تقديم
حظيت قضية التنمية باهتمام المغرب منذ الاستقلال، حيث شكلت أحد التحديات التي عمل على إنجاحها بهدف تحقيق الأمن والاستقرار في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع من جهة، ومواكبة الركب الاقتصادي والعالمي من جهة أخرى (1 ).
ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين التنمية والاستثمار، فعن طريق هذا الأخير يتم الاستخدام الأمثل للموارد المالية المتاحة وتدبير الندرة الاقتصادية والمالية، وتوسيع القاعدة المادية للإنتاج والاقتصاد الوطني بغية مضاعفة الفوائض الاقتصادية المالية، وتوفير مستويات عيش أفضل للمواطن تفي باحتياجاته المادية والثقافية وتقضي على الفقر والهشاشة في المجتمع. لذلك كان من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الدوافع الاجتماعية والسياسية إلى جانب الدوافع الاقتصادية. وكان لزاما على الدولة أن تنهج سياسة تهدف إلى تخصيص موارد لصالح قطاعات حيوية مدرة ومنتجة تنهض بالجانب الاجتماعي من جهة وتنشط الاقتصاد من جهة أخرى.
وهذا بطبيعة الحال لن يتأتى إلا بتوفير المناخ الملائم والسليم للعملية الاستثمارية، فنجاح أي دولة في جذب الاستثمارات يعتمد على عوامل أساسية متناسقة ومنسجمة بعضها ببعض، كتوفير البنية التحتية الملائمة، والمؤسسات المتخصصة، والتشريعات والموارد البشرية الكفأة والمؤهلة، إضافة إلى تحسين الإدارة وأجهزتها وأساليبها باعتبارها الأداة الرئيسية المكلفة بتنفيذ السياسة العامة للدولة في مجال استقطاب وجذب الاستثمارات.
الدوافع السوسيو اقتصادية للاستثمار
يشكل الاستثمار إحدى الآليات الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو إحدى الأدوات الناجعة والفعالة لكل الاقتصاديات التي تضمن الاستمرارية والمنافسة في ظل المتغيرات التي يعرفها الاقتصاد العالمي. ونظرا لأهميته سارعت كل الدول بما فيها المغرب إلى إدخال إصلاحات جذرية على أنظمته واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لإنعاش الاستثمار وتهيئ المناخ الملائم لجلبه( 2).
إن موضوع الاستثمار يرتبط بمجموعة من الخلفيات إذ لا يمكن النظر إليه من زاوية اقتصادية ومالية محضة، بل لابد من الأخذ بعين الاعتبار الجوانب السياسية والاجتماعية، فالتكامل والتنسيق بين هذه العوامل يمكن أن يساهم في تنمية عملية مستديمة.
والاستثمار في هذا النطاق يهدف إلى وضع سياسة تخصص الموارد لصالح قطاعات منتجة تهتم بشروط العمل والأجور، من خلال إتباع إستراتيجية قصيرة المدى لتحريك وتنشيط الاقتصاد، أو تفعيل التنمية من خلال رفع مستوى وحجم الاستثمارات. وبالتالي فإن الدولة هي التي تملك المبادرة في مجال التنمية بل تعتبر أساس منطلق أية عملية تنموية. وبناءا على ما سبق سوف نهتم بالوضعية الاقتصادية للاستثمار في فرع أول، على أن نخصص الثاني لدراسة الخلفية الاجتماعية والسياسية.
أولا : الخلفية الاقتصادية للاستثمار.
إن الأهمية الاقتصادية التي يلعبها القطاع الخاص في مجال الاستثمار والذي تدعمه الدولة في بعض القطاعات الاقتصادية، يتجلى أساسا في كون مناخ الاستثمار بالمغرب قد عرف تحسنا ملحوظا خلال العشر سنوات الأخيرة بفضل الإصلاحات الاقتصادية والمالية. إلا أنه لازال يصطدم وبشكل قوي بالعراقيل الإدارية المسطرية والإجرائية من جهة ومن جهة ثانية تعدد الهيئات المتدخلة في عملية الاستثمار .
تعتبر الإدارة المغربية محددا أساسيا لاتخاذ قرار الاستثمار، ومحورا أساسيا لكل عملية تنموية. غير أن الإدارة المغربية ومن خلال نمط اشتغالها وأسلوب تنظيمها عبرت عن تناقض كبير مع متطلبات تشجيع الاستثمار الخاص. و شكلت عائقا أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحاجزا أمام المستثمرين الخواص بالرغم من كونهم يشكلون طرفا أساسيا في النسيج الاقتصادي والإداري، بل شركاء أساسيين للدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن الأهمية الاقتصادية لدور الدولة والمجهودات المبذولة من طرفها والهادفة إلى إنعاش الاستثمار وتبسيط السياسة تفتقد إلى عامل أساسي لإنجاحها، ويتعلق الأمر بمرونة الأداء الإداري وإصلاح الإدارة في شموليتها.
فالدولة تطالب بوضع إطار عام وبرنامج منسق للتنمية يولي الأولوية للاستثمارات، وتعتبر الاستثمار منشطا أساسيا لتحريك عجلة الاقتصاد بل وتشجيع المبادرة الخاصة، وتسهيل تأسيس بنية اجتماعية تسير المبادرات الخاصة، وتبذل مجهوداتها لتوجيه الطاقات والإمكانات نحو القطاعات المنتجة اقتصاديا لتفادي المضاربة الغير القانونية، وتحسين مستويات الادخار، مع الحفاظ على الاستقرار المالي "النقدي" وإعادة توزيعه بشكل يضمن للدولة الاستمرار في القيام باستثمارات مهمة(3).
إن تدخل الدولة في مجال الاستثمار من خلال النفقات العمومية الخاصة قد أكد تراجعا ملحوضا منذ سنة 1998، حيث بلغت نسبة الاستثمارات العمومية تشكل 31.5% غير أنها تقلصت سنة 2001 لتصل إلى 12.9%(4). ورغم قيام الدولة بتوسيع مجالات الاستثمار الخاص بنوعيه في السنوات الأخيرة، إلا أنها ظلت محدودة بسبب حاجتها إلى الاستثمارات العمومية على مستوى البنيات التحتية. أي أن التقليص من مستوى الاستثمار في الميزانية العامة سيؤخر عملية التنمية. كما انه لا يجب على الدولة استغلال الاستثمارات العمومية كأداة للضغط على المستويات الاقتصادية والاجتماعية كما هو الحال في مخطط التنمية 2000 ـ 2004، بحيث اتجهت الدولة نحو التخفيض من حجم الاستثمارات بتطبيق سياسة ليبرالية تحد من تدخلها في القطاعات الإنتاجية، في حين أن المرحلة الراهنة تتطلب الموازنة بين الاستثمارات العمومية والاستثمارات الخاصة.
ومن ثم فإن السياق العام المتمثل في المجهودات المبذولة من طرف الدولة الهادفة إلى إنعاش الاستثمار وتبسيط السياسة، يتضح لنا من خلال الرسالة الملكية السامية لصاحب الجلالة محمد السادس(5) الموجهة إلى الوزير الأول حول موضوع التدبير اللامتمركز للإستثمار والتي تضمنت مجموعة من التدابير أهمها تبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية المتعلقة بالعملية الاستثمارية أمام المستثمرين، حيث يوضع رهن إشارتهم المسؤول الوحيد والمخاطب الوحيد والوثيقة الموحدة .
ووعيا بالأهمية الاقتصادية للاستثمار ، فقد عمل المغرب على تحسين المناخ الاستثماري في المملكة بفعل إصلاحات اقتصادية مهمة، وترسانة قانونية جديدة. هدفها تشجيع الشركاء الاقتصاديين للاستثمار ببلادنا، وتوفير الظروف الملائمة لهم، والتخفيف من حدة العراقيل التي قد يواجهونها.
وانطلاقا مما سبق يتبين الدور الرائد والطلائعي للاستثمار في تأهيل الاقتصاد الوطني وإنعاش المقاولات الصغرى والمتوسطة ، فالمغرب يتوفر على كل الطاقات والمؤهلات البشرية والإمكانيات المادية والإدارية الهادفة إلى تحسين مستويات الانتاج والمردودية ببلادنا.
ثانيا : الدافع الاجتماعي للاستثمار:
يلعب الاستثمار دورا طلائعيا في تحقيق التنمية الاجتماعية، والمتمثل أساسا في خلق فرص الشغل وإحداث المرافق الأساسية التي ستستفيد منها مختلف الفئات الاجتماعية بالمغرب، فحسب الإحصاءات الأخيرة لسنة 2004 ـ 2005، حددت نسبة الساكنة في المغرب ب 23 مليون نسمة نصفهم يستقرون في المدن الكبرى، وأكدت على أن عدد الساكنة النشيطة لا يتعدى 10 ملايين نسمة، أي أن الهرم السكاني المغربي متسع القاعدة خاصة الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، والذين يشكلون 7% من عدد سكان المغرب، يقابله تزايد مستوى الطلب على العمل والخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن.
ونظرا لدور الاستثمارات في النهوض بالمستوى الاجتماعي ببلادنا ، فقد منح المغرب عناية خاصة لتطوير المجال الصناعي ليعرف نموا كميا ونوعيا على مختلف المستويات الاستثمارية، الإنتاج، والتصدير، والتشغيل، والتسيير، والشراكة الدولية. بحيث انتقلت حصة القطاع الصناعي من 10% إلى 18% سنة 2002 وأصبح القطاع يصدر 25% من إنتاجه، ويشغل ما يزيد عن نصف مليون من اليد العاملة. أما بالنسبة للصناعات المعدنية والميكانيكية فإنها تشغل 49 ألف عامل أي 10% من اليد العاملة(6).
وهكذا يبدو واضحا أن القطاع الصناعي يمتص عددا كبيرا من اليد العاملة، ويساهم في رفع دخل فئات عريضة من المجتمع الشيء الذي سينعكس بشكل إيجابي على تطور الفئات الاجتماعية وتحسين مستويات عيشها.
لقد شكلت الإرادة الملكية السامية لصاحب الجلالة نصره الله إرادة سياسية حقيقية للتغيير والدفع بالعملية الاستثمارية إلى الأمام، والدخول في عملية الإنجازات الحقيقية على أرض الواقع. لكن هذه الإرادة السياسية تبقى محدودة نسبيا لأن الرفع من المستوى المعيشي لساكنة المغرب والحد من ارتفاع نسبة البطالة والفقر، يتطلب أيضا تكاثف جهود كل الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين والثقافيين والجمعويين، والتركيز على الرأسمال الإنساني، وتخصيص حيز كبير من الاستثمارات العمومية والخاصة للميدان الاجتماعي(7). وذلك باعتماد مشاريع كبرى وإعطاء الأفضلية والأولوية للمشاريع الاجتماعية. لأن التقليص من الاستثمارات الاجتماعية سيكون له انعكاس سلبي على استقرار المجتمع، وسيصعب معه مواجهة التراكمات الناتجة عن تهميش هذه البنيات وإقصائها.
وإلى جانب الدافع الاقتصادي والاجتماعي، هناك دافع آخر سياسي لا يخلو أهمية عن سابقيه من الدوافع.
ثالثا: الدافع السياسي :
لقد طبع المناخ الخاص بالاستثمار بالمغرب بخاصية التغيير والتحول، وذلك
في إطار تحسين وتطوير البيئة الاستثمارية بمختلف أنواعها. مما يجعل منها بيئة صالحة ومحفزة للاستثماربشكل عام وأرضية مشجعة لصاحب قرار الاستثمار.
فالمغرب مثله مثل العديد من بلدان الدول العربية واجه منذ أوائل الثمانينات مشاكل وصعوبات اقتصادية كبيرة، كان لابد من التكيف معها لتطبيق ما عرف بالتقويم الهيكلي والإصلاح الاقتصادي. حيث تم التركيز على توفير الظروف الملائمة باتخاذ إجراءات تهدف إلى تحرير النشاط الاقتصادي، وتبني آليات السوق وتشجيع القطاع الخاص ليقوم بالدور الأساسي في الإنتاج والتصدير(8).
لقد برزت سياسة الإصلاح الاقتصادي بشكل قوي منذ سنة 1983، فسعت إلى تحسين الوضع المالي، وتقليص عجز الميزانية والقيام بالاصلاحات الضريبية، وترشيد الإنفاق، ونهج سياسة نقدية تهدف إلى تشجيع الادخار والتحكم في التضخم ومعدلات نمو السيولة، وإتباع سياسة مرنة وواقعية لسعر الصرف وإجراء تحليل واسع للأسعار، وتحرير النظام التجاري، وتبسيط نظم الاستيراد، وتخفيف معدلات الحماية الجمركية(9) .
كما شمل الإصلاح نهج سياسة الخوصصة سعيا لتقليص دور الدولة المباشر في النشاط الإنتاجي، وقد نتج عن هذه السياسة ارتفاع مهم في نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب، وانخفاض نسبة المديونية الخارجية. وحقق الاقتصاد المغربي نموا في الناتج الداخلي الخام، بالرغم من تقلبات الإنتاج الزراعي المرتبط بالظروف المناخية. كما سجل انخفاضا في عجز الميزانية سنة 1995 و 1996 وانخفاضا في نسبة التضخم، وتقدما ملموسا في مجال الاستثمار حيث ارتفعت القروض الموجهة للاستثمار بنسبة 18.4% خلال 1996.
وفي إطار تنشيط الاقتصاد الوطني وتأهيل المقاولة الوطنية، عملت الحكومة كذلك على اتخاذ تدابير ووضع برامج هدفها الرفع من النمو الاقتصادي، والتقليص من الدين الخارجي وتحويل مجموعة من الديون إلى استثمارات، كما تم عقد مجموعة من الاتفاقيات والبروتوكولات الاقتصادية مع مجموعة من الدول العربية والأوروبية والأسيوية.
وفي الآونة الأخيرة التي تميزت باتساع المجال الديمقراطي المتمثل
في اللامركزية، وبروز نشاط سياسي أكثر اتساعا في مجالات جديدة، كحماية البيئة وعولمة الاقتصاد، تطورت التقنيات وعناصر التكنولوجيا الجديدة المتمثلة في مجال الاتصالات والمعلوميات.
كل هذه العوامل أبانت عن أهمية إعطاء الحرية للمبادرة الخاصة التي قد تساعد الدولة على إيجاد الحلول لمشاكل الأفراد والجماعات، والمساهمة
في انتقال الدولة من المستوى المركزي إلى مستوى اللامركزية. وهنا يمكن القول أن الاستثمار في بعده السياسي يشكل بالنسبة للدولة مجالا خصبا لتكريس حضورها، ومراقبة كل القطاعات وضمان الاستقرار من خلال توفير المتطلبات، وتجديد دورها كما وكيفا لتقوم بمهام التنسيق والتأطير والتقويم وبالتالي تحسين فعالية النسيج الاقتصادي ككل(10).
إن هذا التوجه إذن لا يهم الدولة فحسب، بل يخص القطاع الخاص الذي يعتبر معنيا أيضا وبقوة لخدمة التطور المادي للمجتمع، فأي تراجع للدولة عن دورها الاستثماري والتقليص من الاستثمارات العمومية في الميزانية، قد يتعارض مع الاختيارات السياسية والاقتصادية. فمتطلبات التنمية المستديمة تتطلب تطوير وتيرة الاستثمارات العمومية التي تجسد توجهات الدولة واختياراتها السياسية.
المراجع المعتمدة :
1. عبدالواحد مبعوث: التنمية الجهوية بين عدم التركيز الإداري واللامركزية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. أكدال. الرباط. 1999-2000. ص:6.
2. عبدالحميد شقرون: تشجيع الاستثمار الخاص بالمغرب وإشكالية تعقد المساطر والإجراءات الإدارية. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة. كلية الحقوق الدارالبيضاء 2001-2000. ص:5.
3. محمد أهاروش: من التدبير الممركز إلى التدبير اللامتمركز للاستثمارات ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة محمد الخامس، أكدال، الرباط، 2002 ـ 2003، ص : 29-30
4. جامعة غرف التجارة والصناعة بالمغرب: " الاقتصاد المغربي، أفكار ومقترحات للإقلاع" يونيو 1995، ص :53.
5. أنظر موضوع الرسالة الملكية السامية في جريدة العلم، عدد 18414 بتاريخ أكتوبر 2000، ص: 4 وأنظر كذلك خطاب 9 يناير 2002 الموجه إلى الوزير الأول في موضوع التدبير اللامتمركز للاستثمار
6. التقرير العام الصادر عن مديرية الإحصاء 2005.
7. د.عبد الله حداد: "صفقات الأشغال العمومية ودورها في التنمية "، منشورات عكاظ، الرباط 2000،ص: 276.
8. د. عبد الله حداد: "صفقات الأشغال العمومية ...مرجع سابق، ص: 276.
9. جامعة غرف التجارة والصناعة بالمغرب "الاقتصاد المغربي، أفكار ومقترحات للإقلاع "، يونيو 1995،ص 31.
10. إدريس جطو: "عولمة الاقتصاد والاندماج الجهوي وإعادة الهيكلة بالمغرب العربي"، الأيام الدراسية التي نظمتها جمعية الاقتصاديين المغاربة، الرباط، 30 سبتمبر 1995.
حظيت قضية التنمية باهتمام المغرب منذ الاستقلال، حيث شكلت أحد التحديات التي عمل على إنجاحها بهدف تحقيق الأمن والاستقرار في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع من جهة، ومواكبة الركب الاقتصادي والعالمي من جهة أخرى (1 ).
ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين التنمية والاستثمار، فعن طريق هذا الأخير يتم الاستخدام الأمثل للموارد المالية المتاحة وتدبير الندرة الاقتصادية والمالية، وتوسيع القاعدة المادية للإنتاج والاقتصاد الوطني بغية مضاعفة الفوائض الاقتصادية المالية، وتوفير مستويات عيش أفضل للمواطن تفي باحتياجاته المادية والثقافية وتقضي على الفقر والهشاشة في المجتمع. لذلك كان من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الدوافع الاجتماعية والسياسية إلى جانب الدوافع الاقتصادية. وكان لزاما على الدولة أن تنهج سياسة تهدف إلى تخصيص موارد لصالح قطاعات حيوية مدرة ومنتجة تنهض بالجانب الاجتماعي من جهة وتنشط الاقتصاد من جهة أخرى.
وهذا بطبيعة الحال لن يتأتى إلا بتوفير المناخ الملائم والسليم للعملية الاستثمارية، فنجاح أي دولة في جذب الاستثمارات يعتمد على عوامل أساسية متناسقة ومنسجمة بعضها ببعض، كتوفير البنية التحتية الملائمة، والمؤسسات المتخصصة، والتشريعات والموارد البشرية الكفأة والمؤهلة، إضافة إلى تحسين الإدارة وأجهزتها وأساليبها باعتبارها الأداة الرئيسية المكلفة بتنفيذ السياسة العامة للدولة في مجال استقطاب وجذب الاستثمارات.
الدوافع السوسيو اقتصادية للاستثمار
يشكل الاستثمار إحدى الآليات الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو إحدى الأدوات الناجعة والفعالة لكل الاقتصاديات التي تضمن الاستمرارية والمنافسة في ظل المتغيرات التي يعرفها الاقتصاد العالمي. ونظرا لأهميته سارعت كل الدول بما فيها المغرب إلى إدخال إصلاحات جذرية على أنظمته واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لإنعاش الاستثمار وتهيئ المناخ الملائم لجلبه( 2).
إن موضوع الاستثمار يرتبط بمجموعة من الخلفيات إذ لا يمكن النظر إليه من زاوية اقتصادية ومالية محضة، بل لابد من الأخذ بعين الاعتبار الجوانب السياسية والاجتماعية، فالتكامل والتنسيق بين هذه العوامل يمكن أن يساهم في تنمية عملية مستديمة.
والاستثمار في هذا النطاق يهدف إلى وضع سياسة تخصص الموارد لصالح قطاعات منتجة تهتم بشروط العمل والأجور، من خلال إتباع إستراتيجية قصيرة المدى لتحريك وتنشيط الاقتصاد، أو تفعيل التنمية من خلال رفع مستوى وحجم الاستثمارات. وبالتالي فإن الدولة هي التي تملك المبادرة في مجال التنمية بل تعتبر أساس منطلق أية عملية تنموية. وبناءا على ما سبق سوف نهتم بالوضعية الاقتصادية للاستثمار في فرع أول، على أن نخصص الثاني لدراسة الخلفية الاجتماعية والسياسية.
أولا : الخلفية الاقتصادية للاستثمار.
إن الأهمية الاقتصادية التي يلعبها القطاع الخاص في مجال الاستثمار والذي تدعمه الدولة في بعض القطاعات الاقتصادية، يتجلى أساسا في كون مناخ الاستثمار بالمغرب قد عرف تحسنا ملحوظا خلال العشر سنوات الأخيرة بفضل الإصلاحات الاقتصادية والمالية. إلا أنه لازال يصطدم وبشكل قوي بالعراقيل الإدارية المسطرية والإجرائية من جهة ومن جهة ثانية تعدد الهيئات المتدخلة في عملية الاستثمار .
تعتبر الإدارة المغربية محددا أساسيا لاتخاذ قرار الاستثمار، ومحورا أساسيا لكل عملية تنموية. غير أن الإدارة المغربية ومن خلال نمط اشتغالها وأسلوب تنظيمها عبرت عن تناقض كبير مع متطلبات تشجيع الاستثمار الخاص. و شكلت عائقا أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحاجزا أمام المستثمرين الخواص بالرغم من كونهم يشكلون طرفا أساسيا في النسيج الاقتصادي والإداري، بل شركاء أساسيين للدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن الأهمية الاقتصادية لدور الدولة والمجهودات المبذولة من طرفها والهادفة إلى إنعاش الاستثمار وتبسيط السياسة تفتقد إلى عامل أساسي لإنجاحها، ويتعلق الأمر بمرونة الأداء الإداري وإصلاح الإدارة في شموليتها.
فالدولة تطالب بوضع إطار عام وبرنامج منسق للتنمية يولي الأولوية للاستثمارات، وتعتبر الاستثمار منشطا أساسيا لتحريك عجلة الاقتصاد بل وتشجيع المبادرة الخاصة، وتسهيل تأسيس بنية اجتماعية تسير المبادرات الخاصة، وتبذل مجهوداتها لتوجيه الطاقات والإمكانات نحو القطاعات المنتجة اقتصاديا لتفادي المضاربة الغير القانونية، وتحسين مستويات الادخار، مع الحفاظ على الاستقرار المالي "النقدي" وإعادة توزيعه بشكل يضمن للدولة الاستمرار في القيام باستثمارات مهمة(3).
إن تدخل الدولة في مجال الاستثمار من خلال النفقات العمومية الخاصة قد أكد تراجعا ملحوضا منذ سنة 1998، حيث بلغت نسبة الاستثمارات العمومية تشكل 31.5% غير أنها تقلصت سنة 2001 لتصل إلى 12.9%(4). ورغم قيام الدولة بتوسيع مجالات الاستثمار الخاص بنوعيه في السنوات الأخيرة، إلا أنها ظلت محدودة بسبب حاجتها إلى الاستثمارات العمومية على مستوى البنيات التحتية. أي أن التقليص من مستوى الاستثمار في الميزانية العامة سيؤخر عملية التنمية. كما انه لا يجب على الدولة استغلال الاستثمارات العمومية كأداة للضغط على المستويات الاقتصادية والاجتماعية كما هو الحال في مخطط التنمية 2000 ـ 2004، بحيث اتجهت الدولة نحو التخفيض من حجم الاستثمارات بتطبيق سياسة ليبرالية تحد من تدخلها في القطاعات الإنتاجية، في حين أن المرحلة الراهنة تتطلب الموازنة بين الاستثمارات العمومية والاستثمارات الخاصة.
ومن ثم فإن السياق العام المتمثل في المجهودات المبذولة من طرف الدولة الهادفة إلى إنعاش الاستثمار وتبسيط السياسة، يتضح لنا من خلال الرسالة الملكية السامية لصاحب الجلالة محمد السادس(5) الموجهة إلى الوزير الأول حول موضوع التدبير اللامتمركز للإستثمار والتي تضمنت مجموعة من التدابير أهمها تبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية المتعلقة بالعملية الاستثمارية أمام المستثمرين، حيث يوضع رهن إشارتهم المسؤول الوحيد والمخاطب الوحيد والوثيقة الموحدة .
ووعيا بالأهمية الاقتصادية للاستثمار ، فقد عمل المغرب على تحسين المناخ الاستثماري في المملكة بفعل إصلاحات اقتصادية مهمة، وترسانة قانونية جديدة. هدفها تشجيع الشركاء الاقتصاديين للاستثمار ببلادنا، وتوفير الظروف الملائمة لهم، والتخفيف من حدة العراقيل التي قد يواجهونها.
وانطلاقا مما سبق يتبين الدور الرائد والطلائعي للاستثمار في تأهيل الاقتصاد الوطني وإنعاش المقاولات الصغرى والمتوسطة ، فالمغرب يتوفر على كل الطاقات والمؤهلات البشرية والإمكانيات المادية والإدارية الهادفة إلى تحسين مستويات الانتاج والمردودية ببلادنا.
ثانيا : الدافع الاجتماعي للاستثمار:
يلعب الاستثمار دورا طلائعيا في تحقيق التنمية الاجتماعية، والمتمثل أساسا في خلق فرص الشغل وإحداث المرافق الأساسية التي ستستفيد منها مختلف الفئات الاجتماعية بالمغرب، فحسب الإحصاءات الأخيرة لسنة 2004 ـ 2005، حددت نسبة الساكنة في المغرب ب 23 مليون نسمة نصفهم يستقرون في المدن الكبرى، وأكدت على أن عدد الساكنة النشيطة لا يتعدى 10 ملايين نسمة، أي أن الهرم السكاني المغربي متسع القاعدة خاصة الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، والذين يشكلون 7% من عدد سكان المغرب، يقابله تزايد مستوى الطلب على العمل والخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن.
ونظرا لدور الاستثمارات في النهوض بالمستوى الاجتماعي ببلادنا ، فقد منح المغرب عناية خاصة لتطوير المجال الصناعي ليعرف نموا كميا ونوعيا على مختلف المستويات الاستثمارية، الإنتاج، والتصدير، والتشغيل، والتسيير، والشراكة الدولية. بحيث انتقلت حصة القطاع الصناعي من 10% إلى 18% سنة 2002 وأصبح القطاع يصدر 25% من إنتاجه، ويشغل ما يزيد عن نصف مليون من اليد العاملة. أما بالنسبة للصناعات المعدنية والميكانيكية فإنها تشغل 49 ألف عامل أي 10% من اليد العاملة(6).
وهكذا يبدو واضحا أن القطاع الصناعي يمتص عددا كبيرا من اليد العاملة، ويساهم في رفع دخل فئات عريضة من المجتمع الشيء الذي سينعكس بشكل إيجابي على تطور الفئات الاجتماعية وتحسين مستويات عيشها.
لقد شكلت الإرادة الملكية السامية لصاحب الجلالة نصره الله إرادة سياسية حقيقية للتغيير والدفع بالعملية الاستثمارية إلى الأمام، والدخول في عملية الإنجازات الحقيقية على أرض الواقع. لكن هذه الإرادة السياسية تبقى محدودة نسبيا لأن الرفع من المستوى المعيشي لساكنة المغرب والحد من ارتفاع نسبة البطالة والفقر، يتطلب أيضا تكاثف جهود كل الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين والثقافيين والجمعويين، والتركيز على الرأسمال الإنساني، وتخصيص حيز كبير من الاستثمارات العمومية والخاصة للميدان الاجتماعي(7). وذلك باعتماد مشاريع كبرى وإعطاء الأفضلية والأولوية للمشاريع الاجتماعية. لأن التقليص من الاستثمارات الاجتماعية سيكون له انعكاس سلبي على استقرار المجتمع، وسيصعب معه مواجهة التراكمات الناتجة عن تهميش هذه البنيات وإقصائها.
وإلى جانب الدافع الاقتصادي والاجتماعي، هناك دافع آخر سياسي لا يخلو أهمية عن سابقيه من الدوافع.
ثالثا: الدافع السياسي :
لقد طبع المناخ الخاص بالاستثمار بالمغرب بخاصية التغيير والتحول، وذلك
في إطار تحسين وتطوير البيئة الاستثمارية بمختلف أنواعها. مما يجعل منها بيئة صالحة ومحفزة للاستثماربشكل عام وأرضية مشجعة لصاحب قرار الاستثمار.
فالمغرب مثله مثل العديد من بلدان الدول العربية واجه منذ أوائل الثمانينات مشاكل وصعوبات اقتصادية كبيرة، كان لابد من التكيف معها لتطبيق ما عرف بالتقويم الهيكلي والإصلاح الاقتصادي. حيث تم التركيز على توفير الظروف الملائمة باتخاذ إجراءات تهدف إلى تحرير النشاط الاقتصادي، وتبني آليات السوق وتشجيع القطاع الخاص ليقوم بالدور الأساسي في الإنتاج والتصدير(8).
لقد برزت سياسة الإصلاح الاقتصادي بشكل قوي منذ سنة 1983، فسعت إلى تحسين الوضع المالي، وتقليص عجز الميزانية والقيام بالاصلاحات الضريبية، وترشيد الإنفاق، ونهج سياسة نقدية تهدف إلى تشجيع الادخار والتحكم في التضخم ومعدلات نمو السيولة، وإتباع سياسة مرنة وواقعية لسعر الصرف وإجراء تحليل واسع للأسعار، وتحرير النظام التجاري، وتبسيط نظم الاستيراد، وتخفيف معدلات الحماية الجمركية(9) .
كما شمل الإصلاح نهج سياسة الخوصصة سعيا لتقليص دور الدولة المباشر في النشاط الإنتاجي، وقد نتج عن هذه السياسة ارتفاع مهم في نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب، وانخفاض نسبة المديونية الخارجية. وحقق الاقتصاد المغربي نموا في الناتج الداخلي الخام، بالرغم من تقلبات الإنتاج الزراعي المرتبط بالظروف المناخية. كما سجل انخفاضا في عجز الميزانية سنة 1995 و 1996 وانخفاضا في نسبة التضخم، وتقدما ملموسا في مجال الاستثمار حيث ارتفعت القروض الموجهة للاستثمار بنسبة 18.4% خلال 1996.
وفي إطار تنشيط الاقتصاد الوطني وتأهيل المقاولة الوطنية، عملت الحكومة كذلك على اتخاذ تدابير ووضع برامج هدفها الرفع من النمو الاقتصادي، والتقليص من الدين الخارجي وتحويل مجموعة من الديون إلى استثمارات، كما تم عقد مجموعة من الاتفاقيات والبروتوكولات الاقتصادية مع مجموعة من الدول العربية والأوروبية والأسيوية.
وفي الآونة الأخيرة التي تميزت باتساع المجال الديمقراطي المتمثل
في اللامركزية، وبروز نشاط سياسي أكثر اتساعا في مجالات جديدة، كحماية البيئة وعولمة الاقتصاد، تطورت التقنيات وعناصر التكنولوجيا الجديدة المتمثلة في مجال الاتصالات والمعلوميات.
كل هذه العوامل أبانت عن أهمية إعطاء الحرية للمبادرة الخاصة التي قد تساعد الدولة على إيجاد الحلول لمشاكل الأفراد والجماعات، والمساهمة
في انتقال الدولة من المستوى المركزي إلى مستوى اللامركزية. وهنا يمكن القول أن الاستثمار في بعده السياسي يشكل بالنسبة للدولة مجالا خصبا لتكريس حضورها، ومراقبة كل القطاعات وضمان الاستقرار من خلال توفير المتطلبات، وتجديد دورها كما وكيفا لتقوم بمهام التنسيق والتأطير والتقويم وبالتالي تحسين فعالية النسيج الاقتصادي ككل(10).
إن هذا التوجه إذن لا يهم الدولة فحسب، بل يخص القطاع الخاص الذي يعتبر معنيا أيضا وبقوة لخدمة التطور المادي للمجتمع، فأي تراجع للدولة عن دورها الاستثماري والتقليص من الاستثمارات العمومية في الميزانية، قد يتعارض مع الاختيارات السياسية والاقتصادية. فمتطلبات التنمية المستديمة تتطلب تطوير وتيرة الاستثمارات العمومية التي تجسد توجهات الدولة واختياراتها السياسية.
المراجع المعتمدة :
1. عبدالواحد مبعوث: التنمية الجهوية بين عدم التركيز الإداري واللامركزية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. أكدال. الرباط. 1999-2000. ص:6.
2. عبدالحميد شقرون: تشجيع الاستثمار الخاص بالمغرب وإشكالية تعقد المساطر والإجراءات الإدارية. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة. كلية الحقوق الدارالبيضاء 2001-2000. ص:5.
3. محمد أهاروش: من التدبير الممركز إلى التدبير اللامتمركز للاستثمارات ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة محمد الخامس، أكدال، الرباط، 2002 ـ 2003، ص : 29-30
4. جامعة غرف التجارة والصناعة بالمغرب: " الاقتصاد المغربي، أفكار ومقترحات للإقلاع" يونيو 1995، ص :53.
5. أنظر موضوع الرسالة الملكية السامية في جريدة العلم، عدد 18414 بتاريخ أكتوبر 2000، ص: 4 وأنظر كذلك خطاب 9 يناير 2002 الموجه إلى الوزير الأول في موضوع التدبير اللامتمركز للاستثمار
6. التقرير العام الصادر عن مديرية الإحصاء 2005.
7. د.عبد الله حداد: "صفقات الأشغال العمومية ودورها في التنمية "، منشورات عكاظ، الرباط 2000،ص: 276.
8. د. عبد الله حداد: "صفقات الأشغال العمومية ...مرجع سابق، ص: 276.
9. جامعة غرف التجارة والصناعة بالمغرب "الاقتصاد المغربي، أفكار ومقترحات للإقلاع "، يونيو 1995،ص 31.
10. إدريس جطو: "عولمة الاقتصاد والاندماج الجهوي وإعادة الهيكلة بالمغرب العربي"، الأيام الدراسية التي نظمتها جمعية الاقتصاديين المغاربة، الرباط، 30 سبتمبر 1995.