مقدمة
شهد العالم منذ نهاية العقد الثامن للقرن الماضي عدة متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، انبنت أساسا على إستراتيجية خاصة بإعادة ترتيب الخريطة العالمية من جديد، سمتها العزم على إنهاء سياسة الأقطاب والمعسكرات والدول القطرية، في مقابل الاتجاه نحو تعزيز المقاربات الترابية والتركيز على الفضاءات المحلية (1).
وهناك اقتناع بأن المستوى المحلي هو الحيز الذي يجب أن تطرح في إطاره المسائل الحقيقية للنمو، هذا المنحنى تثيره كذلك الصعوبة المتزايدة التي تكتنف التسيير المركزي للسياسات الاقتصادية في ظروف وطنية تتميز بالندرة النسبية للموارد العامة، وبمحيط دولي أصبح فيه تمويل التنمية أكثر انتقالية وأقل إرادوية (2).
لقد أصبحت السياسة الجهوية في مختلف بلدان العالم من الاستراتيجيات الرئيسية للنهوض بالتنمية الاقتصادية، وللإقلاع السوسيو اقتصادي بصفة عامة، ذلك أن عقلية النخب الحاكمة آمنت واقتنعت أن التنمية الشاملة لا يمكن تحقيقها إلا بالمرور عبر التنمية الجهوية، إذ أن التنمية بصفة عامة لا بد لإنجاحها من مجال ترابي واسع ومتكامل، كفيل بإدماج كل العوامل التنموية في مسلسل الإقلاع الاقتصادي الجهوي (3).
فهذه المعطيات جاءت في الوقت الذي تبنت فيها كل الدول المتقدمة فكرة الجهة كإطار مرجعي اقتصادي مهم. وفي هذا الصدد تبنت ألمانيا فكرة الجهة
Landers
بمقتضى دستور 1948، وإيطاليا بموجب دستور 1974 وإسبانيا حسب دستور 1978، مع العلم أن هذه الدول تعتبر رائدة في مجال التدبير المجالي والاقتصادي، وتحقق أرقاما مهمة في الجانب التنموي. فمسايرة لهذا التوجه العالمي عمل المغرب على الاهتمام بالجهة وإعطائها كل الصلاحيات لتباشر عملها من أجل إشباع حاجيات الأفراد (4).
وقد عرف المغرب فكرة الجهات- حيث كان التقسيم الإداري يقوم على أساس قبلي نتيجة كبر مساحة المغرب، كما كان يقوم على اعتبارات عسكرية، تجلت من قبل « الكيش ».
فالتنظيم الجهوي في المغرب، عرف تطورا على مر الزمان، لكنه كان يتميز بمركزية للسلطات في العاصمة، وعدم التركيز على الصعيد الجهوي، كما كان التنظيم المحكم للجيش يعتبر أساس التنظيم الجهوي.
وبعد توقيع معاهدة فاس سنة 1912، عمل المستعمر على طمس روح التنظيم المحلي والجهوي الذي عرفه المغرب قبل هذه السنة بغية بسط نفوذه وإحكام القبضة على المغاربة. واستمر في عمليته العسكرية، ولم يستتب له الأمن إلا سنة 1935، وهذا ما حدا بفرنسا إلى تقسيم المغرب إلى جهات مدنية وأخرى عسكرية. وقد عرف المغرب عدة تقسيمات جهوية سنوات 1913، 1919، 1920، 1923، 1926، 1935، 1940 (5).
غداة الاستقلال، وجد المغرب أمام تركة استعمارية جسيمة ليس فحسب على صعيد الفوارق الجهوية بل شملت كافة الأصعدة الاقتصادية، السياسية والاجتماعية، حيث أهمل التقسيم الجهوي الاستعماري ليأخذ الإطار الإقليمي محله كوسيلة تمكن من فرض سلطة الدولة الفتية سياسيا وإداريا بحيث اعتبر الإقليم أهم التقسيمات الإدارية للدولة.
فالبرغم من كافة المشاكل التي خلفها الاستعمار المزدوج الفرنسي والإسباني، فإن الدولة أولت اهتماما خاصا بالأقاليم والمناطق الواقعة خارج محور الدار البيضاء- القنيطرة محاولة بذلك محاربة فكرة المغرب غير النافع والمغرب غير النافع باعتبارها فكرة استعمارية تميز بين أقطاب البلد الواحد.
ولم يظهر الاهتمام بالمجال الجهوي والجهة إلا بعد استفحال خطورة الفوارق والتفاوتات الجهوية وعجز الإطار الإقليمي عن مواجهتها نظرا لأنه محدود لا يلائم الهدف المرجو منه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على الاختلالات واللاتوازنات التي يعرفها مختلف جهات المملكة (6).
إن الحديث عن تجربة واعية مرسومة، ومتكاملة للتنمية الجهوية، ومحاربة الفوارق الاقتصادية بين الجهات والأقاليم التي تتكون منها المملكة، لم يبدأ إلا بعد سنة 1971، أي بعد صدور الظهير المتعلق بإحدات الجهات الاقتصادية (7)، والواضع لفلسفة ومدلول التنمية الجهوية، والمؤسسات الوطنية والجهوية المنوط بها تحقيق هذه التنمية.
وأمام الإحساس بخطورة هذه الوضعية جاء الخطاب الملكي بتاريخ 24 أكتوبر 1984 أثناء ترأس جلالة الملك الحسن الثاني لاجتماع المجلس الاستشاري الجهوي للمنطقة الوسطى الشمالية، وذلك بتأكيده على ضرورة إقامة هياكل جهوية ذات اختصاصات تشريعية ومالية وإدارية، ومحاولة نقلها من إطارها اللاتمركزي إلى معطى جديد يغلب عليه الطابع اللامركزي (8).
وقد ترجم هذا التوجه ضمن مخطط مسار التنمية 1988-1992 حيث أكد الملك الراحل الحسن الثاني في رسالة وجهت إلى الوزير الأول في موضوع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد على الإطار العام للعمل التنموي، حيث يكون فيه التخطيط على مستوى الجهة باعتبارها الخلية التي تناسب المغرب وما يشمل عليه من تنوع واختلاف سواء على مستوى الجغرافي أو الديمغرافي (9).
وقد روعيت في هذا المخطط مجموعة من المبادئ الأساسية للتنمية الجهوية من بينها (10) :
وفي هذا السياق صدر القانون المتعلق بتنظيم الجهات لسنة 1997 (14)، ومما جاء في « بيان أسباب » نزول هذا القانون :
« إن مغرب اليوم، بعد أن تراكمت لدية التجارب والنتائج الأولى للديمقراطية واللامركزية، قد بلغ مستوى من النضج يؤهله لولوج مرحلة جدية لترسيخ الديمقراطية المحلية التي ستوظفها الجهوية لخدمة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي. وهكذا فإن الجهة تبدع هيئة جديدة ستمكن ممثلي السكان من التداول في إطارها، بكيفية ديمقراطية، من خلال منتخبيهم في الجماعات المحلية والهيئات الاجتماعية المهنية، في شأن مطامح ومشاريع جهاتهم وبالتالي إعطاء الانطلاقة لديناميكية متميزة للمنافسة والتنمية الجهوية المندمجة...».
وأخيرا تم تعزيز الجهوية ببلادنا بعد صدور الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 (15) الذي شكل نقلة نوعية في تعاطي الدولة مع مفهوم الجهات حيث تم تخصيص الباب التاسع منه « للجهات والجماعات الترابية الأخرى »، كتعبير عن إرادة المشرع في الارتقاء بالجهوية ببلادنا.
إن استعراض هذه المعطيات المتعلقة بالجهوية المتقدمة ببلادنا يفرض علينا إعطاء تعريف للمصطلحات المستعملة في هذا الموضوع :
ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من الجهوية اعتمادا على المرجعية القانونية التي تستمد منها وجودها، وتتمثل في :
وتبعا لذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف تطرق الدستور المغربي الجديد للجهوية المتقدمة وآية آفاق يمكننا استشرافها لهذه الجهوية ؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية :
الجهوية المتقدمة على ضوء مقتضيات الدستور المغربي الجديد
إن ورش الجهوية المتقدمة يتطلع إلى بلورة الإرادة الملكية السامية الرامية إلى تمكين المغرب من جهوية متقدمة، ديمقراطية الجوهر مكرسة للتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، تكون مدخلا لإصلاح عميق لهياكل الدولة من خلال السير الحثيث المتدرج على درب اللامركزية واللاتمركز الفعليين النافذين، والديمقراطية المعمقة، والتحديث الاجتماعي والسياسي والإداري للبلاد والحكامة الجيدة (21).
ولهذه الأسباب فقد جاء الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 لتكريس ورش الجهوية المتقدمة من خلال التنصيص على مقتضيات متقدمة في هذا المجال.
تبعا لذلك فقد قررنا تناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : الارتقاء بالجهوية ( المطلب الأول)، تعزيز اللاتركيز الإداري ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : الارتقاء بالجهوية
طبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من الدستور المغربي لسنة 2011 : « التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة ».
كما نصت الفقرة الثانية من الفصل 143 من نفس الدستور على : « تتبوأ الجهة، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية ».
إن كل هذه المقتضيات الدستورية جاءت من أجل ترسيخ الجهوية المتقدمة ببلادنا كخيار لا غنى في تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة.
إضافة إلى ذلك فالجهوية المتقدمة ستمكن بلادنا من إشراك المواطنين في تسيير شؤونهم وذلك عن طريق انتخاب ممثليهم في المجالس الجهوية بصفة مباشرة عن طريق تبني نمط الاقتراع العام المباشر (22)، والذي من شأنه تعزيز الديمقراطية المحلية والحكامة الترابية ببلادنا.
إلى جانب الارتقاء بالجهوية، فقد عمل الدستور المغربي لسنة 2011 على تعزيز اللاتركيز الإداري كلازمة للامركزية من خلال توسيع اختصاصات ممثلي السلطة المركزية على المستوى الترابي.
المطلب الثاني : تعزيز اللاتركيز الإداري
استنادا إلى الفصل 145 من الدستور المغربي لسنة 2011 : « يمثل ولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم، السلطة المركزية في الجماعات الترابية.
يمثل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية.
يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.
يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها. ».
هذا الفصل شكل قفزة نوعية في مجال تعاطي المشرع المغربي مع سياسة اللاتركيز الإداري حيث عزز من صلاحيات ممثلي السلطة المركزية كما خول وضعا متقدما لمصالح الإدارة المركزية على المستوى المحلي حيث تم تمت تسمية هذه المصالح ب « المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية » عوض « المصالح الخارجية » من أجل تخويل هذه المصالح اختصاصات واسعة في مجال تسيير شؤون المواطنين.
بعد استعراض هذه المعطيات الهامة عن كيفية تطرق الدستور المغربي لسنة 2011 للجهوية المتقدمة حيث ارتقت بهذا الورش الحيوي الهادف إلى إعادة تجديد هياكل الدولة المغربية على المستوى الترابي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو آية آفاق يمكننا استشرافها لمسار الجهوية المتقدمة ببلادنا ؟
المبحث الثاني
آفاق الجهوية المتقدمة
لا مندوحة أن الجهوية المتقدمة قد شكلت أساس التنظيم الترابي للمملكة، وذلك من خلال منح الجهات مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية. وكذا تعزيز اللاتركيز الإداري عن طريق توسيع اختصاصات ممثلي السلطة المركزية على الصعيد الترابي.
كل هذه المقتضيات الدستورية تبقى ناقصة إذا لم يتم مواكبتها بإصدار قوانين من شأنها توضيح الفصول الدستورية المتعلقة بالجهات والجماعات الترابية الأخرى.
تبعا لذلك، سوف نتناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : ضرورة إصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية ( المطلب الأول)، ووجوب سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : ضرورة إصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية
ينص الفصل 146 من الدستور المغربي لسنة 2011 : « تحدد بقانون تنظيمي بصفة عامة :
إن تعزيز الجهوية المتقدمة يطرح أيضا وجوب سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري كلازمة رئيسية لتعزيز الجهوية المتقدمة.
المطلب الثاني : وجوب سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري
إن من شأن سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري أن يساهم في تحقيق تحول نوعي في أنماط الحكامة وتوجها مهما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، وإعادة تنظيم الإدارة الترابية بما يكفل تناسقها والاستجابة عن قرب للحاجيات المعبر عنها محليا، وذلك بتخويلها السلط والصلاحيات والإمكانيات التي من شأنها وضع نظام فعال للإدارة اللامتمركزة التي سيتم تجميعها في بنيات لتحقيق التكامل والاندماج بين مختلف القطاعات العمومية (23).
في هذا الصدد يجب على الحكومة أن تتبنى المنهجية التعاقدية والتشاركية في التدبير والتسيير فيما بين المستويين المركزي والترابي، ومراعاة التنسيق والتشاور فيما بين هذه المستويات في مجالات إنجاز البرامج التنموية، تحقيقا لمبدأ الإدارة بالأهداف ومراقبة أساليب التدبير.
وقد أعطى النداء الملكي لوضع ميثاق اللاتمركز من طرف الحكومة نفسا جديدا لهذا الورش. والمطلوب من ذلك الميثاق ومن مفعوله المنشود في الممارسة أن يمنح الجهوية المتقدمة سندا لا مناص منه، فيعضد المجالس الجهوية ومجالس باقي الجماعات الترابية بأجهزة إدارية حكومية تتمتع على كل مستوى من هذه المستويات بهامش واسع من المبادرة وبسلطات تقريرية فعلية، بحيث تتناسق وتتضافر مجهوداتها في صالح التنمية المندمجة بأقرب ما يكون من السكان المعنيين ومن منتخبيهم (24).
وهكذا، فستسمح الجهة بتركيز أفضل للمصالح غير الممركزة، إذ يرى العديد من الدارسين أن الجهة ستشكل مجالا مفضلا لإحلال سياسة عدم التركيز، وستتيح للإدارة المركزية مراقبة وتأمين استمرارية أنشطة مصالحها غير الممركزة ليس فقط عن طريق مندوبيها الجهويين، ولكن أيضا، وخصوصا عن طريق العامل كممثل للدولة من جهة، وباعتباره مسؤولا عن تنفيذ القرارات الحكومية من جهة أخرى وقائما على ضمان التنسيق بين مختلف أنشطة هذه المصالح (25).
خاتمة عامة
وفي الختام، يتضح لنا جليا بأن الجهوية المتقدمة قد حظيت بمكانة متميزة في الدستور المغربي لسنة 2011 حيث جعل منها أساس التنظيم اللامركزي ببلادنا عن طريق تخويل الجهات مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية.
كما أن الدستور المغربي لسنة 2011 قد عزز سياسة اللاتركيز الإداري من خلال توسيع صلاحيات ممثلي السلطة المركزية على المستوى الترابي.
هذه المقتضيات الدستورية رغم كونها جد متقدمة إلا أن الاعتماد عليها يبقى ناقصا إذا لم يسارع المشرع المغربي إلى التعجيل بإصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية وكذا الميثاق الوطني للاتركيز الإداري التي من شأنها تعزيز الديمقراطية الترابية والحكامة الجيدة.
الهوامش
(1) زروق عادل : « الجهوية بالمغرب بين حدود التجربة الراهنة وآفاق الوضع المتقدم »، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام : تخصص : القانون والعلوم الإدارية للتنمية، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- طنجة، السنة الجامعية : 2009-2010، ص.5.
(2) أديبا محمد علي : « المكانة الدستورية للجماعات المحلية »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 34، شتنبر- أكتوبر 2000، ص.97.
(3) عقلة عبد الحق : « القانون الإداري »، الجزء الأول، دار القلم، الرباط، طبعة 2002، ص.227.
(4) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية : 2007-2008، ص.145-146.
(5) البورقادي فاطمة، كناني أمال : « تطور الجهة بالمغرب »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 8، 1996، ص.13.
(6) نفس المرجع، ص.19-20.
(7) ظهير شريف رقم 1.71.77 بتاريخ 22 ربيع الثاني 1391 ( 16 يونيه 1971) بإحداث المناطق، ج.ر عدد 3060 بتاريخ 29 ربيع الثاني 1391 ( 23 يونيه 1971)، ص.1352.
(8) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب »، مرجع سابق، ص. 140.
(9) البورقادي فاطمة وكناني أمال : « تطور الجهة »، مرجع سابق، ص.35.
(10) مخطط المسار (1988-1992)، مديرية التخطيط، قسم الإحصائيات.
(11) ظهير شريف رقم 1.92.155 صادر في 11 من ربيع الآخر 1413 ( 9 أكتوبر 1992) بتنفيذ نص مراجعة الدستور، ج.ر عدد 4172 بتاريخ 16 ربيع الآخر 1413 (14 أكتوبر 1992)، ص.1247.
(12) بخنوش عبد الكريم : « عدم التركيز الإداري بين العمالة أو الإقليم والجهة »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 52، 2006، ص.42.
(13)BOUACHIK Ahmed : « Les aspects économiques du projet de révision de la constitution », in le matin du Sahara du 12 septembre 1996.
(14) ظهير شريف رقم 1.97.84 صادر في 23 من ذي القعدة 1417 ( 2 أبريل 1997) بتنفيذ القانون رقم 47.96 المتعلق بتنظيم الجهات، ج.ر عدد 4470 بتاريخ 24 ذي القعدة 1417 (3 أبريل 1997)، ص.556.
(15) ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 ( 29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور، ج.ر عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 شعبان 1432 ( 30 يوليو 2011)، ص.3600.
(16) مفتاح عزيزي : « اللامركزية من التسيير الإداري إلى تدبير التنمية »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- أكدال، السنة الجامعية : 2000-2001، ص.238.
(17) المتوكل عبد الله : « موقع الجهة في النسق اللامركزي المغربي »، المجلة المغربية للقانون واقتصاد التنمية، العدد 45، 2001، ص.25.
(18) أبولاس حميد : « التجربة الجهوية بالمغرب وإمكانية الإصلاح على ضوء مشروع الحكم الذاتي »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 87-88، يوليوز- أكتوبر، 2009، ص.86.
(19) محسن مصطفى : « المسألة الجهوية وإشكالية التنمية بالمغرب- رؤية اجتماعية نقدية »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، العدد 16، 1998، ص.70-71.
(20) الأعرج محمد : « القانون الإداري المغربي »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 66، 2010، ص.39.
(21) تقرير حول الجهوية المتقدمة مرفوع إلى العناية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، اللجنة الاستشارية للجهوية، ص.7.
(22) الفقرة الثالثة من الفصل 135 من الدستور المغربي لسنة 2011.
(23) البرنامج الحكومي، المملكة المغربية، رئيس الحكومة، يناير 2012، ص.21.
(24) تقرير حول الجهوية المتقدمة، مرجع سابق، ص.43.
(25) بخنوش عبد الكريم : «عدم التركيز الإداري بين العمالة أو الإقليم والجهة »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 52، 2006، ص.41-42.
شهد العالم منذ نهاية العقد الثامن للقرن الماضي عدة متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، انبنت أساسا على إستراتيجية خاصة بإعادة ترتيب الخريطة العالمية من جديد، سمتها العزم على إنهاء سياسة الأقطاب والمعسكرات والدول القطرية، في مقابل الاتجاه نحو تعزيز المقاربات الترابية والتركيز على الفضاءات المحلية (1).
وهناك اقتناع بأن المستوى المحلي هو الحيز الذي يجب أن تطرح في إطاره المسائل الحقيقية للنمو، هذا المنحنى تثيره كذلك الصعوبة المتزايدة التي تكتنف التسيير المركزي للسياسات الاقتصادية في ظروف وطنية تتميز بالندرة النسبية للموارد العامة، وبمحيط دولي أصبح فيه تمويل التنمية أكثر انتقالية وأقل إرادوية (2).
لقد أصبحت السياسة الجهوية في مختلف بلدان العالم من الاستراتيجيات الرئيسية للنهوض بالتنمية الاقتصادية، وللإقلاع السوسيو اقتصادي بصفة عامة، ذلك أن عقلية النخب الحاكمة آمنت واقتنعت أن التنمية الشاملة لا يمكن تحقيقها إلا بالمرور عبر التنمية الجهوية، إذ أن التنمية بصفة عامة لا بد لإنجاحها من مجال ترابي واسع ومتكامل، كفيل بإدماج كل العوامل التنموية في مسلسل الإقلاع الاقتصادي الجهوي (3).
فهذه المعطيات جاءت في الوقت الذي تبنت فيها كل الدول المتقدمة فكرة الجهة كإطار مرجعي اقتصادي مهم. وفي هذا الصدد تبنت ألمانيا فكرة الجهة
Landers
بمقتضى دستور 1948، وإيطاليا بموجب دستور 1974 وإسبانيا حسب دستور 1978، مع العلم أن هذه الدول تعتبر رائدة في مجال التدبير المجالي والاقتصادي، وتحقق أرقاما مهمة في الجانب التنموي. فمسايرة لهذا التوجه العالمي عمل المغرب على الاهتمام بالجهة وإعطائها كل الصلاحيات لتباشر عملها من أجل إشباع حاجيات الأفراد (4).
وقد عرف المغرب فكرة الجهات- حيث كان التقسيم الإداري يقوم على أساس قبلي نتيجة كبر مساحة المغرب، كما كان يقوم على اعتبارات عسكرية، تجلت من قبل « الكيش ».
فالتنظيم الجهوي في المغرب، عرف تطورا على مر الزمان، لكنه كان يتميز بمركزية للسلطات في العاصمة، وعدم التركيز على الصعيد الجهوي، كما كان التنظيم المحكم للجيش يعتبر أساس التنظيم الجهوي.
وبعد توقيع معاهدة فاس سنة 1912، عمل المستعمر على طمس روح التنظيم المحلي والجهوي الذي عرفه المغرب قبل هذه السنة بغية بسط نفوذه وإحكام القبضة على المغاربة. واستمر في عمليته العسكرية، ولم يستتب له الأمن إلا سنة 1935، وهذا ما حدا بفرنسا إلى تقسيم المغرب إلى جهات مدنية وأخرى عسكرية. وقد عرف المغرب عدة تقسيمات جهوية سنوات 1913، 1919، 1920، 1923، 1926، 1935، 1940 (5).
غداة الاستقلال، وجد المغرب أمام تركة استعمارية جسيمة ليس فحسب على صعيد الفوارق الجهوية بل شملت كافة الأصعدة الاقتصادية، السياسية والاجتماعية، حيث أهمل التقسيم الجهوي الاستعماري ليأخذ الإطار الإقليمي محله كوسيلة تمكن من فرض سلطة الدولة الفتية سياسيا وإداريا بحيث اعتبر الإقليم أهم التقسيمات الإدارية للدولة.
فالبرغم من كافة المشاكل التي خلفها الاستعمار المزدوج الفرنسي والإسباني، فإن الدولة أولت اهتماما خاصا بالأقاليم والمناطق الواقعة خارج محور الدار البيضاء- القنيطرة محاولة بذلك محاربة فكرة المغرب غير النافع والمغرب غير النافع باعتبارها فكرة استعمارية تميز بين أقطاب البلد الواحد.
ولم يظهر الاهتمام بالمجال الجهوي والجهة إلا بعد استفحال خطورة الفوارق والتفاوتات الجهوية وعجز الإطار الإقليمي عن مواجهتها نظرا لأنه محدود لا يلائم الهدف المرجو منه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على الاختلالات واللاتوازنات التي يعرفها مختلف جهات المملكة (6).
إن الحديث عن تجربة واعية مرسومة، ومتكاملة للتنمية الجهوية، ومحاربة الفوارق الاقتصادية بين الجهات والأقاليم التي تتكون منها المملكة، لم يبدأ إلا بعد سنة 1971، أي بعد صدور الظهير المتعلق بإحدات الجهات الاقتصادية (7)، والواضع لفلسفة ومدلول التنمية الجهوية، والمؤسسات الوطنية والجهوية المنوط بها تحقيق هذه التنمية.
وأمام الإحساس بخطورة هذه الوضعية جاء الخطاب الملكي بتاريخ 24 أكتوبر 1984 أثناء ترأس جلالة الملك الحسن الثاني لاجتماع المجلس الاستشاري الجهوي للمنطقة الوسطى الشمالية، وذلك بتأكيده على ضرورة إقامة هياكل جهوية ذات اختصاصات تشريعية ومالية وإدارية، ومحاولة نقلها من إطارها اللاتمركزي إلى معطى جديد يغلب عليه الطابع اللامركزي (8).
وقد ترجم هذا التوجه ضمن مخطط مسار التنمية 1988-1992 حيث أكد الملك الراحل الحسن الثاني في رسالة وجهت إلى الوزير الأول في موضوع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد على الإطار العام للعمل التنموي، حيث يكون فيه التخطيط على مستوى الجهة باعتبارها الخلية التي تناسب المغرب وما يشمل عليه من تنوع واختلاف سواء على مستوى الجغرافي أو الديمغرافي (9).
وقد روعيت في هذا المخطط مجموعة من المبادئ الأساسية للتنمية الجهوية من بينها (10) :
- مواصلة وتعزيز الجهوية وتركيزها على قاعدة واسعة من التشاور والمشاركة من أجل تحقيق تنمية متوازنة ؛
- تعزيز التخطيط الجهوي على ثلاثة مستويات: الجماعة، الإقليم، والجهة؛
- اعتماد المخططات الجهوية على الأغلفة المالية القطاعية لميزانية الدولة المخصصة للجهات، وعلى برنامج تجهيز الأقاليم والجماعات، وتهيئ الظروف لكي تحدث وبصفة تدريجية مؤسسات وهياكل جهوية ؛
- القضاء على الاختلال الجهوي وتنمية العالم القروي؛
- إنعاش أقطاب التنمية وذلك بتشجيع قيام المشاريع الصناعية خارج محور الدار البيضاء – القنيطرة؛
- مشاركة القطاع الخاص في مجهود التنمية الجهوية؛
- اللامركزية وعدم التركيز، وذلك بإعادة النظر في اختصاصات وتكوين المجالس الجهوية الاستشارية، ومنح الجهة سلطات تنفيذية فعالة تمكنها من القيام بمهامها على الوجه المطلوب.
وفي هذا السياق صدر القانون المتعلق بتنظيم الجهات لسنة 1997 (14)، ومما جاء في « بيان أسباب » نزول هذا القانون :
« إن مغرب اليوم، بعد أن تراكمت لدية التجارب والنتائج الأولى للديمقراطية واللامركزية، قد بلغ مستوى من النضج يؤهله لولوج مرحلة جدية لترسيخ الديمقراطية المحلية التي ستوظفها الجهوية لخدمة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي. وهكذا فإن الجهة تبدع هيئة جديدة ستمكن ممثلي السكان من التداول في إطارها، بكيفية ديمقراطية، من خلال منتخبيهم في الجماعات المحلية والهيئات الاجتماعية المهنية، في شأن مطامح ومشاريع جهاتهم وبالتالي إعطاء الانطلاقة لديناميكية متميزة للمنافسة والتنمية الجهوية المندمجة...».
وأخيرا تم تعزيز الجهوية ببلادنا بعد صدور الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 (15) الذي شكل نقلة نوعية في تعاطي الدولة مع مفهوم الجهات حيث تم تخصيص الباب التاسع منه « للجهات والجماعات الترابية الأخرى »، كتعبير عن إرادة المشرع في الارتقاء بالجهوية ببلادنا.
إن استعراض هذه المعطيات المتعلقة بالجهوية المتقدمة ببلادنا يفرض علينا إعطاء تعريف للمصطلحات المستعملة في هذا الموضوع :
- إن تحديد مفهوم الجهوية يتبث صعوبة في وضع تعريف موحد له بفعل الاختلاط التاريخي في الغاية (16)، حيث أن المفهوم يصطدم مع ذاته، ما دامت الجهوية هي مسار متطور ومتجدد باستمرار، تبعا للظروف السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة من بلد لآخر، والمتغيرة زمنية لأخرى، فإن الأمر الأكيد هو وجود منطلقات مفاهيمية للجهوية، على ضوء اعتبارات لغوية وقانونية واقتصادية وسوسيولوجية وتشريعية وأكاديمية.
ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من الجهوية اعتمادا على المرجعية القانونية التي تستمد منها وجودها، وتتمثل في :
- الجهوية الوظيفية، حيث تعتبر الجهة فضاء ترابيا لتسيير مهمة محددة من مهام الدولة دون أن يقتضي الأمر تمتعها بالشخصية المعنوية والاستقلالية الذاتية ؛
- الجهوية الإدارية، وينبغي الفصل داخلها بين الجهوية الإدارية واللامركزية حيث تكون الجهة وحدة ترابية متميزة عن السلطة المركزية، والجهوية الإدارية مع عدم التركيز، التي تجعل من الجهة مقاطعة إدارية خاضعة للسلطة الرئاسية للمؤسسات المركزية ؛
- الجهوية السياسية، تتبوأ في ظلها الجهة مرتبة سامية داخل التنظيم الدولتي، فهي تتقاسم مع السلطة المركزية جملة من الوظائف السياسية خاصة في الميدان التشريعي والتنظيمي، والتي تحددها الوثيقة الدستورية، والجهوية السياسية هي أعلى مستوى من مستويات اللامركزية الترابية دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية، التي تتوفر فيها الجهة على سيادتها التامة مع احترام القوانين الاتحادية (18) ؛
- أما من الناحية الاقتصادية، فمدلول الجهوية في الدول المتقدمة يحيل على إعادة التوازن للنمو الاقتصادي الجهوي بعد أن تم تحقيق شروط التنمية الاقتصادية الكلية، أما معنى الجهوية في الدول النامية فيرتبط بتقليص الفوارق الجهوية وتصحيح الاختلالات المجالية ؛
- والجهوية من منظور سوسيولوجي، تعد اختيار تدبيري حداثي للمجتمعات المتحضرة، أملته ظاهرة تنامي تقسيم العمل الاجتماعي والتخصيص الوظيفي، وتطور مفاهيم الديمقراطية ومبادئ تكافؤ الفرص الاجتماعية ثم تبلور المفاهيم المرتبطة بالتنظيم العقلاني للمجتمع (19)، أما الجهوية المتنفذة في المجتمعات التقليدية فهي تقوم على عقلية قبلية وعشائرية وإثنية مكرسة للاختلاف المجتمعي.
- أما الدستور فيعد القانون الأساسي للدولة، وهو قانون تخضع لمقتضياته على حد سواء السلطات التشريعية، التنفيذية، والقضائية، وعليه فأحكام القانون الإداري والسلطات الإدارية ملزمة باحترام مقتضياته (20).
وتبعا لذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف تطرق الدستور المغربي الجديد للجهوية المتقدمة وآية آفاق يمكننا استشرافها لهذه الجهوية ؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية :
- كيف ارتقى الدستور المغربي الجديد بالجهوية المتقدمة ؛
- ماهي الاختصاصات المخولة للاتركيز الإداري كلازمة للجهوية المتقدمة ؛
- آية آفاق يمكننا استشرافها للجهوية المتقدمة .
- الجهوية المتقدمة على ضوء مقتضيات الدستور المغربي الجديد ؛
- آفاق الجهوية المتقدمة.
الجهوية المتقدمة على ضوء مقتضيات الدستور المغربي الجديد
إن ورش الجهوية المتقدمة يتطلع إلى بلورة الإرادة الملكية السامية الرامية إلى تمكين المغرب من جهوية متقدمة، ديمقراطية الجوهر مكرسة للتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، تكون مدخلا لإصلاح عميق لهياكل الدولة من خلال السير الحثيث المتدرج على درب اللامركزية واللاتمركز الفعليين النافذين، والديمقراطية المعمقة، والتحديث الاجتماعي والسياسي والإداري للبلاد والحكامة الجيدة (21).
ولهذه الأسباب فقد جاء الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 لتكريس ورش الجهوية المتقدمة من خلال التنصيص على مقتضيات متقدمة في هذا المجال.
تبعا لذلك فقد قررنا تناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : الارتقاء بالجهوية ( المطلب الأول)، تعزيز اللاتركيز الإداري ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : الارتقاء بالجهوية
طبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من الدستور المغربي لسنة 2011 : « التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة ».
كما نصت الفقرة الثانية من الفصل 143 من نفس الدستور على : « تتبوأ الجهة، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية ».
إن كل هذه المقتضيات الدستورية جاءت من أجل ترسيخ الجهوية المتقدمة ببلادنا كخيار لا غنى في تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة.
إضافة إلى ذلك فالجهوية المتقدمة ستمكن بلادنا من إشراك المواطنين في تسيير شؤونهم وذلك عن طريق انتخاب ممثليهم في المجالس الجهوية بصفة مباشرة عن طريق تبني نمط الاقتراع العام المباشر (22)، والذي من شأنه تعزيز الديمقراطية المحلية والحكامة الترابية ببلادنا.
إلى جانب الارتقاء بالجهوية، فقد عمل الدستور المغربي لسنة 2011 على تعزيز اللاتركيز الإداري كلازمة للامركزية من خلال توسيع اختصاصات ممثلي السلطة المركزية على المستوى الترابي.
المطلب الثاني : تعزيز اللاتركيز الإداري
استنادا إلى الفصل 145 من الدستور المغربي لسنة 2011 : « يمثل ولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم، السلطة المركزية في الجماعات الترابية.
يمثل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية.
يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.
يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها. ».
هذا الفصل شكل قفزة نوعية في مجال تعاطي المشرع المغربي مع سياسة اللاتركيز الإداري حيث عزز من صلاحيات ممثلي السلطة المركزية كما خول وضعا متقدما لمصالح الإدارة المركزية على المستوى المحلي حيث تم تمت تسمية هذه المصالح ب « المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية » عوض « المصالح الخارجية » من أجل تخويل هذه المصالح اختصاصات واسعة في مجال تسيير شؤون المواطنين.
بعد استعراض هذه المعطيات الهامة عن كيفية تطرق الدستور المغربي لسنة 2011 للجهوية المتقدمة حيث ارتقت بهذا الورش الحيوي الهادف إلى إعادة تجديد هياكل الدولة المغربية على المستوى الترابي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو آية آفاق يمكننا استشرافها لمسار الجهوية المتقدمة ببلادنا ؟
المبحث الثاني
آفاق الجهوية المتقدمة
لا مندوحة أن الجهوية المتقدمة قد شكلت أساس التنظيم الترابي للمملكة، وذلك من خلال منح الجهات مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية. وكذا تعزيز اللاتركيز الإداري عن طريق توسيع اختصاصات ممثلي السلطة المركزية على الصعيد الترابي.
كل هذه المقتضيات الدستورية تبقى ناقصة إذا لم يتم مواكبتها بإصدار قوانين من شأنها توضيح الفصول الدستورية المتعلقة بالجهات والجماعات الترابية الأخرى.
تبعا لذلك، سوف نتناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : ضرورة إصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية ( المطلب الأول)، ووجوب سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : ضرورة إصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية
ينص الفصل 146 من الدستور المغربي لسنة 2011 : « تحدد بقانون تنظيمي بصفة عامة :
- شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة ؛
- شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولات هذه المجالس ومقرراتها طبقا للفصل 138 ؛
- شروط تقديم العرائض المنصوص عليها في الفصل 139، من قبل المواطنات والمواطنين والجمعيات ؛
- الاختصاصات الذاتية لفائدة الجهات والجماعات الترابية الأخرى والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة والاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل 140 ؛
- النظام المالي للجهات والجماعات الترابية الأخرى ؛
- مصدر الموارد المالية للجهات وللجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في الفصل 141 ؛
- موارد وكيفيات تسيير كل من صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليهما في الفصل 142 ؛
- شروط وكيفيات تأسيس المجموعات المشار إليها في الفصل 144 ؛
- المقتضيات الهادفة إلى تشجيع تنمية التعاون بين الجماعات وكذا الآليات الرامية إلى ضمان تكييف تطور التنظيم الترابي في هذا الاتجاه ؛
- قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة. ».
إن تعزيز الجهوية المتقدمة يطرح أيضا وجوب سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري كلازمة رئيسية لتعزيز الجهوية المتقدمة.
المطلب الثاني : وجوب سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري
إن من شأن سن ميثاق وطني للاتركيز الإداري أن يساهم في تحقيق تحول نوعي في أنماط الحكامة وتوجها مهما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، وإعادة تنظيم الإدارة الترابية بما يكفل تناسقها والاستجابة عن قرب للحاجيات المعبر عنها محليا، وذلك بتخويلها السلط والصلاحيات والإمكانيات التي من شأنها وضع نظام فعال للإدارة اللامتمركزة التي سيتم تجميعها في بنيات لتحقيق التكامل والاندماج بين مختلف القطاعات العمومية (23).
في هذا الصدد يجب على الحكومة أن تتبنى المنهجية التعاقدية والتشاركية في التدبير والتسيير فيما بين المستويين المركزي والترابي، ومراعاة التنسيق والتشاور فيما بين هذه المستويات في مجالات إنجاز البرامج التنموية، تحقيقا لمبدأ الإدارة بالأهداف ومراقبة أساليب التدبير.
وقد أعطى النداء الملكي لوضع ميثاق اللاتمركز من طرف الحكومة نفسا جديدا لهذا الورش. والمطلوب من ذلك الميثاق ومن مفعوله المنشود في الممارسة أن يمنح الجهوية المتقدمة سندا لا مناص منه، فيعضد المجالس الجهوية ومجالس باقي الجماعات الترابية بأجهزة إدارية حكومية تتمتع على كل مستوى من هذه المستويات بهامش واسع من المبادرة وبسلطات تقريرية فعلية، بحيث تتناسق وتتضافر مجهوداتها في صالح التنمية المندمجة بأقرب ما يكون من السكان المعنيين ومن منتخبيهم (24).
وهكذا، فستسمح الجهة بتركيز أفضل للمصالح غير الممركزة، إذ يرى العديد من الدارسين أن الجهة ستشكل مجالا مفضلا لإحلال سياسة عدم التركيز، وستتيح للإدارة المركزية مراقبة وتأمين استمرارية أنشطة مصالحها غير الممركزة ليس فقط عن طريق مندوبيها الجهويين، ولكن أيضا، وخصوصا عن طريق العامل كممثل للدولة من جهة، وباعتباره مسؤولا عن تنفيذ القرارات الحكومية من جهة أخرى وقائما على ضمان التنسيق بين مختلف أنشطة هذه المصالح (25).
خاتمة عامة
وفي الختام، يتضح لنا جليا بأن الجهوية المتقدمة قد حظيت بمكانة متميزة في الدستور المغربي لسنة 2011 حيث جعل منها أساس التنظيم اللامركزي ببلادنا عن طريق تخويل الجهات مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية.
كما أن الدستور المغربي لسنة 2011 قد عزز سياسة اللاتركيز الإداري من خلال توسيع صلاحيات ممثلي السلطة المركزية على المستوى الترابي.
هذه المقتضيات الدستورية رغم كونها جد متقدمة إلا أن الاعتماد عليها يبقى ناقصا إذا لم يسارع المشرع المغربي إلى التعجيل بإصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية وكذا الميثاق الوطني للاتركيز الإداري التي من شأنها تعزيز الديمقراطية الترابية والحكامة الجيدة.
الهوامش
(1) زروق عادل : « الجهوية بالمغرب بين حدود التجربة الراهنة وآفاق الوضع المتقدم »، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام : تخصص : القانون والعلوم الإدارية للتنمية، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- طنجة، السنة الجامعية : 2009-2010، ص.5.
(2) أديبا محمد علي : « المكانة الدستورية للجماعات المحلية »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 34، شتنبر- أكتوبر 2000، ص.97.
(3) عقلة عبد الحق : « القانون الإداري »، الجزء الأول، دار القلم، الرباط، طبعة 2002، ص.227.
(4) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية : 2007-2008، ص.145-146.
(5) البورقادي فاطمة، كناني أمال : « تطور الجهة بالمغرب »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 8، 1996، ص.13.
(6) نفس المرجع، ص.19-20.
(7) ظهير شريف رقم 1.71.77 بتاريخ 22 ربيع الثاني 1391 ( 16 يونيه 1971) بإحداث المناطق، ج.ر عدد 3060 بتاريخ 29 ربيع الثاني 1391 ( 23 يونيه 1971)، ص.1352.
(8) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب »، مرجع سابق، ص. 140.
(9) البورقادي فاطمة وكناني أمال : « تطور الجهة »، مرجع سابق، ص.35.
(10) مخطط المسار (1988-1992)، مديرية التخطيط، قسم الإحصائيات.
(11) ظهير شريف رقم 1.92.155 صادر في 11 من ربيع الآخر 1413 ( 9 أكتوبر 1992) بتنفيذ نص مراجعة الدستور، ج.ر عدد 4172 بتاريخ 16 ربيع الآخر 1413 (14 أكتوبر 1992)، ص.1247.
(12) بخنوش عبد الكريم : « عدم التركيز الإداري بين العمالة أو الإقليم والجهة »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 52، 2006، ص.42.
(13)BOUACHIK Ahmed : « Les aspects économiques du projet de révision de la constitution », in le matin du Sahara du 12 septembre 1996.
(14) ظهير شريف رقم 1.97.84 صادر في 23 من ذي القعدة 1417 ( 2 أبريل 1997) بتنفيذ القانون رقم 47.96 المتعلق بتنظيم الجهات، ج.ر عدد 4470 بتاريخ 24 ذي القعدة 1417 (3 أبريل 1997)، ص.556.
(15) ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 ( 29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور، ج.ر عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 شعبان 1432 ( 30 يوليو 2011)، ص.3600.
(16) مفتاح عزيزي : « اللامركزية من التسيير الإداري إلى تدبير التنمية »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- أكدال، السنة الجامعية : 2000-2001، ص.238.
(17) المتوكل عبد الله : « موقع الجهة في النسق اللامركزي المغربي »، المجلة المغربية للقانون واقتصاد التنمية، العدد 45، 2001، ص.25.
(18) أبولاس حميد : « التجربة الجهوية بالمغرب وإمكانية الإصلاح على ضوء مشروع الحكم الذاتي »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 87-88، يوليوز- أكتوبر، 2009، ص.86.
(19) محسن مصطفى : « المسألة الجهوية وإشكالية التنمية بالمغرب- رؤية اجتماعية نقدية »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، العدد 16، 1998، ص.70-71.
(20) الأعرج محمد : « القانون الإداري المغربي »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 66، 2010، ص.39.
(21) تقرير حول الجهوية المتقدمة مرفوع إلى العناية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، اللجنة الاستشارية للجهوية، ص.7.
(22) الفقرة الثالثة من الفصل 135 من الدستور المغربي لسنة 2011.
(23) البرنامج الحكومي، المملكة المغربية، رئيس الحكومة، يناير 2012، ص.21.
(24) تقرير حول الجهوية المتقدمة، مرجع سابق، ص.43.
(25) بخنوش عبد الكريم : «عدم التركيز الإداري بين العمالة أو الإقليم والجهة »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 52، 2006، ص.41-42.