها ونطاقها . وبالرجوع للنصوص المنظمة لحقوق وواجبات كل من الزوج والزوجة والتي نص عليها مشرع م.ح.ش في المادتين 35 و36 ، لاحظنا عدم التكافؤ في توزيع الحقوق بين تلك الممنوحة للزوج أو الممنوحة للزوجة ما زاد من صعوبة استنباط مفهوم قانوني للمساكنة كالتزام وحق وصفه المشرع بأنه تبادلي ، وخالف هذا التبادل بالتوزيع غير العادل لها بين الزوجين ، الأمر الذي دفعنا للتساؤل عن الأساس الذي اعتمده المشرع في هذا التوزيع اللامتكافئ وهل للمرجعية الفقهية لمدونة الأحوال الشخصية دور في ذلك؟
ـ في المرحلة التالية ، حاولنا استقراء المفهوم القانوني لالتزام المساكنة بين الزوجين لدى الفقه الإسلامي عموما والفقه المالكي على وجه الخصوص ، مع ملاحظة أنه نادرا ما نعثر على لفظ المساكنة في الكتب الفقهية ، وإن وجد فهو يعني الجانب المادي فقط أي السكن . وإن كانت عناصرها القانونية التي سنتوصل إلى تحديد مفهومها واضحة ، إلا أنها موزعة في أبواب عديدة ومتفرقة ، كما أن آثارها متفرقة وغارقة في جزئيات وخلافات فقهية حتى داخل المذهب الواحد يعجز القارئ العادي عن وضعها في إطار هذا الالتزام .
وقد انعكس غموض النص القانوني الخاص بالمساكنة ، وتشتت أحكام هذا الالتزام وتفرق آثار الإخلال به في الكتب الفقهية بمختلف مذاهبها ، على محاولة الفقه المغربي إيجاد مفهوم قانوني لهذا الالتزام ، فجاءت محاولات أغلبه مطبوعة هي الأخرى بنفس الغموض وعدم التحديد .
كما انعكس هذا الاختلاف والغموض في تحديد المفهوم القانوني لهذا الالتزام على أغلب التشريعات المقارنة العربية منها والأجنبية، فيما لم يستقر الاجتهاد القضائي من جهته على حل العديد من مشاكله . فإذا علمنا أن تحديد المفهوم القانوني لالتزام المساكنة ضروري لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات المترتبة عنه، ولتوضيح صور الإخلال بها مع ما يستتبع ذلك من آثار، وأن عدم التحديد هذا يتناقض مع الوضوح الذي يتطلبه هذا الالتزام ، أدركنا أهمية البحث عن مفهومه القانوني.
ـ وهنا بدا ملحا الرجوع إلى السند الشرعي " للمساكنة " لاستنباط هذا المفهوم ، إلا أن البحث أبان عدم ذكر هذا اللفظ بطريقة مباشرة في النصوص القرآنية، فيما وجدنا مشتقاتها واردة في آيات عديدة :
قال الله سبحانه وتعالى :
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها " ،
فالسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار، وهي في الآية على الإلزام وليس على التخيير، لأن السكون ألزم لوازم الأسرة ، إذا تحقق حققت أهدافها.
وفي آية أخرى "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " ،
وفي أخرى "وجعل منها زوجها ليسكن إليها "،
" والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " .
وقد وجدنا أن التفسيرات التي أعطيت لمشتقات لفظ المساكنة في الآيات المذكورة منحت هذا اللفظ مفهوما واسعا ونطاقا شمل الناحية الجسدية والمعنوية ، دون إغفال المكان الذي يجمع بين الزوجين في إطار من حسن المعاشرة والمودة والرحمة . فالعلاقة بين الزوج والزوجة مبناها المساكنة، وهي حق مشترك ومتبادل بين الزوجين بالمعنى المادي والمعنوي للكلمة. وليس السكن الذي يقصد به البيت فقط وإن شمله.
2 ـ وبالنسبة لمدى تأثير الشروط ـ التي ارتضى أحد الزوجين أو هما معا التحمل بها ـ على نطاق الالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة ، توصلنا إلى أنها بنود أو شروط تضاف إلى عقد الزواج ، تكون فيها مصلحة لأحدهما أو كليهما ويلتزمان باحترامها وتنفيذها شريطة ألا تتعارض مع طبيعة العقد أو مع أحكام قانون الأسرة، وذلك باعتبار أن الآثار القانونية التي تترتب عن عقد الزواج بحكم القانون ودون الحاجة إلى النص عليها في بنود العقد لا تمنع طرفيه من تحمل التزامات إضافية شريطة عدم مساسها بالنظام العام.
وقد أثار بحث هذا الموضوع الأسئلة التالية :
ـ هل يحق للزوجين أن يقرنا عقد الزواج بشروط أم لا ؟
ـ وهل يمكن لإرادة الزوجين أن تغير من المفهوم القانوني للمساكنة ـ وهي إحدى أهم آثار عقد الزواج ـ بالزيادة في بعض الالتزامات المترتبة عنها أو الانتقاص منها ؟
وحتى نتمكن من الإجابة عن هذين السؤالين كان من اللازم تحديد نوع الشروط التي تثير جدلا فقهيا وقانونيا وقضائيا .
وللوصول إلى هذا التحديد كان من الضروري توضيح نقطتين هامتين هما :
ـ أن هناك شروطا تعتبر ميدانا حرا لإرادة العاقدين أطلق فيه الشرع لإرادتهم سلطانها ضمن حدود حقوقهم ، شريطة ألا تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام،
ـ وأن هناك شروطا ممنوعة شرعا لا سلطان لإرادة العاقدين فيها، لأنها تمس أحكاما أساسية تعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام .
وإذا كان هناك إجماع فقهي حول الشروط التي تخالف مقتضى عقد الزواج وتخل بمقصوده الأصلي بتقرير بطلانها بل وبطلان العقود التي ارتبطت بها، وإذا كان نفس الإجماع منعقدا كذلك على صحة الشروط التي تؤكد التزامات الزوجين ولا فائدة من اشتراطها ، فإن الخلاف الفقهي يرتكز أساسا حول الشروط التي لا تخالف روح العقد ولكنها تغير من التزامات طرفيه، وسبب هذا الخلاف الفقهي يرجع فيما يخص عقد الزواج إلى مفهومي الطاعة والقوامة اللذين يمكن المساس بهما عن طريق إدراج مثل هذه الشروط، وهذا النوع من الشروط هو الذي كان موضوع بحثنا .
3ـ وفي إطار تحديد الموضوع دائما ، فإن مدونة الأحوال الشخصية لا تعترف إلا بالأسرة الشرعية ، لذلك اختار المشرع وصف المساكنة " بالشرعية " ، مع ملاحظة أن مصطلح " شرعي" يحيلنا إلى أمرين :
ـ الأول أن الإطار القانوني للمساكنة وهو مدونة الأحوال الشخصية كان وما يزال مرتبطا بالنصوص الفقهية الإسلامية . وعليه، فالمقصود بالمساكنة المراد بحثها في هذا الموضوع ، المساكنة التي تخضع في مفهومها وصور إخلالها وآثار ذلك الإخلال للنصوص الفقهية أي الشرعية ، وخاصة منها الفقه المالكي الذي تحيل عليه مدونة الأحوال الشخصية بصريح العبارة في موادها 82 و172 و216 و 297 .
ـ الثاني أن " المساكنة الشرعية " تعني أيضا " المساكنة القانونية " ، أي المساكنة في إطار عقد الزواج المستوفي لشروطه القانونية ، تمييزا لها عن أنواع من المساكنة في العصر الجاهلي ، أو ما بدت بوادره في الظهور حاليا في الوقت الراهن ، كالمساكنة الحرة أوالمساكنة الفعلية التي لا يترتب عنها أي التزام لكلا الطرفين. فهذا الشكل الأخير وإن كان لا يشكل في مجتمعاته موضوعا للنقاش ، لكنه في الدول العربية الإسلامية خروج عن قواعد الارتباط بمعناه الشرعي والاجتماعي والأخلاقي.
وقد فضلنا التخلي عن وصف المساكنة "بالشرعية " وتحديدها في المساكنة بين الزوجين، أي المساكنة القانونية في إطار عقد الزواج المستوفي لشروطه الجوهرية والشكلية ووفقا لمرجعيته الفقهية، فما يعبر عنه في مباحث الفقه الإسلامي بلفظ "الشرع" ، يعبر عنه الباحثون في نظرية الالتزامات بلفظ " القانون" . لذا سنستبعد جميع أشكال المساكنة التي لا تعترف بها المدونة أو الفقه المالكي باعتباره المصدر التكميلي لهذا النص التشريعي .
ـ كما أن الإحالة الصريحة بالمدونة على الفقه المالكي كمصدر تكميلي لها يحتم استقراء موقفه من كثير من المواضيع المتعلقة بهذا الالتزام ، خاصة في غياب نص صريح بالمدونة. إلا أن ضرورة توضيح بعض المواضيع برؤية أكثر شمولية استوجب إبراز بعض الأحكام المتعلقة بالموضوع من وجهة نظر أئمة المذاهب الأخرى ، خاصة منها تلك التي من شأنها إغناء الموضوع أو الإتيان بحلول إيجابية تفيد الإشكاليات المطروحة.
ـ كما عرف الإطار القانوني للموضوع ، وهو هنا مدونة الأحوال الشخصية ، محاولات تعديل متكررة أفرزت بعد جهد جهيد تعديلات سنة 1993 التي انعكست بعض موادها المعدلة على مفهوم المساكنة بين الزوجين، الشيء الذي حتم علينا إبراز تأثير هذه التعديلات الأخيرة إيجابا أو سلبا على هذا الالتزام .
ـ ومن النقط الهامة التي تتطلب التحديد أيضا مدى إمكانية الرجوع إلى القانون المدني في قواعده العامة ـ باعتباره أصلا والمدونة فرعا ـ في حالة عدم وجود نص في هذه الأخيرة أو عدم مسايرة أحكام الفقه المالكي للتطورات المستجدة والمشاكل التي تفرزها العلاقة الزوجية ، باعتبار أن عقد الزواج عقد مدني يقوم على التراضي بين الطرفين، وأن الأضرار التي قد تصيب أحد عاقديه نتيجة إخلال الطرف الآخر بأحد التزاماته القانونية أو شروطه الاتفاقية يجب ألا يكتفى فيها بالفسخ ـ وهو ما تقتصر مدونة الأحوال الشخصية على تنظيمه ـ بل يجب أن يعطى للمتضرر الحق في طلب التعويض طبقا للقواعد العامة للمسؤولية المدنية .
فإذا تعذر ذلك بحكم " الصبغة الدينية" التي تسود أحكام المدونة
:
ـ فما هي الوسائل المتاحة أمام المتضرر من الزوجين لجبر الأضرار الحاصلة له من الإخلال بالالتزامات القانونية أو الاتفاقية ؟
ـ وهل في الرجوع إلى أحكام الفقه المالكي حل لهذه الإشكالية ؟
ـ وفي حالة عدم وجود أحكام كافية أو عدم مسايرتها للواقع المعيش ، هل في الرجوع إلى القواعد العامة للمسؤولية المدنية مساس بالصبغة " الدينية " التي تهيمن على مدونة الأحوال الشخصية ، مع ملاحظة أن هذه القواعد لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية بل تجد جذورها في الفقه الإسلامي تحت باب الضمان .
ـ وهل هناك جزاءات أخرى يمكن ترتيبها على المخل من الزوجين بالالتجاء إلى قوانين وضعية أخرى كالقانون الجنائي ؟ وهل هذه الجزاءات كافية؟ أم يجب تطعيمها بجزاءات أخرى ؟ وما هي نوعيتها؟.
يتضح إذن أن آثار الإخلال بالتزام المساكنة بين الزوجين توجد متفرقة في قوانين وضعية أخرى غير نص المدونة ، كالقانون الجنائي، والقانون المدني ، والمسطرتين المدنية والجنائية.
وبالتالي خضعت معالجة الموضوع لمنهج تحليلي قانوني ، اعتمد أساسا القانون المغربي وكيفية تناوله للعناصر الأساسية لموضوع البحث ، وإبراز أشكال الخلل فيه. ولم يتم التطرق لموقف الشريعة الإسلامية كأحد مصادر القانون المنظم لوضعية الأسرة إلا فيما يخص الرجوع إليها كسند شرعي لبعض الآيات التي تنظم الحقوق والواجبات بين الزوجين . فالشريعة اندمج فيها الاجتهاد الفقهي عن طريق تفسير نصوصها الأصلية في الكتاب والسنة، وهذا ما جعلنا نركز الحديث على الاجتهاد إلى جانب المصادر الأخرى .
فالنص الذي اعتمدناه هو قانون مدونة الأحوال الشخصية الصادر سنة 1957 ، وكذا التعديل الذي أدخل على بعض نصوصه سنة 1993 ، مع عدم إغفال الإحالة الصريحة على المذهب المالكي.
كما اعتمدنا المقتضيات والأحكام المتفرقة الخاصة بموضوع البحث والتي وجدناها في القانون المغربي ،كالقانون المدني والقانون الجنائي والمسطرتين المدنية و الجنائية.....
ثم إن المدونة قانون لا يمكن فصله عن النسق الاجتماعي الذي يحدد العلاقات بين الأفراد ونسق سلوكهم ، مما تطلب دراسة هذا الموضوع دون إغفال مقارنته بالواقع المعيش ومدى مسايرة القانون لهذا الواقع .
بعد تحديد الإطار العام للموضوع كما تقدم ، نمهد للإشكالية الأساسية التي تنطلق ، من أن أغلب الفقه سار على ضرورة وجود رئاسة للأسرة كمؤسسة مثل باقي المؤسسات التي ينشئها المجتمع الإنساني. إلا أن مضمون هذه الرئاسة هو الذي ينبغي التركيز عليه وتحديد مداه بالصورة التي تجعله يؤدي الوظائف المنوطة به .
فبالنسبة للأسرة العربية الإسلامية عامة، والأسرة المغربية بصفة خاصة ، ارتبطت ممارسة الرئاسة فيها، في الواقع التاريخي ، بكثير من صور الاستبداد والطغيان، ولذلك فإننا نجد الاجتهاد الفقهي ، عند تطبيقه لهذه الرئاسة في الأحكام الجزئية وفي العلاقات اليومية بين الزوجين ، متأثرا بهذا الواقع ، يضفي على رئاسة الرجل صلاحيات تسهل عليه ممارسة هذا الاستبداد الموروث . وهذه الصلاحيات جد متعددة ويثير استعمالها استعمالا متعسفا مشاكل تعصف بكيان الأسرة كخلية أساسية لبناء مجتمع سليم ، مما يوضح انحراف مفهوم الرئاسة في الممارسة الفعلية عن نهج التسيير والتوجيه في إطار التشاور والتشارك بين الزوجين في اتخاذ القرارات المتعلقة بالحياة الزوجية ، والمودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف ، كما تنص على ذلك الشريعة الإسلامية .
فما هي مجالات تطبيق الرئاسة والصلاحيات المخولة للزوج فيما يخص المفهوم القانوني للمساكنة وآثار الإخلال به ؟
إن هذه الصلاحيات وصور استعمالاتها نجدها بارزة فيما يخص موضوع البحث في:
ـ إعداد بيت الزوجية واختياره ،
ـ رسم حدود المكان الذي تتحرك فيه الزوجة،
ـ سلطة الزوج على جسد المرأة وحبسها داخل البيت بحجة الحفاظ على شرفها وسمعتها،
ـ استعمال حقه في التأديب إلى درجة قد تتعدى حدوده الشرعية في غالب الأحيان،
ـ إنهاء عقد الزواج بإرادته المنفردة ،
ـ عدم الالتزام بالقيود الشرعية للتعدد…….
هذه الصلاحيات التي تعتمد في تقريرها مبدأ الإنفاق مقابل الطاعة وما يستتبعه من واجبات تقيد المرأة وتشل حركاتها داخل بيت الزوجية وخارجه ، ما هو مصدرها وما هي الأسس التي تعتمد عليها؟
ـ هل لها سند شرعي في القرآن والسنة ، أم هي نتاج حقب تاريخية من العادات الموروثة؟ أم هي نتاج اجتهاد فقهي يمكن مراجعته على ضوء التحولات التي مست بنية الأسرة المغربية ، مادام الاجتهاد مجهود بشري قابل للصواب والخطأ ، وليس كلاما مقدسا ؟
ـ وهل المساكنة بين الزوجين حق وواجب تبادلي كما تنص على ذلك الفقرة الأولى من المادة 34 من م.ح.ش ؟ أم أن التفسيرات الفقهية التي أعطيت للسلطة الزوجية لا تحقق هذا التبادل ، فانعكس كل ذلك بالتالي سلبا عند إخلال أحد الطرفين بهذا الالتزام مما يجعل توقيع الجزاء على المخل يختلف بحسب ما إذا كان هذا الأخير الزوج أو الزوجة (التمييز في توقيع جزاء الإخلال
حسب الجنس) ؟
ـ وهل مفهوم التبادل كما تحاول المدونة أن تبرزه مفهوم مطبق على أرض الواقع؟
إن مفهوم التبادل أو التقابل في القيام بالحقوق وتحمل الوفاء بالواجبات يوحي بالمساواة والعدل، لكن تتبع آثاره في الفقه والقانون والواقع جعلنا نصطدم بحالة من التمييز وعدم التوازن ، مما يفرغ مفهوم التبادل من محتواه الحقيقي .
ـ فما هي الأسباب الحقيقية لذلك؟ وكيف يمكننا تحقيق التوازن في توزيع الحقوق والتحمل بالواجبات ، ومنها التزام المساكنة، بطريقة تتماشى مع المنظور الإسلامي لهذا الواجب المرتكز على العدل والمساواة داخل العلاقة الزوجية ؟
إن هذا التقديم الوجيز الذي يوضح الخلفية التاريخية والثقافية لصلاحيات الزوج ، وسيطرة مبدأي الطاعة والقوامة في تحديد كيفية الوفاء بالتزام المساكنة وتحمل آثار الإخلال بها ، هو مرحلة ضرورية لإبراز وفهم الإشكالية الأساسية التي كانت منطلقا لهذا البحث .
فهناك نص قرآني يشكل السند الشرعي لالتزام المساكنة هو الآية الكريمة:
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " .
وفي المقابل ، نجد نصا قرآنيا آخر يقرر أثرا للإخلال بالتزام السكن من طرف الزوجة وهو قوله تعالى: "... واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ".
وإذا أخل الزوج بهذا الالتزام فالآثار تتلخص في الصلح . يقول الحق تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا،والصلح خير" .
أما إذا كان الإخلال من طرف الزوجين معا فإن النص القرآني رتب عليه تدخل التحكيم لمعالجة الأمر بين الزوجين . يقول سبحانه وتعالى :" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " .
فإذن هناك نص قرآني يحث على المساكنة والمودة والرحمة والعشرة الطيبة ، ونص قرآني آخر يرتب أثرا على إخلال الزوجة بالمساكنة قد يبدو لأول وهلة مناقضا لهذا الالتزام، ونص قرآني ثالث يقتصر على مسطرة الصلح لمواجهة إخلال الزوج ، بينما يتعرض النص القرآني الأخير لمسطرة التحكيم كمحاولة لعلاج إخلال الزوجين معا أو ما يعرف شرعا وفقها "بالشقاق" .
فكيف يمكن التوفيق بين هذه النصوص رغبة في الوصول إلى تحقيق التوازن بين طرفين تفترض المساكنة توفرهما على مصالح موحدة ومعاملة أساسها المودة والرحمة؟.
لتوضيح الإشكالية نقول : إن هناك التزاما متبادلا بين الزوجين هو التزام المساكنة التي تعتبر النتيجة الطبيعية والمباشرة لعقد الزواج. فإذا وقع إخلال الزوجة بهذا الالتزام نجد له آثارا في الفقه الإسلامي ـ اعتمادا على تفسيره لآية نشوز الزوجة ـ تتلخص في السلطة التأديبية الممنوحة للزوج مقابل قيام الزوجة بالصلح حال إخلال الزوج بهذا الالتزام .
خطاب موحد بضرورة التساكن بين الزوجين واحترام هذا الالتزام التبادلي بينهما ، لكن المخاطبة تصبح غير متوازنة عند إخلال أحد الزوجين به، وذلك بحسب ما إذا كان المخل الزوج أو الزوجة. فهل انعكس هذا على النصوص القانونية الوضعية؟
وهل هذا التناقض جوهري وصحيح ؟ مع العلم بأننا نتكلم عن نصوص قرآنية منزهة عن الغلط والظلم .
مما يدفعنا إلى التساؤل التالي : هل التفسير الفقهي الذي اعتمد الرئاسة الزوجية ومبدأي الطاعة والقوامة كأساس لتحديد مدى حقوق وواجبات الزوجين هو الذي جعل النصين القرآنيين يبدوان متعارضين ظاهريا؟
إن الإشكالية الأساسية للبحث تستمد أهميتها إذن من محاولة البحث في هذا "التعارض الظاهري" الذي اعتمده الفقه لتبرير أخذه بمبدأي القوامة والطاعة دون البحث عن أسباب نزول تلك الآيات والوضع الاجتماعي الذي كان سائدا أثناء نزولها والحكمة الإلهية من تقريرها انطلاقا من مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة ومقاصدها الأساسية في العدل والقضاء على الظلم في العلاقات بين الأفراد ، وبالأحرى في العلاقة الزوجية التي وصفها الحق تعالى بأنها ميثاق غليظ .
وقد واجهتنا أثناء قيامنا بهذا البحث عدة صعوبات ، أولها كان أثناء مرحلة تجميع مصادر ومراجع المعلومات ، فرغم ثبتها الذي يظهر منه حجمها الكبير وتنوع مشاربها فإننا لم نعثر على مصدر أو مرجع واحد تناول موضوع "المساكنة " تناولا مباشرا ، وذلك أمر لا يقدح في قيمة المصادر والمراجع التي اطلعنا عليها، فغالبيتها لم تؤلف لهذا الموضوع خصوصا، بل جاء موضوع المساكنة فيها عبارة عن فقرة من فقرات الكتاب ، أو مبحثا صغيرا فيه لا يتعدى بضعة أسطر ، وفي أحسن الأحوال صفحتين أو ثلاث ، إضافة لعدم الاتفاق وللغموض الواضحين في تحديد العناصر القانونية المترتبة عن هذا الالتزام .
وغالبية المراجع التي تعرضت لمفهوم المساكنة وبهذا اللفظ بالذات ، هي من الكتب القانونية الحديثة المهتمة بالأحوال الشخصية ، خاصة منها تلك المتعلقة بغير المسلمين ، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن لفظ المساكنة جاء مقتبسا من القوانين الغربية ، وخاصة القانون المدني الفرنسي . فلا وجود لهذا اللفظ في الفقه الإسلامي، وحتى إن وجد في الكتب الفقهية فإن مفهومه يخالف المفهوم الذي قصدته تلك القوانين. ففي الوقت الذي تغلب فيه مفاهيم السكن والمودة والرحمة على هذا المفهوم في الفقه الإسلامي، يظل المفهوم المادي للسكن مسيطرا على المساكنة في المنظور الغربي دون الاهتمام بشرعية أو عدم شرعية هذا التساكن .
صعوبة أخرى برزت في محاولتنا التقريب بين النظريات الفقهية في تفسيرها للنصوص الشرعية. فالبحث في الفقه الإسلامي طريق صعب ومطلب عسير على كل باحث أراد الخوض فيه لتعدد المذاهب وتشعب الآراء حتى في المذهب الواحد ، بل وفي المسألة الواحدة . ورغم تقسيم الكتب الفقهية في طبعاتها الجديدة تقسيمات واضحة فقد وجدنا صعوبة كبرى في الحصول على ما نريده خصوصا وأن بعض الأحكام الفقهية غير مبوبة ويجب البحث عنها في أبواب متعددة حتى يتم الحصول على المنشود .
وقد اعتمدنا أساسا كتب الفقه المالكي، مع صعوبة التمييز في أحكامه بين ما هو راجح أو مشهور أو ما جرى به العمل ، وتمت مقارنة أحكامه مع أحكام أهم المذاهب الأخرى المتعلقة بالموضوع ، خصوصا منها تلك التي خرجت عنه وكان في خروجها أو إتيانها بحكم أو تفسير مخالف خدمة الهدف الأساسي من هذا البحث.
إضافة إلى أن الموضوع يمس تخصصات علمية متعددة ويخضع لتأثيرات إيديولوجية وسياسية متنوعة تتراوح بين الانغلاق والانفتاح ، ويطرح كذلك معادلات صعبة ناجمة عن إشكالية المرجعية في القانون المغربي ، خاصة قانون مدونة الأحوال الشخصية (الأصالة والمعاصرة ، التكامل والمساواة ، الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ) . كما أن ارتفاع حمى المطالبة بتغيير مدونة الأحوال الشخصية اثناء القيام بهذا البحث ، جعل الخوض في هذا الموضوع ذي الأرضية الشائكة مغامرة صعبة وإن لم تخل من المتعة والفضول العلميين اللذين تثيرهما مثل هذه المواضيع .
ثم إن كل الحقوق والواجبات المترتبة عن التزام المساكنة بين الزوجين لها سند شرعي من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وبما أن الآيات التي تم الاستناد إليها في هذا البحث كثيرة فإن الأمر تطلب منا الرجوع إلى تفسير كل آية على حدة ومقارنة كل تفسير بتفاسير أخرى لاختلاف الآراء حول تأويل كل آية أو حول دلالة النص القرآني ، بالإضافة إلى أن الاعتماد على الأحاديث النبوية كان نادرا لصعوبة تمييزنا بين الأحاديث الصحيحة و الموضوعة ، وهذا مجال صعب وبعيد عن تكويننا القانوني .
كما أن إضفاء الصبغة الدينية على الاجتهادات الفقهية مع أنها نتاج فكري بشري ، دفعنا إلى اعتماد الموضوعية والحكمة والتركيز ، في إيجاد تبريرات منطقية ومعقولة تفند القول بقدسية نص المدونة وإمكانية إعادة قراءته على ضوء التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحالية .
وأهم صعوبة واجهتنا تركزت في ندرة المراجع بخصوص تحديد مضمون المساكنة واستخراج مفاهيمها القانونية في القسم الأول ، مقابل كم هائل من المصادر والمراجع تتحدث عن حالات وآثار الإخلال بهذا الالتزام وإن لم تكن تدرسه تحت هذا العنوان . بل إن بعض الآثار تعتبر في حد ذاتها مواضيع مستقلة بذاتها وكانت محل دراسات وبحوث جامعية مفصلة ، كالتطليق للضرر أو الطلاق أو التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية ، الأمر الذي دفعنا إلى التركيز أساسا على الجانب التحليلي والتقييمي لهذه الآثار ومدى فعاليتها في تحقيق التوازن في العلاقة الزوجية أكثر من الجانب النظري ـ إلا بما يساعد في تحقيق هدف البحث ـ والإحالة على المصادر والمراجع المذكورة للمزيد من البحث والاطلاع . كما أن بعض الآثار يمكن دراستها من زوايا قانونية مختلفة وبحسب ما إذا كان المخل الزوج أو الزوجة ، الأمر الذي قد يعطي انطباعا بتكرار لبعض المواضيع حاولنا تلافيه قصد المستطاع .
ولقد كان عنوان البحث " التزام المساكنة بين الزوجين وآثار الإخلال بها " مفصحا عن المنهجية التي سيتم اتباعها . ذلك أنه يطرح إشكاليتين أساسيتين :
ـ تتمثل الأولى في تحديد المفهوم القانوني للمساكنة بين الزوجين عن طريق تحديد الالتزامات القانونية المترتبة عنها، ومضمونها ، وكيفية الوفاء بها ونطاقها .
ـ فيما تتجلى الإشكالية الثانية في تحديد بعض صور الإخلال بالالتزامات المترتبة عن المساكنة وآثاره لأهميتها ، وذلك بناء على قراءات نقدية متعددة المشارب أخذت ثلاثة أبعاد فقهية وقانونية وقضائية ، انطلاقا من التعارض الظاهري لآية السكن مع آثار الإخلال به في آيات النشوز.
وهكذا يمكن تلخيص منهجية البحث الذي حاولنا قدر المستطاع معالجة إشكاليته الرئيسية عبر قسمين:
منهجية القسم الأول
اعتمدنا فيه منهجا وصفيا عرضنا فيه لمضمون الالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة بين الزوجين ونطاقها بعد أن تم تحديدها بالرجوع إلى المفهوم اللغوي للمساكنة ، وإلى الفقه الإسلامي وخاصة بالرجوع إلى سندها الشرعي . وتبعا لذلك قسمنا هذا القسم إلى أربعة أبواب :
عالجنا في الأبواب الثلاثة الأولى منها مضمون كل التزام تم استنباطه حسب التدرج المشار إليه ، و كيفية الوفاء به سواء من طرف الزوج أو الزوجة أو هما معا في ظل مفهومي القوامة والطاعة المسيطرين على التزام المساكنة ، وفي إطار المرجعية الفقهية لمدونة الأحوال الشخصية . مع الإشارة إلى أن تحليل صور الوفاء بهذه المفاهيم قد يكون إيجابيا أو سلبيا . فالالتزام حسب القواعد العامة هو إما قيام بعمل أو امتناع عن عمل، وهكذا فالوفاء بمضامين المساكنة القانونية كان إما عرضا لصور الوفاء بها إيجابيا أو الوفاء بها سلبيا ، أي الامتناع عن كل ما يمكن أن يشكل إخلالا بأحد هذه المضامين .
ثم ختمنا في الباب الرابع بمدى تأثير الشروط الاتفاقية على المفهوم القانوني للمساكنة وذلك بإبراز الموقف الفقهي العام من سلطان الإرادة في عقد الزواج وهو موضوع له أهميته الخاصة في الوقت الراهن حاولنا إبرازه من خلال نماذج لبعض الشروط الاتفاقية المؤثرة في كل عنصر من العناصر المستخلصة للمساكنة بين الزوجين .
أما منهج الدراسة في القسم الثاني من البحث:
فكان منهجا تحليليا ارتكز على عرض آثار الإخلال بالالتزامات القانونية والاتفاقية للمساكنة بين الزوجين ، وذلك بالرجوع إلى الموقف الفقهي العام من كل حالة من حالات الإخلال ، خاصة موقف الفقه المالكي ، والتي اكتفينا بعرض أهمها وأكثرها إثارة للنقاش على الساحة الفكرية الآن، مع البحث عن الآثار التي رتبها القانون الوضعي على كل حالة من هذه الحالات سواء في قانون الأحوال الشخصية أو القانون المدني أو القانون الجنائي أو قانوني المسطرة المدنية والجنائية ، دون إهمال موقف بعض التشريعات العربية الإسلامية أو الأجنبية من هذه الحالات كلما لم يسعفنا النص القانوني أو الفقه في إيجاد الحل لمواجهة الإخلال بها ، مع إبراز الموقف القضائي من خلال تطبيقه للنص القانوني أو تأثره بالمذهب الفقهي ، وتوضيح مدى قربه أو بعده عن الواقع المعيش ومدى تحقيقه للتوازن المنشود في العلاقة الزوجية .
وهكذا احتلت المقارنة بين الاتجاهات الفقهية والتشريعية والقضائية دورا هاما في هذا القسم قصد إغنائه وتوضيح إشكالياته ، إما بإيضاح الحكم الشرعي ، أو تفسير اختيار المشرع أو اجتهاد القضاء ، كل ذلك للبحث عن صيغة للتوازن في مخاطبة الزوجين عند تحمل جزاء الإخلال بالتزام المساكنة دون اعتبار الجنس كعنصر تمييز في هذه المخاطبة ، ولإبراز الوسائل المتاحة قانونيا للمتضرر من كل إخلال بهذا الالتزام لجبر ضرره ومدى فعاليتها ، مع مناقشة هذه الوسائل مناقشة تأخذ بعين الاعتبار التحولات المجتمعية والتيارات الفكرية والمذهبية ، و كذا الطبيعة الخاصة لعقد الزواج الذي يهدف قبل كل شيء إلى السكن الروحي والمودة والرحمة .
وقد فرض هذا التصور المنهجي للقسم الثاني من البحث تقسيمه كسابقه إلى أربعة أبواب:
عرضنا في الأبواب الثلاثة الأولى منه ، لبعض حالات الإخلال بالالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة والتي تم تحديد مضمونها والوفاء بها في القسم الأول كما تمت الإشارة إلى ذلك ، مع تتبع الآثار التي رتبها كل من الفقه والقانون والقضاء على الإخلال بها، ثم عرضنا في الباب الرابع لآثار الإخلال بالشروط الاتفاقية فقها وقانونا وقضاء انطلاقا من نموذجين لها .
فكيف تم تحليل الأبواب الأربعة في كل من القسمين ؟ وما هي الاستنتاجات المستخلصة من كل تحليل ؟ وما هي المقترحات التي تم التوصل إليها ومبرراتها ؟
القسم الأول
بالنسبة للقسم الأول والباب الأول منه المتعلق بالتزام السكن بين الزوجين ، تمحورت الأسئلة بخصوصه كالتالي :
ـ هل استطاع المشرع المغربي تحديد مضمون بيت الزوجية ؟
ـ وفي حالة الإجابة بالنفي ، هل في الرجوع إلى المصدر التكميلي للمدونة وهو الفقه المالكي أن يسعفنا بتحديد هذا المضمون ؟
ـ وهل ستقربنا بعض التشريعات المقارنة من تصور هذا التحديد ؟
ـ وما تأثير ذلك على كيفية وفاء الزوجين بالتزام السكن ببيت الزوجية وفق المضمون المستخلص؟
وللإجابة عن الأسئلة المطروحة تعرضنا :
ـ لمضمون التزام السكن ببيت الزوجية عن طريق تحديد شروط المسكن في الفقه الإسلامي ، بينما تناولنا مضمون بيت الزوجية في مدونة الأحوال الشخصية وبعض التشريعات المقارنة العربية والأجنبية ، مع إبراز أوجه الاتفاق والاختلاف في تحديدها لهذا المضمون ، وخلصنا إلى أن مضمون بيت الزوجية يختلف في التشريعات العربية عنه في التشريعات الأجنبية . ففي الوقت الذي تميل فيه الأولى إلى توثيق العلاقة الزوجية بفرض التزام السكن بين الزوجين وتحت سقف واحد ، وتفرض شروطا شرعية لبيت الزوجية لتمكين الزوجة من الالتحاق به وتحقيق المساكنة في أحد أهم مفاهيمها القانونية، لاحظنا في الثانية على العكس من ذلك تغييبا لبيت يجمع الزوجين معا كمظهر مادي للمساكنة ، مقابل حرية في اختيار مكان إقامة الزوجين ولو بصفة منفصلة مع التأكيد على أن السكن المنفصل لا يؤثر في الالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين، فبأي منطق يمكنه قبول هذه النتيجة ؟؟
لكن إذا لاحظنا التغيرات التي يعرفها المجتمع الغربي وطغيان الحرية الفردية ولو على حساب مؤسسة هامة كمؤسسة الزواج ، وإذا تتبعنا التعديلات التي مست القوانين المدنية والجنائية لهذا المجتمع وآخرها إلغاء جريمة الزنى، وما في ذلك من تقويض لأهم أركان العلاقة الزوجية ، فإننا يمكن أن نقبل هذا المنطق الغريب مادامت نتائجه تساير تطور مجتمع يختلف تماما عن المجتمع العربي الإسلامي .
فبيت الزوجية في البلدان العربية والإسلامية مازال المظهر المادي الأساسي لتحقيق المساكنة بين الزوجين ، وما المقارنة بتشريعات غربية إلا وسيلة لإظهار عمق الفجوة في المفاهيم والرؤى لمؤسسة لها جذورها العميقة في التاريخ نرى أنها في طريق الاندثار في المجتمعات " المتقدمة " .
ـ وبالنسبة لكيفية الوفاء بالتزام السكن ببيت الزوجية تم طرح السؤال التالي :
ما هي الواجبات المترتبة عن التزام السكن بين الزوجين وتحت سقف واحد؟ وكيف يتم الوفاء بها؟
وقد تطلب الجواب عن السؤال المطروح التعرض لطبيعة هذا الوفاء وحدوده ، ثم لكيفية الوفاء به بالنسبة للزوج وهيمنة مفهوم القوامة عليه ، وكيفية الوفاء به بالنسبة للزوجة وهيمنة مفهوم الطاعة عليه .
وقد وجدنا أن أبرز مظاهر ترابط الطرفين بعقد الزواج هو تساكنهما معا بمحل واحد وإلا انتفت الغاية المقصودة من عقد الزواج ، والالتزام بالسكن تحت سقف واحد من الالتزامات التبادلية بين الزوجين حيث لا يعفى أحدهما منه إلا لعذر قاهر.
ورغم أن القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية هي مساكنة كل من الزوجين زوجه ، فإنه من الجائز في بعض الأحوال أن يعيش الزوجان في مكانين مختلفين ، كما إذا أقام الزوج في بلدة غير بلدة الزوجة بسبب عمله أو اشتراطها ذلك عليه ، حيث لا يكون له الحق في إجبارها على أن تتبعه، ويقتصر الأمر على زيارته لها من وقت لآخر.كما أن المساكنة قد لا تتحقق ، وبصورة جزئية ، في حالة تعدد الزوجات ، كما أن مرض الزوجة مرضا يقعدها عن الالتحاق ببيت الزوجية وإقامتها مع أهلها لرعايتها لا يحملها مسؤولية عدم مساكنة زوجها .
وقد تتوافر الرابطة الزوجية دون الإقامة ، كمغادرة أحد الزوجين منزل الزوجية وإقامته في مكان آخر لسفر أو عمل أو ما إلى ذلك ، أو كطرد أحدهما الآخر من المسكن الذي يستأجره أو يملكه باسمه، أو تركه إراديا إثر عدم الوفاق بينهما ، ويستمر الانفصال في الإقامة ، مع قيام رابطة الزوجية.
وبالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية فإنها لم تتعرض لموضوع القرار ببيت الزوجية، أما بالنسبة للتشريعات الأجنبية فلا يترتب عن تغيير أحد الزوجين محل إقامته التزام اللحاق بالزوج الآخر والسكن معه تحت سقف واحد ، حيث يمنح القانون للزوجين إمكانية السكنى في أي مكان من اختيارهما دون أن يمس ذلك بمفهوم المعيشة المشتركة كما هو الأمر في فرنسا والعديد من الدول الغربية .
وفي القضاء المقارن نجد أن مغادرة أحد الزوجين المسكن لسفر أو لوجوده بالخارج على سبيل الإعارة مثلا، أو إثر شقاق بينهما لا تنفي الإقامة التي تعد قائمة حكما .فالإقامة الحكمية تكفي للاستفادة من الامتداد القانوني ولو لم تكن فعلية .
ومن ثم فإن الأصل أن منزل الزوجية هو مكان الإقامة المعتادة لكل من الزوجين، وإقامة أحدهما خارجه مهما استطالت وأيا كان مبعثها ودواعيها تعد إقامة عرضية عابرة.
ـ وبالنسبة لكيفية وفاء الزوج بالتزام السكن ببيت الزوجية فإن هيمنة مفهوم القوامة عليه تجلى في الصور التالية :
• دعوة الزوج زوجته للالتحاق ببيت الزوجية،
• اختيار بيت الزوجية ، وهل الزوجة مطالبة بصورة آلية وحتمية بمساكنة زوجها في المكان الذي يختاره تبعا لهذه الصلاحية الممنوحة للزوج بحكم قوامته عليها ؟
• تسليم المعجل من المهر قبل البناء ، أو بقاؤه دينا على الزوج إذا سلمت الزوجة نفسها للزوج دون أخذ المعجل منه ،
• إعداد الزوج لبيت الزوجية وتجهيزه.
وقد تطلب منا تحليل هذه النقط ، إعطاء نظرة موجزة عن مفهومي القوامة والطاعة وتأثيرهما على كيفية وفاء الزوج بالتزام السكن ببيت الزوجية ، حيث لمسنا ثقل الديني والاجتماعي فيما يخص التزام السكن ببيت الزوجية وذلك بمنح الزوج سلطة اختيار بيت الزوجية دون اعتبار لرأي المرأة رغم خروجها لميدان العمل ومساهمتها في نفقات البيت كالمساهمة في كراء بيت الزوجية أو حتى شرائه ، مما دفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان يجب أن نخضع لأحكام تجاوزها العصر ، أم نحاول إيجاد نوع من التوازن في هذا الحق بطريقة لا تعرض الزوجة للطرد من بيت الزوجية في أي لحظة بحجة أن الزوج هو الذي اختاره سواء كان بملكيته أو يؤدي وجيبته الكرائية ، ولا تعرض الزوج كذلك للخروج منه تعسفيا بحجة ملكيته للزوجة أو سكن الزوج ببيت أهلها ؟؟
وعند التجائنا للمقارنة في محاولة لإيجاد أجوبة عن هذه المواضيع ، لاحظنا اختفاء هذه الإشكالية في التشريعات الأجنبية ـ لاختلاف المرجعيات ـ كفرنسا وألمانيا وبلجيكا، وذلك بظهور قوانين المساواة بين الزوجين التي ألغت مفهوم الطاعة ، وأصبح اختيار بيت الزوجية تبعا لذلك يتم باتفاقهما معا. وإن كان التطور الذي عرفته هذه التشريعات قد حاد بمفهوم المساكنة القانوني عن معناه الأصلي كما يتبين لكل متتبع لمراحل التطور الذي عرفه هذا المبدأ ، خاصة في فرنسا كما عرضناه في هذا البحث. وخلصنا إلى أن الزوجة إذن مجبرة قانونا على الالتحاق بالسكن الذي أعده لها الزوج متى وفر لها المسكن الشرعي ودعاها للالتحاق به وسلم لها معجل مهرها .
وفيما يتعلق بكيفية الوفاء بهذا الالتزام من طرف الزوجة ومدى هيمنة مبدأ الطاعة عليه، وجدنا أن مبدأ القوامة يستلزم حسب المنظور الفقهي طاعة الزوجة لزوجها ، وتتحقق الطاعة بامتثال الزوجة لأوامر زوجها المستمدة من رئاسته للأسرة وقوامته على بيت الزوجية .وتتجلى في:
ـ أن تتبع الزوجة زوجها وتنتقل معه.
ـ القيام بأعمال البيت والإشراف على شؤونه.
وقد تمت دراسة هذين الالتزامين والوفاء بهما فقها وقانونا وقضاء وتبين لنا أن الإشكالية تتلخص في التقسيم التقليدي للعمل بين المرأة والرجل و الذي اعتمد أساسا له بعض التفسيرات الفقهية المبالغ فيها لمبدأي الطاعة والقوامة ، والتي لها تأثير على تمتع المرأة بكافة حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية ،خاصة على مفهوم المساكنة في كل عناصرها . إضافة إلى التربية والوعي ، وهما عاملان مهمان لإنجاح أي مؤسسة في الحياة ، فكيف بأهم مؤسسة فيها وهي الأسرة ؟
وبالنسبة للباب الثاني فقد تم التعرض فيه لالتزام الزوجين بالإحصان ، حيث تم تحديد المضمون القانوني للإحصان باعتباره التزاما من التزامات المساكنة بين الزوجين:
ـ في تبادل المعاشرة الزوجية وفق شروطها الشرعية التي صورها الحق سبحانه وتعالى أحسن تصوير في الآية الكريمة :" هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " ،
ـ و في امتناع كلا الزوجين عن كل ما يمكن أن يمس أحدهما في شرفه وعرضه ، ويتحقق ذلك بإخلاص كل من الزوجين للآخر وعدم خيانته ، وكذا الالتزام بالعديد من السلوكات التي من شأنها إحصانهما ومنعهما من ارتكاب الفاحشة .
وقد تم تحليل مضمون كل من المعاشرة الزوجية والامتناع عن الخيانة الزوجية أو ما يعرف في القوانين الوضعية بالإخلاص . وتركز البحث في مضمون المعاشرة الزوجية في الأفعال المادية التي تتحقق بها ، أي مقدمات الفعل الجنسي ومضمونه ، دون إغفال أن للمعاشرة الزوجية، بالإضافة إلى البعد المادي المتمثل في العناصر السابق ذكرها ، بعدا معنويا . فالأسرة قبل أن تكون جنسا أو اقتصادا أو اجتماعا هي تجاوب مع متطلبات فطرة أصيلة في النفس الإنسانية نعني بها حالة الاستقرار والمشاعر الطيبة والود والاحترام التي لا تجد منطلقها إلا في جو هادئ مستقر ، والاستقرار ماديا ونفسيا لا يتحقق إلا في أسرة وبيت.
إلا أن هذه الصورة المثالية قد لا تتحقق . فقد يوجد الزوج جسديا مع زوجته لكن دون تقارب وجداني أو فكري أو نفسي بينهما ، وقد يهجر الزوج الفراش أو تقوم بذلك الزوجة دون عذر شرعي، وقد يغيب الزوج مدة طويلة تحرم فيها الزوجة من هذه المساكنة ، وقد يكون ذلك بقصد أو بدونه بسبب قوة قاهرة أو ظروف خاصة .
وتبدو الصورة أكثر وضوحا عندما نرى على أرض الواقع كثيرا من الأزواج يعيشون بعيدين عن بعضهم البعض ، بسبب العمل أو متابعة دراسة في تخصص علمي ينعدم وجوده في بلد أحد الأزواج . فظروف الحياة تفرض على الإنسان أن يسعى في أنحاء الأرض ، تارة لتحصيل العلم ، وأخرى من أجل المال، وكثيرا لدرء أخطار الفقر وتأمين الحياة الكريمة. فكيف يعيش الزوجان آثار الاغتراب ، وما تأثير ذلك على مفهوم المساكنة ؟؟
إن التباعد الزماني والمكاني وانشغال كل من الزوجين بعمله الخاص وأجوائه ، وتقليص العطاء الزوجي بمعناه الشامل ، وما يرافق هذه العناصر من تصرفات بعيدة عن أجواء الرحمة والمودة التي نص عليها الشارع الحكيم يجعل العلاقة الزوجية مهزوزة والثقة ضعيفة والتفاهم منعدما.
أما بالنسبة لمضمون الإخلاص باعتباره الوجه السلبي لالتزام الإحصان ، بمعنى التزام كلا الزوجين بالإخلاص للآخر بالامتناع عما يمس عرضه وشرفه ، فقد تم لتحليله استخدام منهج المقارنة بين بعض التشريعات الإسلامية التي بقيت متشبثة بالشريعة الإسلامية من جهة ، وتلك التي تأثرت بالمفهوم الغربي للإخلاص والأسس التي اعتمدها دون هجر المفهوم الشرعي ، ومنها مدونة الأحوال الشخصية ( عاقبت على الفساد والخيانة الزوجية) مقارنة مع التشريعات الأجنبية من جهة أخرى ، لاختلاف المرجعيات واختلاف نمط الحياة في الغرب عنه في الدول العربية الإسلامية . كما تمت المقارنة في بحث مفهوم الإخلاص بين القوانين التي تأخذ بالتعدد وتلك التي تجرمه لاختلاف المفهوم في كل منهما .
ويمكن تلخيص كيفية الوفاء بالتزام الإحصان في وجهيه الإيجابي والسلبي كالتالي :
ففيما يخص الوجه الإيجابي ، أي المعاشرة الزوجية ، تطلب البحث في كيفية الوفاء بها الإجابة عن التساؤلات التالية :
ـ ما هو الحد الأدنى الذي يتحقق به الوفاء بالتزام المعاشرة الزوجية ؟
ـ ما هي الحالات التي يتحقق فيها التعسف في المطالبة بالمعاشرة الزوجية ؟
ـ ما هي الحالات التي تؤثر على الوفاء بالمعاشرة الزوجية ؟
وقد كانت محاولة إيجاد أجوبة للتساؤلات المطروحة ضرورية لتوضيح الجوانب العملية والقانونية لكيفية الوفاء بهذا الالتزام في وجهه الإيجابي ، وإعطاء صورة تقريبية للإشكاليات التي تترتب عن الامتناع من الوفاء به أو الوفاء به جزئيا أو مشوبا بالتعسف، وتأثير ذلك على مفهوم المساكنة بين الزوجين .
فالوفاء بالمعاشرة الزوجية له أهمية قصوى في العلاقة الزوجية ويخاطب بها كل من الزوج والزوجة على قدم المساواة ولا يجب الامتناع عنه إلا لضرورة شرعية .
ورغم اعتراف الفقه بأهمية هذا الجانب إلا أنه جعله حقا للرجل دون المرأة يطالب به متى شاء وكيفما شاء مع اختلاف في ضرورة تواتره من عدمها ، بل إن بعض الفقه جعل الوفاء به ديانة لا قضاء ، وأن المرأة تستوفي حقها في الوطء مرة واحدة في العمر . وهي أحكام غريبة ومجحفة بالمرأة ، إضافة إلى منافاتها للطبيعة البشرية .
وكان على الفقه اقتداء بالسنة النبوية الشريفة ومراعاة لتعاليم القرآنية، اعتبار المعاشرة الزوجية حقا والتزاما مندرجا في سائر الحقوق والالتزامات المشتركة بين الزوجين لقوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " .
كما تطلب منا الجواب عن الأسئلة المطروحة أعلاه التعرض للأمراض والعيوب الجنسية ومدى تأثيرها على الوفاء بالمعاشرة الزوجية .
أما بالنسبة لكيفية الوفاء بواجب الإخلاص من طرف الزوجين ، فقد خلصنا، بعد استقراء أحكامه فقها وقانونا وقضاء ، إلى أن الفقه ـ إضافة إلى تناسيه حق المرأة في واجب المعاشرة الزوجية وجعلها متعة للرجل ـ قد أحاطها بالكثير من القيود التي تمس وجودها داخل البيت وخارجه وتمس طريقة لباسها وزينتها وعلاقتها مع الغير وعدم خروجها من البيت ولو لعيادة والديها إلا بإذن زوجها ، ولخص وجودها في وجود الرجل، بينما لم يتعرض لما يجب على الزوج اتباعه وفاء بواجب الإحصان ، وهذا ما لم تقل به الشريعة الإسلامية أبدا ، ولا يعتبر بأي وجه مقصدا من مقاصدها ، خصوصا وأنها قد خاطبت بهذا الالتزام كلا من الرجل والمرأة ورتبت على الإخلال به من كليهما نفس الحد .
وقد كان الباب الثالث موضوعا للبحث في التزام الزوجين بحسن المعاشرة ، وتمت دراسته على نفس المنوال الذي اتبع في البابين السابقين :
ـ تحديد مضمون هذا الالتزام بالرجوع إلى سنده الشرعي في القرآن الكريم وسنة الرسول ـ ص ـ القولية والفعلية ، ثم عرجنا على الموقف الفقهي العام منه وتساءلنا حول مدى التزامه بهذا السند ومقاصده الشرعية ، وهل خضع "حسن المعاشرة بالمعروف " الذي تعرضت له الآيات الكريمة لنفس المفاهيم التي اعتمدها الفقه في تحديد مضمون هذا الالتزام؟ أم هيمنت على تفسيراته مفاهيم الطاعة والقوامة كما برز ذلك بشكل واضح في الالتزامات المترتبة عن المساكنة والتي تم التعرض لها في هذا البحث؟ وما مدى تأثر مدونة الأحوال الشخصية وبعض التشريعات العربية بالتفسير الفقهي لمضمون الالتزام بحسن المعاشرة بحكم المرجعية الفقهية لهذه القوانين ؟.
وقد توصلنا إلى أن لكل من الزوجين الحق في استيفاء هذا الواجب ، إلا أن الخطاب موجه فيه للرجل أساسا لقوله تعالى مخاطبا الرجال : "وعاشروهن بالمعروف " ، حيث يقع عبء المعاشرة بالمعروف على الزوج أكثر من الزوجة ، لأن الزوجة تعتبر أمانة في يده، فهو مطالب بالحرص على هذه الأمانة وبذل كل جهده في صونها والحفاظ عليها بما يحقق المودة والرحمة ويحفظ كيان الأسرة من التفكك والانهيار .
وإذا كان الأمر بحسن العشرة موجها إلى الأزواج في الغالب ، فإن هذا لا يمنع من دخول الزوجات في هذا الأمر عن طريق الدلالة. فالأمر لا يستقيم بينهما إلا بحسن المعاشرة المتبادلة.
إلا أن الملاحظ هو تشبث أغلب الفقهاء بمبدأي القوامة والطاعة في تفسير حسن المعاشرة بالمعروف . كما أن "المعروف " لفظ صعب التحديد قد يتغير معناه بتغير الواقع الاجتماعي وملابساته . وانطلاقا من هذا المعيار وقع حيف كبير من طرف الفقه في تفسيره ، حيث أوكله للزوج ، وأصبحت الطاعة "بالمعروف " مسكنة ومذلة للزوجة ، ليس للقاضي حق التدخل لمنع الزوج من تجاوز هذا "المعروف" مما حاد عن تقريرهم لهذه القاعدة الشرعية في الكثير من جزئيات العلاقة الزوجية رغم التحليل الذي توصلنا فيه إلى أن هذا الالتزام التزام تبادلي .
فالطاعة بالمعروف ليس معناها الخضوع والاستكانة ، ولكنها تدخل في إطار علاقة يسودها تبادل المشاورة والاشتراك لصالح الزوجين والأسرة .ولا يمكن أن يكون المعروف في النص القرآني هو المعروف في تفسير الفقه ونتائجه السلبية على الزوجة.
فهل من حسن المعاشرة بالمعروف تخصيص الزوج بالرئاسة وإقبار الزوجة داخل جدران البيت وتهميش دورها في المشورة واتخاذ القرار؟ وهل من المعروف تحميل الزوجة واجب إكرام أهل الزوج دون التنصيص على تبادلية هذا الواجب ؟ بالإضافة إلى أحكام فقهية غريبة إن لم يأخذ بها القانون فقد تكفل القضاء بالإخلاص لها ، كرفض التعويض عن الأضرار المعنوية في العلاقة الزوجية، وغير ذلك من الأمثلة التي عرضنا لها بتفصيل في القسم الثاني من هذا البحث .
إن تقرير مثل هذه الأحكام وغيرها كثير ، وتناقضها مع قاعدة حسن المعاشرة ناتج عن فهم فقهي متشدد لمفهوم الطاعة بالمعروف وقوامة الرجل ، وتأثير كل ذلك على مضمون التزام المساكنة بصفة خاصة .
يتضح مما سبق عرضه أن مفهوم المعروف ظل لصيقا بمرجعيته الفقهية المتجمدة جمود المدونة التي تحيل عليها ، ولم يتجرأ أحد على المساس بها رغم محاولات التعديل التي ظلت مغيبة لم تر النور. إلا أن تعديل 1993 رسم بداية عهد قانوني جديد نزع الهالة القدسية عن نصوص مدونة الأحوال الشخصية ، وفتح الباب أمام كل ذي نية حسنة لجعل هذا القانون مسايرا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية . وقد عبرنا عن أملنا في أن يسير المشرع المغربي في تعديلاته المرتقبة أبعد من ذلك بمراجعة الكثير من المفاهيم الجامدة كمفهومي الطاعة والقوامة على أساس منظور عادل يحقق التوازن والمساواة في توزيع الحقوق والالتزامات بين الزوجين .
وقد تساءلنا في هذا السياق عن موقف قوانين الأسرة ومنها مدونة الأحوال الشخصية من هذا الالتزام؟ وهل سارت على نهج الشريعة الإسلامية في مبادئها العامة القائمة على العدل والمساواة وعدم الجور ، أم تأثرت بالتفسيرات الفقهية التي ربطت هذا الالتزام كغيره من الالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين بمفهومي الطاعة والقوامة ؟؟
وهكذا لاحظنا أن مدونة الأحوال الشخصية المغربية وبعض التشريعات العربية الإسلامية قد أشار جلها إلى وجوب حسن المعاشرة بطريقة مباشرة أو ضمنية يفهم منها تبادل هذا الحق المشترك بين الزوجين ، وإن قرنت أغلبيتها هذا الالتزام بطاعة الزوجة لزوجها، تأثرا منها بالاجتهادات الفقهية ، دون أن توضح ما يجب على الزوجة أن تطيع فيه زوجها ، وما مدى حدود هذه الطاعة ، والوسائل التي تمكنها من حماية نفسها من استعمال الزوج لهذا الحق بطريقة تعسفية ، مبتعدة في تقرير الأحكام الجزئية المتعلقة بهذا الحق عن السند الشرعي للالتزام بحسن المعاشرة ، وإن يلاحظ عليها أنها لم تسر في نهجها المتأثر بالفقه الإسلامي إلى النهاية بتطبيق أحكامه المترتبة عن الإخلال بواجب الطاعة ، كتحديد مدى السلطة التأديبية للزوج التي قد تصل إلى الضرب . وحتى عندما تبنت هذه التشريعات إسقاط النفقة أو إيقافها حسب المذاهب كأثر لنشوز الزوجة كما يتبين ذلك في القسم الثاني من هذا البحث، لم توضح طبيعة هذا الحكم هل هو جزاء أم وسيلة إجبار. فجاء الأمر بالطاعة عاما وغامضا وغير مقرون بوسائل إلزام أو جبر واضحة ومحددة عند الإخلال به ، الشيء الذي نتجت عنه أحكام تتعارض مع مبدأ حسن المعاشرة الذي يجب أن يسود العلاقة بين الزوجين .
يتبين مما سبق أن النص القانوني في المدونة يبدو لأول وهلة منسجما مع المبادئ العامة للشريعة الإسلامية في حثه على حسن المعاشرة بين الزوجين ، إلا أن وفاءه لمرجعيته الفقهية التي جعلت من حسن عشرة الزوجة لزوجها طاعتها له يبدو واضحا، وحتى بالنسبة لبعض التشريعات التي تجرأت وحذفت هذا المفهوم ـ كتونس ـ لم تستطع أن تسير إلى النهاية بتقريرها حق الزوجين معا في تسيير شؤون الأسرة ، واحتفظت بدور الرئاسة للزوج ، مما يبرز صعوبة زحزحة الموروث الثقافي في منظومة قوانين الأسرة العربية والإسلامية .
وقد تجلى لنا التناقض الذي وقع فيه بعض الفقه في الأحكام المرتبطة بكيفية الوفاء بهذا الالتزام بعد الاتفاق على وجوبه كمبدأ أساسي يجب أن يخضع له الزوجان في علاقتهما الزوجية .
فكيف يتم وفاء الزوجين بالتزام حسن المعاشرة ؟
يمكن تلخيص أهم صور الوفاء بهذا الالتزام في اجتناب الزوجين إضرار أحدهما بالآخر بأي وجه من وجوه الضرر ماديا كان أو معنويا ، وقد عرضنا لمفهوم الضرر المبرر للفرقة بين الزوجين وأوردنا صورا للضرر المادي والمعنوي .
فمن أهم صور الضرر المادي الإيذاء العمدي وخيانة الأمانة بين الزوجين ، وقد تم تحليل هاتين الصورتين فقها وقانونا وقضاء .
وبالنسبة للضرر المعنوي اتبعنا نفس المنهجية عند تناول أهم صوره وهي :
ـ الامتناع عن تقديم الرعاية ،
ـ التعاطي للآفات الاجتماعية من خمر ومخدرات وقمار ،
ـ السب والقذف ،
ـ الإساءة إلى الأهل والأقارب ،
ـ الشقاق والنفور وأسبابهما .
وبالنسبة لوفاء الزوج بهذا الالتزام ، أبرزنا أهم صوره وهي تقديم المساعدة المادية أو ما يعرف فقها بالإنفاق ، والعدل في العلاقة الزوجية سواء كان الزواج أحاديا أو تعدديا. وخلصنا في نهاية الأبواب الثلاثة من القسم الأول إلى:
أن التفسير الفقهي للصلاحيات الممنوحة للزوج عند الوفاء بالتزام المساكنة بعناصره الثلاثة ، اعتمد مفهوما خاصا وبعيدا عن المنظور الإسلامي لمصطلحين لهما علاقة بهذا الالتزام ونعني بذلك " الطاعة والقوامة " كأساس اعتمده الفقه لتحديد حقوق وواجبات الزوجين ، هذين المصطلحين اللذين احتفظا بنموذج النظام الاجتماعي في جانبه المنظم لعلاقات الرجل بالمرأة ولمركز رئيس الأسرة ومسؤوليته المادية المتمثلة في الإنفاق والذي كان سائدا قبل ظهور الإسلام، ورسخه التفسير الفقهي المتأثر بهذا الموروث الذي عرفت فيه المرأة أصنافا من الظلم والاستبداد مما جعل النصين القرآنيين موضوعي الإشكالية الأساسية في البحث يبدوان متعارضين من حيث الظاهر ،حيث غيبت الحكمة الإلهية من تقرير مفهومي الطاعة والقوامة طبقا لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة ومقاصدها الأساسية في العدل والقضاء على الظلم في العلاقات بين الأفراد ، وبالأخص في العلاقة الزوجية .
ولإزاحة هذا الغموض ، عملنا قدر المستطاع على إبراز الفرق الشاسع بين المنظورين الفقهي والإسلامي لمفهومي القوامة والطاعة .حيث ثبتت مبالغة الفقه اعتمادا على هذين المفهومين في منح سلطات للزوج ترتبت عنها نتائج غير منطقية ومجحفة بالزوجة مما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية في العدل والمودة والرحمة التي يجب أن تسود العلاقة الزوجية .
وقد كان طبيعيا بمقتضى الإحالة الصريحة للمدونة على المذهب المالكي أن يتأثر هذا الجسم القانوني بهذه التفسيرات الفقهية . فجاءت نصوصه مرتبطة من حيث الصياغة ارتباطا يكاد يكون كليا بفقه المذهب المالكي، وعدم تجاوزه هذا المذهب إلى فقه المذاهب الأخرى إلا في حالات استثنائية. كما طبعه الثقل الديني الذي يهيمن عليه مفهوما الطاعة والقوامة بكل تداعياتهما ، إضافة إلى الموروث الثقافي والاجتماعي الذي تسوده نزعة ذكورية بحتة نلمسها بوضوح في الآثار السلبية للتوزيع غير المتكافئ للحقوق والواجبات بين الزوجين . وهكذا ظلت مدونة الأحوال الشخصية ، النص القانوني الوحيد الذي قاوم بشدة المبادئ الأساسية للمساواة الكونية بين الرجل والمرأة دون مراعاة للواقع الاجتماعي الذي تغير كثيرا عما كان عليه وقت الإفتاء بالأحكام الفقهية .
فهو يرى حبس الزوجة بين جدران بيت الزوجية والتحكم في تنقلاتها داخله وخارجه إلى حد منع الزوجة من زيارة أهلها أو استقبالهم بحجة الحفاظ على عفتها وشرفها ، بل وحرمانها من لقمة العيش إذا خرجت دون إذن الزوج، هذا الخروج الذي قد يكون تعبيرا عن استحالة عيشها مع الزوج لإضراره بها ، بل إن المنع بحجة الحفاظ على عرضها وشرفها شمل عيادة والديها أو الخروج لأداء فرائضها في المسجد أو القيام بفريضة الحج . ولم يقف هذا الفقه المتشدد عند هذا الحد ، بل إنه ربط نفقتها ووسيلة عيشها مرة أخرى بالاستمتاع بها ، وفرض عدم إرضاع طفلها أو القيام بنوافلها من صلاة أو صيام أو التكسب لأن في ذلك تفويتا وانتقاصا لحق الزوج في الاستمتاع بها . وأكثر من ذلك فرض ضربها إن امتنعت من تسليم نفسها لزوجها دون البحث عما وراء تقرير هذه الوسيلة الشرعية وأسباب نزول الآية المتعلقة بها والحكمة منها ومفهوم الضرب المقصود فيها بما لا يتعارض مع مفهوم السكن والمودة والرحمة . كما أباح التعدد عليها دون مراعاة الطابع الاستثنائي لهذا الحق والحالات المبررة للالتجاء إليه ، إلى غير ذلك من الأحكام الجائرة التي نتجت عن تصور وتفسير بعض الفقه للقوامة والطاعة .
فأين نحن من المعاشرة بالمعروف؟ وهل من حسن المعاشرة وطء الزوجة مرة واحدة في العمر وما زاد على ذلك فهو ديانة لا قضاء ؟ وهل هذه هي القوامة والطاعة التي أشار إليهما القرآن الكريم؟ وأين نحن من عدم الإضرار والتضييق على الزوجات ؟ أليس في ترتيب هذه الآثار امتهان للزوجة وجعل نفقتها ، أي مصدر عيشها ، رهينا باستيفاء الزوج لرغباته الجنسية أو استفادته من خدمات زوجته داخل بيت الزوجية كأي جارية من جواري العصور البائدة ، والحال أن بعض الفقه اعتبر خدمة الزوجة للبيت تطوعا منها وأن عليها الإشراف عليه لا غير وأن على الزوج أن يوفر لها من يخدمها ، وشتان ما بين الإشراف والخدمة .
لقد حاد بعض الفقه في ذلك عن الهدف الأسمى للشريعة وهو العدل واستقرار الأسرة وتوازن حقوق وواجبات الزوجين ، ومنها المساكنة كأهم أثر لعقد الزواج .
ولم تسلم كذلك أغلب التشريعات العربية من هذا التأثير ، كما أن القضاء المغربي والمقارن كرسا هذه الأحكام بإخلاص، مما أفرز نتائج ظهرت سلبياتها واضحة على الأسرة، كالتفكك الأسري ، وارتفاع نسبة الطلاق وانحراف أطفال الطلاق أو إصابتهم بأمراض نفسية ، وانعدام التوازن داخل العلاقة الزوجية.
من كل هذا يمكن القول باختلاف مفهومي القوامة والطاعة بين نصوص القرآن وبين الثقافة السائدة المشكلة من التفسير الفقهي لتلك النصوص .
أما الباب الرابع والأخير من القسم الأول ، فقد تعرضنا فيه لمدى تأثير الشروط الاتفاقية على الالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين . وحتى نتمكن من إبراز هذا التأثير زيادة أو نقصانا لمصلحة أحد طرفي العلاقة الزوجية أو هما معا ، كان من الضروري التعرض لمفهوم الشرط الاتفاقي وللموقف الفقهي العام من طبيعة عقد الزواج ودور الإرادة فيه ، وذلك بالإجابة عن الأسئلة التالية :
• ما هو الموقف الفقهي العام من طبيعة عقد الزواج ،هل هو عقد مدني أو ديني؟
• وما هو التكييف القانوني للرابطة الزوجية ، أو بمعنى آخر هل الزواج أساسا عقد أو اتفاق أم نظام قانوني ؟ أم أنه يحمل صفات كل هذه المصطلحات ؟ وما مدى تأثير كل ذلك على إمكانية تغيير الآثار المترتبة عنه ومنها التزام المساكنة بإضافة شروط يتفق عليها الزوجان ؟ وما هي نماذج الشروط الاتفاقية التي يمكن أن تؤثر زيادة أو نقصا على التزام السكن ببيت الزوجية ؟
إن الغرض من البحث في طبيعة عقد الزواج هو إبراز مدى إمكانية إضافة الزوجين شروطا ارتضيا الالتزام بها في هذا العقد ، فإذا كان عقد الزواج عقدا مدنيا وتصرفا بسيطا فيمكن الإجابة بالإيجاب ، أما إذا كان عقد الزواج عقدا قدسيا فستنتفي معه إرادة كلا الزوجين إضافة إلى نتائج أخرى تمت الإشارة إليها فيما بعد .
وخلصنا إلى أن عقد الزواج عقد مدني رضائي وليس عقدا مقدسا . كما أنه لا يتطلب شكليات خاصة . واعتبار الزواج عقدا مدنيا رضائيا لا دينيا يؤدي إلى نتيجتين منطقيتين: أولهما إمكان إدراج الزوجين لشروط في عقد الزواج ارتضياها معا لفائدة أحدهما أو كليهما . وثانيهما أن الأحكام المتعلقة به يمكن مراجعتها وتعديلها كلما دعت الضرورة إلى ذلك .
إضافة إلى ذلك فإن اعتبار عقد الزواج عقدا مدنيا يجعل خضوع أحكامه لقواعد القانون المدني أمرا ممكنا . فالشريعة الإسلامية لا تعرف التمييز بين الأحوال الشخصية وبين غيرها بالنسبة لتقيد المسلم بأحكامها ، كما أن جل الفقهاء لم يميزوا في مؤلفاتهم الفقهية بين العبادات والمعاملات ، حيث تناولوا عقد الزواج أو " النكاح " مع عقود أخرى كعقد البيع والقسمة إلى جانب العبادات والحدود دون تخصيص .
فالإبقاء على الفصل بين ما هو " مدني " يدخل في اجتهاد الدولة ، وبين ما هو "شرعي" يختص العلماء بالاجتهاد فيه ، لا ينتج عنه أكثر من تعميق الهوة والإبقاء على الأحكام الشرعية بعيدة عن التطبيق.
والدليل على النتائج الشاذة لهذا الفصل ، استبعاد القضاء المغربي دون تعليل وجيه تطبيق قواعد القانون المدني حتى في مبادئه العامة كالمسؤولية المدنية على الأحوال الشخصية رغم أن أساس المسؤولية المدنية قد حظي بتنظيم كاف وشامل في كتب الفقه قبل أن تعرفه القوانين الوضعية .
والراجح أن عدم الفصل بين " المدني " و " الشرعي " دعوة للتفتح على القوانين الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة ، خاصة القانون المدني الذي يحمل في طياته نظريات هامة تجد أسسها في اجتهادات الفقه الإسلامي، كنظرية التعسف في استعمال الحق ، ونظرية الضرر والمسؤولية المدنية أو ما يعرف في الفقه بالضمان ،هذا القانون الذي يعتبر كذلك أصل ومصدر مدونة الأحوال الشخصية التي لم تنفصل عنه إلا لتنظيم علاقات أفراد الأسرة فيما بينهم وبصفتهم تلك ، مثلها مثل قوانين أخرى كالقانون التجاري الذي ينظم علاقات فئة التجار فيما بينهم ، وقانون الشغل الذي ينظم علاقات الأجراء والمأجورين ...ولم يقل أحد بأن هذه القوانين الأخيرة دينية مع أن الشريعة الإسلامية نظمت جميع العلائق بين البشر من نكاح وتجارة وقرض وهبة ... فالزواج تبعا لذلك عقد كبقية العقود المدنية الأخرى .
كما تم طرح التساؤل التالي : هل الزواج عقد أم اتفاق أم نظام قانوني ؟
وقد تم تحديد مفهوم المصطلحات الثلاثة وما تتفق أو تختلف فيه مع مبررات تسمية الزواج بالعقد أو الاتفاق أو النظام القانوني .
وبعد تحديد المراد بالعقد والاتفاق والنظام القانوني ، يمكن القول إن الزواج " عقد" انطلاقا من الآية الكريمة :" ...ولا تعزموا عقدة النكاح " ، حيث يبرز الجانب التعاقدي للزواج بوضوح. فهو عقد بين رجل وامرأة لا يتحقق إلا بانعقاده بخالص الرضا بين طرفيه من أجل العيش المشترك بينهما ، وتبادل المعونة والرعاية والإحصان . كما أن الشكل القانوني لميثاق الزوجية يأتي في صيغة عقد له أركان وشروط كبقية العقود الأخرى.
وهو اتفاق بين طرفيه على إحداث أثر قانوني ، هي الرابطة الزوجية وما يترتب عنها من التزامات وحقوق .
وخلاصة القول إن الزواج اتفاق رضائي مبني على أساس من الإرادة الحرة والرضى التام لكل من الزوجين ، وهو عقد يقوم على أساس مدني لا يختلف عن أي عقد من العقود الأخرى التي يبرمها الإنسان . وبالرغم من أنه تصرف عقدي ينشأ باتفاق إرادي، إلا أن دور حرية الإرادة فيه جد محدود، وهذا ما يبرر وصفه بالنظام القانوني Institution) ( .
هكذا يبدو أن كلا من نظريتي " الزواج عقد ...الزواج نظام قانوني " ، تعبران عن جانب من الحقيقة دون استيعابها كاملة ، وبالتالي يمكن اعتبار كل منهما مكملة للأخرى. فالراجح اعتبار الزواج نظاما مختلطا ، فهو عقد يعبر فيه الأطراف عن رغبتهما في الدخول في نظام قانوني تحدد قواعده السلطة المختصة .
وهذه الطبيعة المزدوجة للزواج هي سبب الخلاف حول تحديد الطبيعة القانونية لعقد الزواج . ولا شك في أن الزواج عقد يتم بتلاقي إرادة طرفيه بنية الارتباط بينهما ، ولكن هذا العقد ليس كسائر العقود ، فلا تكفي إرادة الطرفين لإنشائه، إذ أن ذلك منظم بنصوص قانونية ملزمة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. كما أن إنهاءه قد يتم بإرادة الزوج المنفردة(الطلاق )، أو بإرادة الزوجة إن كانت تملك هذا الحق (التمليك)، أو بطلب من الزوجة (التطليق ) ،أو بطلب من الزوج في بعض التشريعات العربية كتونس، أو برضاهما معا وفق شروط خاصة ( الخلع )، وهو ما يتعارض مع مبدأ سلطان الإرادة في العقود الذي تنص عليه المادة 230 من ق.ل.ع المغربي بقولها: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون" ، وهو اختصار للقاعدة المشهورة " العقد شريعة المتعاقدين ولا يجوز إلغاؤه إلا بإرادتهما معا "، وهو ما يتعارض مع النصوص الشرعية التي تعطي للزوج الحق في إنهاء الرابطة الزوجية بإرادته المنفردة، أو تعطي هذا الحق للمرأة قضائيا في حالات وردت في المدونة على سبيل الحصر. فهو عقد من نوع خاص يتدخل القانون في تحديد أحكامه لا سيما بالنسبة للآثار القانونية التي تترتب عليه . فبعد الزواج تنتهي حرية الأفراد عند إبرام العقد، والآثار التي تنجم عنه يملك القانون وحده حق تقريرها، فالمبادئ التي تحكم الأسرة تتعلق بالميدان الآمر وذلك في نظر أغلب الفقه ...ولهذا يمكن وصف الزواج بأنه عقد ينشئ رابطة يحكمها نظام قانوني .
هذا ما شمله القسم الأول في أبوابه الأربعة المتعلقة بتحديد الالتزامات المترتبة عن المساكنة وإبراز مضمونها وكيفية الوفاء بها ونطاقها .
وقد انصبت اقتراحاتنا فيما يتعلق به ، و بعد تحديدنا للالتزامات المترتبة عن المساكنة بين الزوجين فقها وقانونا وقضاء ، على :
ـ ضرورة تخلي المشرع المغربي عن الصيغة الغامضة في تقريره للمساكنة الشرعية كحق والتزام متبادل بين الزوجين دون تحديد ، باقتراح صيغة جديدة للمادة 34 م.ح.ش على الشكل التالي :
الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين :
1ـ المساكنة الشرعية وتشمل :
2ـ السكن ببيت الزوجية ،
3ـ إحصان كل منهما وإخلاصه للآخر ،
4ـ المعاشرة بالمعروف وتبادل الاحترام والعطف والمحافظة على مصلحة الأسرة .
و فيما يتعلق بالمادتين 35 و36 م.ح.ش المتعلقتين بتوزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين ، تم التأكيد على ضرورة :
ـ القضاء على أوجه التمييز وعدم التوازن في مخاطبة الزوج والزوجة بتلك الحقوق والواجبات ، وتحميل الالتزام بالوفاء بها على وجه المساواة ودون تمييز بسبب الجنس الذي كان وراء تأثر المشرع المغربي بالتفسير الفقهي لمفهومي الطاعة والقوامة.
وكان أول هذه الحقوق والالتزامات التي تتطلب مخاطبة متساوية والتي لها علاقة بموضوع البحث ، الفقرة الأولى من المادة 36 م.ح.ش التي جاءت على الشكل التالي :
ـ صيانة الزوجة نفسها وإحصانها .
وقد تم التعرض للانتقادات التي وجهت إلى هذه الفقرة باعتبار أن هذا الالتزام هو التزام وحق مشترك بين الزوجين بحكم المخاطبة المتساوية للشريعة الإسلامية عند الإخلال به من الزوجين أو أحدهما ، وما الصيغة التي اعتمدها المشرع إلا دليل على تأثره بالسلطة التي منحها الفقه للزوج على جسد الزوجة وتحركاتها داخل البيت وخارجه بحجة الحفاظ على شرفها .
وقد طالبنا قبل صدور مشروع مدونة الأسرة ـ في ترقبنا لما ستسفر عنه أعمال اللجنة الملكية لمراجعة المدونة ـ أن يعاد النظر في هذه الفقرة على الشكل الذي اعتمدناه في تحليل مفهوم الإحصان في وجهه الإيجابي ، أي المعاشرة الزوجية ، ووجهه السلبي ، أي الإخلاص وعدم الخيانة، وذلك بتبني المشرع الصيغة التالية :
ـ إحصان كل منهما الآخر وعدم خيانته .
وفي هذا الإطار تساءلنا ، والأمل يحدونا في ذلك ، فيما يتعلق بالتزام حسن المعاشرة، هل يمكن للمشرع أن يخطو خطوة شجاعة ويلغي مفهوم الطاعة كما سار على ذلك المشرع التونسي ، وأن يعيد النظر في كل ما يترتب عنها من تقسيم تقليدي للحقوق والواجبات بين الزوجين كزيارة أهلها واستزارتهم وإكرام والدي الزوج وأقاربه دون وضع هذا الالتزام على عاتق الزوجة فقط؟
وفرض علينا هذا التساؤل تساؤلا آخر وهو هل يمكن أن يسير المشرع في تعديله ، إلى إلغاء الرئاسة الزوجية بما يحقق الرؤية العادلة لتوجهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس للجنة الملكية بتحقيق المساواة بين الزوجين في علاقتهما داخل الأسرة بما يتوافق مع حقوق الإنسان والمرجعية الإسلامية ، خصوصا إذا علمنا ـ كما أوضحنا ذلك في هذا البحث ـ أن تطبيق مبدأ المساواة في توزيع هذه الحقوق والواجبات لن يمس في شيء المبادئ العليا للشريعة الإسلامية، بل على العكس من ذلك فإن إعادة النظر فيها هو عين العدل والمساواة .
القسم الثاني
وقد حاولنا أن نبرز فيه بعض حالات الإخلال بالالتزامات القانونية المترتبة عن المساكنة بين الزوجين ، وكذا الإخلال بالشروط الاتفاقية في عقد الزواج وآثار ذلك ، فالتمييز بين الزوجين في الآثار التي رتبها الفقه والقانون والقضاء على هذه الحالات كان واضحا، مما دفعنا إلى تقييم تلك الآثار واقتراح بدائل لها . ويمكن صياغة الملاحظات التي استنتجناها من خلال دراستنا وتحليلنا لهذه الآثار في سؤالين :
ـ هل استطاع الفقه والقانون والقضاء في ترتيبه لتلك الآثار تمكين المتضرر من الإخلال بالتزام المساكنة من اقتضاء حقه ورفع الضرر عنه ؟
ـ وهل كانت الوسائل المتاحة أمام المتضرر من الزوجين كفيلة بتحقيق التوازن في العلاقة الزوجية ورفع الظلم والجور عند الإخلال بالالتزامات الزوجية ومنها التزام المساكنة بين الزوجين؟
وقد اتضح لنا مرة أخرى ، التأثير السلبي لتفسير مفهومي القوامة والطاعة على آثار الإخلال بهذه الالتزامات، حيث جاءت المخاطبة بها غير عادلة وغير متوازنة بحسب ما إذا كان المخل هو الزوج أو الزوجة .
فالحقوق الزوجية ليست مطلقة بل مقيدة بهدفها الذي منحت من أجله ، فإذا أساء أحد الزوجين استعمالها وجب إيقاع الجزاء عليه إحقاقا للحق وجبرا للضرر. كما أن الالتزامات الزوجية هي قيود تلزم من تحمل بها بالوفاء بها وفاء تاما وبحسن نية ، فإذا أراد التملص منها سواء بضرر أو بدونه تحمل نتيجة الإخلال أو التقصير بالوفاء بها دون تمييز بسبب الجنس .
وهذه الآثار لا تعدو أن تكون :
ـ إجبارا على التنفيذ،
ـ أو فصما للرابطة الزوجية ،
ـ أو التعويض إن توافرت شروطه .
إضافة إلى آثار أخرى في القانون الجنائي .
ومن خلال دراسة فقهية وقانونية وقضائية مؤصلة لهذه الآثار ، ظهر تحيز الفقه للزوج ومحاولاته فرض شروط معجزة للزوجة للتخلص مثلا من علاقة زوجية لم تعد تحقق القصد والغاية منها ، سواء في حالات التطليق للغيبة أو عدم الإنفاق أو العيب أو الهجر أو الضرر. وقد كانت المدونة والقضاء المغربي وفيين لهذا التحيز ، بل إن القضاء المغربي أضاف فيما يخص التطليق للضرر كأثر لإخلال الزوج بالتزام المساكنة شروطا لا تعتمد حتى المرجعية الفقهية ، بل كانت متأثرة بالموروث الثقافي من عادات وتقاليد بعيدة عن مقاصد الشريعة الإسلامية في الفرقة ، مما جعل فصم الرابطة الزوجية من الأمور شبه المستحيلة .
كما برز التعسف في ممارسة حق التمسك بالعلاقة الزوجية أو إنهائها، وكل هذا يدل دلالة قاطعة على سلبيات التفسيرات الفقهية لمفهومي القوامة والطاعة وعلى ابتعادها كليا عن مفهوم السكن والمودة والرحمة بين الزوجين . وهذا ما جعلنا نتساءل :
ـ هل هناك حل قادر على إعادة التوازن بين حقوق وواجبات الزوجين وإعادة الاستقرار إلى الحياة الزوجية ؟
وقبل محاولة الإجابة عن التساؤل المطروح ، انطلقنا من مسلمة مفادها أن بلادنا عرفت في السنين الأخيرة تحولات عميقة شملت مختلف المجالات ، وكان لمجال حقوق الإنسان عموما ، وحقوق المرأة على وجه الخصوص ، نصيبها الأوفر في إطار هذه التحولات ، حيث طرحت عدة تحديات من أجل تحقيق الاحترام الواجب لشخصية المرأة وحقوقها باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا من جهة ، ولتأمين قيام أسرة متينة الأسس من جهة أخرى .
وفي هذا الإطار، كانت قضايا الأسرة والعلاقة بين الزوجين وما لهما من الحقوق وما عليهما من الواجبات في صلب اهتمامات تدبير الشأن العام الوطني . هذه التطورات المجتمعية التي تعرضت لها الأسرة المغربية أثرت بشكل كبير على نوعية العلائق داخلها، فبدا الفرق شاسعا بين الواقع المعيش وكثير من أحكام مدونة الأحوال الشخصية بحكم تأثرها بمرجعيتها الفقهية، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والواجبات بين الزوجين ومنها المساكنة ، مما جعل محور نشاط مجموع فعاليات المجتمع المدني المغربي ،المطالبة بمراجعة جذرية لنصوص المدونة بما يحقق العدل والمساواة داخل العلاقة الزوجية .
وقد تم التعرض في هذا البحث لأغلب التعديلات التي لم تر النور لما صاحبها ولا يزال من ردود فعل من طرف الاتجاه المحافظ الذي يرفض أي تعديل بحجة مساسه بمبادئ الشريعة الإسلامية ـ مع أن نص المدونة هو تفسير فقهي لهذه المبادئ يحتمل الخطأ والصواب ـ مقابل اتجاه متفتح حداثي يرى مراجعة المدونة انطلاقا من التغيرات المجتمعية وارتباط المغرب بالمعاهدات الدولية ومبادئ حقوق الإنسان .
وقد شهدت الساحة الفكرية القانونية في المغرب تداعيات هذا الصراع الذي خرج عن كل منطق وتعقل ووصل كما أشرنا لذلك سابقا ، إلى درجة اتهام كل مطالب بالتعديل بالكفر والإلحاد ، وذلك إثر عرض الحكومة لمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية سنة 1999.
وكانت الخطوة الجريئة لجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني في إطار توجهه العام منذ بداية التسعينات لفتح حوار بناء حول قضايا الأسرة بارتباط مع المسار التنموي للبلاد، بتعيين لجنة لمراجعة المدونة بما يحقق العدل والمساواة داخل الأسرة ويقضي على التفكك الأسري داخلها ، وكان من نتائجها التعديلات التي همت مدونة الأحوال الشخصية في شتنبر 1993 مسجلة بذلك خطوة هامة على طريق إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم المتصلة بالمرأة والأسرة عموما ، وقطيعة مع قدسية هذا القانون ورفض كل محاولة لتعديله . وفتح باب النقاش الحر المثمر أمام كل ذي نية سليمة ، وهو ما جعل النص ، بعد تعديله وبالرغم من بعض إيجابياته ، محط دراسة انتقادية هامة من طرف بعض الفقه المغربي .
وقد حرص جلالة الملك محمد السادس بعد توليه عرش آبائه وأجداده المنعمين على مواصلة هذا التوجه النبيل ، حيث أكد جلالته في غير ما مناسبة على ضرورة العمل على إدماج المرأة في التنمية وتحسين أوضاعها القانونية والاقتصادية والاجتماعية ، في انسجام تام والتزام كامل بثوابت مرجعيتنا الإسلامية ، مع الأخذ في الاعتبار في نفس الوقت ، انخراط بلادنا والتزامها بالعديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان عموما ، وحقوق المرأة والطفل بصفة خاصة .
ورغبة منه حفظه الله في وضع حد للصراع المقلق الذي بدت تداعياته واضحة على الساحة الفكرية المغربية بخصوص هذا الموضوع ، وفي إطار اهتمامه بالأسرة وقضاياها، جاء القرار الملكي بإحداث اللجنة الاستشارية الملكية لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية مراجعة لا تخرج عن ثوابتنا الإسلامية ولا تغفل في نفس الوقت ارتباط المغرب بالمجتمع الدولي ، ليتوج جلالته هذا المسار ويجعل من النهوض بأوضاع الأسرة والسير قدما نحو تحقيق مفاهيم العدل والمساواة والمودة داخل العلاقة بين طرفيها ضمن الأولويات الوطنية على مختلف الأصعدة .
وقد كان هذا البحث المتواضع موازيا لأعمال هذه اللجنة الموقرة التي ضمت خيرة العلماء والفقهاء ورجال القانون والباحثين الجامعيين ، مما حفزنا على الإسراع بإتمامه قبل صدور مدونة الأسرة الجديدة ، واضعين في اعتبارنا ، بغض النظر عن الدراسة الأكاديمية ، غاية أساسية هي المساهمة المتواضعة لما تصورنا تعديله في بنود المدونة ، خاصة ما يتعلق بموضوع بحثنا.
ذلك أنه حان الوقت في بلدنا الذي اختار هدفا له " دولة الحق والقانون " أن تسود الديموقراطية أهم خلية في المجتمع ، وأن يكون رائدا لكثير من الدول في تكريس المساواة والعدل بين الرجل والمرأة على هدي رسول الأنام ـ ص ـ " النساء شقائق الرجال في الأحكام" . خصوصا وأن جميع الظروف مواتية لذلك، فالإرادة السياسة متوفرة ، وجميع فعاليات المجتمع المدني متفقة على أنه حان الوقت لرفع مظاهر الظلم والجور اللذين سادا لحقبة طويلة العلاقة الزوجية دون تمييز بين الرجل والمرأة ، وذلك بتحديد التزامات كل منهما وحقوقه ، لأن الضحية الأولى هم الأطفال ثم الأسرة والمجتمع .
والتزاما منا بمنهجية البحث المعلن عنها في بدايته ، قمنا بتقسيم القسم الثاني إلى أربعة أبواب كالتالي:
الباب الأول وعرضنا فيه لبعض حالات الإخلال بالتزام السكن ببيت الزوجية وآثاره فقها وقانونا وقضاء ، حيث تبين لنا من خلال دراسة هذه الحالات أن الإخلال فيها قد تبدأ بوادره حتى قبل البدء بالمساكنة سواء من طرف الزوج أو الزوجة . فالزوج قد يمتنع عن دعوة الزوجة للدخول أو لا يسلم لها معجل صداقها أو لا يعد المسكن وفق شروطه الشرعية . كما أن الزوجة قد تمتنع عن الدخول لأسباب مختلفة ، وقد يكون عدم تسليم الزوج لها معجل صداقها أو عدم إعداد المسكن مبررا شرعيا لهذا الإخلال .
أما بعد الدخول فإن أهم حالات الإخلال بهذا الالتزام من طرف الزوج مغادرته لبيت الزوجية دون عذر شرعي ، وبالنسبة للزوجة النشوز .
فإذا كانت المدونة قد اعتبرت المساكنة الشرعية من الحقوق المتبادلة بين الزوجين، بمعنى أنه يجب على الزوج أن يستقر مع زوجته في بيت الزوجية وألا يهجره ، وأن يبيت معها فيه، وأن يقوم بواجبات الحياة الزوجية المعتادة ، وإذا كان من حق الزوج طلب إجبار الزوجة على الرجوع حال إخلالها بهذا الالتزام ، فإنه لا يوجد بنصوص المدونة ما يخول الزوجة إمكانية ممارسة هذا الحق من جانبها في حالة مغادرة الزوج لبيت الزوجية وعدم تحقيقه للمساكنة الشرعية وإن كان ذلك لعدة سنوات، وهذا يثبت بعض جوانب التفاوت والاختلاف بين الزوج والزوجة في المفهوم القانوني لالتزام المساكنة الشرعية الذي تقول عنه المدونة إنه التزام متبادل بين الزوجين ، وكل ما للزوجة في هذه الحالة هو متابعة الزوج بجريمة إهمال الأسرة إذا توافرت شروطها ، أو أن تطلب التطليق استنادا للمادة 57 م.ح.ش المتعلقة بالتطليق لغيبة الزوج.
فالمشرع المغربي لا يعتبر غياب الزوج عن بيت الزوجية دون عذر مقبول" نشوزا" من طرف الزوج ، ولم يحدد نصوصا جزائية لمواجهة هذا الإخلال بطريقة ترفع الظلم عن الزوجة ، بل اقتصر على منحها طلب التطليق ووفق شروط يصعب في أغلب الأحوال إثباتها.
فعلى ضوء ما سبق ذكره بخصوص غيبة الزوج عن بيت الزوجية فقها وقانونا وقضاء،رأينا ضرورة تدخل المشرع المغربي لإعادة صياغة المادة 57 م.ح.ش على الشكل التالي :
" إذا غاب الزوج عن زوجته مدة تزيد عن سنة سواء بعذر أو بلا عذر ، معلوم المكان أو مجهوله، أمكن للزوجة طلب التطليق لذلك ، ولو كان لزوجها مال تستطيع الإنفاق منه ".
وانصبت اقتراحاتنا على:
حذف الفقرة الثانية من المادة 57 م.ح.ش ، واعتبار تغيب الزوج أكثر من سنة دليلا على عدم رغبته في استمرار الحياة الزوجية . وحتى لو تبين أن له عذرا قاهرا فإن تغيبه مدة تزيد عن السنة يقوم حجة على إخلاله بالتزام المساكنة ببيت الزوجية وقرينة على الضرر الحاصل للزوجة مما يخولها الحق في طلب التطليق للضرر طبقا للمادة 56 م.ح.ش ، ولم لا الاستغناء كليا عن المادة 57 م.ح.ش والاكتفاء بالمادة 56 م.ح.ش المتعلقة بالتطليق للضرر لأنها تستوعب حالة الغياب والأضرار المترتبة عنه .
ويبدو التحيز والتمييز في ترتيب آثار الإخلال بالتزام السكن بالنسبة للزوجة واضحا . فالفقه بالغ كثيرا في تفسير مفهوم طاعة الزوجة للزوج والصلاحيات التي تخولها إياه القوامة إزاء شخصها وتصرفاتها داخل البيت وخارجه ، وهو ما انعكس بالتالي على تفسير النشوز ودلالاته الاصطلاحية حيث رتب الفقه على نشوز الزوجة أي خروجها من بيت الزوجية دون إذن زوجها ، سقوط أو إيقاف نفقتها ، وهو ما لم تنص عليه الشريعة الإسلامية التي اقتصرت على مواجهة نشوز الزوجة باتباع الوسائل التأديبية المشار إليها في الآية 34 من سورة النساء ، حيث احتل الضرب فيها المرتبة الأخيرة باعتباره وسيلة استثنائية حصر بعض الفقه استعمالها عند ارتكاب الزوجة للفاحشة ، وما لا يقبح الوجه أو يشوهه ، وآخرون قصروه على تخويفها بعود السواك أو رميها بما يعادل حفنة من أوراق الشجر وتفصيل ذلك في الهوامش .
وأبرزنا الموقف الفقهي المتشدد من هذه الوسيلة والذي لم يأخذ بعين الاعتبار في تفسيرها أسباب نزول الآية ولا الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ذلك الوقت ، والتي أصبحت تتعارض مع التطور الذي عرفته وضعية المرأة في الوقت الراهن ومع ما أوردناه في البحث عن معاملة الرسول ـ ص ـ لنسائه ونهيه عن ضرب النساء بصفة عامة ، الشيء الذي يجعل من الاحتفاظ بوسيلة التأديب هذه أمرا متجاوزا ومنافيا لمفهوم حسن المعاشرة بين الزوجين . كما عرضنا لموقف القانون والقضاء اللذين ظلا وفيين للتفسيرات الفقهية لأحكام نشوز الزوجة بحكم مرجعيتهما الفقهية . حيث رتبت المدونة على نشوز الزوجة إيقاف نفقتها متأثرة في ذلك بالمذهب الظاهري. ورغم ما قد يبدو من إحجام المشرع المغربي عن تبني الموقف الفقهي العام الذي رتب على نشوز الزوجة سقوط نفقتها حيث اقتصر على إيقافها فقط لحين رجوعها لبيت الزوجية ، فقد طالبنا بمراجعته لموقفه نظرا للطابع الإنساني للنفقة ولصبغتها المعاشية، الشيء الذي سيدفع بالزوجة التي لا معيل لها إلى نهج سبل تمس بكرامتها وشرفها وإنسانيتها ، وفي ذلك ما فيه من هدم للأخلاق والطعن في قيمنا وثوابتنا الإسلامية، وهذا ما لا تقول به الشريعة الإسلامية قطعا.
كما نجد القضاء المغربي في تطبيقه لإيقاف النفقة قد انتهج شروطا وإجراءات خاصة بمسطرة رجوع الزوجة إلى بيت الزوجية كانت محل عدة انتقادات من طرف بعض الفقه المغربي أوردناها في محلها .
وأمام عيوب مسطرة الرجوع ومن بعدها إيقاف النفقة وربطها بالطاعة والاستمتاع والاحتباس، وهي مفاهيم غالى الفقهاء في تفسيرها ورتبوا عليها نتائج غير منطقية أبرزناها بوضوح في هذا البحث، تبنينا رأي بعض الفقه المغربي لرجاحته، بتطبيق القضاء أحكام الشقاق المنصوص عليها في المذهب المالكي إذا بلغت العلاقة درجة من النفور والتصدع .
وبصفة عامة ، يتعين أن يخضع نشوز أي من الزوجين لتدخل القضاء بتطبيق آية "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا " ، مع الأخذ في تطبيقها بالرأي الفقهي الذي يقول بوجوب بعث الحكمين متى خيف الشقاق وليس بعد حدوثه فقط ، وبتوقيع الطلاق بعد العجز عن إصلاح ذات البين، وإلزام المخطئ من الزوجين بأداء تعويض إلى الزوج المتسبب في الشقاق ، أو بدون إلزام أي منهما بالأداء إن ارتضيا معا الفرقة . ومن هنا تبرز الحكمة الإلهية في هذه الآية التي وضعت بلسما وحلا لعدم التوافق بين الزوجين حسما لكل الآثار السلبية للنفور واستحالة العشرة .
وقد تناولنا في الباب الثاني حالات إخلال الزوجين بالإحصان في وجهيه الإيجابي والسلبي وآثاره فقها وقانونا وقضاء .
ففيما يتعلق بالإخلال بالتزام الإحصان في وجهه الإيجابي ، أي المعاشرة الزوجية ، اتضح لنا من خلال هذا البحث أن العلاقة الجنسية تحتل مكانة هامة في العلاقة الزوجية وأن من المؤثرات السلبية لعدم تحققها الأمراض والعيوب الجنسية . والسؤال الذي طرح نفسه هو : هل يمكن اعتبار كل العيوب والأمراض الجنسية إخلالا تترتب عنه آثاره ؟
وقد تطلبت منا الإجابة عن هذا السؤال التمييز :
ـ بين العيوب والأمراض الجنسية التي يتم إخفاؤها أو السكوت عنها قبل العقد أوقبل الدخول ، بقصد التغرير أو التدليس في كل الحالات ،
ـ وبين العيوب والأمراض الجنسية الحادثة بعد العقد والدخول والتي يستحيل معها تحقق الوفاء بالمعاشرة الزوجية حيث تعتبر في هذه الحالة ـ رغم أنها قضاء وقدر ـ إخلالا عقديا بعدم تحقق نتيجة ومقصد عقد الزواج .
وبعد عرض الموقف الفقهي العام من الحالتين وموقف المدونة وتطبيقات القضاء المغربي خلصنا إلى الاستنتاجات التالية :
ـ تصور مبالغ فيه لحقوق الرجل من ناحية ، وقسوة شديدة على المرأة من ناحية أخرى . فالمرأة إذا كانت عاجزة جنسيا أو مصابة بمرض معد فإن الرجل يستطيع أن يطلقها أو يتزوج زوجة ثانية ، أما إذا أصيب الرجل بأي مرض أو عيب ولو كان مانعا من المعاشرة الزوجية فليس أمامها سوى طلب التطليق وليس في كل الحالات. فإذا ضربنا حول هذه الإمكانية سياجا من الشروط والقيود التي وضعها القانون تأثرا منه بمرجعيته الفقهية ، كان ذلك خلافا للعدل وانعداما في تحقيق التوازن في العلاقة الزوجية وهما من خصوصيات الشريعة الإسلامية التي تحث على المعاشرة بالمعروف. فالزوجة يجب أن تعيش في كنف الزوج دون ضرر أو تعد أو خوف من ألا تقيم حدود الله ، فإن لم تتوفر هذه الشروط في العلاقة الزوجية وجب العمل بقوله تعالى : "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، مع منح المرأة الحق في التفريق لأي عيب أو مرض مؤثر في المعاشرة الزوجية سواء كان قبل الزواج أو بعده مع اعتماد الخبرة الطبية في ذلك .
ـ عدم تعرض المدونة لعيوب الرضا ومنها التدليس في إخفاء العيوب ،وهو نقص وثغرة يجب على المشرع تلافيها في إطار التعديلات المرتقبة .
وانطلاقا من قراءة المادة 54 م.ح.ش ومواد تشريعات بعض الدول العربية فيما يخص موقفها من التطليق للعيوب ،اقترحنا تعديل المادة المذكورة على الشكل التالي :
ـ لكل من الزوجين أن يطلب التفريق من القاضي إذا وجد بصاحبه علة تمنع تحقق المقصود من النكاح ، أو مرضا معديا أو منفرا أو قاتلا تتم العدوى به عن طريق المعاشرة الزوجية علم بها أم لم يعلم، مع الرجوع للقواعد العامة للمسؤولية المدنية فيما يخص العيوب أو الأمراض الخطيرة المدلس بها من طرف الزوج أو الزوجة باعتبار التدليس عملا غير مشروع تترتب عنه المسؤولية التقصيرية.
ـ يعتمد في وصف العلل على الأطباء ، فإن كان يرجى شفاؤها خلال سنة لم يفرق بينهما وإلا فرق بناء على طلب أحدهما.
ـ إذا أمكن إزالة العلة من المصاب بها بعملية جراحية أو علاج كيميائي ولو تعدى السنة سقط حق طلب التفريق إذا وافق المتضرر على ذلك.
ـ التفريق للعلل المذكورة طلاق بائن .
ومن الحالات التي تؤثر على المعاشرة الزوجية أيضا الإيلاء والهجر ، حيث لاحظنا أن صيغة المادة 58 م.ح.ش يبدو فيها بوضوح خلط المشرع بين الإيلاء والهجر ، مما يجعل المادة خاصة بالإيلاء الذي ندرت حالاته في وقتنا الحاضر ، مقابل الهجر الذي بدت ضرورة ترتيب أحكامه ملحة في هذه الظروف التي أفرزت حالات من الهجر، قد لا تعتبر إخلالا لأن قصد الإضرار فيها منعدم و لكن الضرر فيها محقق ، لم يتعرض المشرع المغربي لتنظيم أحكامها مع أن تأثيرها السلبي على العلاقة الزوجية محقق وهي حالة السجن وحالات الابتعاد المادي والمعنوي للزوج من أجل البحث عن لقمة العيش أو متابعة تعليمه أو لأسباب تتعلق بنوعية عمله وما يتطلبه من أسفار متكررة واستقرار قد يطول أكثر من سنة ، مما يعرض الزوجة للعنت والحرمان ويجعلها تعيش وضعية شاذة لا هي بالزوجة ولا بالمطلقة.
وقد اقترحنا حذف المادة 58 م.ح.ش لتعلقها في واقع الأمر بالإيلاء ، وتمكين الزوجة من طلب التطليق للضرر في هذه الحالات ، وإن كان اعتماد المشرع الأخذ بالتطليق للشقاق أهون على الزوجة لأنه سيعفيها من عبء الإثبات الذي تتبين صعوبته في هذه الحالات التي يحتل فيها الضرر المعنوي مكانة هامة ،وذلك إذا ما أضاف المشرع المغربي لحالات التطليق ( التطليق للشقاق )، إذ أن مصير كل زيجة أفرغت من معاني المعاشرة والتقارب والتوادد أن تخلق شقاقا قد يستحكم بمرور الوقت ولا يبقى معه إلا إنهاؤها .
وفيما يتعلق بالوجه السلبي للإحصان وهو إخلال الزوجين أو أحدهما بالتزام الإخلاص، ،كان اهتمامنا منصبا حول أخطر صوره وهي الخيانة الزوجية . وقد تمت دراسة هذا الإخلال انطلاقا من القانون الجنائي المغربي ومقارنته بقوانين العقوبات لبعض الدول العربية والأجنبية ، وبين البحث في أساس العقاب عن هذه الجريمة و خصوصيتها وما يترتب عن ذلك من نتائج . كما تطرقنا للآثار الجنائية والمدنية المترتبة عن الإخلال بالتزام الإخلاص مع تقييمها ، وخلصنا لعدم فعالية الجزاء الجنائي في كبح الغريزة الجنسية ، وكذا عيوب الالتجاء إلى فصم الرابطة الزوجية لنفس السبب.
وتم التساؤل ، أمام عدم فعالية الجزاءين الجنائي و المدني في مواجهة هذا الإخلال أو الحد من انتشاره ، حول ما إذا لم يحن الوقت بعد لتدخل المشرع المغربي سواء في الميدان الجنائي أو المدني لوضع نصوص قانونية فعالة لمواجهة جريمة الخيانة الزوجية وتداعياتها، ، خصوصا وأن المغرب يشهد الآن طفرة قوية في إطار تعديل مجموعة من القوانين كالقانون الجنائي وقانون مدونة الأحوال الشخصية ، مما دفعنا إلى اقتراح ثلاثة خيارات وضعناها أمام المشرع المغربي في محاولة لمواجهة زحف هذه الجريمة وتأثيرها على كيان الأسرة والمجتمع.
ـ فإما أن ينسجم مع سياسته العقابية التي انتهجها لهذه الجريمة ، ويمشي فيها إلى النهاية شأنه في ذلك شأن المشرع الفرنسي ويلغي هذه الجريمة نهائيا ،
ـ وإما أن ينقلها إلى مكانها الطبيعي وهو القانون المدني ،على اعتبار أن الزنى جريمة مدنية، سواء من حيث موضوعها – إذ عقد الزواج هو مصدرها – ، أو من حيث أساسها –لأنها إخلال بفكرة الإخلاص الزوجي – ، والقواعد المدنية كفيلة بحماية هذا الإخلاص . كما أن وضع الخيانة الزوجية في إطار القانون المدني سينهي سلطات النيابة العامة في متابعة الزوجة التي تمارس الخيانة علنا في حالة سفر الزوج، وهو وجه آخر من أوجه التمييز في المخاطبة بجزاء الإخلال بواجب الإخلاص بحسب ما إذا كان المخل الزوج أو الزوجة آن الأوان لتحقيق المساواة في المخاطبة به عند تعديل بنود القانون الجنائي .وما يؤيد هذا التصور أن جريمة الخيانة الزوجية من جرائم الشكوى ، لا يتابع فيها المتهم إلا بناء على شكوى يرفعها المتضرر من هذا الإخلال ، بل يمكنه وقف الدعوى في أي مرحلة من مراحلها.
ـ وإما التخلي عن الخلط الهجين بين الأخذ بالتشريعات الغربية والتشبث في نفس الوقت بالشريعة الإسلامية ، بتبني سياسة حمائية للأسرة كفيلة بالقضاء على هذه الجريمة بما يتناسب مع خصوصية المجتمع المغربي التي تختلف تماما عن خصوصيات المجتمع الغربي الذي استقى منه المشرع المغربي أسس العقاب على هذه الجريمة وجزاءها .
وقد ناقشنا الاحتمالات الثلاثة ومدى إمكانية تطبيقها بالنظر إلى الواقع المعيش من ناحية ، وتشبث المجتمع المغربي بمرجعيته الإسلامية ومبادئ حقوق الإنسان التي تحمي الحرية الشخصية للأفراد من ناحية ثانية.
وخلصنا إلى الاقتراحات التالية :
ـ ضرورة تعديل المشرع المغربي للمادة 491 ق.ج بشكل يخرج فيه عن هيمنة المشرع الفرنسي، واختياره نموذجا عقابيا ـ إذا ارتأى ضرورة بقاء هذه الجريمة في إطار القانون الجنائي ـ يتناسب من جهة مع رغبته الأكيدة في عقاب الفساد والخيانة الزوجية ، ويتماشى من جهة أخرى مع نهج التعايش بين الجنسين الذي اتخذ أبعادا هامة بفعل خروج المرأة للعمل والاختلاط بين الجنسين والخلوة بينهما لأسباب مهنية أو غيرها وسفر الأزواج دون الزوجات أو العكس لنفس الأسباب ، مما يفتح الباب واسعا أمام كل ذي نفس ضعيفة لارتكاب الفاحشة .
ـ ضرورة إعادة النظر في المنظومة التشريعية لقوانيننا بصفة عامة ، وعدم قصر تطبيق الشريعة الإسلامية،أو التفسير الفقهي لها على الأصح ، على ميدان الأسرة ، وذلك بنهج سياسة تشريعية تأخذ بعين الاعتبار من جهة ، التحولات المجتمعية والتزام بلدنا باتفاقيات حقوق الإنسان ، ولا تغفل من جهة أخرى مرجعيتنا الإسلامية وخصوصية العلاقة الزوجية، وذلك بالالتجاء إلى عقوبات إضافية يكون من شأنها ترهيب العازم على الإخلال بالتزام الإخلاص، خصوصا الرجوع عن نيته الآثمة ، كحرمان المخل منهما بالتزام الإحصان ، من حضانة الأطفال ، أو رؤيتهم لمدة معينة ، أو من ممارسة بعض حقوقه المدنية ، أو عرضه لإعادة تأهيله أخلاقيا في مؤسسات خاصة شبيهة بمؤسسات الأحداث من شأن الولوج إليها التقليل من شأنه وإشعاره بفداحة عمله.أو إبعاده عن بيت الزوجية فترة يعيد فيها تقييم تصرفاته والتراجع عنها مستقبلا ..والأمثلة كثيرة لهذه التدابير يمكن اقتباسها من التشريعات التي أثبتت نجاعتها. وأخيرا إعطاء الحق لمن لم يعد يطيق منهما حياة زوجية أفرغت من محتواها أن يلتجئ إلى مسطرة الشقاق ، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وكم من حياة زوجية بقاؤها أسوء من إنهائها. وإن كان المؤمل أن يصدر عن المشرع الجنائي المغربي تصريح مباشر بتبني اتجاه يعيد للعلاقة الزوجية حصانتها ويردع كل ماس بحرمتها ويضمن لها قدرا من الثبات والاستقرار بدلا من هذا التلقيح العشوائي للنصوص .
وقد كان الباب الثالث موضوعا لعرض حالات الإخلال بالتزام حسن المعاشرة بالمعروف بين الزوجين وآثاره ، وقد انتقينا أهم حالاته وأخطرها على استقرار الأسرة واستمرار العلاقة الزوجية وهي :
ـ إخلال الزوج بالتزام الإنفاق ،
ـ إضرار أحد الزوجين بالآخر بأي نوع من أنواع الإضرار،
ـ استعمال أحد الزوجين الإيذاء العمدي ،
ـ اتهام أحد الزوجين الآخر بالخيانة الزوجية ،
ـ تعسف الزوج أو الزوجة في إنهاء العلاقة الزوجية .
وقد تلخصت الآثار المترتبة عن حالات الإخلال المذكورة إما في الإجبار على التنفيذ، أو فصم الرابطة الزوجية بالطلاق أو التطليق أو الخلع مع التعويض عن الضرر إن توفرت شروطه ، إضافة إلى الجزاء الجنائي في بعض حالات الإخلال التي نص عليها المشرع المغربي كحالة الامتناع عن تنفيذ الحكم القاضي بالنفقة .
وقد خلصنا في هذه الدراسة التي اعتمدنا فيها الموقف الفقهي العام وموقف القانون والقضاء إلى بعض الملاحظات التي دفعتنا إلى الاقتراحات التالية :
ـ ضرورة إعادة النظر في مفهوم الإنفاق بالنظر إلى التحولات المجتمعية التي جعلت مساهمة المرأة فيه عاملا في تغيير صورة الزوج القوام والقادر على تحمل الإنفاق على زوجته وأسرته، وذلك بتدخل المشرع بنص صريح بضرورة مساهمة الزوجة في نفقة الأسرة ، خصوصا في حالة إعسار الزوج بالإنفاق مقابل يسر الزوجة أو توفرها على عمل مأجور ، شريطة ضمان هذه المساهمة بتمكينها من اقتسام الأموال التي اشتركت في جمعها مع الزوج بعد زواجهما ،
ـ تدخل تشريعي أكثر فعالية لضمان حقوق الزوجة في الإنفاق عليها وعلى أولادها وفي آجال قصيرة للصبغة المعاشية للنفقة ،
ـ تفعيل مقتضيات مشروع صندوق الضمان العائلي وجعله شاملا الزوجات المهملات والمطلقات وأبنائهن ،
ـ تجريم العنف الأسري بصفة عامة والعنف الزوجي بصفة خاصة ، بوضع جزاءات جنائية صارمة ورادعة قبل حدوث العنف وحتى قبله ، وبأشكاله الجسدي والمعنوي والجنسي، فقد أثبتت شهادات وإحصائيات مراكز الاستماع والجمعيات النسائية وأقسام الشرطة ، أن الضرب مثلا لا يمت بصلة للضرب المشار إليه في الآية الكريمة ، بل هو اعتداء جسدي يصل لحالاته القصوى في بعض الأحيان وهي الوفاة أو عاهات مستديمة أو أمراض نفسية خطيرة تستلزم العلاج لمدى الحياة ،
ـ جعل " الزوجية " ظرفا مشددا في حالات العنف ،
ـ تعزيز العقوبة الأصلية للعنف الأسري حال تنصيص المشرع عليه صراحة بإجراءات أو تدابير احترازية لردع المتسبب من الزوجين في الإيذاء ،
ـ إلغاء المادة 418 ق.ج المكرسة للتمييز في العقوبة بين الزوج والزوجة ، أو جعل العذر المخفف للعقوبة شاملا الزوج والزوجة في حالة رغبة المشرع في الاحتفاظ بها .
ـ التنصيص على عقوبة جنائية حال اتهام أحد الزوجين الآخر بالخيانة الزوجية مع تمكين المتضرر من الزوجين من تعويض عن الأضرار المعنوية الناجمة عن هذا الإخلال ،
ـ مراقبة القاضي لكل نزاع بين الزوجين تم رفعه إليه ، وذلك بأن يستعمل جميع الوسائل للإصلاح بينهما . وطالبنا في هذا الإطار بتفعيل قانون مجلس العائلة للقيام بدور الإصلاح بين الزوجين ، وجعل مسطرة الإصلاح إجبارية ، وفي حالة فشل الجهة المختصة سواء كانت القاضي أو الحكمين أو مجلس العائلة ، اللجوء إلى وسائل بديلة للإصلاح مع منح الزوجين مهلة للتفكير لا تتعدى الشهر وإلا فرق بينهما مع تحديد مسؤولية المتسبب في النزاع ،
ـ وفيما يتعلق بإضرار أحد الزوجين بالآخر ، لاحظنا ـ إضافة للشروط التي اعتمدها القضاء المغربي لتمكين الزوجة من التطليق للضرر مما يجعل اللجوء إلى هذه الوسيلة هدرا للوقت والمال ولا تؤدي في غالب الأحيان إلى تمكين الزوجة من التطليق ـ استبعاد القضاء تطبيق القانون المدني حتى في أهم قواعده العامة أي المسؤولية المدنية، وعدم مناقشته تطبيق مبدأ التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية في العلاقة الزوجية ـ .
وقد رأينا في موقف المجلس الأعلى ـ رغم أن كتب الفقه حافلة بتطبيقات عديدة لضمان الأضرار في جميع المجالات بما فيها المجال الأسري ـ تكلفا ظاهرا منه في التأويل يجب تفاديه مستقبلا . وإلى أن يراجع المجلس الأعلى موقفه هذا ، نقول بإمكانية الحكم بالتعويض عند إيقاع الفرقة بين الزوجين لشقاقهما، وفرض التعويض على المسيء والمتسبب في فصم العلاقة الزوجية ، مع أخذ جميع الأضرار الناجمة عن تصرفه بعين الاعتبار.
هذه أهم الملاحظات والاقتراحات التي تم الخروج بها من دراسة الأبواب الثلاثة من القسم الثاني من هذا البحث والمتعلقة بحالات الإخلال بالتزام المساكنة بين الزوجين وآثاره. وقد تم تخصيص الباب الرابع والأخير لآثار الإخلال بالشروط الاتفاقية في عقد الزواج ، انطلاقا من موقف الفقه قديمه وحديثه وكذا موقف القانون والقضاء مع تقييم لتلك المواقف ، وأوردنا آثار الإخلال بنموذجين هامين منها هما :
ـ اشتراط الزوجة عدم التزوج عليها ،
ـ اشتراط الزوجة تعويضا عند الطلاق .
وخلصنا إلى النتائج والاقتراحات المتعلقة بالشروط الاتفاقية نوجزها فيما يلي :
ـ أن للشروط الاتفاقية في عقد الزواج أهمية بالغة تؤثر إلى حد بعيد على مفهوم التزام المساكنة بين الزوجين بجميع عناصره التي توصلنا إليها ، ويبرز هذا التأثير في التخفيف من حدة مفهومي الطاعة والقوامة اللذين يهيمنان عليه ، و في تحجيم التفاوت في المخاطبة بهذا الالتزام عند الوفاء أو الإخلال به .وهذا يفرض تقرير الصفة الإلزامية للشروط المشروعة التي يلتزم بها أحد الزوجين في العقد أو في اتفاق لاحق وتنفيذها عينا ما أمكن ذلك ، مع تعزيز المادة 31 م.ح.ش بشرط جزائي عند إخلال الزوج بشرط عدم التزوج على الزوجة. ذلك أن الاتجاه الفقهي أو القانوني الذي يقول بفسخ عقد الزواج كجزاء لإخلال الزوج بالشرط دون تعويض لا يبدو سليما لأنه إذا كان الفسخ عاديا ومقبولا في العقود المدنية فهو ليس كذلك بالنسبة لعقد الزواج ، و إخلال المتعاقد بالتزامه يخول الطرف الآخر إما إجباره على التنفيذ إذا كان ممكنا، أو المطالبة بالفسخ مع التعويض عن الضرر الذي يلحقه، وقد تبين في البحث اقتصار المدونة على الفسخ دون التعويض .
ـ الإجبار على احترام الالتزام الشرطي بتقرير جزاءات مدنية متنوعة اقترحنا في البحث صورا لها انطلاقا من ملاحظات قيمة لبعض الفقه المغربي عند انتقاده لموضوع الشروط كما جاءت في المدونة .
ـ القضاء على اختلاف حكم الإخلال بالشروط كما ورد في المادتين 30 و31 م.ح.ش، والذي كان نتيجة تأثر المشرع المغربي بموقف الفقه المالكي الذي لا يعتد إلا بالشرط المقترن بالطلاق أو ما يعرف لديه بالتمليك . أما الشرط الخالي من التمليك فهو مستحب الوفاء به ولكنه لا يلزم .
ـ أن في استبعاد تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في موضوع الشروط جوانب سلبية مضرة بالزوجة ، دون إغفال أن تطبيقها التعسفي فيه إضرار مقابل للزوج كذلك ، لذا نرى أن على المشرع التدخل لبلورة الحكمة الشرعية من الوفاء بالعهود والالتزام بها وذلك آكد في عقد الزواج ، وعدم اقتصاره على نموذج واحد أو اثنين من الشروط ـ حالة التعدد والعمل بالمصالح العمومية ـ بل إقرار العمل بكل الشروط التي لا تحرم حلالا أو تحلل حراما ما دامت فيها مصلحة لأحد الزوجين أو هما معا ، كحالة اشتراط اقتسام الأموال المكتسبة بعد الزواج ، وفي حالة رفض الزوج الموافقة على هذا الشرط ـ أو مثيله ـ أن يمنح لها الحق في رفع تظلمها للقضاء لإنصافها وإجبار الزوج على الاعتراف لها بما ساهمت به ، وإن كان هذا الإجراء يتطلب توفر الزوجة على وسائل إثبات قوية وهو ما لا تتوفر عليه جل الزوجات لمساهمتهن العفوية والتلقائية دون توثيق ذلك في مستندات.
ذلك أنه عن طريق تنصيص المشرع على لزوم الشروط الاتفاقية وتعزيزها بجزاءات مدنية حال الإخلال بها سيساعد الزوجين على تلافي الثغرات التشريعية التي من شأنها خلق عدم التوازن داخل العلاقة الزوجية مما يجنبهما في مستقبل حياتهما الخوض في منازعات وخصامات تتعلق إما بالناحية المالية قي تسيير شؤون البيت، أو علاقتهما الخاصة كالسفر أو خروج الزوجة للعمل ، أو متابعة دراستها ، أو مساعدة أهلها ماديا ، والكثير من المشاكل التي كان من الممكن تلافيها لو أدرجا شروطا بها في عقد الزواج أو عقد لاحق .
هكذا يتبين لنا من خلال هذه الخلاصة أن الإشكالية الأساسية المطروحة تتمثل في :
"انعدام التوازن في توزيع الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة في المدونة خاصة التزام"المساكنة" ، التي اعتبرها المشرع المغربي في المادة 34 م.ح.ش حقا والتزاما تبادليا، سواء عند الوفاء أوالإخلال بها.
وتبين لنا كذلك أن السبب وراء انعدام هذا التوازن ليس في تعارض الآيات فهي منزهة عن التعارض أو الغلط ، وإنما السبب هو تشبث المشرع المغربي بحكم مرجعيته الفقهية بالتصور الفقهي المتشدد والمغرق في العادات والتقاليد للعلاقة الزوجية البعيدة كل البعد عن مبادئ العدل والمساواة التي تسود هذه العلاقة في المنظور الإسلامي ، وذلك باعتماد هذا الفقه تفسيرا خاصا لمفهومي الطاعة والقوامة نتجت عنه أحكام مجحفة بالمرأة ، وجعلت العلاقة الزوجية التي هي سكن ورحمة حلبة للصراع بين طرفين يفترض فيهما التعاون والتشارك لتحقيق أغراض الزواج من مودة ورحمة وسكن .
وما زاد في إظهار عدم التوازن هذا داخل الأسرة وخارجها، توقف الاجتهاد والاستمرار في ترديد الآراء وما اختلط بها من تقاليد وأعراف مما يحتم إعادة النظر في انعدام التوازن واللاتكافؤ اللذين يسودان تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين ، سواء عند الوفاء أو الإخلال بها، وذلك بتحقيق المساواة بتوافق مع الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان التي يحكمها المعروف والعدل ونبذ الجور والظلم ليس حماية للمرأة فقط ، بل حماية للأسرة أساسا ".
وإذا كان الاقتناع قد حصل الآن لدى الجميع بأن الحل يكمن في تعديل مدونة الأحوال الشخصية كإطار قانوني لهذه الحقوق والواجبات ، فإننا نقول إن التعديل غير كاف لتحقيق التوازن والعدالة داخل العلاقة الزوجية . لأن الأمر ليس رهين النصوص القانونية فقط ، بل تدخل فيه عدة عوامل أهمها :
ـ معالجة الواقع حتى يصبح مؤهلا لاستيعاب الإصلاحات، ولا يكفي لتغييره وضع تصورات أو صياغة أفكار مادام الوعي الاجتماعي محدودا، والأمية شبح يخيم على أكثر من نصف ساكنة المغرب، ومخلفات التقليد والمذهبية ما تزال سائدة، ونظام تشريعي حائر بين إرث الماضي وحضارة الغرب ، مقابل ضعف الوازع الديني وعلاقات بين الجنسين أصبحت تتجه نحو أشكال من الإباحية تهدد مؤسسة الأسرة في أهم ثوابتها وهي حلية عقد الزواج .
ـ إن النص على هذه الحقوق والواجبات في صلب القانون وتحقيق المساواة في المخاطبة بها دون تمييز بسبب الجنس غير كاف ، بل لابد من إحاطتها بالضمانات اللازمة، وذلك بالنص على جزاءات وعقوبات رادعة في حق من ينتهك تلك الحقوق والواجبات أو يخل بها مسببا أضرارا للغير؛ إذ غالبا ما تتم مخالفة النص التشريعي عن وعي وتعمد بسبب انعدام الجزاءات أو ضعفها أو عدم تناسبها مع ما سيجنيه المخل من فوائد شخصية نتيجة الإخلال، كما هو الشأن في الطلاق التعسفي ، أو الالتزام بشروط المسكن الشرعية ، أو التدليس بالعيوب ، أو الإخلال بالشروط ، وغيرها من النصوص التي تفتقر للجزاء وانعدام معايير محددة لتعويض الأضرار الناتجة عنه، وترك ذلك للسلطة التقديرية للقاضي، وغالبا ما تكون تلك التعويضات ضئيلة لا تغني المتضرر من الإخلال ولا تردع المتعسف.، وأن يعزز الجزاء بتدابير وقائية وتوفير الأطر المختصة لتنفيذها .
وإذا كانت هذه الملاحظات تنطبق على جميع النصوص القانونية فإنها تكتسي بالضرورة أهمية خاصة عند ما يتعلق النص القانوني بأهم العلاقات الإنسانية التي عرفها التاريخ، وهي العلاقة الزوجية، حماية لأطرافها من أي شكل من أشكال التعسف والإخلال، وبالتالي حماية الإطار الاجتماعي والقانوني لها ، أي مؤسسة الأسرة.ولن يتم ذلك إلا بالنظر إلى القانون برؤية شمولية، إذ يتعذر الحكم على نص قانوني معين بمعزل عن النظام القانوني ككل. ، وذلك بالركون إلى نص بصورة مجردة والتفاخر به بمعزل عن غيره من النصوص . فالحقوق يساند بعضها البعض أو العكس.كما يتعذر تحقيق هذه الغاية بمعزل عن الواقع المعيش وإكراهاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية .
إضافة إلى ما يلاحظ من التركيز المبالغ فيه على هذه الحقوق وتجسيدها تشريعيا أو إبرازها في المواثيق والمعاهدات الدولية مقابل إهمال شبه تام بالتذكير بالواجبات ، وهي رؤية مخالفة للرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية حيث الحقوق مرتبطة دائما بالواجبات وبعدم تعدي حدود الله .
لذا يتعين القيام بالتحديد السليم للمقاصد الضرورية للشريعة الإسلامية اعتمادا على استقراء مبادئها العامة ونظرتها المتكاملة إلى بناء المجتمع وعلاقات التعايش بين أفراده وخاصة بين الزوجين ، مع الاستئناس بما استجد من الأنظمة والعلاقات والتصورات الاجتماعية.وإننا لنأمل أن تسمح المراجعة الحالية بإعادة قراءة المدونة قراءة جديدة تتماشى مع التطور الحاصل في بنيات الأسرة, باعتماد الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان وإنسانيته ، مع الانفتاح على المستجدات التي تتضمنها المواثيق الدولية في هذا المجال.
وفي هذا الإطار، فإن علماءنا ومثقفينا وكل فعاليات المجتمع المدني ، مدعوون جميعا إلى تجسيد أكبر للمشروع الديمقراطي والمجتمعي الذي يقوده جلالة الملك حفظه الله على أرض الواقع، وإيلاء قضية المرأة المكانة التي تستحقها بما ينسجم مع قيمنا الحضارية وهويتنا الإسلامية النبيلة، وبما يترجم انفتاحنا على تجارب العالم واستيعابنا لثقافاته. ولن يتحقق هذا التحدي إلا بتمكين المجتمع المغربي من اجتهادات تستنبط من مقاصد الشريعة السمحة وتنفتح في نفس الوقت على تجارب الغير . وهذا يطرح إشكالية علاقة الحداثة بالموروث الثقافي المستمد من المرجعية الإسلامية شكلا لا مضمونا ، مما يتطلب وعيا حقيقيا بالقيمة التاريخية والعالمية للحداثة ورؤية نقدية جريئة للتراث لتجاوزه وإنتاج حداثة أصلية. فرغم ما يشوب فقهنا الإسلامي من تفسيرات لم تعد مسايرة للواقع المعيش ، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الحقوق والواجبات بين الزوجين ، فإنه يبقى حافلا بنظريات هامة لم تسبقه إليها أرقى التشريعات الغربية كنظرية التعسف في استعمال الحق ، ونظرية الشروط الاتفاقية كما أبرزناها عند المذهب الحنبلي ، ونظرية الضرر لدى الفقه المالكي . والمطلوب من ذوي الاختصاص البحث في بطون الكتب الفقهية لاستخراج هذه الذخيرة الثقافية بتحيينها وإعادة قراءتها بشكل يساير التطورات المجتمعية التي شهدتها الأسرة عموما ، والأسرة المغربية على وجه الخصوص ، وإلا فإنها الإعاقة الحتمية لانطلاقة حقيقية نحو الحداثة بمفهومها الشامل المرتكز على إعادة النظر في العلائق بين الجنسين انطلاقا من الخلية الأساسية للمجتمع ، وانتهاء بالمجتمع ككل .
وتأسيسا على هذه الاعتبارات، يبرز الدور الرئيسي والهام الذي يجب أن يقوم به القضاء في هذا الشأن، بحيث ينبغي توسيع دائرة تدخل القاضي ، وإعطاء مؤسسة الحكمين والمجلس العائلي المكانة الحقيقية لهما للقيام بالإصلاح بين الزوجين ما أمكن ذلك ، وتفعيل مؤسسة قاضي الأسرة التي بدأ العمل بها في بعض المحاكم وتعميمها على جميع ربوع المملكة ، مع تبسيط الشروط الواجب توفرها لإمكانية اللجوء إليها من لدن أي طرف في عقد الزواج اعتبر أن حقوقه قد مست ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالطلاق أوالتطليق أو تعدد الزوجات والتي يسودها البطء والتعجيز وإهدار جهود الطرفين.
ولن يكون تدخل القضاء المغربي ناجعا إلا بمسايرته الإصلاحات المرتقبة بتحديد المرجع والمسطرة الواجب اعتمادها من طرف القاضي في مجال العلاقات الأسرية ، والقضاء على البطء والتعقيد اللذين يسودان المسطرة القضائية الحالية ، وهي مسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف المعنية من قضاة ومساعدين ومحامين وعدول ، بل وحتى الزوج والزوجة موضوعي النزاع . وتحقيق ذلك رهين بتوفير العنصر البشري الكفء والإطار المادي الكفيل بتهييء الجو المناسب للنظر في القضايا ، وتدعيم طريقة العمل الإداري بالتقنيات الحديثة الكفيلة بحفظ القضايا والملفات ومسارها بكل دقة . كما أن من شأن هذه التقنيات المساهمة في مد الجهات المهتمة بقضايا الأسرة بإحصائيات تفيد في حصر أسباب التفكك الأسري لعرضها على الجهات المختصة لدراستها واتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهتها والتخفيف من حدتها .
ولا يغفل في هذا الإطار التذكير بأهمية الاجتهاد القضائي الذي يعتبر المحك الذي تثبت من ورائه قابلية النصوص للتطبيق أو عدم مسايرتها للواقع ، وذلك بتفعيل الإصلاحات المرتقبة حتى تستوعب التحولات التي تطرأ على المؤسسات القانونية ويوفق في معالجة الحالات التي تعرض عليه ويستشرف قصد المشرع من ورائها ، وأن يحسن استعمال سلطاته التقديرية دون تعسف لملء ما قد يشوب بعض النصوص المرتقبة من مثالب ، وأن يتخلى عن الشروط المجحفة ، خاصة بالمرأة ، في الإثبات أو التفريق والتي لم تعد ملائمة في تطبيقها للعصر الذي نعيشه ولا لخصوصية العلاقة بين الزوجين التي تتطلب مرونة أكبر على طريق تحقيق العدل والمساواة .
تلكم بعض الأفكار التي عنت لنا في خاتمة بيان المواضيع الأساسية التي تناولها هذا البحث ، استخلصناها من مجموع ما اعتمدناه من قراءات متعددة المشارب والاتجاهات الفقهية والقانونية والاجتماعية التي لها ارتباط بقضايا الأسرة بصفة عامة، والعلاقة بين الزوجين بصفة خاصة ، وحقوقهما وواجباتهما بشكل أخص ، آملين أن تكون إسهاما متواضعا لتحقيق التوازن في علاقة تمس كل فرد من أفراد المجتمع حان الوقت للقضاء على أوجه التمييز واللاتكافؤ بين طرفيها ، والتخفيف من حجم التفكك الذي يهدد كيانها حماية لها و للمجتمع ككل .ولا ندعي الكمال فيما توصلنا إليه فهو لله سبحانه وتعالى ، وحسبنا أننا بذلنا ما في وسعنا لإنجاز هذا العمل الذي نتمنى أن يكون مساهمة متواضعة في الجهود المبذولة في ميدان الأسرة والقضايا المرتبطة بها، غايتنا ليس الانتصار للتيارات الحديثة التي تنادي بعصرنة نصوص المدونة كردة فعل ضد التيار المتعصب للتقاليد الموروثة ، ولا المساس بمبادئ الشريعة الإسلامية السمحة، بل النظر إلى موضوع الأسرة برؤية وسطية تعتمد مقاصد الشريعة الإسلامية في كلياتها ، والتفتح والاستفادة من تجارب الآخرين ، وبالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان بما لا يمس ثوابتنا ، للوصول إلى تحقيق معادلة التوازن في أهم التزام تبادلي بين الزوجين وعدم الإخلال به وهو التزام المساكنة ، وذلك بتوفير حماية قانونية كافية له بغض النظر عن المخل زوجا كان أو زوجة . وأملنا أن تسفر أعمال اللجنة الملكية الموقرة في مراجعتها لمدونة الأحوال الشخصية ، عما يحقق الهدف الأساسي من هذا الموضوع وفي إطار التصور الذي تبنيناه وهو تحقيق المساواة والعدل في العلاقة الزوجية، وذلك بتجاوز التفسيرات الفقهية لمفهومي الطاعة والقوامة البعيدين كل البعد عن مفهوميهما في المنظور الإسلامي الذي أولى الأسرة اهتماما كبيرا وجعل من العلاقة الزوجية علاقة سكن ومودة ورحمة . كما نأمل أن تكون أعمالها قد سايرت تطلعات المجتمع المغربي إلى حياة أفضل في إطار من الديموقراطية الحقة التي يجب أن تنطلق بداية من الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع ومن ثم إلى المجتمع ككل، وأن تكون بداية لمراجعة جدية وهادفة لمنظومتنا التشريعية ككل ، بتعزيز المؤسسات الدستورية والنظر إلى قانون الأسرة كغيره من القوانين وعدم تسييسه أو أدلجته ، وذلك في إطار ثوابتنا الإسلامية، وفتح باب الاجتهاد لمراجعة فقهنا الإسلامي وتحيينه بما يتناسب مع التحولات المجتمعية التي أثرت على العلائق بين الأفراد و بين الزوجين خاصة ، مع التفتح على تجارب الغير والاستفادة منها بما يتناسب مع وضعنا كمجتمع ديموقراطي حداثي لا يمكن أن ينعزل عن المنظومة الدولية.
ويبقى القانون ، مهما استجابت نصوصه ـ في إطار هذا التصور ـ لمبادئ العدل والمساواة مجرد أداة لتنظيم علاقة وصفها الحق تعالى بالميثاق الغليظ وجعل قوامها المودة والرحمة، أساسها التربية القويمة وقوة الوازع الديني للأفراد, إلا أن تدخله يصبح ضروريا عندما تضعف هذه الأسس ، فالقانون لمن حاد عن هذا الطريق وزرع في هذه العلاقة النبيلة بذور الهدم ، عند ذاك يجب التدخل الصارم والفعال إحقاقا للحق وحماية لنواة المجتمع من التفكك والانهيار. ومن الله العون، وهو الموفق للصواب.