منذ استقلال ليبيا سنة 1951، لم يعرف نظامها القضائي انتخاب أعضاء في المجلس الأعلى للقضاء. وكان التعيين أو ما يسميه الفقه بالعضوية الاستحقاقية والتي تكون بسبب المنصب القضائي هي الطريقة الوحيدة لدخول المجلس[1].وقد تم تعديل هذا النظام بموجب القانون رقم 14 لسنة 2013 الخاص بتعديل قانون نظام القضاء، حيث أنه أقر الانتخابات كآلية لولوج أعضائه إلى المجلس[2].كما أن القانون ذاته فوض المجلس الأعلى للقضاء باتخاذ الآلية المناسبة لتسيير العملية الانتخابية.وبالفعل، إنتخب أول مجلس فور صدور القانون لثلاث سنوات واستمرت ولايته حتى شهر مايو 2016. وتمهيداً لانتخاب أعضاء جدد قبل انتهاء ولاية أعضائه، عمد المجلس إلى تشكيل اللجان المشرفة وإصدار القرارات المنظمة للانتخابات، كما نجح في إجرائها فعليا وعلى مراحل في فترة أبريل- مايو 2016 رغم رداءة الظروف على مستوى البلاد. وسنحاول هنا إجراء تقييم للعملية الانتخابية من عدة زوايا سواء بالتقييم الفني لها من الناحية الموضوعية والإجرائية أو تحليل أبرز إيجابياتها وانعكاساتها على المشهد العام في بلاد تمرّ بمرحلة انتقالية متعثرة.
تقييم موضوعي وإجرائي:
تأثر القضاء إجمالا بحالة عدم الاستقرار والانفلات الأمني التي تعاني منها البلاد والتي نتج عنها الاعتداء على بعض المؤسسات القضائية واغتيال قضاة. وقد ترتّب على ذلك إغلاق بعض المحاكم والنيابات العامة مما أثر على انسيابية وفعالية عمل السلطة القضائية[3]. وعلى خلفية هذه الأحداث وتداعياتها، اعترض بعض أعضاء الهيئات القضائية على إقامة الانتخابات في هذا التوقيت الحرج والغير ملائم. وكان الفضاء الالكتروني، وخاصة صفحات التواصل الاجتماعي، مجالا رحبا للتعبير عن الاعتراض عن الانتخابات وانتقادها. وتعددت الآراء: فمنهم من اعتبر أن التجربة نفسها غير جديرة بالإعادة نتيجة لعدم نجاح المجلس الأعلى للقضاء المنتخب السابق في تسيير العمل القضائي بشكل جيد.[4] ومنهم من جاء نقده أكثر تفصيلاً، فأعاب على القانون التنظيمي إقصاءه لقضاة المحاكم الابتدائية وأعضاء النيابة العامة وباقي أعضاء الهيئات القضائية من الدرجة ذاتها[5] مما يشكل انتهاكا لمبادئ المساواة والتنوع والتمثيل،[6] والأغرب أن القانون لم يمنعهم من الترشح وحسب بل أيضاً من التصويت ذاته في تكريس مقيت لظاهرة الهرمية[7].
ووجود مثل هذا العيب في القانون يبين أهمية عدم إغفال المنهج التشاركي في إقرار القوانين. فمشروع القانون قدم بشكل أحادي من المجلس الأعلى للقضاء والذي يتكون من مستشارين فقط ولم يعرض على القضاة وأعضاء النيابة العامة وباقي أعضاء الهيئات القضائية لمناقشته وإبداء الرأي حوله فلم يعكس وجهات نظر مختلفة ومتنوعة.[8]
ومن المسائل التي أثارت الكثير من الجدل سماح المجلس عبر لائحته التنظيمية بمشاركة أعضاء إدارة التفتيش المنتدبين من المحاكم في انتخاب مرشح محكمة الاستئناف مما يعتبر مخالفة لنص المادة 31 من القانون رقم 6 لسنة 2006 بشأن نظام القضاء الذي يعتبر أن الجمعية العمومية للمحكمة تتألف من القضاة والمستشارين العاملين بها[9]. وقد فتح هذا الأمر الجدل حول تفسير صفة المستشار المتمتع بحق الترشحوالتصويت. هل هو المستشار العامل في المحكمة أو المنتدب؟ وتم تقديم طعن بهذا الخصوص أمام دائرة القضاء الإداري بمحكمة إستئناف طرابلس.[10]
ومنهم من ذهب أبعد من هذا، واعتبر أن السلطة التشريعية التي أصدرت القانون رقم 6 لسنة 2015 والذي آل إلى تعديل تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، منتهية الولاية أو على أقل تقدير متنازع على شرعيتها ولا يحق لها إصدار التشريعات. فالمؤتمر الوطني العام أصدر القانون في ظل الازمة السياسية وإزداوجية السلطة التشريعية مما يشكل أحد التأثيرات السياسية السلبية على القضاء.
ولعل تفويض المشرع للمجلس مهمة تنظيم الانتخابات والإشراف عليها وتحديد الآلية المنظمة لها يطرح تساؤلات حول ضمانات العملية الانتخابية ذاتها وحياد الجهة المشرفة عليها. فقد يرغب أحد أعضاء المجلس بالترشح من جديد، فكيف يستقيم أن يكون مشرفا على الانتخابات ومشاركاً فيها في ذات الوقت؟ بل أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير. فالمجلس هو من ينظم الانتخابات، وهو من يشرف عليها بتفويض من المشرع، ما يعطي لقراراته حول العملية الانتخابية الطابع التشريعي ويحصنها من رقابة القضاء إلا من حيث مدى دستوريتها. والحال هكذا، فإن الطعون ألانتخابية تسبب إشكالا قانونيا في الاختصاص الولائي للمحكمة المختصة بنظرها. فالأصل أن الطعون الانتخابية هي من اختصاص القضاء العادي وقد نظمها المشرع بنصوص مرنة تضمن سرعة الولوج إليها والفصل فيها إضافة لضمان التقاضي على درجتين [11]. لكن جعل المشرع المجلس مختصاً لاتخاذ مجمل القرارات المتصلة بالعملية الانتخابية بما فيها اعتماد النتائج وهي في النهاية قرارات إدارية صادرة من لجنة إدارية، يخضع هذه القرارات لرقابة القضاء الإداري،ويفوت درجة من درجات التقاضي على مقدم الطعن الانتخابي ويفقد طعنه مزايا المرونة والسرعة التي لا يملكها القضاء الإداري.[12]
وقد شمل نقد بعض الهيئات القضائية الإجراءات الانتخابية ذاتها التي اتخذها المجلس. ومنها، عدم إقامة الانتخابات في ذات اليوم والتوقيت، أو أيضا تبعية الجهة المشرفة على الانتخابات وتعددها. وقد طالب البعض أن تكون المفوضية العليا للانتخابات هي المشرفة باعتبارها جهة محايدة ومستقلة ومختصة[13].
وتجدر الإشارة إلى أن جلّ هذه الانتقادات ذات طبيعة فنية ومهنية ومن القضاة وأعضاء الهيئات القضائية أنفسهم ولم يكن للرأي العام أو الإعلام أي متابعة أو اهتمام بالموضوع. وفي النهاية، فإن كل هذه الانتقادات لم تعرقل سير العملية الانتخابية بل كانت تمثل رؤية نقدية صحية تهدف إلى تقويم القانون الإنتخابي المعيب وما يتصل به من إجراءات تنظيمية وإدارية.
المناخ العام للانتخابات:
من المؤكد أن الأهم من الظروف القضائية التي أجريت فيها الانتخابات والتقييم الفني لها هي الحالة العامة للبلاد التي تمر بظروف سياسية خانقة نتج عنها خلاف سياسي حاد ارتبط بنزاعات مسلحة متفرقة أدت لحالة من عدم الاستقرار ووضعت البلاد في أزمة حقيقية قد تكون تداعياتها كارثية. ومن أبرز معالم هذه الأزمة انقسام السلطة التشريعية بين شرق وغرب[14] وما تبع ذلك من ازدواجية الحكومتين والمؤسسات السيادية كمصرف ليبيا المركزي وديوان المحاسبة وجهاز الرقابة الإدارية وغيرها. وحتى الاتفاق السياسي[15] المبرم بين أطراف الصراع لم يتمكن من تخفيف الأزمة السياسية فحدثت خلافات على تطبيق بنود الاتفاق نفسه وحتى حكومة الوفاق المنبثقة عنه لم تعتمد.
وعلى خلفية هذه الأزمة السياسية الخانقة، دخل المجلس الأعلى للقضاء في تحدّ حقيقي وبدأ يمهد لإجراء الانتخابات عبر الإعلان عن تشكيل لجان الإشراف على المحاكم والهيئات القضائية المختلفة وأيضا فتح قوائم الترشح للراغبين. وأعلن المجلس عن القوائم النهائية وحددت مواعيد انتخاب كل محكمة استئناف وكل هيئة قضائية على حدة بما فيهما محكمتي استئناف غريان والبيضاء حديثتي العهد.
رسائل إيجابية:
رغم كل النقد الموجه للقانون التنظيمي وللإجراءات الإدارية للعملية الانتخابية، فإن نجاح هذه الانتخابات وتمامها أرسل عدة رسائل إيجابية هامة يجب التوقف عندها.
الرسالة الإيجابية الأولى كانت في عدم التدخل السياسي من هذا الطرف أو ذاك لاستثمار هذهالعملية الانتخابية لصالحه، ربما لانشغال الأطراف بصراعاتهم السياسية والعسكرية. وقد انعكس هذا الأمر إيجابيا على الانتخابات فجرت نظيفة وهادئة وبعيدة عن انحرافات السياسة.[16]
وكانت الرسالة الإيجابية الأكثر بروزا هي مشاركة المرأة القاضية بقوة. فكانت حاضرة في كل الهيئات تقريبا. فقوائم الترشيح شملت العديد من المرشحات لعضوية المجلس. بل في بعض محاكم الاستئناف والهيئات القضائية الأخرى، وصلت نسبة ترشح المرأة في القوائم إلى 50%. ففي إدارة القضايا مثلا، ترشحت أربع نساء من مجموع ثمانية مرشحين. وفي إدارة المحاماة العامة، ترشحت خمس نساء من مجموع تسعة مرشحين. ولم يتوقف الأمر على المشاركة في الترشيح فقط. بل تجاوز ذلك بفوز إحدى المرشحات بالعضوية، وهي المرشحة عن محكمة استئناف بنغازي المستشارة وداد الهمالي. وبذلك، دخلت القاضية الهمالي التاريخ كأول امرأة قاضية يتم انتخابها في المجلس. وقد جاء انتخابها كأبلغ رد على مناداة البعض لعدم تولي المرأة للقضاء، بل وتقديمهم لطعون في عدم دستورية تولي المرأة للقضاء.[17] وقد كان لهذا الفوز دلالات عدة أبرزها أن معيار الكفاءة هو الفيصل في التمييز في الأداء والمناصب وأن المرأة القاضية مدعومة بثقة زملائها وأن النتيجة تعكس حالة من الرضى العام على دور المرأة كقاضية وفعاليتها وحسن أدائها مما يساهم في تعزيز هذا الدور ومكانتها.[18]
ويتضح جليا للمتابع أن الرسالة الأكثر تأثيرا التي نجحت الانتخابات في إيصالها للجميع كانت وحدة السلطة القضائية وتماسكها وصمودها على الرغم من الإنقسام السياسي العام والذي شمل فيما شمله السلطتين التشريعية والتنفيذية وأغلب المؤسسات السيادية في البلاد. ومن شأن هذه الرسالة أن تشكل صمام أمان لوحدة ليبيا وعدم انقسامها[19]. وما يعزز القول بالوحدة والتماسك هو استجابة الهيئات القضائية للعملية الانتخابية والتزامها بقرارات المجلس الأعلى للقضاء رغم أنها تقع في مدن ومناطق تخضع لحكومات وسلطات مسيطرة مختلفة. كما أنها حظيت بمشاركة معقولة من أعضاء الهيئات القضائية وجرت في أجواء عادية[20]. ونتج عن ذلك مجلس أعلى للقضاء منتخب يمثل فسيفساء الوطن، وأعضاؤه يمثلون جميع المحاكم وينتمون لمختلف المدن.
فعلى سبيل المثال تضمنت الانتخابات محاكم الاستئناف التسع إضافة لفروع الهيئات القضائية والتي تنتشر وتتوزع في عدة مدن ومناطق على اتساع الرقعة الجغرافية، فشملت طرابلس ومصراتة والزاوية والخمس وغريان غربا وبنغازي والجبل الأخضر والبيضاء شرقا وسبها جنوبا[21].
خاتمة:
وختاما، لا بد من القول إن إرادة القضاة وأعضاء الهيئات القضائية بما في ذلك المجلس الأعلى للقضاء كان لها الأثر المباشر والحاسم في نجاح هذه الانتخابات رغم التحفظات والملاحظات. فالإرادة الجامعة لمنتسبي السلطة القضائية وروحهم الوطنية وحرصهم على استمرار وديمومة المرفق القضائي والنأي به عن التجاذبات السياسية جعلتهم يتجاوزون كل نقائص وعيوب العملية الانتخابية ويساهمون في إقامتها ونجاحها. ولا نبالغ غذا قلنا أن محرك هذا التعاطي الإيجابي مع الإنتخابات هو حرص أعضاء الهيئات القضائية البالغ على وحدة القضاء وتماسكه، لوعيهم أنه سينعكس إيجابا على وحدة البلاد وتماسكها ويؤدي لدرء خطر الانقسام الذي ما فتئ يطل بوجهه بين الحين والآخر.
نشر هذا المقال في العدد 5 من مجلة المفكرة القانونية في تونس.
[1] المستجدات القضائية 2012، منشور على الموقع الإلكتروني للمفكرة القانونية، مارس 2012.
[2] رئيس المجلس الأعلىللقضاء لا ينتخب فهو معين بحكم وظيفته كرئيس المحكمة العليا.
[3] المستجدات القضائية 2013-2014، منشور على الموقع الإلكتروني للمفكرة القانونية، يونيو/جون 2015.
[4] انطباعات جمعت إثر لقاءات متفرقة مع أعضاء الهيئات القضائية.
[5] المنظمة الليبية للقضاة طالبت بتمثيل قضاة المحاكم الابتدائية وقدمت ملاحظاتها للسلطة التشريعية .
[6] الأستاذ محمد حمودة عضو الإدارة العامة للقانون مداخلة في مؤتمر إصلاح القضاء في تونس 23-27 مايو2016 .
[7] مقال هل يستمر إقصاء القضاة الشباب عن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، المنشور في المفكرة القانونية-تونس، العدد صفر.
[8] صناعة التشريعات بعد القذافي – دراسة من مركز القانون و المجتمع التابع لجامعة بنغازي وجامعة ليدن
[9]مقابلة مع الأستاذ خالد قنونو المستشار بمحكمة استئناف طرابلس 23-5-2016.
[10] مقابلة مع المستشار الهدار الشيباني عضو المجلس ألأعلى للقضاء26-5-2016.
[11] انتخابات المؤتمر الوطني العام 2012م،انتخابات مجلس النواب 2014، انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور 2014.
[12] مقابلة مع الأستاذ علي بوراس نائب النيابة بمكتب المحامي العام 27–5-2016.
[13] مقابلة مع الأستاذ علي بوراس رئيس النيابة العامة بمكتب المحامي العام 27 –5- 2016.
[14] مجلس النواب في طبرق والمؤتمر الوطني العام في طرابلس منذ أغسطس 2014.
[15] الاتفاق السياسي المبرم في مدينة الصخيرات المغربية برعاية الأمم المتحدة بين أطراف سياسية أبرزها المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب.
[16] انطباعات جمعت إثر لقاءات متفرقة مع أعضاء الهيئات القضائية.
[17] الطعن الدستوري رقم 10/60 ق سنة 2012، والطعن الدستوري رقم 14/60 ق سنة 2013.
[18] انظر مقالة القاضي خالد عبد الكريم الشريف على صفحة المنظمة الليبية للقضاة (فيسبوك) بتاريخ 14 أبريل 2016.
[19] انطباعات جمعت إثر لقاءات متفرقة مع أعضاء الهيئات القضائية .
[20] موقع وزارة العدل على الانترنت /
[21] تكونت ليبيا من ثلاثة أقاليم: طرابلس وعاصمته طرابلس في الغرب وبرقة وعاصمته بنغازي شرقا وفزان وعاصمته سبها جنوبا .
تقييم موضوعي وإجرائي:
تأثر القضاء إجمالا بحالة عدم الاستقرار والانفلات الأمني التي تعاني منها البلاد والتي نتج عنها الاعتداء على بعض المؤسسات القضائية واغتيال قضاة. وقد ترتّب على ذلك إغلاق بعض المحاكم والنيابات العامة مما أثر على انسيابية وفعالية عمل السلطة القضائية[3]. وعلى خلفية هذه الأحداث وتداعياتها، اعترض بعض أعضاء الهيئات القضائية على إقامة الانتخابات في هذا التوقيت الحرج والغير ملائم. وكان الفضاء الالكتروني، وخاصة صفحات التواصل الاجتماعي، مجالا رحبا للتعبير عن الاعتراض عن الانتخابات وانتقادها. وتعددت الآراء: فمنهم من اعتبر أن التجربة نفسها غير جديرة بالإعادة نتيجة لعدم نجاح المجلس الأعلى للقضاء المنتخب السابق في تسيير العمل القضائي بشكل جيد.[4] ومنهم من جاء نقده أكثر تفصيلاً، فأعاب على القانون التنظيمي إقصاءه لقضاة المحاكم الابتدائية وأعضاء النيابة العامة وباقي أعضاء الهيئات القضائية من الدرجة ذاتها[5] مما يشكل انتهاكا لمبادئ المساواة والتنوع والتمثيل،[6] والأغرب أن القانون لم يمنعهم من الترشح وحسب بل أيضاً من التصويت ذاته في تكريس مقيت لظاهرة الهرمية[7].
ووجود مثل هذا العيب في القانون يبين أهمية عدم إغفال المنهج التشاركي في إقرار القوانين. فمشروع القانون قدم بشكل أحادي من المجلس الأعلى للقضاء والذي يتكون من مستشارين فقط ولم يعرض على القضاة وأعضاء النيابة العامة وباقي أعضاء الهيئات القضائية لمناقشته وإبداء الرأي حوله فلم يعكس وجهات نظر مختلفة ومتنوعة.[8]
ومن المسائل التي أثارت الكثير من الجدل سماح المجلس عبر لائحته التنظيمية بمشاركة أعضاء إدارة التفتيش المنتدبين من المحاكم في انتخاب مرشح محكمة الاستئناف مما يعتبر مخالفة لنص المادة 31 من القانون رقم 6 لسنة 2006 بشأن نظام القضاء الذي يعتبر أن الجمعية العمومية للمحكمة تتألف من القضاة والمستشارين العاملين بها[9]. وقد فتح هذا الأمر الجدل حول تفسير صفة المستشار المتمتع بحق الترشحوالتصويت. هل هو المستشار العامل في المحكمة أو المنتدب؟ وتم تقديم طعن بهذا الخصوص أمام دائرة القضاء الإداري بمحكمة إستئناف طرابلس.[10]
ومنهم من ذهب أبعد من هذا، واعتبر أن السلطة التشريعية التي أصدرت القانون رقم 6 لسنة 2015 والذي آل إلى تعديل تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، منتهية الولاية أو على أقل تقدير متنازع على شرعيتها ولا يحق لها إصدار التشريعات. فالمؤتمر الوطني العام أصدر القانون في ظل الازمة السياسية وإزداوجية السلطة التشريعية مما يشكل أحد التأثيرات السياسية السلبية على القضاء.
ولعل تفويض المشرع للمجلس مهمة تنظيم الانتخابات والإشراف عليها وتحديد الآلية المنظمة لها يطرح تساؤلات حول ضمانات العملية الانتخابية ذاتها وحياد الجهة المشرفة عليها. فقد يرغب أحد أعضاء المجلس بالترشح من جديد، فكيف يستقيم أن يكون مشرفا على الانتخابات ومشاركاً فيها في ذات الوقت؟ بل أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير. فالمجلس هو من ينظم الانتخابات، وهو من يشرف عليها بتفويض من المشرع، ما يعطي لقراراته حول العملية الانتخابية الطابع التشريعي ويحصنها من رقابة القضاء إلا من حيث مدى دستوريتها. والحال هكذا، فإن الطعون ألانتخابية تسبب إشكالا قانونيا في الاختصاص الولائي للمحكمة المختصة بنظرها. فالأصل أن الطعون الانتخابية هي من اختصاص القضاء العادي وقد نظمها المشرع بنصوص مرنة تضمن سرعة الولوج إليها والفصل فيها إضافة لضمان التقاضي على درجتين [11]. لكن جعل المشرع المجلس مختصاً لاتخاذ مجمل القرارات المتصلة بالعملية الانتخابية بما فيها اعتماد النتائج وهي في النهاية قرارات إدارية صادرة من لجنة إدارية، يخضع هذه القرارات لرقابة القضاء الإداري،ويفوت درجة من درجات التقاضي على مقدم الطعن الانتخابي ويفقد طعنه مزايا المرونة والسرعة التي لا يملكها القضاء الإداري.[12]
وقد شمل نقد بعض الهيئات القضائية الإجراءات الانتخابية ذاتها التي اتخذها المجلس. ومنها، عدم إقامة الانتخابات في ذات اليوم والتوقيت، أو أيضا تبعية الجهة المشرفة على الانتخابات وتعددها. وقد طالب البعض أن تكون المفوضية العليا للانتخابات هي المشرفة باعتبارها جهة محايدة ومستقلة ومختصة[13].
وتجدر الإشارة إلى أن جلّ هذه الانتقادات ذات طبيعة فنية ومهنية ومن القضاة وأعضاء الهيئات القضائية أنفسهم ولم يكن للرأي العام أو الإعلام أي متابعة أو اهتمام بالموضوع. وفي النهاية، فإن كل هذه الانتقادات لم تعرقل سير العملية الانتخابية بل كانت تمثل رؤية نقدية صحية تهدف إلى تقويم القانون الإنتخابي المعيب وما يتصل به من إجراءات تنظيمية وإدارية.
المناخ العام للانتخابات:
من المؤكد أن الأهم من الظروف القضائية التي أجريت فيها الانتخابات والتقييم الفني لها هي الحالة العامة للبلاد التي تمر بظروف سياسية خانقة نتج عنها خلاف سياسي حاد ارتبط بنزاعات مسلحة متفرقة أدت لحالة من عدم الاستقرار ووضعت البلاد في أزمة حقيقية قد تكون تداعياتها كارثية. ومن أبرز معالم هذه الأزمة انقسام السلطة التشريعية بين شرق وغرب[14] وما تبع ذلك من ازدواجية الحكومتين والمؤسسات السيادية كمصرف ليبيا المركزي وديوان المحاسبة وجهاز الرقابة الإدارية وغيرها. وحتى الاتفاق السياسي[15] المبرم بين أطراف الصراع لم يتمكن من تخفيف الأزمة السياسية فحدثت خلافات على تطبيق بنود الاتفاق نفسه وحتى حكومة الوفاق المنبثقة عنه لم تعتمد.
وعلى خلفية هذه الأزمة السياسية الخانقة، دخل المجلس الأعلى للقضاء في تحدّ حقيقي وبدأ يمهد لإجراء الانتخابات عبر الإعلان عن تشكيل لجان الإشراف على المحاكم والهيئات القضائية المختلفة وأيضا فتح قوائم الترشح للراغبين. وأعلن المجلس عن القوائم النهائية وحددت مواعيد انتخاب كل محكمة استئناف وكل هيئة قضائية على حدة بما فيهما محكمتي استئناف غريان والبيضاء حديثتي العهد.
رسائل إيجابية:
رغم كل النقد الموجه للقانون التنظيمي وللإجراءات الإدارية للعملية الانتخابية، فإن نجاح هذه الانتخابات وتمامها أرسل عدة رسائل إيجابية هامة يجب التوقف عندها.
الرسالة الإيجابية الأولى كانت في عدم التدخل السياسي من هذا الطرف أو ذاك لاستثمار هذهالعملية الانتخابية لصالحه، ربما لانشغال الأطراف بصراعاتهم السياسية والعسكرية. وقد انعكس هذا الأمر إيجابيا على الانتخابات فجرت نظيفة وهادئة وبعيدة عن انحرافات السياسة.[16]
وكانت الرسالة الإيجابية الأكثر بروزا هي مشاركة المرأة القاضية بقوة. فكانت حاضرة في كل الهيئات تقريبا. فقوائم الترشيح شملت العديد من المرشحات لعضوية المجلس. بل في بعض محاكم الاستئناف والهيئات القضائية الأخرى، وصلت نسبة ترشح المرأة في القوائم إلى 50%. ففي إدارة القضايا مثلا، ترشحت أربع نساء من مجموع ثمانية مرشحين. وفي إدارة المحاماة العامة، ترشحت خمس نساء من مجموع تسعة مرشحين. ولم يتوقف الأمر على المشاركة في الترشيح فقط. بل تجاوز ذلك بفوز إحدى المرشحات بالعضوية، وهي المرشحة عن محكمة استئناف بنغازي المستشارة وداد الهمالي. وبذلك، دخلت القاضية الهمالي التاريخ كأول امرأة قاضية يتم انتخابها في المجلس. وقد جاء انتخابها كأبلغ رد على مناداة البعض لعدم تولي المرأة للقضاء، بل وتقديمهم لطعون في عدم دستورية تولي المرأة للقضاء.[17] وقد كان لهذا الفوز دلالات عدة أبرزها أن معيار الكفاءة هو الفيصل في التمييز في الأداء والمناصب وأن المرأة القاضية مدعومة بثقة زملائها وأن النتيجة تعكس حالة من الرضى العام على دور المرأة كقاضية وفعاليتها وحسن أدائها مما يساهم في تعزيز هذا الدور ومكانتها.[18]
ويتضح جليا للمتابع أن الرسالة الأكثر تأثيرا التي نجحت الانتخابات في إيصالها للجميع كانت وحدة السلطة القضائية وتماسكها وصمودها على الرغم من الإنقسام السياسي العام والذي شمل فيما شمله السلطتين التشريعية والتنفيذية وأغلب المؤسسات السيادية في البلاد. ومن شأن هذه الرسالة أن تشكل صمام أمان لوحدة ليبيا وعدم انقسامها[19]. وما يعزز القول بالوحدة والتماسك هو استجابة الهيئات القضائية للعملية الانتخابية والتزامها بقرارات المجلس الأعلى للقضاء رغم أنها تقع في مدن ومناطق تخضع لحكومات وسلطات مسيطرة مختلفة. كما أنها حظيت بمشاركة معقولة من أعضاء الهيئات القضائية وجرت في أجواء عادية[20]. ونتج عن ذلك مجلس أعلى للقضاء منتخب يمثل فسيفساء الوطن، وأعضاؤه يمثلون جميع المحاكم وينتمون لمختلف المدن.
فعلى سبيل المثال تضمنت الانتخابات محاكم الاستئناف التسع إضافة لفروع الهيئات القضائية والتي تنتشر وتتوزع في عدة مدن ومناطق على اتساع الرقعة الجغرافية، فشملت طرابلس ومصراتة والزاوية والخمس وغريان غربا وبنغازي والجبل الأخضر والبيضاء شرقا وسبها جنوبا[21].
خاتمة:
وختاما، لا بد من القول إن إرادة القضاة وأعضاء الهيئات القضائية بما في ذلك المجلس الأعلى للقضاء كان لها الأثر المباشر والحاسم في نجاح هذه الانتخابات رغم التحفظات والملاحظات. فالإرادة الجامعة لمنتسبي السلطة القضائية وروحهم الوطنية وحرصهم على استمرار وديمومة المرفق القضائي والنأي به عن التجاذبات السياسية جعلتهم يتجاوزون كل نقائص وعيوب العملية الانتخابية ويساهمون في إقامتها ونجاحها. ولا نبالغ غذا قلنا أن محرك هذا التعاطي الإيجابي مع الإنتخابات هو حرص أعضاء الهيئات القضائية البالغ على وحدة القضاء وتماسكه، لوعيهم أنه سينعكس إيجابا على وحدة البلاد وتماسكها ويؤدي لدرء خطر الانقسام الذي ما فتئ يطل بوجهه بين الحين والآخر.
نشر هذا المقال في العدد 5 من مجلة المفكرة القانونية في تونس.
[1] المستجدات القضائية 2012، منشور على الموقع الإلكتروني للمفكرة القانونية، مارس 2012.
[2] رئيس المجلس الأعلىللقضاء لا ينتخب فهو معين بحكم وظيفته كرئيس المحكمة العليا.
[3] المستجدات القضائية 2013-2014، منشور على الموقع الإلكتروني للمفكرة القانونية، يونيو/جون 2015.
[4] انطباعات جمعت إثر لقاءات متفرقة مع أعضاء الهيئات القضائية.
[5] المنظمة الليبية للقضاة طالبت بتمثيل قضاة المحاكم الابتدائية وقدمت ملاحظاتها للسلطة التشريعية .
[6] الأستاذ محمد حمودة عضو الإدارة العامة للقانون مداخلة في مؤتمر إصلاح القضاء في تونس 23-27 مايو2016 .
[7] مقال هل يستمر إقصاء القضاة الشباب عن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، المنشور في المفكرة القانونية-تونس، العدد صفر.
[8] صناعة التشريعات بعد القذافي – دراسة من مركز القانون و المجتمع التابع لجامعة بنغازي وجامعة ليدن
[9]مقابلة مع الأستاذ خالد قنونو المستشار بمحكمة استئناف طرابلس 23-5-2016.
[10] مقابلة مع المستشار الهدار الشيباني عضو المجلس ألأعلى للقضاء26-5-2016.
[11] انتخابات المؤتمر الوطني العام 2012م،انتخابات مجلس النواب 2014، انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور 2014.
[12] مقابلة مع الأستاذ علي بوراس نائب النيابة بمكتب المحامي العام 27–5-2016.
[13] مقابلة مع الأستاذ علي بوراس رئيس النيابة العامة بمكتب المحامي العام 27 –5- 2016.
[14] مجلس النواب في طبرق والمؤتمر الوطني العام في طرابلس منذ أغسطس 2014.
[15] الاتفاق السياسي المبرم في مدينة الصخيرات المغربية برعاية الأمم المتحدة بين أطراف سياسية أبرزها المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب.
[16] انطباعات جمعت إثر لقاءات متفرقة مع أعضاء الهيئات القضائية.
[17] الطعن الدستوري رقم 10/60 ق سنة 2012، والطعن الدستوري رقم 14/60 ق سنة 2013.
[18] انظر مقالة القاضي خالد عبد الكريم الشريف على صفحة المنظمة الليبية للقضاة (فيسبوك) بتاريخ 14 أبريل 2016.
[19] انطباعات جمعت إثر لقاءات متفرقة مع أعضاء الهيئات القضائية .
[20] موقع وزارة العدل على الانترنت /
[21] تكونت ليبيا من ثلاثة أقاليم: طرابلس وعاصمته طرابلس في الغرب وبرقة وعاصمته بنغازي شرقا وفزان وعاصمته سبها جنوبا .