لا قيمة لمبدأ المشروعية في الدولة ما لم يقترن بمبدأ آخر مضمونه احترام أحكام القضاء وضرورة تنفيذها، لأن الهدف المتوخى من اللجوء إلى القضاء يتجلى بالأساس في تنفيذ الأحكام الإدارية ، لكون الحماية القضائية لا تنعقد إلا بتمام هذا التنفيذ فلا قيمة للقانون بدون تنفيذ، ولا قيمة لأحكام القضاء بدون تنفيذها، وهذا ما ينطبق على المقولة التاريخية الشهيرة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي راسل بها قاضيه أبي موسى الأشعري " ... ، لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ به " .
وليس في القانون الإداري مسألة تفوق أهميتها كيفية إجبار الإدارة على الامتثال لسيادة القانون وخضوعها لمبدأ المشروعية مع احترام القرارات والأوامر والأحكام الصادرة عن القضاء الإداري .
فالأحكام الإدارية حينما تكتسب قوتها الإلزامية في مواجهة الإدارة، تصبح هذه الأخيرة ملزمة بالعمل على تنفيذها بسبب قوتها التنفيذية، خاصة أنه بدون تنفيذ تصير الأحكام عديمة الفعالية، لأن القاضي الإداري في هذه الحالة يصبح واقفا في منتصف الطريق ، فهو أشبه بمن قطع شجرة فاكتفى بقطع جذورها (عندما يصدر الحكم)، تاركا للرياح مهمة إسقاط الشجرة (من يسهر على تنفيذ الحكم ؟ ) .
وقد استند القضاء الإداري الفرنسي في تبنيه لمقولة " أن القاضي الإداري يحكم ولا يدير " ونحو تكريس "مبدأ حظر توجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة " ، إلى عدة أسباب ؛
- السبب الأول ؛ أن هدف الإدارة هو تحقيق الصالح العام , لذا لا ينبغي القضاء التدخل في شؤونها لأن ذلك من شأنه إعادة تحقيق هذا الهدف .
- السبب الثاني ؛ أن مبدأ الفصل بين السلطات في المفهوم الفرنسي ، كان يهدف إلى عدم تدخل المحاكم العادية في الشؤون الإدارية ، وعلى هذا الأساس سار القضاء .
وعليه ليس للقاضي الإداري سلطة التعديل أو الحلول لأنه '' يقضي ولا يدير ''، وقد تواترت أحكام القضاء الإداري في دعوى الإلغاء أو في دعوى القضاء الكامل ؛ ففي دعوى الإلغاء نجد أن أحكام مجلس الدولة الفرنسي استقرت على أنه لا يجوز للقاضي الإداري أن يتجاوز سلطته بتوجيه أوامر لجهة الإدارة بإصدار قرار إداري معين ، مثل منح ترخيص للمحكوم لصالحه ، أو إعادة موظف لعمله ، ويترتب على ذلك أنه ؛
1- لا يجوز لقاضي الإلغاء رسم الخطوط العامة للإدارة ، لأنه ذلك يدخل من السلطات والصلاحيات المطلقة الممنوحة للإدارة .
2- ليس لقاضي الإلغاء من الناحية القانونية إلا إلغاء القرارات الإدارية للتجاوز في استعمال السلطة لعدم مشروعيتها ، دون أن يأمرها أو يوجهها للقيام بعمل معين .
3- جرى العمل في قضاء مجلس الدولة الفرنسي ، على أنه لا يستطيع الاستعانة بوسيلة الغرامة التهديدية لإجبار الإدارة على القيام بعمل أو الامتناع عنه ، الشيء الذي جعل الاجتهاد القضائي الإداري يضع حدا لهذا المبدأ في بعض المنازعات ، نظرا لطبيعتها ودور القاضي الإداري فيها .
وكذلك الحال في دعاوى القضاء الكامل فإنه ليس للقاضي أن يأمر الإدارة بأداء الحق أو التعويض المحكوم به لفائدة صاحبه ، إلا أنه يبقى هو الضامن للمشروعية في حالة انتهاكها من قبل الإدارة وهذا ما يجب المعاقبة عليه لأن الإدارة ليست شخصا عاديا ، لذلك من المهم أن البحث عن تقنيات تضمن التطبيق الحقيقي والفعال لسمو الدستور وضمان سيادة القانون ، فالإدارة أثناء مواجهتها لحكم أو قرار قضائي يجب أن تحترم مبدأ سلطة (قوة) الأمر المقضي به ، وبالتالي أي حكم قضائي نهائي صادر في مواجهة الإدارة يجب أن ينفذ ضمانا لهيبة القاضي الإداري ، لذلك يسود في المجتمع الديمقراطي مبدأ سيادة القانون ، وتكون أولوياته الأساسية حماية القضاء للمواطن .
فسلطة القاضي الإداري في ممارسته للرقابة على أعمال الإدارة وحثها على تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها ، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق التصرف القضائي الذي يرتكز بالأساس على تبيان القاضي الإداري صاحب الحق ومنحه إياه ، بمقتضى حكم قضائي ، ينبني على سلطة تقرير القاضي بالفصل في النزاع مع إضفاء الصبغة أو الطابع التنفيذي على هذا التقرير ، لأنه بدون تنفيذ لأحكام القضاء الإداري يفقد القضاء هيبته وتفقد الدولة مشروعيتها ، مما يبين لنا أن هذين العنصرين ( التقرير والتنفيذ ) لهما ارتباط وثيق ببعضهما البعض .
وإذا كان مبدأ الحظر المفروض على القاضي الإداري، يحتم عليه عدم جواز توجيهه أوامر للإدارة وإجبارها على القيام بعمل أو الامتناع عنه، سواء تعلق الأمر بدعوى الإلغاء أو بدعاوى القضاء الكامل-الشامل.
ففي دعوى الإلغاء يبقى قاضي الإلغاء رهين ومقتصر على حد الحكم في الدعوى، إما برفض طلب إلغاء القرار الإداري المتجاوز في استعمال السلطة لكونه صدر مشروعا وغير متسم بأحد عيوب المشروعية - الداخلية أو الخارجية -، وإما الحكم بإلغاء القرار الإداري إذا كان مشوب بأحد عيوب الشرعية ، مما يبين لنا أن سلطة قاضي الإلغاء تنحصر في الإلغاء فقط دون ترتيب الآثار القانونية من خلال توجيه قاضي الإلغاء أوامر للإدارة .
بينما في دعوى القضاء الكامل نجد أن دوره يقتصر فقط في الحكم بالتعويض لفائدة (المدعى) الشخص المتضرر ، كما يحدد مدى مشروعية تصرف الإدارة ، ولا تبقى له أي سلطة في إلزام الجهة الإدارية في حكمه بأداء التعويض المحكوم به أو تحديد طريقة تنفيذ هذا الحكم عن طريق توجيه أوامر للإدارة .
وحيث أنه طبقا للمبدأ التقليدي الذي ساد منذ زمن طويل بفرنسا و مصر والجزائر، والذي يحظر على القاضي الإداري توجيه أوامر صريحة للإدارة ، لكون أن وظيفة ومهمة القاضي الإداري تقتصر في ممارسته لوظيفته القضائية وليس الإدارية والتي تتمثل في إنزال وتطبيق حكم القانون ، ولا يجوز له الخروج على نطاق اختصاصاته والاعتداء على اختصاص جهة إدارية ما ، لأن القاضي الإداري ليس رجل إدارة وليس رئيسا تسلسليا لها .
وفي نفس السياق لا بد من الإشارة على أن مبدأ الحظر نشأ من خلال الخلفية التاريخية التي شهدتها فرنسا والتي مهدت إلى إنشاء القضاء الإداري الفرنسي ، ففي فترة قبل قيام الثورة الفرنسية كانت فرنسا تتميز بنظام قضائي موحد ، على اعتبار أن المحاكم البرلمانية هي الجهة المخول لها البث في المنازعات المتعلقة بنشاطات الإدارة ، إلا أن الأمر لم يظل طويلا حتى قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 والتي أطاحت بالنظام القديم وأنشأت محاكم جديدة بدل المحاكم البرلمانية، نتيجة خوف رجال الثورة من تدخل القضاء في شؤون الإدارة ، وكان هدفهم الأسمى هو الحد وتقييد سلطات القاضي الإداري ومنعه من كل تدخل أو عرقلة لعمل الإدارة ، وهذا ما تم تكريسه بصدور مجموعة من النصوص التشريعية .
وهذا الاحتدام أدى إلى بروز فكرة ''الفصل بين الهيئات الإدارية والقضائية'' ، وحقيقة هذه الفكرة ما هو إلا نتيجة التفسير الثوري والخاطئ لمبدأ الفصل بين السلطات .
كما لا يفوتنا أن نبرز دور الفقه الإداري الفرنسي والمصري على الخصوص، حيث انقسم الفقهاء بين مؤيدين لمبدأ الحظر هذا المفروض على القاضي الإداري ومنهم (لافريير la ferrière– دولوبادرAndrés de laubadere – فيدييل Videl – سليمان الطماوي ... ) ، و فقهاء معارضين لهذا المبدأ منهم (الأستاذ جيز jéze – ريني شابي يس Rêne chapus... ).
وقد أبان مجلس الدولة الفرنسي في بداياته عن رفضه الصريح بتوجيه القاضي الإداري أوامر للإدارة كاستخدام التهديد المالي اتجاه هذه الأخيرة ، حيث اعتبره اعتداء على جهة الإدارة ، فضلا عن ذلك فهو ينهج سياسة حذرة في تطبيقه لهذا المبدأ، ويعلن أنه لا يختص بتوجيه أوامر للإدارة دون أن يسبغ أو يضفي أي قيمة قانونية أو دستورية.
بينما القضاء الإداري المصري والذي سار على نفس منوال القضاء الإداري الفرنسي إلا أنه اختلف من حيث إضفاء القيمة القانونية والدستورية على مبدأ الحظر ، وهذا ما اعتبر في الحقيقة حدا لسلطة الاجتهاد الإبداع الذي يتميز بها القاضي الإداري في توجيهه أوامر للإدارة من أجل إجبارها على تنفيذ الأحكام الإدارية أو ترتيب الآثار القانونية لحكمه القضائي ، الشيء الذي يجعل أحكامه مفروغة من قيمتها و غير فعالة لأنه لا قضاء بدون تنفيذ .
أما القضاء الإداري المغربي والجزائري فالأمر مغاير نوعا ما على اعتبار أن المشرع الجزائري كان ينهج نفس منوال القضاء الإداري الفرنسي والمصري إلا أنه تدخل بمقتضى نصوص صريحة وهذا ما جعل النظام الجزائري يتميز بطابع خاص مقارنة بباقي الأنظمة الأخرى ، بحيث أنه منح للقاضي الإداري سلاحا فعالا يسمح له ببلورة اجتهاده ويمكنه من توجيه أوامر صريحة للإدارة من خلال قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08-09 الصادر بتاريخ 25 يناير 2008 في مواده من 978 إلى 989 ، وقد حدد هذا القانون، أنه بإمكان القاضي الإداري توجيه أوامر لجهة الإدارة في مجموعة من الحالات الاستثنائية والتي سبق وأن رأيناها .
أما بالنسبة للمغرب ، فلم يظهر هذا المبدأ إلا بمجيء سلطات الحماية الفرنسية سنة 1912 ، لكون أن النظام المغربي كان قائما بالأساس على قواعد الشريعة الإسلامية جعل من السلطان النواة والمرجع الذي تستمد منه الإدارة وبالتالي إصدار القضاة لأي أحكام تدين الإدارة المغربية يعني بشكل غير مباشر إدانة السلطان لأن هذا الأخير هو الإدارة نفسها ، إلا أنه ليس هناك أي أسانيد قانونية لهذا المبدأ في التشريع المغربي الذي لم ينص على قانون ينظم موضوع سلطة القاضي الإداري في توجيه أوامر للإدارة أو استخدام أسلوب التهديد المالي ضد الإدارة لإجبارها على تنفيذ الأحكام الإدارية ، إلا أن هناك كاستثناء بعض النصوص القانونية التي تحظر على القضاء عرقلة عمل الإدارة والتدخل في شؤونها ، وذلك من خلال صدور ظهير التنظيم القضائي لسنة 1913 انطلاقا من فصله 8 الذي يحظر على المحاكم ويحرمها من أي تدخل في شؤون الإدارة ومراقبتها ، إلى أن هذا الفصل تم تعديله بعد صدور قانون المسطرة المدنية سنة 1974 ، بمقتضى المادة 25 من قانون المسطرة المدنية ، والمواد التي جرمت تدخل السلطة الإدارية في مجال السلطة القضائية من 237 و 238 و 239 من القانون الجنائي المغربي .
وبالتالي يظل مبدأ الفصل بين السلطات القضائية والإدارية وجهان متلازمان فمن جهة يعني استقلال القاضي عن الإدارة، ومن جهة ثانية ، تعني استقلال الإدارة عن القضاء .
--------------------------------------------------------------
المراجع المعتمدة ( العامة والمتخصصة ) : باللغة العربية :
' مبدأ حظر توجيه أوامر للإدارة والحلول محلها وتطوراته الحديثة ''، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000 يسرى محمد العصار 2
" ضمانات تنفيذ الأحكام القضائية ضد الإدارة العامة " , دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع , الطبعة 2010 , الجزائر . عبد القادر عدو 3
'' الإلغاء الجزئي للقرارات الإدارية – دراسة تحليلية ونقدية لأحكام القضاء الإداري في فرنسا ومصر '' ، كلية الحقوق جامعة أسيوط ، دار النهضة العربية ، مصر 1996. وهيب عياد سلامة 4
"الغرامة التهديدية في التشريع المغربي بين النظري والعملي" ، الطبعة الأولى 2010، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2010 . محمادي لمعكشاوي 5
"الغرامة التهديدية وتصفيتها في ضوء اجتهادات المحاكم القضائية والإدارية " ، مطبعة دار القلم للنشر والتوزيع، ط 3، 2002 . محمد محجوبي 6
'' إشكالية تنفيذ الأحكام الإدارية بالمغرب - دراسة تطبيقية "، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ، سلسلة مواضيع الساعة عدد 171 . أحمد الصايغ 7
'' الغرامة التهديدية كوسيلة لتنفيذ الأحكام القضائية الإدارية '' ، دراسة نظرية وتطبيقية ، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ، عدد 55 ، الطبعة الأولى ، 2004 أحمد الصايغ 8
" الإدارة و تنفيذ أحكام القضاء " ، في المحاكم الإدارية والقانون الإداري ، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية ، سلسلة مواضيع الساعة ، عدد 1 ، الرباط إبراهيم الزعيم الماسي 9
" التعدي"، ملتقى قضاء الغرف الإدارية، عدد خاص، الديوان الوطني للأشغال التربوية، الجزائر، 1992 فريدة أبركان 10
الجفال إدريس : " نظرية الاعتداء المادي في القانون المغربي والمقارن"، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال، الرباط، 998ا .
باللغة الفرنسية :
- René Chapus :‘’ droit du contentieux administratif . 9eme Edition . montrestien . paris . 2001
- Gustave peiser : ‘’ contentieux administratif . 11 Edition ,Dalloz . paris . 1999 .
- André de Laubadére : ‘’ droit administratif ‘’, 16 édition , librairie générale de droit et de jurisprudence , paris , 1999 ,