تقديم
يقتضي مبدأ المشروعية احترام الدولة في جميع تصرفاتها أحكام القانون بمفهومه العام وألا تخرج عن حدوده، وإلا اعتبرت أعمالها غير مشروعة، واحترام الدولة للقانون هو الذي يعطي لأعمالها طابع الشرعية وبالتالي يجعل منها دولة القانون تحترم حقوق وحريات الأفراد.
ولما كانت الإدارة تقوم بوظائف شتى، منها وظيفة تسيير المرافق العامة بهدف تحقيق المصلحة العامة فإن تصرفاتها لا تكون دائما سليمة وقانونية إذ أن في بعض الأحيان يوصف عملها بعدم المشروعية وذلك لمخالفتها لأحكام القانون، ومن أهم نتائج عدم احترام مبدأ المشروعية وصف عمل الإدارة في هذه الحالة بالانعدام خصوصا إذا كان الخروج عن مبدأ المشروعية جسيما أما إذا كان الخروج عن مبدأ المشروعية فإن عمل الإدارة هنا باطلا.
و حتى نقول بقيام الاعتداء المادي للإدارة يجب توافر العناصر التالية؛ أن يكون الاعتداء عمل مادي تنفيذي، و أن يكون الاعتداء عمل مشوب بعيب جسيم، ثم يجب أن يطال الاعتداء المادي الملكية الفردية أو حرية أساسية.
من هنا يتضح مدى شساعة مجال نظرية الاعتداء المادي فهي تمس مجالات مختلفة منها الحقوق الفردية خصوصا منها المتعلقة بالملكية العقارية أو المنقولة ثم منها الحريات الأساسية التي يختلف مدلولها ويتسع ويضيق حسب كل نظام على حدة.
ويعتبر الاعتداء المادي عمل مادي غير شرعي تأتيه الإدارة في مواجهة الأفراد بحيث يتميز بعدم شرعيته الجسيمة، وهو لا يخرج عن حالتين اثنتين هما الاعتداء على حق الملكية (الفقرة الاولى)، والاعتداء على حرية اساسية مضمونة بنص الدستور(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : الاعتداء على حق الملكية
تعتبر الاعتداءات التي تقع على الملكية من المجالات الخصبة لنظرية الاعتداء المادي فبالرغم من الحماية التي تضمنها مختلف التشريعات لحق الملكية فإنها مع ذلك لا تسلم من الاعتداء عليها، وأول صورة تتحقق كلما قامت الإدارة بتصرف يمس هذا الحق دون أن يكون لهذا التصرف، بأي شكل من الأشكال، صلة بالممارسة الشرعية للامتيازات القانونية الممنوحة للسلطة الإدارية، وبرجوعنا للاجتهاد القضائي للمحاكم المغربية يتضح أن مفهوم الاعتداء المادي انحصرت تطبيقاته بالخصوص في حالات انتهاك حرية التملك، الأمر الذي أدى معه على الاستغناء عن استعمال مفهوم غصب العقارات والتعامل مع هذه النظرية بانتقائية كبيرة[1].
ومن التطبيقات القضائية للاعتداء المادي، ما حكمت به إدارية الرباط في نازلة شركة بروموبوغا ضد المجلس البلدي لمدينة طنجة هذا الأخير الذي قام بالاستيلاء على عقار في ملك الشركة دون اللجوء إلى مسطرة نزع الملكية طبقا للتشريع الجاري به العمل، فصرحت المحكمة ب: "وحيث إن الإدارة حينما تقوم بارتكاب الاعتداء سواء في صورة قرار إداري صارخ في عدم مشروعيته، أو في تنفيذ عمل غير مشروع الذي يصبح بعد هذا التنفيذ قرارا معدوما ـ كما في نازلة الحال ـ فإنها تكن في الحالتين معا قد ارتكبت اعتداء ماديا يخرجها على مبدأ الشرعية ويجرد عملها من صفته الإدارية. وحيث إذا حصل أن الإدارة أثناء مباشرتها لوظيفتها الإدارية خرجت عن الحدود المقررة لها في القانون خروجا يشكل اعتداء صارخا وجسيما على مبدأ الشرعية، فإن العمل الإداري يفقد في هذه الحالة طبيعته الإدارية وتنقطع الصلة بينه وبين القانون ويصبح مجرد عمل مادي يشبه عمل الأفراد العاديين"[2]. ومن خلال هذا الحكم يتضح توجه القضاء الإداري نحو التأكيد على خطورة بشاعة العمل المادي للإدارة وفداحته لعدم احترامه لمبدأ الشرعية.
هناك أيضا إقدام الدولة على إقامة مدرسة على ملك الغير دون موافقة أو إذن المالكين وذلك كما حدث في قضية نسيم ورشيل بن يعيش ذد الدولة المغربية، حيث قامت هذه الأخيرة بتشييد مدرسة على ملكهم الخاص دون موافقة المالكين وهو الشيء الذي اعتبرته المحكمة الإدارية بأكادير اعتداء ماديا[3]. وفي نازلة بنداوي حيث عمدت الجماعة القروية لحي السبت إلى مد قنوات صرف المياه بأرض الطاعن دون رضاه ولم يتم اللجوء إلى مسطرة نزع الملكية مما يعني أن الإدارة اعتدت واحتلت ملك الغير دون سند ولا قانون[4].
ومن مظاهر الحماية القضائية الإدارية لحق الملكية من الاعتداء المادي المقترف من الإدارة، هو مساءلة إدارة الدفاع الوطني عن أعمال التعدي والغصب التي تقع منها، ورغم حساسية دور هذا المرفق وجسامة وخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه فإن أعماله وتصرفاته تخضع لمقتضيات القانون ولمبدأ الشرعية[5]: "لكن حيث إن الأمر في النازلة يتعلق باعتداء لإدارة الدفاع الوطني على عقار المدعين التي أحدثت عليه منشآت لها منذ 1978 وأن قيام الإدارة - بعد رفض الملاك عروضها عليهم (كما تؤكده الرسائل المتبادلة) وقيامهم بالمطالبة بالتعويض عن ذلك منذ 5 نوبر 1996 بسلوك مسطرة نزع الملكية وفق القانون 81-07 ومنذ 02/04/1997 لا يضفي على اعتدائها المادي السابق صبغة المشروعية ولا مجال لتطبيق ما رسمه القانون 81-07 على النازلة"[6].
ولم تقتصر نظرية الاعتداء المادي للإدارة على الاعتداء الذي يطال الملكية العقارية بل اتسعت لتشمل مجالا لا يقل أهمية عن الملكية العقارية، وهو الاعتداء على الملكية المنقولة ومن التطبيقات القضائية التي تطال مجال الاعتداء المادي الذي يطال الملكية المنقول نجد إدارية الرباط التي اعتبرت أن قيام إدارة الجمارك بإقفال محل تجاري وتعطيل العمل به عوض نقل البضاعة المشكوك في مصرها إلى مخازن هذه الإدارة من قبيل الاعتداء المادي[7].
وما يستشف من كل الاجتهادات القضائية التي ذكرت أن القاضي الإداري لم يتردد لحظة، كلما عرض عليه نزاع ولاحظ فيه تجاوزا خطيرا للقانون من طرق الإدارة، في تكييف تصرفها على أنه اعتداء مادي، غير أنه في المقابل قضى بعدم قبول الطعن في حالات كثيرة لعدم ارتباط النوازل المعروضة عليه بنظرية الاعتداء المادي[8]. ومن ذلك ما قضت به إدارية الرباط عندما اعتبرت أن الطلب الرامي إلى هدم البناء الذي شيدته الإدارة على الجزء من العقار الذي يدخل في إطار الملكية المشتركة هو نزاع مدني صرف ولا علاقة له بالاعتداء المادي حتى تكون المحكمة الإدارية مختصة للنظر فيه[9].
وبنفس الحل قضت إدارية مراكش في الدعوى التي قدمت إليها والتي استهدفت تحميل الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء كامل مسؤولية الأضرار الناتجة عن قطع التيار الكهربائي عن شقة المدعي وإزالة العداد من طرف الوكالة المذكورة، فاعتبرت المحكمة أن المنازعات في ذات العقد تحكمه قواعد القانون الخاص وأن هذا الإجراء أي إزالة العداد على إثر إخلال المشترك بأحد بنود العقد لا صلة له بالاعتداء المادي[10].
نستخلص من كل ما سبق أن حق الملكية بشقيها العقارية والمنقولة حظيت وتحظى باهتمام وعناية كبيرة من جانب كل من التشريع والقضاء.
إلا أن السؤال المطروح هو ما هو نصيب الحريات العامة من اهتمام القضاء الإداري الذي حظي به الملكية؟
الفقرة الثانية: الاعتداء على إحدى الحريات الأساسية
باستقراء الاجتهاد القضائي في المادة الإدارية، يتضح أن القاضي الإداري عرضت عليه مجموعة كبيرة من الطعون طلبا للإنصاف لها مست الإدارة حقوق الطاعنين المضمونة بنصوص قانونية مختلفة (دستور، مواثيق دولية، شريعة إسلامية، مبادئ عامة للقانون...)، ويتعلق الأمر بحرمة المسكن (أولا) وبحرية الصحافة (ثانيا).
أولا: حرمة المسكن
يعتبر مبدأ حماية المسكن من المبادئ التي نصت عليها كافة التشريعات الداخلية والدولية، لاسيما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 دجنبر1948، كما تعتبر هذه الحرمة من القيم والمبادئ الإنسانية السامية اللازمة لحماية الأسرة البشرية، وهي تقوم على أساس العدل والمساواة بين كل أبناء البشر من دون تمييز وعلى أساس الحرية في التمتع بحياة كريمة، وهي تهدف إلى تعزيز وحماية الحريات الشخصية للإنسان من العمل على صون كرامته وحقوقه الطبيعية والأساسية انطلاقا من المبادئ الإنسانية السامية التي تعترف بها كل المجتمعات البشرية.
وقد أقر المشرع المغربي مبدأ حماية حرمة المسكن في الدستور الجديد الذي نص على أن " لا تنتهك حرمة المنزل، ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا طبق الشروط والإجراءات اللتي ينص عليها في القانون"[11].
ومن الأحكام التي صدرت من المحاكم الإدارية بخصوص الاعتداء الذي يطال حرمة المسكن نجد حكم إدارية مكناس في نازلة خديجة زروال حيث قضت هذه الأخيرة بثبوت اعتداء مادي على مسكن المدعية والمتمثل في الهدم غير الشرعي وتحويل مملكات الطاعنة إلى جهة أخرى وسرقة بعض لوازمها، بالرغم من عدم قبول الدعوى شكلا لافتقار المقال للحجج والمستندات المؤيدة للطلب[12].
وهناك أيضا نازلة بوسفيرة الذي قدم مقالا استعجاليا أمام إدارية الرباط بعدما أقدمت الإدارة على اقتحام منزله وترحيل أمتعته دون سلوكها للمسطرة القضائية الواجبة الاتباع، خصوصا وأنه لم يتلق أي حكم قضائي بإفراغ المحل الذي يقطن فيه على وجه الكراء من المفتشية العامة للقوات المساعدة، وبالرغم من الدفع بعدم الاختصاص الذي قدمت به الإدارة على أساس أن النزاع مرتبط بتنفيذ عقد الكراء الذي حسب منظورها، يخضع لقواعد القانون الخاص ولاختصاص القاضي المدني، فقد ردت المحكمة هذا الدفع لأن الأمر أخطر من أن يتعلق بعقد كراء: "وحيث إن هذا الدفع لا ينبني على أساس صحيح لأن النزاع لا يتعلق بعقد الكراء، وإنما بواقعة اقتحام العين المكراة من طرف الجهة المكرية، وهذه الواقعة لا علاقة لها بتنفيذ بنود العقد المذكورة، حتى لا يكون قاضي المستعجلات الإداري مختصا بالنظر فيه".
بعد ذلك انتقل القاضي لمناقشة العمل المادي للإدارة وإعطائه التكييف القانوني الصحيح والذي لا يخرج عن مفهوم الاعتداء المادي: "وحيث إن هذا العمل الذي قامت به الإدارة المدعى عليها يشكل انتهاكا لحرمة المنزل المضمونة بالدستور الذي نص في فصله العاشر على أن "المنزل لا تنهك حرمته"، وحيث إن الإدارة حينما تعتدي بشكل صارخ على حق الملكية أو على حق من الحقوق الفردية،- كما في نازلة الحال- أو الجماعية فإن قيامها بتنفيذ عملها المادي هذا يدخل في إطار الاعتداء المادي".
ونتيجة لذلك قضت المحكمة بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل إقدام المدعى عليها على اقتحام المنزل[13] وكان هذا الاجتهاد سيكون أحد أهم المبادئ التي أفرزتها المحاكم الإدارية ببلادنا لولا تدخل المجلس الأعلى في مرحلة الاستئناف وإلغائه للحكم الابتدائي مستبعدا بذلك واقعة الاعتداء المادي، ضاربا عرض الحائط بمبدأ حرمة المسكن[14]:
"وحيث إنه مما لا جدال فيه كذلك أن المعني بالأمر قد أحيل على التعاقد بتاريخ 31/12/1996 وبذلك فإن استمرار شغله للمحل المذكور لم يعد له مبررا خصوصا بعد أن أنذرته الإدارة مرتين بوجوب الإفراغ لمنح المحل المذكور للموظف الذي حل محله. وحيث إنه طبقا للظهير الشريف رقم 73.75.1 المؤرخ في 12 أبريل 1976 المتعلق بالتنظيم العام للقوات المساعدة فإن هذه الأخيرة يجري عليها النظام العسكري.
وحيث إن مؤدى ذلك أن أصناف السكنى العسكرية التي تكون موجودة داخل الثكنات كما في النازلة الحالية تخضع للضبط العسكري الشيء الذي يعني أن الإدارة تكون مؤهلة لتسيير السكنى العسكرية بما يتفق والمصلحة العامة ويكون إخلاء أصناف السكنى المذكورة خاضعا للتوجيهات والتعليمات العسكرية التي يتلقاها الساهرون على هذا المرفق مما يعني أن إخلاء السكنى التي كان يحتلها المستأنف عليه كانت داخلة في إطار تسيير المرفق المذكور ويكون الأمر القاضي بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل إخلائها غير مرتكز على أساس مما يجب معه إلغاؤه"[15].
وقد أشارت الدكتورة خديجة امعيوة في أطروحتها إلى أن الفقه المغربي انتقد بشدة هذا التوجه واصفا إياه بالتراجع الخطير[16].
ونختم بقضية محمد العبادي ضد الإدارة العامة للأمن الوطني بوجدة، حيث صرحت إدارية وجدة: "وحيث إنه بعد تفحصنا لما جاء في هذا الدفع والتعقب المقدم بشأنه تبين لنا أنه وبغض النظر عن مدى صحة العلل المعتمدة في الدفع ـ ولئن كان قاضي المستعجلات الإدارية مختصا بالبت في طلبات رفع الاعتداء للإدارة ووضع حد له تبعا لاختصاص محكمة الموضوع في هذا الميدان كما ستقر عليه الاجتهاد المغربي منذ سنة 1996، إلا أن ذلك مشروط بوجود اعتداء مادي بين الذي لا يستند إلى أي نص تشريعي أو تنظيمي أو يتم فيه خرق القانون بشكل صارخ وسافر.
وحيث إنه في نازلة الحال فإن المنزل موضوع الاعتداء المادي الذي يدعيه المدعي هو سكن ثانوي له ويخصصه فقط لاستقبال ضيوفه وإلقاء محاضراته ذات الطابع الديني وذلك بإقرار من المدعي نفسه بمحضر الجلسة. وحيث إنه أمام هذا المعطى وما دامت الإدارة تنازع المدعي في كون التجمعات التي يعقدها بالمنزل المذكور هي تجمعات عمومية تستوجب تقديم تصريح مسبق بشأنها لدى السلطات الإدارية المحلية مبررة تدخلها بهدف فض الاجتماع، كما بررت إغلاقها المحل ووضع الأختام على أبوابه بوجود قرار الإغلاق صادر عن السلطات المحلية ـ
لذا وأمام هذه التبريرات ، فإن البت في الطلب يستوجب أولا البت في مدى مشروعية الاجتماع الذي كان داخل منزل المدعي، وهل من قبيل التجمعات العمومية أم لا، وكذا في مشروعية المسطرة المتبعة لفضه، وأخيرا مدى مشروعية قرار الإغلاق الذي تستمد إليه الإدارة العامة للأمن الوطني بخصوص وضع الأختام على باب المنزل ومنع الولوج إليه، وأن كل ذلك يبقى من اختصاص محكمة الموضوع الإدارية وليس من اختصاص قاضي المستعجلات الإداري الذي يبقى اختصاصه منحصرا في رفع الاعتداء المادي البين الذي لا يستند إلى أي أساس قانوني كما سبق ذكره. وحيث إنه أمام كل هذه المعطيات يتعين التصريح بعدم اختصاصنا كقاض للمستعجلات للبت في الطلب مع إبقاء الصائر على رافعه"[17].
ففي هذه القضية اعتبر القاضي أن المنزل الذي تم اقتحامه والاعتداء عليه من طرف الإدارة ليس سكنا رئيسيا للمدعي وإنما يخصصه للأنشطة الدينية والاجتماعية الشيء الذي استنتج معه رئيس المحكمة أن عنصر الاستعجال غير متوفر في النازلة، بمفهوم المخالفة، لو تعلق الأمر بسكن رئيسي يقطن فيه الطاعن مع عائلته بلا شك موقف المحكمة. وعليه، فإغلاقه مؤقتا لا يسبب ضررا كبيرا لصاحبه ذلك أن الطاعن يمكنه أن يستعيد نشاطه في حالة إذا ما قضت محكمة الموضوع بإلغاء الإغلاق الصادر عن الإدارة"[18]
ثانيا: حرية الصحافة
يشمل لفظ الصحافة اليوم جميع الطرق والوسائل التي تصل بواسطتها الأنباء والتعليقات عليها إلى الجمهور، من صحف ومجلات وكتب وراديو ووسائل سمعية وغيرها[19].
وتعد حرية التعبير والرأي من قبيل الحقوق المقدسة للإنسان، والتي تعتبر حرية الصحافة أهم تجسيداتها، فهي تعني في المقام الأول عدم خضوعها للرقابة والترخيص والضرائب، وتمكين رؤساء تحرير الصحف من صلاحية تقرير سياسة الصحيفة، وكذا الحق في التحقيق والحصول على المعلومات، وأيضا حرية هذه المعلومات والآراء، وذلك حتى تتحقق الأهمية المرجوة من الصحافة[20].
ولضمان تحقيق ممارسة حرية الصحافة والنشر فقد نص الفصل 28 من الدستور الأخير للمغرب على أنه يضمن حرية الرأي والتعبير والنشر، كما سار في نفس الاتجاه القانون رقم 77.0 المتعلق بحرية الصحافة والنشر، حيث نص في فصله الأول على حرية إصدار الصحف والطباعة والنشر وترويج الكتب مضمونة طبقا للقانون، ونص في الفصل الثالث على أنه يمكن "نشر كل جريدة أو مطبوع دوري بعد القيام بالإجراءات التي تضفي صفة القانونية". كما تلتزم الجريدة باحترام صحة المعلومات واحترام الأشخاص والمؤسسات واحترام الأخلاق والآداب العامة واحترام شخص الملك وأسس المشروعية"[21].
وإذا كانت حرية الصحافة والنشر هي الأصل وتقييدها هو الإستثناء ، لذلك نجد السلطات الإدارية تتذرع بالحفاظ على النظام والآداب العامة لحضر تداول بعض الصحف التي تنتقدها أو لا تسير في فلكها، بالإضافة إلى الخروقات التي تطال المحاكمات وتتجلى في متابعة الصحفيين بمقتضى القانون الجنائي بدل القانون المتعلق بالصحافة والنشر حيث أن القاعدة هي أن النص الخاص يقيد النص العام، وقد أحيل العديد من الصحفيين على المتابعة الجنائية من خلال تعبيرهم عن آرائهم الصحافية في مختلف المجالات. كما حدث مؤخرا مع الصحافي رشيد نيني مدير جريدة المساء الذي توبع بتطبيق القانون الجنائي وزج به في السجن والحكم عليه بالحبس لمدة سنة، وقبله مصطفى العلوي مدير جريدة الأسبوع والصحافي علي المرابط بتهمة المس بالاحترام الواجب للملك وإهانة المقدسات والتشكيك في الوحدة الترابية.
و من أهم قضايا الاعتداء المادي التي طالت حرية الصحافة وعرضت على نظر المحاكم الإدارية، نجد حكم إدارية الرباط[22] في قضائها الاستعجالي في قضية تقدمت بها شركة ميديا تروست والمتمثلة في رفع الاعتداء المادي الواقع من طرف الإدارة بمنع جريدتين هما لوجورنال والصحيفة من الصدور وذلك بناء على قرار اتخذته الحكومة في شهر دجنبر من سنة 2000، فالطاعنة تمسكت في كون الجهة التي أصدرت المنع غير مختصة قانونا بذلك وهو ما اعتبرته المحكمة عيبا غير كاف لإضفاء صفة أو وصف الاعتداء المادي على قرار الحكومة حيث صرحت بمايلي:
"لكن حيث إن العيب الذي يؤدي إلى انعدام القرار الإداري ويجعله عملا ماديا هو مخالفة القرار للقانون بدرجة يتعذر معها القول بأنه يعتبر تطبيقا لقانون أو لائحة، وهكذا لا يكفي أن يكون القرار الإداري مخالفا للقانون، بل يجب أن تكون تلك المخالفة بالغة الجسامة بحيث تنقطع كل علاقة بين القانون بمعناه الواسع وبين القرار الإداري، وحيث إن هذا المعيار يتفق إلى حد كبير مع طبيعة ووظيفة القرار الإداري، إذ القرار الإداري يجب أن يستند على قاعدة قانونية، وإذا انقطعت الصلة كلية بينه وبين القاعدة القانونية، أصبح قرارا منعدما وعملا ماديا صرف".
وفي تعليق على ذلك ذكر الأستاذ محمد بلهاشمي[23]، أنه لم يكن مقتل المدعية واضحا، فهناك اعتداء مادي خارج عن إطار القانون وهو بلاغ الحكومة، لقاضي المستعجلات أن يرفعه وأيضا قرار إداري صادر عن الوزير الأول تطبيقا للفصل 77 من قانون الصحافة، لمحكمة الموضوع في إطار المادة 24 أن تأمر بوقف تنفيذه شريطة أن يرفع إليها طلب إلغائه ويلتمس منها ذلك طالب الإلغاء صراحة.
إلا أن السيد رئيس المحكمة الإدارية بالرباط اقتصر في تعليله على منطوق الطلب وعلى الدفوع الشفوية التي أثارها دفاع الطرف المدعي والتي تسمك من خلالها أن الطلب يهدف إلى رفع الاعتداء المادي، ومعنى ذلك أنه لا وجود لقرار إداري، وفي هذا تناقض حسب ما يراه الأستاذ محمد بلهاشمي، يتجلى في إدخال الدولة المغربية، وكان على هذا الطرف ما دام تمسكه بالاعتداء أن يوجه دعواه ضد الحكومة المغربية فقط باعتبارها معتدية دون استناد إلى أية مشروعية.
وتطبيقا لمقتضيات توافر عناصر الاعتداء المادي، ذهبت المحكمة إلى القول بافتقار طلب الطاعنة إلى مجموعة من الشروط والضوابط حتى يمكن أن نكون بصدد اعتداء مادي ويتجلى ذلك فيما عللت قرارها: "وحيث إنه بالنسبة للنازلة المعروضة والرامية إلى رفع الاعتداء المادي المتمثل في نظر الطاعنة في منع صدور الصحيفتين المشار إليهما بدون سند قانوني وعلى أساس أن من أصدر أمر منعها لا يتوفر على الاختصاص لاتخاذ مثل هذا القرار، فإنه يتبين من ظاهر ما أدلى به ومما لا تجادل فيه الطاعنة نفسها أن قرار المنع صدر عن الحكومة وتفذ بواسطة الجهاز التابع لها. وحيث إن الطاعنة اقتصرت على التمسك بوجود عيب الاختصاص دون أن تثبت توافر شروط ومقتضيات الاعتداء المادي المتمسك به والتي من أهمها ارتكاب الجهة التي نفذت القرار المذكور خطأ جسيم من شأنه أن يفقد كل المشروعية لإجراءات التنفيذ المذكور، إذ لا يكفي التمسك بعيب الاختصاص ما دامت الجهة التي أصدرت القرار الإداري المذكور جهة إدارية وأن مجرد عدم اختصاصها لإصدار هذا المقرر على فرض ثبوته لان هناك اعتداء ماديا من طرف السلطة المذكورة ما دامت عملية منعه الصحف تستند إلى القرار الإداري المشار إليه".
ومن جهة نظر الأستاذ محمد بلهاشمي أن المدعية إذا كانت تعتبر أن المحكمة لا حق لها في منع الجريدتين استنادا إلى الفصل 77 من قانون الصحافة يعطي الحق للوزير الأول فقط، فمعنى ذلك أنه وقع اعتداء سلطة إدارية على سلطة إدارية أخرى، وقد وضح الدكتور سليمان محمد الطماوي بعض الحالات التي اعتبرها اغتصاب السلطة وضمنها اعتداء سلطة على اختصاص سلطة أخرى، وأكد على أنه "في هذه الحالات نظرا لجسامة عيب الاختصاص, فإن القرار الإداري لا يعتبر باطلا فحسب، بل يعتبر معدوما مع ما يترتب على هذا الوضع من نتائج"[24].
بعد استعراض بعض التطبيقات التي تهم الاعتداء المادي الذي يطال الحريات العامة نلاحظ أن الاجتهادات القضائية لا زالت محتشمة وقليلة مما يدفعنا إلى التساؤل عن سبب قلة الأحكام داخل الاجتهاد المغربي؟.
يمكن اعتبار قلة الوعي وجهل الفرد بحرياته وخوفه من السلطة الإدارية كلها أسباب تدفع الفرد إلى عدم مقاضاة الإدارة إما جهلا لإمكانية مقاضاتها ومساطرها أو لخوف الأفراد من السلطة الإدارية وذلك ناتج عن طبيعة الصورة التي رسمها الموظفون والمسؤولون الكبار في إطار البيروقراطية التقليدية لدور الإدارة، ويضاف إلى هذه الأسباب عدم ثقة الأفراد بالقضاء وفي قدرته على توجيه أوامر للإدارة، إذ أن مصير أحكامه حتى في حالة الحكم لصالح الأفراد الكثير منها تبقى حبيسة رفوف المحاكم بسبب تعنت الإدارة أو بأسباب غير مباشرة أخرى.
الهوامش
[1] - بوعبيد التراب، ظاهرة الاعتداء المادي و اشكالية نقل الملكية لفائدة الدولة، مجلة القضاء الإداري، الرباط، 2012،
ص : 110.
ص : 110.
[2] - المحكمة الإدارية بالرباط عدد 96 بتاريخ 13 أبريل 1995، شركة بروموبوغا ضد المجلس البلدي لمدينة طنجة، مجلة المعيار، عدد 21، يناير 1996، ص: 226.
[3] - المحكمة الإدارية بأكادير حكم عدد 4 بتاريخ 6 أكتبر 1994، نشيم ورشيل الدولة المغربية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 10، يناير-مارس 1995، ص: 73.
[4] - المحكمة الإدارية بالرباط عدد 65 بتاريخ 23 فبراير 1995، العناية بنداوي ومن معه ضد الجماعة القروية لعين السبت، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 13/1995، ص: 166.
[5] - حمي اربيعي، "حماية حقوق الإنسان بالمغرب بين النص القانوني والاجتهاد القضائي الإداري"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، مواضيع الساعة عدد 55، 2007، ص: 133.
[6] - المجلس الأعلى، قرار رقم ، 1316 بتاريخ 21 أكتوبر 1999، الدولة (الملك الخاص) ضد بوشعيب نحال ومن معه، مجلة المعيار، عدد 27، دجنبر 2001، ص: 129.
[7] - المحكمة الإدارية بالرباط، أمر استعجالي، عدد 311 بتاريخ 25 يونيو 2003، عمر احنين ضد الإدارة العامة للجمارك والضرائب غير المباشرة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عد 60، ص: 247.
[8] - حميد اربيعي، مرجع سابق، ص141:.
[9] - المحكمة الإدارية بالرباط، حكم عدد 52 بتاريخ 24 فبراير 1999، عبد الواحد بلحاج ضد المكتب الوطني للبريد والمواصلات، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 27، ص: 218.
[10] - خديجة امعيوة "القاضي الإداري و حماية الحقوق و الحريات بالمغرب"، أطروحة لنيل الدكتورة في القانون العام، كلية الحقوق فاس،2004 -2005 ص: 390 .
[11] - الفصل 24 من دستور يوليو 2011.
[12] - المحكمة الإدارية بمكناس، حكم عدد 18/96/3، بتاريخ 2 مايو 1996، في قضية خديجة زروال ضد قائد دائرة برج مولاي عمر، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 16، ص: 155.
[13] - المحكمة الإدارية بالرباط، أمر استعجالي عدد 1066 بتاريخ 7 نونبر 1999، علي بوسفيرة ضد المفتشية العامة للقات المساعدة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 31، ص: 157.
[14] - حميد أربيعي، خديجة امعيوة، "الاعتداء المادي واختصاص قاضي المستعجلات"، المجلة المغربية للمنازعات القانونية، العدد 7-8، سنة 2008، ص: 132.
[15] - خديجة امعيوة، "القاضي الإداري وحماية الحريات بالمغرب"، مرجع سابق، ص: 394.
[16] - المجلس الأعلى، قرار رقم 1729 بتاريخ 30 دجنبر 1999، المفتشية العامة للقوات المساعدة ضد علي بوسفيرة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 36،2001، ص: 100.
[17] - المحكمة الإدارية بوجدة، أمر استعجالي رقم 25 بتاريخ 05/06/06، ملف رقم 26/06، محمد العبادي ضد الإدارة العامة لأمن الوطني، المجلة المغربية للمنازعات القانونية، عدد 7-8، 2008، ص: 146.
[18] - تعليق حميد اربيعي، خديجة امعيوة، "الاعتداء المادي واختصاص قاضي المستعجلات"، مرجع سابق، ص: 141.
[19]- علي محمد صالح الدباس، عليان محمد أبو زيد، "حقوق الإنسان وحرياته دار الثقافة للنشر والتوزيع،2005، ص: 110.
[20] - عبد الواحد القريشي، "إضاءات حول ممارسة الحريات العامة بالمغرب"، الشركة المغربية للتوزيع، 2010 ، ص: 83.
[21] - عبد الحافيظ ادمينو، "حرية الصحافة وحدودها"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 84-85، 2009، ص: 159-160.
[22] - المحكمة الإدارية بالرباط، أمر استعجالي عدد 211 بتاريخ 20 دجنبر 2000، شركة ميديا تروسيت ضد الحكومة المغربية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 36، ص: 81، مع تعليق على هذا الحكم للأستاذ محمد بلهاشمي في نفس العدد، ص: 65.
[23] - محمد بلهاشمي، "تعليق على حكم منع صدور جريدتي لوجورنال والصحيفة"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 36، 2001، ص: 69.
[24] - محمد بلهاشمي، مرجع سابق، ص: 70.