تمهيــــــــد:
لَئِن كان الفصلُ في الخصومة المدنية يستوجب بسطها أمام المحكمة، فإن القانون يفرض أن تكون هذه المحكمة مختصة مكانيا ثم نوعيا، وهو الأمر الذي يفرض القول بكون الدعوى تنظرها محكمة ذات صلاحية، سواء كانت مدنية أو تجارية أو إدارية أو زجرية، فكلُّها جِهات قضائية مُلزَمة قانونا بتطبيق كل ما يفرضه القانون من التزامات إجرائية وموضوعية، بل وبتطبيقها تطبيقا عادلا[1] تحت طائلة ترتيب آثار قد تجعل الحكم محلا للطعن أمام المحكمة الأعلى درجة، وقد تُرتب عليه أثرا مُعدِّلا، كما يمكن أن تعدم الحكم نهائيا.
ومادام الموضوع قيد الدراسة متصل بالقضاء المدني، فإن ضرورة البحث فيه اقتضت الاقتصار على حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني من حيث مفهومها وأسسها النظرية والقانونية، وبذلك فهو يتصل اتصالا وثيقا بكُنه الحق الإجرائي الذي يُباشره كل مُتخاصم اتخذَ مركزا معينا أمام القضاء المدني في دعوى ينظُرها، سواء كان مُدعي أو مٌدعى عليه، مُدخلا أو مُتدخلا في الدعوى، وبوجه عام كل طرف له مصلحة في الحق موضوع الدعوى.
وبناء على ما تقدم، فإن الحديث عن حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني إنما يقتضي لُزوما الوقوف عند مفهومه وبيان القصدِ منه في إطار اتصاله على نحو وثيق بأوجه بحثه المُستمَدة أساسا من مُكنة التمسك به أمام المحكمة المدنية إِبَّان نظرها في الدعوى المدنية المعروضة، ومن هذا المنطلق يكون المقصود بحق الدفاع ـــــ في معرض البحث ــــ حقُ الخصم في أن يَسمع القاضي وجهة نظره Le droit d'être entendu، فإذا أصدر القاضي حُكمه دون سماع الخصم الآخر، أو تمكينه على الأقل من إسماع القاضي دفاعه، كان الحكم مشوبا بالإخلال بحق الدفاع، باعتباره نتيجة منطقية لكل خرق مسطري ترتب عنه ضرر لذي المصلحة في الخصومة القضائية[2].
ارتكازا على ما تقدم، فقد آثرنا دراسة موضوع حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني من خلال مقاربة مفاهيمية وتأسيسية مرتكزة على الفقه والقانون والقضاء، وذلك على النحو الآتي:
المحور الأول: محاولة في بحث مفهوم حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني
المحور الثاني: أسس حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني والمأمول منه
المحور الأول: مُحاولة في بحث مفهوم حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني
إن مسألة تحديد المفاهيم الرئيسية التي يرتكز عليها الموضوع قيد البحث، تستلزم أساسا بيان مضمونه ومحتواه بشكل يُعين على تحقيق الغاية المعرفية، وكذا تقريب وتوضيح منحاهُ، وهو الأمر الذي يَنم دون ريب على اتحاد دور كل من علم المناهج القانونية، والمادة القانونية المبحوثة، خاصة إذا ما استحضرنا القيمة القانونية المزدوجة لموضوع حق الدفاع أمام القضاء المدني الذي يرتبط فيه الاجرائي بالموضوعي على حد سواء، ففي هذا الاتحاد وصونُه حماية لحقوق كل من لجأ الى القضاء طلباً لتقرير حقٍّ، أو دَفعاً لتعدٍ طالهُ.
تقتضي الضرورة المنهجية في هذا المقام المخصص لبيان ماهية حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني، الوقوف عند المقصود منها تعريفا وإيضاحا ( البند الأول )، ثم الانتقال الى تحديد أهم خصائص الحق في الدفاع ( البند الثاني ).
البند الاول: مقاربة مفاهيمية لحق الدفاع المثار أمام القضاء المدني
يقتضي الحديث عن المراد بحق الدفاع في شقه المدني خاصة، باعتباره محل الدراسة، التطرق بداية للمقصود منه تعريفا ( أولا )، ثم لمضمونه إيضاحا ( ثانيا ).
أولا: المقصود بحق الدفاع :
لئن أجمع فقهاء القانون على أهمية حق الدفاع وقيمته القانونية، فإنهم أقرُّوا في المقابل كونه يمثل أحد أكثر المفاهيم غموضا وإلتباساً، فقد اختلفت الآراء وتنوعت حوله، لكنها استقرت في النهاية على أنه مفهوم غامض ومتشعب يصعُب ضبطه وحصرُه، ولعلَّ ما يُبرر صعوبة حصر حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني هو غياب وعُسر تحديد مفهوم حق الدفاع ذاته، بل إن جٌل الفقه القانوني ركز على تحديد قائمة لضمانات الحق في الدفاع دون التعرض للحق ذاته، والذي بقي غامضا عصِيًّا عن الادراك والفهم، عوض العمل على تحديد مفهوم حق الدفاع.
هذا وإن كان حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني له خصوصية تفرضها الطبيعة القانونية للخصومة المدنية نفسها، ومنها تتطبَّعُ حقوق الدفاع المثارة أمام القاضي المدني، فمن دون ريب يبقى هذا الحق متوشحا بالغموض في كُنهه، حتى في تعامل القضاء معه، حيث غالبا ما تجد المحكمة التي تنظر الدعوى، تُقيمُ اتصالا وتلاحُما بين وجود الخلل المسطري أو الخروقات الجوهرية منها والشكلية كلما اتصلت بتضرر مصالح طرف في الخصومة المعروضة بين يديها وبين الحق في الدفاع، بل إن الأمر في حالات عديدة يروم اعتبار كل هذه الشوائب بمثابة تعدٍّ على حقوق الدفاع، والذي يتعين بالأولى دفعه، أو رفع وجه الخلل فيه بالتعديل والتصويب، مع مراعاة الطابع الخاص لعمل القاضي المدني تُجاه الدعوى، سيما من حيث دوره الإيجابي في تدبير الخصومة المدنية.
ومنه، لا شك إذن فيما يحضى به حق الدفاع ضمن الحقوق الإجرائية سواء من جانب الفقه كما سلف الذكر، أو تشريعيا من جانب المشرع، أو قضائيا من جهة القاضي المدني، ولعل برهان ذلك تنصيص القانون الأسمى في البلاد عليه من خلال الفصل 120 من دستور 2011 المغربي[3].
استنادا الى ما ألفي أعلاه، فقد عرَّف الفقه حق الدفاع بكونه " سلطة الخصم في استعمال كافة الوسائل والمُكنات الإجرائية التي يَقصد بها إثبات ما يدعيه، وتأييد دفاعه، كما تشتمل كيفية استعمال هذه المُكنات والوسائل بواسطة المذكرات الكتابية والمرافعات الشفوية"[4]، كما يمكن تعريف الحق في الدفاع ــ حسب المفهوم التقليدي ـــ بأنه: " حق الخصم في أن يسمع القاضي وجهة نظره le droit d'etre entendu فإذا أصدر القاضي حكمه دون سماع الخصم الآخر، أو تمكينه على الأقل من إسماع القاضي دفاعه كان الحُكم مشوبا بالإخلال بحق الدفاع[5].
هذا وقد عرَّف الفقيه المغربي "ادريس العلوي العبدلاوي" جوهر حقوق الدفاع بأنها: " كل ما يٌخوله القانون للخصم من وسائل في الخصومة لتكوين الرأي القضائي لصالحه، توصُّلا الى الحكم لصالحه في النهاية"[6].
وجدير بالذكر أن حق الدفاع بكُنهه هذا، لا يمكن القول بقيامه ولا تصور وجوده في غياب الضمانات الإجرائية، حيث إن وجود كلاهما رهين بوجود الآخر، وكلاهما يهدف الى إحقاق العدالة وإعلائها بتمكين كل شخص يكون طرفا في نزاع مدني قائم أو محتمل، وبالتالي الدفاع عما له من مصالحَ في كنف المساواة أمام العدالة.
ثانيا: إيضاح مضمون حق الدفاع:
إن حقوق الدفاع التي يمكن إثارتها أمام القاضي المدني على تعددها واتصالها على نحو وثيق بالحقوق والواجبات الإجرائية التي يسلكها كل متقاض في دعواه، إنما لها حمولة حقوقية ذات وجهين، الأول: وجه تكاملي مشترك والثاني: وجه انعكاسي، وكلاهما يحتويه مبدأ إجرائي صرف في القانون المسطري المغربي.
من هذا المنطلق إذن، ومادام لكل حق حمولة ومضمون معين فقها وقانونا وقضاء، فإن لحق الدفاع المثار أمام القضاء المدني مضمون مبني أساسا على مبدأ المواجهة Le principe du contradictoire، ومفاد الأمر أن حقوق الدفاع على تعددها، يأتي على رأسها مبدأ احترام الحق في العلم تمكينا للرد على الخصم وإسماع القاضي هذا الردِّ، كما أنه وما دام مضمون حق الدفاع ذو الصبغة المدنية ينشطر أساسا الى ما ذكر، فإن الامر يقتضي الإشارة الى كون الكلِّ متضمن لمجموعة من الالتزامات الاجرائية التي يتوجب احترامها كعبء إجرائي لطرف، وحق للآخر في نفس الآن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كلاًّ من الحق والالتزام الاجرائي ـــ من وجهة نظرنا ــ عبارة عن وسيلة قانونية تهدف الى توفير الحماية القضائية للمصالح المشروعة، مادام صاحب الحق الاجرائي يملك استعماله ضمن الحدود المرسومة له بما يخدم و يحقق هذه الغاية دون انحراف، فالأساس السليم لحق الدفاع أمام القضاء المدني يستند الى مدى استعماله مع عدم الاضرار بالغير أو تحقيق مصلحة غير مشروعة، وهذه من القواعد الكلية التي ترمي الى تحقيق التوازن والعدل والانصاف[7]، ويحكمها مبدأ التقاضي بحسن نية كما تقتضيه المادة الخامسة من ظهير المسطرة المدنية المغربي[8].
البند الثاني: السِّماتُ المميزة لحق الدفاع أمام القضاء المدني
إن كان حق الدفاع على قدر من الأهمية في التدبير القضائي للدعوى برمتها، فإن مردّ ذلك الى ما يتسم به من خصائص مسطرية تارة، وموضوعية تارة أخرى، من منطلق الطبيعة المزدوجة التي يتَّسمُ بها، فكل حق من حقوق الدفاع التي تدخل في نطاق الدعوى المدنية يحتمل حكمين اثنين، فهو حق إجرائي لطرف، وفي ذات الوقت واجب إجرائي للطرف الآخر ( أولا )، كما أن من خصائص الحق في الدفاع أنه " حق ملزم للمحكمة " ( ثانيا )، و " حق نسبي " ( ثالثا ).
أولا : اتسام حق الدفاع بكونه " قاعدة قانونية " لا " حرية إجرائية "
لعل اتسام حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني بكونه قاعدة قانونية لا حرية إجرائية من أهم الخصائص التي تطبعه من الناحية القانونية والفقهية أيضا، وهو ما يبرر تعدد التسميات التي تطلق عليه، فهو حق الدفاع أو حرية الدفاع، أو الحق في حرية الدفاع، إذ كلها مصطلحات تستخدم باعتبارها مترادفات.
والعلة في ترجيح مسمى حق الدفاع على حرية الدفاع، مردها الى الغموض الذي يكتنف نطاق المنازعة المدنية المشوبِ النقص والغموض، وهو أمر راجع الى كون احترام حق الدفاع ليس أمرا متصلا بالعلاقة بين الخصوم فحسب، بل يتعلق أيضا بالعلاقة بينهما وبين القاضي، حيث إن استعمال المصطلحين معا يفتح المجال للاعتقاد بأن هذا المبدأ لا يحمي سوى مصالح المدعى عليه لأنه هو الذي يدافع غالبا عن القضية، لكن الحقيقة غير ذلك لكون هذا المبدأ يحمي مصالح المدعي كما يحمي مصالح المدعى عليه[9]، فالدعوى في مفهومها الصحيح ليست حقا للمدعي فحسب ولكنها حق أيضا للمدعى عليه في دحض ادعاءات المدعي.
تأسيسا على ما تقدم، فإن الأولى استعمال مصطلح حق الدفاع بدل الحرية، لأن هذه الأخيرة تتعلق فقط باستعمال الحق، وتدور حول استعمال الحق من عدمه، أو عدم تقرير مسؤولية صاحب الحق إذا استخدم بشكل ينطوي على التعسف في استعماله، والجدير بالذكر أيضا استعمال حق الدفاع بصيغة المفرد بدل حقوق الدفاع لأن الأمر يتعلق بحق راجح يتضمن مجموعة من التطبيقات الفرعية، ومخالفة إحداها تعد مخالفة احداهما مخالفة مباشرة للمبدأ الإجرائي المتفرع عن حق الدفاع ومخالفة غير مباشرة لحق الدفاع.
فحق الدفاع إذن شكل من الأشكال الإجرائية المحضة، فهو يحكم سيادته على كل خصومة أمام القضاء و يصبح عنصرا من عناصر القانون، فهو لازمة ضرورية لحسن سير العدالة، ومن هذا المنطلق إذن ــــ فضلا عن الثابت آنفا ــــ يكون احترام حق الدفاع قاعدة قانونية بالمعنى الفني الدقيق[10]، وقد استقر القانون[11] و القضاء [12]على أن مخالفة حق الدفاع تصلح سببا للطعن بالنقض في الحكم لمخالفة القانون، وفي هذا جاء في قرار محكمة النقض ( المجلس الأعلى سابقا )، أنه " حيث ينعي الطاعن على القرار في الوسيلة الأولى خرق قاعدة مسطرية أضر بالطالب الإخلال بحقوق الدفاع، ذلك أن محكمة الاستئناف أدرجت الملف للمداولة لجلسة 10/12/09 وأثناء المداولة أدلى المستأنف ( المطلوب ) بواسطة دفاعه بمذكرة الإدلاء بوثائق أثناء المداولة وأرفقها بنسخة إنذار من أجل الزيادة في الكراء منجز في ملف عقود مختلفة عدد 8913/07 وبصورة حكم ابتدائي صادر بتاريخ 21/04/07 في الملف عدد 1286/07، وأنه بالرجوع الى حيثيات القرار يتضح أنه اعتمد في إصدار قراره المذكرة المدلى بها أثناء المداولة وعلى الوثائق المرفقة بها والتي لم تبلغ الى الطالب ولم تعرض على دفاعه للاطلاع على السند الذي اعتمده القرار ليقول فيه كلمته مما يشكل إخلالا بحقوق الدفاع، مما يعضه للنقض.
وحيث إنه بالاطلاع على محضر الجلسات يتبين أن القضية أدرجت لجلسة 26/11/09 بعد صدور أمر بالتخلي والتي حجزت فيها القضية للمداولة لجلسة 10/12/09 التي صدر فيها القرار المطعون فيه معتمدا في قضائه ما أدلى به المطلوب من وثائق متمثلة في إنذار بالزيادة في السومة الكرائية ومقرر قضى برفع السومة الكرائية وتجديد العقد الكرائي بين الطرفين، وهي وثائق لم تبلغ للطرف الطالب للإطلاع والتعقيب عليها مادامت قد اعتمدت في قضاء المحكمة، مما يشكل خرقا لحقوق الدفاع ويكون ما استدل به في الوسيلة واردا على القرار يستوجب نقضه".
ثانيا : اتسام حق الدفاع بكونه " حق ملزم للمحكمة "
لعل أبرز خاصية تتسم بها حقوق الدفاع أمام القضاء المدني كونها ملزمة للمحكمة كما إلزامها للأطراف المتنازعة، فهو واجب قانوني يتضمن مجموعة من الالتزامات الإجرائية، ومن ثمة، والحالة هاته يلقى على عاتق القاضي من خلال عدة أوجه، منها واجب القاضي في الالتزام بعدم الانحياز، لكون هذا الأخير يؤدي الى الاخلال بالمساواة في مراكز الخصوم الإجرائية وهي الغاية التي ينشدها حق الدفاع، ومن أجل ذلك ينظم القانون إجراءات رد القضاة تحقيقا للحياد، ويمتنع عليهم أن يقضوا بعلمهم الشخصي وإلا يكونوا قد انحازوا وأخلوا بحق الدفاع[13].
ومن بين ما يلتزم به القضاة احتراما لحق الدفاع، وجوب الرد على طلبات الخصوم وأوجه دفاعهم ودفوعهم الجوهرية وإلا كان الحكم مشوبا بالانعدام الجزئي للتسبيب[14]، وهو الأمر الذي ينبغي على القاضي أن توليه بالغ الأهمية، إذ فيه يتضح المدلول القانوني للتسبيب الذي يشتمل على التعليلات والحيثيات الكافية التي سوغت صدور الحكم، كما أن تعليل الأحكام والمقررات القضائية بشكل عام لا يتحقق إلا من خلال إحاطة القاضي المطروح أمامه النزاع بالوقائع التي استند عليها الخصوم وفقاً للقواعد القانونية والطرق الثبوتية المعوَّل عليها قانوناً، واختيار الصحيح منها، وطرح غير الصحيح، وإلباسُها الثوب القانوني الملائمُ لها أي تكييفها تكييفا قانونيا صحيحا، ليتسنى للقاضي تطبيق القاعدة القانونية الواجبة الإتباع[15]، ويعتبر هذا الأمر أيضا من باب احترام حقوق الدفاع بما هي واجب قانوني ملقى على المحكمة.
ينضاف الى ما تقدم بخصوص اعتبار حق الدفاع ملزم للقاضي، عدم تغيير القاضي للعناصر الموضوعية للطلب القضائي أو الادعاء، وأساسه، لأن في ذلك تدخل في ميدان الواقع وهو مجال تترك السيادة فيه للخصوم، وكل تدخل فيه قد يترتب عنه إخلال بواجب الحياد[16] بالنسبة للواقع وبالتالي الاخلال بحق الدفاع، ومنه فإن الاحترام المقرَّرَ لحقوق الدفاع أمام القضاء المدني إنما يفرضه القانون، كما أن القانون نفسه من ارتقى بحقوق الدفاع الى مستوى الواجب القانوني وجعلها موسومة بخاصية الالزام شأنها في ذلك شأن القاعدة القانونية، وفي هذا السياق صدر قرار عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) ورد فيه أن " المحكمة لا يجب عليها أن تُنبه الخصوم الى ما في حججهم من عيب بل من الواجب على طالب الحق أن تكون حجته سالمة مما يبطلها تلقائيا من غير توقف على ارشاد المحكمة لأن موقفها موقف حياد" [17]، وفي نفس السياق صدر قرار لمحكمة النقض المصرية اعتبر أنه " يصبح القاضي بقوة القانون غير صالح للحكم بالدعوى إذا ما اتخذ إجراء أو موقفا يكشف عن رأيه ووجهة نظره "[18].
ثالثا : اتسام الحق في الدفاع بطابع " النسبية ":
بالرغم من كل الضمانات
القانونية ذات الطابع المسطري تارة والموضوعي تارة أخرى، والتي أحيط بها حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني، ورغما عن الأهمية البالغة التي يحضى بها أمام المحكمة عند بتها في الخصومة المدنية المعروضة عليها، يبقى هذا الحق غير مطلق، بل إن من صميم خصوصياته أنه "حق نسبي" على نحو يجعل التمسك به مبنيا على أساس مشروع كلما اتصل المساس به أو خرقه بالضرر المسطري من جهة، وعلى أساس توازن المصالح من جهة أخرى.
أ ــ نسبية الحق في الدفاع لاتصاله بالضرر المسطري: يشكل معيار الضرر في القانون الاجرائي فيصلا بين كون مخالفة شكلياته أو عدم القيام بها على الوجه المطلوب يمس بحقوق الدفاع من عدمه، وتبعا لذلك فإن القاضي المدني يطبق الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية الذي يعطيه الحق في تقرير بطلان الإجراءات أو الحكم الصادر بناء على إجراءات باطلة في الحالات التي تتضرر فيها مصالح الأطراف فقط، على هذا الأساس ليس كل خرق للإجراءات المسطرية يعتبر خرقا لحقوق الدفاع أمام القضاء المدني، وهو نفس المقتضى المنصوص عليه في قانون المسطرة المدنية الفرنسي الذي ورد في فصله 114 أنه " لا يحكم ببطلان إجراء من إجراءات التقاضي إلا إذا نص القانون على البطلان صراحة، ما عدا إذا فقد الإجراء بيانا جوهريا أو كان متعلقا بالنظام العام، و لا يحكم بالبطلان إلا إذا أثبت المتمسك به حصول ضرر نتيجة المخالفة، حتى ولو كان البطلان متعلقا بإجراءات جوهرية أو متصلا بالنظام العام[19]".
و بالمقارنة بين المادة 114 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي، و الفقرة الثانية من الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية المغربي المتعلق بالبطلان الإجرائي، نجد أن المعيار الذي يتأسس عليه البطلان الإجرائي في كلا القانونيين متعلق بحصول الضرر للطرف الذي وقعت الإخلالات الإجرائية في حقه، رغم أن القانون الفرنسي كان أكثر وضوحا بتحديد حالات البطلان الذي حصرها في تلك التي ينص عليها القانون صراحة، أو فقدان الإجراء بيانا جوهريا أو كان متعلقا بالنظام العام، عكس المشرع المغربي الذي لم يحدد حالات البطلان بل نص فقط في الفقرة الثانية من الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية على أن المحكمة لا تقبل حالات البطلان إلا إذا كانت مصالح الطرف قد تضررت فعلا، دون تحديد هذه الحالات التي تركها المشرع لسلطة القضاء التقديرية[20].
وفي هذا السياق قضت محكمة النقض في نزاع مدني معروض عليها بخصوص طلبات الادخال ولزومية استدعاء المدخل في الدعوى مادام سيواجه بالحكم الصادر عن المحكمة، معتبرة أن " المشرع عندما رخص لكل من طرفي النزاع أن يدخل في الدعوى من يرى في إدخاله مصلحة وذلك للحكم عليه بكل او بعض المطلوب فانه كان لزاما على المحكمة ان تقوم باستدعاء المدخل في الدعوى على اعتبار انه أصبح طرفا فيها. وذلك تلافيا لحرمانه من مرحلة من مراحل التقاضي مما يكون معه الحكم الذي لم يحترم هذه القاعدة المسطرية الجوهرية باطلا" [21].
ب ــ نسبية الحق في الدفاع لاتصاله بتوازن المصالح الإجرائية في الخصومة المدنية: إن مناقشة هذه النقطة تتطلب تحديد جوانب معينة في التشريع المسطري المدني المغربي، لأن اتساع المقام قد يجعل التسليم بالفكرة صعب المنال مبدئيا، وبُناء عليه، تقرر الارتكاز على ما اصطلح عليه أعلاه بتوازن المصالح الإجرائية في الخصومة المدنية التي تُشكل المدخل المنطقي للقول بنسبية الحق في الدفاع.
ومناطُ ذلك مرتبط بإعادة النظر في مفهوم حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني والحق في المحاكمة المدنية العادلة عامة، على أساس أنهما لم يعودا حقين مطلقين بقدر ما هما حقين مندرجين في إطار النظام العام الاجرائي، وبدلالة أخرى، لا معنى للحق في الدفاع خارج المرتكزات الإجرائية، وهي النزاهة والسرعة والاقتصاد في الإجراءات.
فلا تؤخذ المبادئ إذن على إطلاقها وإنما تُفهم في سياقها وفي النظام الذي تتفاعل معه، حيث بدأ القضاء المقارن يطبق هذا المبدأ الاجرائي المتفرع عن القانون المسطري المدني، وقد قضت محكمة الاستئناف بتونس كون " مبدأ المواجهة وحق الدفاع ليسا حقين مطلقين بل شرّعا لحماية المصالح والحقوق بما يعني أن العدول عنهما يبقى ممكنا إذا ما اتضح أنه ليس لخرقهما تأثير جوهري على أصل النزاع والحكم في شأنه"[22].
ويتحد حول هذا التوجه كل من موقف المشرع التونسي وفقه القضاء اللذان يُغلّبان المصلحة العامة الإجرائية على المصلحة الخاصة الإجرائية، وهما في نفس الآن متوافقان مع علوية النظام العام الإجرائي الذي ينبغي أن يقدّم على النظام الخاص الاجرائي، وهو اتحاد يفضي لا محالة الى علوية مصلحة العدالة ومصلحة النظام القانوني المسطري بما تحمله من انسجام متجسد في اتحاد مبادئ السرعة والاقتصاد والنزاهة على حقوق المتقاضين إذا ما تعارضت معها، فحماية مصالح أطراف الخصومة المدنية مقدمة وتسمو فوق كل اعتبار ولو على حساب حقوق الدفاع التي قد يؤدي التمسك بها بشكل حرفي حسب منطوق النص، الى اصدار المحكمة حكما جائرا بالتطبيق الحرفي لنصوص القانون الاجرائي أو الموضوعي بدل التطبيق العادل للقانون الذي ينص عليه دستور المملكة الجديد، وهو أمر يُزكي أن حقوق الدفاع ذات طبيعة نسبية وغير مطلقة كلما كان الأخذ بها بحذافره يحتمل معه مساس بمصالح الخصوم[23].
ومنه، فإن حقوق الدفاع التي يَتَمَسَّكُ بها الخصوم أمام القضاء المدني نسبية، ومرد ذلك لاعتبارات تتمثل في ضمان توازن المصالح بين الأطراف المتنازعة، كما هو الحال في المنازعات التجارية التي تتطلب مناقشتها من طرف المحكمة الإدلاء بالوثائق والمستندات التي تشكل في حالات كثيرة مساسا بسر الأعمال مثلا، فالحق في السرية مكفول لكل تاجر، لكن على قدر من التوافق الواجب لكلا الخصمين بما يحفظ حقهما في السرية، و تجنبا لأي ضرر محتمل قد نتج عن إفشاء الأسرار التجارية من جهة، ثم حفظ الحق في الدفاع ضمانا للسير العادي والنزيه للإجراءات المسطرية من جهة أخرى، وذلك حسب ما يتطلبه مبدأ النزاهة في الإجراءات كما هو الأمر بالنسبة لمحكمة التعقيب التونسية عندما استندت ـــ ضمنيا ــــ في قرار لها الى المبدأ المذكور، وهو الظاهر من خلال رفضها الطعن بالتعقيب على أساس أن الطاعن يناقض موقفه الأول الذي رضي من خلاله بالحكم الابتدائي الذي تقرر استئنافيا، وقد جاء في حيثيات القرار أن " الطعن بالتعقيب له تعلق بالمصلحة العامة لأن محكمة التعقيب عندما تفصل في المسائل القانونية فإن ذلك يكون بغرض توحيد القضاء وعملا لاستقراره في توجه واحد وقد جعل المشرع من وظائف النيابة العمومية لدى التعقيب مساعدا للقضاء في وضع القواعد القانونية الصحيحة بإبداء الراي في الطعون التي ترفع الى محكمة التعقيب كتابة أو مناقشة"[24].
وما يدعم القول بكون حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني إنما هي حقوق نسبية أيضا، كون المادة 16 الواردة أعلاه من قانون إحداث المحاكم التجارية إنما يستشف منها أن المحكمة التي تنظر الخصومة يقع على عاتق أطرافها التزام "الإيجابية المسطرية" حيث يساهم الأطراف من خلال إدلائهم بالوثائق والمستندات في تسريع إجراءات الخصومة من خلال الأدوار الإيجابية التي يقومون بها بمعية الدور الإيجابي الذي تقوم به المحكمة أيضا، وهو الأمر ذاته الذي يستشف من الفصول الواردة أعلاه من مدونة التجارة حيث الأطراف أدوارا إيجابية في تدبير إجراءات الدعوى وتحقيقها[25].
المحور الثاني: أسس حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني والمأمـــــــــــــــــــــــول منه
بديهي أن كل مؤسسة قانونية لها أسس ومرتكزات تقوم عليها، وكانت عاملا أساسيا في ولادتها بالحُلة التي هي عليها، وحق الدفاع باعتباره عمادُ الحقوق الإجرائية والقانون المسطري بوجه عام، فإن له أُسسا ذات طابع نظري وأخرى ذات طابع قانوني ( البند الأول )، ولئن كانت هذه الأسس كلاسيكية في نظر الفقه القانوني، إلا أنها ضرورية الى درجة وجودية، حيث لا يمكن تصور الحق في الدفاع أمام القضاء المدني دون أسسه النظرية والقانونية والعكس صحيح، وهو الامر الذي يجعل المأمول من تكريس الحق في الدفاع أبعد من حفظ الحق الاجرائي بالمفهوم الضيق، بل هو مدخل لضمان محاكمة مدنية عادلة ( البند الثاني ).
البند الاول : بحث في أسس الحق في الدفاع المثار أمام القضاء المدني
أولا: الأساس النظري لحق الدفاع أمام القضاء المدني: بالرغم من تعدد الأسس
النظرية للحق في الدفاع ذو الطابع المدني، فإن بحثه يفرض التركيز على أهمها، والتي تتمثل في نظريتين أساسيتين لهذا الحق في نطاق الإجراءات المدنية، و هما: نظرية المبادئ القانونية ( أ )، ونظرية القانون الطبيعي ( ب ).
أ: نظرية المبادئ القانونية العامة: فحق الدفاع ذو الطابع المدني يستند الى نظرية المبادئ القانونية العامة التي تفيد أن للقاضي دورا إيجابيا آن تطبيق القاعدة القانونية، فهو من يبث الروح فيها من خلال تطبيقها على النوازل المعروضة عليه، وكل نقص في القاعدة القانونية فإنه يقوم بسده طبقا لما تُمليه عليه مقتضيات وظيفته وهو ما يتولد عنه " المبدأ القانوني العام"، بحيث أن القاضي قد يستمد العون من دائرة الفلسفة والأخلاق كلما سنحت له الفرصة من أجل تكملة القانون وتطبيقه بشكل أفضل، فالقاضي يتمتع بحاسة الشعور بالقانون، وإنه كبشر يشعر دائما بالعدل، ومن خلال هذا الشعور بالقانون والشعور بالعدل يستطيع القضاء تقرير ما يسمى بالمبادئ القانونية العامة التي تسود المنازعة المعروضة على أنظاره، وهي بذلك تندمج مع حق الدفاع الذي يروم تحقيق المساواة في المراكز الإجرائية بين الخصوم[26]، لتكون من ثمة نظرية المبادئ القانونية العامة أساسا صالحا للحق في الدفاع في نطاق الدعوى المدنية.
ب: نظرية القانون الطبيعي: يستند حق الدفاع في نطاق الخصومة المدنية الى نظرية القانون الطبيعي التي تفيد وجود " قواعد ذات قيمة قانونية عالمية Des règles ayant une valeur universelle " لارتكازها على الضمير الإنساني، ومن منطلق أن فكرة العدل تتجاوز فكرة القانون، فإن الغاية الأساسية لدى القاضي هي تحقيق العدل من خلال التطبيق العادل للقانون.
إن اعتماد نظرية القانون الطبيعي أساسا لحق الدفاع، يتمثل من خلال المبادئ الإجرائية التي تتولد عنها الحقوق الإجرائية غير الموجودة في القانون الوضعي المكتوب بينما هي راسخة في القانون الطبيعي، كقاعدة ألا يكون القاضي خصما وحكما أو أن يحكم على شخص دون سماع دفاعه، فهذه الحقوق تثبت للإنسان لمجرد كونه إنسانا، وهي التي تسمى بحق الدفاع الذي يحكم كل الروابط الإجرائية[27].
ثانيا: بحث في الأساس القانوني للحق في الدفاع المثار أمام القضاء المدني: لعل خير ما يمكن أن يكون أساسا قانونيا صالحا للحق في الدفاع في نطاق الدعوى المدنية هو نص الدستور المغربي لسنة 2011 الذي ينص في فصله 120 على أن: " حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم".
والجدير بالذكر أنه ما دام أسمى قانون في البلاد يكفل حقوق الدفاع لكل المتقاضين أمام المحاكم المغربية، فإن ما سواه من القوانين سواء ذات الطابع الموضوعي أو الاجرائي، إنما يستند إليها في اعتبارها أساسا قانونيا لحقوق الدفاع التي تدخل في كنف الدعوى المدنية، وفي مقدمتها قانون المسطرة المدنية باعتباره يضم القواعد المنظمة لهذا الحق أمام القضاء المدني وكذا مباشرته عند نظر الدعوى[28].
البند الثاني: المأمول من احترام حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني
لئن تعددت حقوق الدفاع المتاحة أمام القضاء المدني، فالمغزى منها أوحد متصل
بكفالة حق الخصوم في محاكمة مدنية عادلة، هذه الأخيرة مرتبطة وجودا وعدما بمدى الاحترام الواجب لكل حق من حقوق الدفاع، أو الحقوق المسطرية التي يتشكل بها حق الدفاع أساسيا كان أو مُساعدا.
وإنه لإبراز كون حقوق الدفاع مدخل لمحاكمة مدنية عادلة، يقتضي الوقوف عند مدلولها وفق ما يقتضيه المقام، والمتمثل في كونها تفيد كُتلة المبادئ مثل المساواة والتساوي في الأسلحة لإتاحة الخصم فرصة تقديم وسائله القانونية بين يدي المحكمة، حتى لا يكون أحد الخصوم في مركز ضُعف عند مواجهة خصمه، وأن تخضع جميع عناصر الخصومة لزوما للمناقشة بين الطرفين، مع إدارتها في آجال معقولة وبطريقة علنية، وأن تُعلَّل الاحكام الصادرة بشأنها من طرف القاضي الطبيعي[29].
فالقول بمحاكمة مدنية عادلة مرتبط ارتباطا عُضويا بحقوق الدفاع، حتى أنه يكاد يصعب إعطاء تعريف لها دون استحضار الحقوق والواجبات الإجرائية التي تُشكل حقوقا للدفاع تارة، وتارة أخرى عنصرا من عناصر حق الدفاع الذي يتوجب أن يُحترم ويُصان، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بمحاكمة مدنية عادلة دون رُكنها وعمادها الذي تجسده حقوق الدفاع الممكنة أمام القضاء المدني.
من هذا المنطلق إذن، يكون المدخل الأساسي لتكريس محاكمة مدنية عادلة متمثلا في حقوق الدفاع ومدى كفالتها، وإن حماية وصيانة حقوق الدفاع من الخرق السافر، ودفعا لكل إضرار محتمل بحقوق الخصوم المتنازعة، لا تكتمل حماية هذه الحقوق إلا بضمان باقي الحقوق الإجرائية وفي مقدمتها مبدأ التقاضي على درجتين كإجراء يجب توفيره للمتقاضي، ثم مبدأ الآجال المعقولة للمحاكمات و أحكامها و الذي يشكل عنصرا حاسما للفصل في النزاعات و القضايا، حيث إن هذا المبدأ يعرف عدة تغيرات نسبية في تطبيقاته و مفاهيمه، فهو إجراء كحل وسط ما بين متطلبات ما قرّر لهذه المحاكمة من وقت و ما بين التمعن و التروي للنظر في الخصومة، دون أن تؤدي هاته الآجال سواء كان بالسرعة أو التأني الى إهدار حقوق المتقاضين.
وهذا المبدأ له تطبيقات عديدة أمام القضاء الإداري في المغرب، والذي دأب العمل فيه على تكريس أدوات إجرائية عديدة تقوم بُرهانا على وجود حاجة مُلحة الى إعداد مسطرة خاصة بالقواعد الإجرائية المطبقة أمام القضاء الإداري تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المنازعة الإدارية وتخلق انسجاما بين إيقاع سير القضاء وبين توفير ضمانات البت في آجال معقولة[30].
ومن تطبيقات هذا المبدأ ما تعرض له قضاء المحكمة الإدارية بالرباط بشأن ضبط بعض ملامح مفهوم الأجل المعقول، وورد في حيثيات الحكم ما يلي: "دون تجاوز للأجل المعقول للبت والذي تراعى فيه طبيعة القضية والدفوع المثارة ومستندات الدعوى واحترام حق الدفاع والوقت الكافي لدارسة الدعوى والبت فيها"[31].
إضافة الى ما سلف، فقد تطرق قانون المسطرة المدنية الى حقوق الدفاع لكن ليس بهذا المصطلح الصريح بل جاء ذلك بطريقة ضمنية تحدث فيها عن أدوات و طرق استعمال هذه الحقوق و ذلك باتباع اجراءات معينة عند تنظيمه للخصومة المدنية بكل جوانبها، وهو بذلك قد رام كل صور مظاهر حقوق الدفاع المتصل في أكثر من موضع بمبدأ الوجاهية بين المتقاضين، هذا المبدأ الذي أخذ حيزا وفيرا في المجال القانوني و الاجرائي كآلية من آليات حق الشخص في محاولة وصوله الى محاكمة مدنية عادلة، وكل ما يتصل به مقرر تحت طائلة بطلان الإجراء المعيب أو بُطلان الحكم الصادر بناء على إجراء معيب خُرق فيه حق من حقوق الدفاع، كما أنه من اللازم الاشارة لمبدأ العلنية الذي يعتبر عاملا أساسيا لإضفاء الشفافية أثناء ممارسة حقوق الدفاع، والكل ضمانا لحماية مصالح المتقاضين و حفاظا على النظام العام الاجرائي.
وفي هذا الصدد من المفيد الاشارة الى بعض سقطات القانون الاجرائي من حيث تنظيمه للقواعد المسطرية التي يحاول فيها المتقاضي السعي لتكريس محاكمة مدنية عادلة، ولعلها مُتجلية في بعض المسائل التقنية والفنية ذات الكُنه الشكلي، والمقترنة بقُصور النص المنشئ لها من جهة، ثم ببعض التوجهات المُكَرسة من طرف ممارسي القانون الاجرائي والمُنظِّرين فيه من جهة أخرى، والأهم في ذلك مُحاولة تصحيح ما أمكن من هذه الأخطاء والثغرات التي قد تُجَنِّب المساس بمبدأ المحاكمة العادلة.
خاتمة:
وختاما، فإن موضوع " تأملات في أسس حقوق الدفاع أمام القضاء المدني وأبعاده " وإن كان شاسعَ النطاق وله ارتباطات في كل مناحي القانون الاجرائي المغربي، فقد تم التركيز فيما تقدّم على تقديم مقاربة مفاهيمية له وإيضاح مضمون الحق في الدفاع إبَّان البت في الخصومة المدنية.
ولعل أهمية موضوع حقوق الدفاع أمام القضاء المدني إنما تتبدى أهميتها بشكل أكثر وضوحا عند كل مساس بها، سواء كان مساسا بمثابة خرق سافر لها أو مساسا يسيرا قابلا للإصلاح مسطريا، من طرف المحكمة أو الأطراف شخصيا وبواسطة دفاعهم، والكل مع مراعاة الغاية العليا من كفالة هذه الحقوق أساسية كانت أو مساعدة، لأن في ضمانها ضمان وتحقيق للأمن القانوني والأمن القضائي بما هما مبدأين ومطلبين دستوريين على حد سواء.
فهذا الموضوع ـــ بما له من ارتباطات داخل المنظومة الإجرائية ــــ إنما يروم ضمان " محاكمة مدنية عادلة"، من منطلق أن لها ضمانات عديدة وأساسية ينبغي توفرها لزوما في كل خصومة مدنية بين يدي القضاء المدني، لأن في صيانة حقوق الدفاع، تكريس للمحاكمة المدنية العادلة، بناء على كونها مطلبا دستوريا، وإلى جانبها مضمونة أيضا حقوق الدفاع، وهو الامر الذي يتوجب معه على مشرع القانون المسطري المدني في المغرب، تقديم ضبط مزيدا، بدءا من صياغة النصوص المسطرية، مرورا بوسائل تنزيلها، وصولا الى حكم قضائي احترُمت فيه حقوق الدفاع، بناء على التطبيق العادل للقانون.
انتهى بحمد الله وعونه
الهوامش
لَئِن كان الفصلُ في الخصومة المدنية يستوجب بسطها أمام المحكمة، فإن القانون يفرض أن تكون هذه المحكمة مختصة مكانيا ثم نوعيا، وهو الأمر الذي يفرض القول بكون الدعوى تنظرها محكمة ذات صلاحية، سواء كانت مدنية أو تجارية أو إدارية أو زجرية، فكلُّها جِهات قضائية مُلزَمة قانونا بتطبيق كل ما يفرضه القانون من التزامات إجرائية وموضوعية، بل وبتطبيقها تطبيقا عادلا[1] تحت طائلة ترتيب آثار قد تجعل الحكم محلا للطعن أمام المحكمة الأعلى درجة، وقد تُرتب عليه أثرا مُعدِّلا، كما يمكن أن تعدم الحكم نهائيا.
ومادام الموضوع قيد الدراسة متصل بالقضاء المدني، فإن ضرورة البحث فيه اقتضت الاقتصار على حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني من حيث مفهومها وأسسها النظرية والقانونية، وبذلك فهو يتصل اتصالا وثيقا بكُنه الحق الإجرائي الذي يُباشره كل مُتخاصم اتخذَ مركزا معينا أمام القضاء المدني في دعوى ينظُرها، سواء كان مُدعي أو مٌدعى عليه، مُدخلا أو مُتدخلا في الدعوى، وبوجه عام كل طرف له مصلحة في الحق موضوع الدعوى.
وبناء على ما تقدم، فإن الحديث عن حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني إنما يقتضي لُزوما الوقوف عند مفهومه وبيان القصدِ منه في إطار اتصاله على نحو وثيق بأوجه بحثه المُستمَدة أساسا من مُكنة التمسك به أمام المحكمة المدنية إِبَّان نظرها في الدعوى المدنية المعروضة، ومن هذا المنطلق يكون المقصود بحق الدفاع ـــــ في معرض البحث ــــ حقُ الخصم في أن يَسمع القاضي وجهة نظره Le droit d'être entendu، فإذا أصدر القاضي حُكمه دون سماع الخصم الآخر، أو تمكينه على الأقل من إسماع القاضي دفاعه، كان الحكم مشوبا بالإخلال بحق الدفاع، باعتباره نتيجة منطقية لكل خرق مسطري ترتب عنه ضرر لذي المصلحة في الخصومة القضائية[2].
ارتكازا على ما تقدم، فقد آثرنا دراسة موضوع حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني من خلال مقاربة مفاهيمية وتأسيسية مرتكزة على الفقه والقانون والقضاء، وذلك على النحو الآتي:
المحور الأول: محاولة في بحث مفهوم حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني
المحور الثاني: أسس حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني والمأمول منه
المحور الأول: مُحاولة في بحث مفهوم حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني
إن مسألة تحديد المفاهيم الرئيسية التي يرتكز عليها الموضوع قيد البحث، تستلزم أساسا بيان مضمونه ومحتواه بشكل يُعين على تحقيق الغاية المعرفية، وكذا تقريب وتوضيح منحاهُ، وهو الأمر الذي يَنم دون ريب على اتحاد دور كل من علم المناهج القانونية، والمادة القانونية المبحوثة، خاصة إذا ما استحضرنا القيمة القانونية المزدوجة لموضوع حق الدفاع أمام القضاء المدني الذي يرتبط فيه الاجرائي بالموضوعي على حد سواء، ففي هذا الاتحاد وصونُه حماية لحقوق كل من لجأ الى القضاء طلباً لتقرير حقٍّ، أو دَفعاً لتعدٍ طالهُ.
تقتضي الضرورة المنهجية في هذا المقام المخصص لبيان ماهية حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني، الوقوف عند المقصود منها تعريفا وإيضاحا ( البند الأول )، ثم الانتقال الى تحديد أهم خصائص الحق في الدفاع ( البند الثاني ).
البند الاول: مقاربة مفاهيمية لحق الدفاع المثار أمام القضاء المدني
يقتضي الحديث عن المراد بحق الدفاع في شقه المدني خاصة، باعتباره محل الدراسة، التطرق بداية للمقصود منه تعريفا ( أولا )، ثم لمضمونه إيضاحا ( ثانيا ).
أولا: المقصود بحق الدفاع :
لئن أجمع فقهاء القانون على أهمية حق الدفاع وقيمته القانونية، فإنهم أقرُّوا في المقابل كونه يمثل أحد أكثر المفاهيم غموضا وإلتباساً، فقد اختلفت الآراء وتنوعت حوله، لكنها استقرت في النهاية على أنه مفهوم غامض ومتشعب يصعُب ضبطه وحصرُه، ولعلَّ ما يُبرر صعوبة حصر حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني هو غياب وعُسر تحديد مفهوم حق الدفاع ذاته، بل إن جٌل الفقه القانوني ركز على تحديد قائمة لضمانات الحق في الدفاع دون التعرض للحق ذاته، والذي بقي غامضا عصِيًّا عن الادراك والفهم، عوض العمل على تحديد مفهوم حق الدفاع.
هذا وإن كان حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني له خصوصية تفرضها الطبيعة القانونية للخصومة المدنية نفسها، ومنها تتطبَّعُ حقوق الدفاع المثارة أمام القاضي المدني، فمن دون ريب يبقى هذا الحق متوشحا بالغموض في كُنهه، حتى في تعامل القضاء معه، حيث غالبا ما تجد المحكمة التي تنظر الدعوى، تُقيمُ اتصالا وتلاحُما بين وجود الخلل المسطري أو الخروقات الجوهرية منها والشكلية كلما اتصلت بتضرر مصالح طرف في الخصومة المعروضة بين يديها وبين الحق في الدفاع، بل إن الأمر في حالات عديدة يروم اعتبار كل هذه الشوائب بمثابة تعدٍّ على حقوق الدفاع، والذي يتعين بالأولى دفعه، أو رفع وجه الخلل فيه بالتعديل والتصويب، مع مراعاة الطابع الخاص لعمل القاضي المدني تُجاه الدعوى، سيما من حيث دوره الإيجابي في تدبير الخصومة المدنية.
ومنه، لا شك إذن فيما يحضى به حق الدفاع ضمن الحقوق الإجرائية سواء من جانب الفقه كما سلف الذكر، أو تشريعيا من جانب المشرع، أو قضائيا من جهة القاضي المدني، ولعل برهان ذلك تنصيص القانون الأسمى في البلاد عليه من خلال الفصل 120 من دستور 2011 المغربي[3].
استنادا الى ما ألفي أعلاه، فقد عرَّف الفقه حق الدفاع بكونه " سلطة الخصم في استعمال كافة الوسائل والمُكنات الإجرائية التي يَقصد بها إثبات ما يدعيه، وتأييد دفاعه، كما تشتمل كيفية استعمال هذه المُكنات والوسائل بواسطة المذكرات الكتابية والمرافعات الشفوية"[4]، كما يمكن تعريف الحق في الدفاع ــ حسب المفهوم التقليدي ـــ بأنه: " حق الخصم في أن يسمع القاضي وجهة نظره le droit d'etre entendu فإذا أصدر القاضي حكمه دون سماع الخصم الآخر، أو تمكينه على الأقل من إسماع القاضي دفاعه كان الحُكم مشوبا بالإخلال بحق الدفاع[5].
هذا وقد عرَّف الفقيه المغربي "ادريس العلوي العبدلاوي" جوهر حقوق الدفاع بأنها: " كل ما يٌخوله القانون للخصم من وسائل في الخصومة لتكوين الرأي القضائي لصالحه، توصُّلا الى الحكم لصالحه في النهاية"[6].
وجدير بالذكر أن حق الدفاع بكُنهه هذا، لا يمكن القول بقيامه ولا تصور وجوده في غياب الضمانات الإجرائية، حيث إن وجود كلاهما رهين بوجود الآخر، وكلاهما يهدف الى إحقاق العدالة وإعلائها بتمكين كل شخص يكون طرفا في نزاع مدني قائم أو محتمل، وبالتالي الدفاع عما له من مصالحَ في كنف المساواة أمام العدالة.
ثانيا: إيضاح مضمون حق الدفاع:
إن حقوق الدفاع التي يمكن إثارتها أمام القاضي المدني على تعددها واتصالها على نحو وثيق بالحقوق والواجبات الإجرائية التي يسلكها كل متقاض في دعواه، إنما لها حمولة حقوقية ذات وجهين، الأول: وجه تكاملي مشترك والثاني: وجه انعكاسي، وكلاهما يحتويه مبدأ إجرائي صرف في القانون المسطري المغربي.
من هذا المنطلق إذن، ومادام لكل حق حمولة ومضمون معين فقها وقانونا وقضاء، فإن لحق الدفاع المثار أمام القضاء المدني مضمون مبني أساسا على مبدأ المواجهة Le principe du contradictoire، ومفاد الأمر أن حقوق الدفاع على تعددها، يأتي على رأسها مبدأ احترام الحق في العلم تمكينا للرد على الخصم وإسماع القاضي هذا الردِّ، كما أنه وما دام مضمون حق الدفاع ذو الصبغة المدنية ينشطر أساسا الى ما ذكر، فإن الامر يقتضي الإشارة الى كون الكلِّ متضمن لمجموعة من الالتزامات الاجرائية التي يتوجب احترامها كعبء إجرائي لطرف، وحق للآخر في نفس الآن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كلاًّ من الحق والالتزام الاجرائي ـــ من وجهة نظرنا ــ عبارة عن وسيلة قانونية تهدف الى توفير الحماية القضائية للمصالح المشروعة، مادام صاحب الحق الاجرائي يملك استعماله ضمن الحدود المرسومة له بما يخدم و يحقق هذه الغاية دون انحراف، فالأساس السليم لحق الدفاع أمام القضاء المدني يستند الى مدى استعماله مع عدم الاضرار بالغير أو تحقيق مصلحة غير مشروعة، وهذه من القواعد الكلية التي ترمي الى تحقيق التوازن والعدل والانصاف[7]، ويحكمها مبدأ التقاضي بحسن نية كما تقتضيه المادة الخامسة من ظهير المسطرة المدنية المغربي[8].
البند الثاني: السِّماتُ المميزة لحق الدفاع أمام القضاء المدني
إن كان حق الدفاع على قدر من الأهمية في التدبير القضائي للدعوى برمتها، فإن مردّ ذلك الى ما يتسم به من خصائص مسطرية تارة، وموضوعية تارة أخرى، من منطلق الطبيعة المزدوجة التي يتَّسمُ بها، فكل حق من حقوق الدفاع التي تدخل في نطاق الدعوى المدنية يحتمل حكمين اثنين، فهو حق إجرائي لطرف، وفي ذات الوقت واجب إجرائي للطرف الآخر ( أولا )، كما أن من خصائص الحق في الدفاع أنه " حق ملزم للمحكمة " ( ثانيا )، و " حق نسبي " ( ثالثا ).
أولا : اتسام حق الدفاع بكونه " قاعدة قانونية " لا " حرية إجرائية "
لعل اتسام حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني بكونه قاعدة قانونية لا حرية إجرائية من أهم الخصائص التي تطبعه من الناحية القانونية والفقهية أيضا، وهو ما يبرر تعدد التسميات التي تطلق عليه، فهو حق الدفاع أو حرية الدفاع، أو الحق في حرية الدفاع، إذ كلها مصطلحات تستخدم باعتبارها مترادفات.
والعلة في ترجيح مسمى حق الدفاع على حرية الدفاع، مردها الى الغموض الذي يكتنف نطاق المنازعة المدنية المشوبِ النقص والغموض، وهو أمر راجع الى كون احترام حق الدفاع ليس أمرا متصلا بالعلاقة بين الخصوم فحسب، بل يتعلق أيضا بالعلاقة بينهما وبين القاضي، حيث إن استعمال المصطلحين معا يفتح المجال للاعتقاد بأن هذا المبدأ لا يحمي سوى مصالح المدعى عليه لأنه هو الذي يدافع غالبا عن القضية، لكن الحقيقة غير ذلك لكون هذا المبدأ يحمي مصالح المدعي كما يحمي مصالح المدعى عليه[9]، فالدعوى في مفهومها الصحيح ليست حقا للمدعي فحسب ولكنها حق أيضا للمدعى عليه في دحض ادعاءات المدعي.
تأسيسا على ما تقدم، فإن الأولى استعمال مصطلح حق الدفاع بدل الحرية، لأن هذه الأخيرة تتعلق فقط باستعمال الحق، وتدور حول استعمال الحق من عدمه، أو عدم تقرير مسؤولية صاحب الحق إذا استخدم بشكل ينطوي على التعسف في استعماله، والجدير بالذكر أيضا استعمال حق الدفاع بصيغة المفرد بدل حقوق الدفاع لأن الأمر يتعلق بحق راجح يتضمن مجموعة من التطبيقات الفرعية، ومخالفة إحداها تعد مخالفة احداهما مخالفة مباشرة للمبدأ الإجرائي المتفرع عن حق الدفاع ومخالفة غير مباشرة لحق الدفاع.
فحق الدفاع إذن شكل من الأشكال الإجرائية المحضة، فهو يحكم سيادته على كل خصومة أمام القضاء و يصبح عنصرا من عناصر القانون، فهو لازمة ضرورية لحسن سير العدالة، ومن هذا المنطلق إذن ــــ فضلا عن الثابت آنفا ــــ يكون احترام حق الدفاع قاعدة قانونية بالمعنى الفني الدقيق[10]، وقد استقر القانون[11] و القضاء [12]على أن مخالفة حق الدفاع تصلح سببا للطعن بالنقض في الحكم لمخالفة القانون، وفي هذا جاء في قرار محكمة النقض ( المجلس الأعلى سابقا )، أنه " حيث ينعي الطاعن على القرار في الوسيلة الأولى خرق قاعدة مسطرية أضر بالطالب الإخلال بحقوق الدفاع، ذلك أن محكمة الاستئناف أدرجت الملف للمداولة لجلسة 10/12/09 وأثناء المداولة أدلى المستأنف ( المطلوب ) بواسطة دفاعه بمذكرة الإدلاء بوثائق أثناء المداولة وأرفقها بنسخة إنذار من أجل الزيادة في الكراء منجز في ملف عقود مختلفة عدد 8913/07 وبصورة حكم ابتدائي صادر بتاريخ 21/04/07 في الملف عدد 1286/07، وأنه بالرجوع الى حيثيات القرار يتضح أنه اعتمد في إصدار قراره المذكرة المدلى بها أثناء المداولة وعلى الوثائق المرفقة بها والتي لم تبلغ الى الطالب ولم تعرض على دفاعه للاطلاع على السند الذي اعتمده القرار ليقول فيه كلمته مما يشكل إخلالا بحقوق الدفاع، مما يعضه للنقض.
وحيث إنه بالاطلاع على محضر الجلسات يتبين أن القضية أدرجت لجلسة 26/11/09 بعد صدور أمر بالتخلي والتي حجزت فيها القضية للمداولة لجلسة 10/12/09 التي صدر فيها القرار المطعون فيه معتمدا في قضائه ما أدلى به المطلوب من وثائق متمثلة في إنذار بالزيادة في السومة الكرائية ومقرر قضى برفع السومة الكرائية وتجديد العقد الكرائي بين الطرفين، وهي وثائق لم تبلغ للطرف الطالب للإطلاع والتعقيب عليها مادامت قد اعتمدت في قضاء المحكمة، مما يشكل خرقا لحقوق الدفاع ويكون ما استدل به في الوسيلة واردا على القرار يستوجب نقضه".
ثانيا : اتسام حق الدفاع بكونه " حق ملزم للمحكمة "
لعل أبرز خاصية تتسم بها حقوق الدفاع أمام القضاء المدني كونها ملزمة للمحكمة كما إلزامها للأطراف المتنازعة، فهو واجب قانوني يتضمن مجموعة من الالتزامات الإجرائية، ومن ثمة، والحالة هاته يلقى على عاتق القاضي من خلال عدة أوجه، منها واجب القاضي في الالتزام بعدم الانحياز، لكون هذا الأخير يؤدي الى الاخلال بالمساواة في مراكز الخصوم الإجرائية وهي الغاية التي ينشدها حق الدفاع، ومن أجل ذلك ينظم القانون إجراءات رد القضاة تحقيقا للحياد، ويمتنع عليهم أن يقضوا بعلمهم الشخصي وإلا يكونوا قد انحازوا وأخلوا بحق الدفاع[13].
ومن بين ما يلتزم به القضاة احتراما لحق الدفاع، وجوب الرد على طلبات الخصوم وأوجه دفاعهم ودفوعهم الجوهرية وإلا كان الحكم مشوبا بالانعدام الجزئي للتسبيب[14]، وهو الأمر الذي ينبغي على القاضي أن توليه بالغ الأهمية، إذ فيه يتضح المدلول القانوني للتسبيب الذي يشتمل على التعليلات والحيثيات الكافية التي سوغت صدور الحكم، كما أن تعليل الأحكام والمقررات القضائية بشكل عام لا يتحقق إلا من خلال إحاطة القاضي المطروح أمامه النزاع بالوقائع التي استند عليها الخصوم وفقاً للقواعد القانونية والطرق الثبوتية المعوَّل عليها قانوناً، واختيار الصحيح منها، وطرح غير الصحيح، وإلباسُها الثوب القانوني الملائمُ لها أي تكييفها تكييفا قانونيا صحيحا، ليتسنى للقاضي تطبيق القاعدة القانونية الواجبة الإتباع[15]، ويعتبر هذا الأمر أيضا من باب احترام حقوق الدفاع بما هي واجب قانوني ملقى على المحكمة.
ينضاف الى ما تقدم بخصوص اعتبار حق الدفاع ملزم للقاضي، عدم تغيير القاضي للعناصر الموضوعية للطلب القضائي أو الادعاء، وأساسه، لأن في ذلك تدخل في ميدان الواقع وهو مجال تترك السيادة فيه للخصوم، وكل تدخل فيه قد يترتب عنه إخلال بواجب الحياد[16] بالنسبة للواقع وبالتالي الاخلال بحق الدفاع، ومنه فإن الاحترام المقرَّرَ لحقوق الدفاع أمام القضاء المدني إنما يفرضه القانون، كما أن القانون نفسه من ارتقى بحقوق الدفاع الى مستوى الواجب القانوني وجعلها موسومة بخاصية الالزام شأنها في ذلك شأن القاعدة القانونية، وفي هذا السياق صدر قرار عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) ورد فيه أن " المحكمة لا يجب عليها أن تُنبه الخصوم الى ما في حججهم من عيب بل من الواجب على طالب الحق أن تكون حجته سالمة مما يبطلها تلقائيا من غير توقف على ارشاد المحكمة لأن موقفها موقف حياد" [17]، وفي نفس السياق صدر قرار لمحكمة النقض المصرية اعتبر أنه " يصبح القاضي بقوة القانون غير صالح للحكم بالدعوى إذا ما اتخذ إجراء أو موقفا يكشف عن رأيه ووجهة نظره "[18].
ثالثا : اتسام الحق في الدفاع بطابع " النسبية ":
بالرغم من كل الضمانات
القانونية ذات الطابع المسطري تارة والموضوعي تارة أخرى، والتي أحيط بها حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني، ورغما عن الأهمية البالغة التي يحضى بها أمام المحكمة عند بتها في الخصومة المدنية المعروضة عليها، يبقى هذا الحق غير مطلق، بل إن من صميم خصوصياته أنه "حق نسبي" على نحو يجعل التمسك به مبنيا على أساس مشروع كلما اتصل المساس به أو خرقه بالضرر المسطري من جهة، وعلى أساس توازن المصالح من جهة أخرى.
أ ــ نسبية الحق في الدفاع لاتصاله بالضرر المسطري: يشكل معيار الضرر في القانون الاجرائي فيصلا بين كون مخالفة شكلياته أو عدم القيام بها على الوجه المطلوب يمس بحقوق الدفاع من عدمه، وتبعا لذلك فإن القاضي المدني يطبق الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية الذي يعطيه الحق في تقرير بطلان الإجراءات أو الحكم الصادر بناء على إجراءات باطلة في الحالات التي تتضرر فيها مصالح الأطراف فقط، على هذا الأساس ليس كل خرق للإجراءات المسطرية يعتبر خرقا لحقوق الدفاع أمام القضاء المدني، وهو نفس المقتضى المنصوص عليه في قانون المسطرة المدنية الفرنسي الذي ورد في فصله 114 أنه " لا يحكم ببطلان إجراء من إجراءات التقاضي إلا إذا نص القانون على البطلان صراحة، ما عدا إذا فقد الإجراء بيانا جوهريا أو كان متعلقا بالنظام العام، و لا يحكم بالبطلان إلا إذا أثبت المتمسك به حصول ضرر نتيجة المخالفة، حتى ولو كان البطلان متعلقا بإجراءات جوهرية أو متصلا بالنظام العام[19]".
و بالمقارنة بين المادة 114 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي، و الفقرة الثانية من الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية المغربي المتعلق بالبطلان الإجرائي، نجد أن المعيار الذي يتأسس عليه البطلان الإجرائي في كلا القانونيين متعلق بحصول الضرر للطرف الذي وقعت الإخلالات الإجرائية في حقه، رغم أن القانون الفرنسي كان أكثر وضوحا بتحديد حالات البطلان الذي حصرها في تلك التي ينص عليها القانون صراحة، أو فقدان الإجراء بيانا جوهريا أو كان متعلقا بالنظام العام، عكس المشرع المغربي الذي لم يحدد حالات البطلان بل نص فقط في الفقرة الثانية من الفصل 49 من قانون المسطرة المدنية على أن المحكمة لا تقبل حالات البطلان إلا إذا كانت مصالح الطرف قد تضررت فعلا، دون تحديد هذه الحالات التي تركها المشرع لسلطة القضاء التقديرية[20].
وفي هذا السياق قضت محكمة النقض في نزاع مدني معروض عليها بخصوص طلبات الادخال ولزومية استدعاء المدخل في الدعوى مادام سيواجه بالحكم الصادر عن المحكمة، معتبرة أن " المشرع عندما رخص لكل من طرفي النزاع أن يدخل في الدعوى من يرى في إدخاله مصلحة وذلك للحكم عليه بكل او بعض المطلوب فانه كان لزاما على المحكمة ان تقوم باستدعاء المدخل في الدعوى على اعتبار انه أصبح طرفا فيها. وذلك تلافيا لحرمانه من مرحلة من مراحل التقاضي مما يكون معه الحكم الذي لم يحترم هذه القاعدة المسطرية الجوهرية باطلا" [21].
ب ــ نسبية الحق في الدفاع لاتصاله بتوازن المصالح الإجرائية في الخصومة المدنية: إن مناقشة هذه النقطة تتطلب تحديد جوانب معينة في التشريع المسطري المدني المغربي، لأن اتساع المقام قد يجعل التسليم بالفكرة صعب المنال مبدئيا، وبُناء عليه، تقرر الارتكاز على ما اصطلح عليه أعلاه بتوازن المصالح الإجرائية في الخصومة المدنية التي تُشكل المدخل المنطقي للقول بنسبية الحق في الدفاع.
ومناطُ ذلك مرتبط بإعادة النظر في مفهوم حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني والحق في المحاكمة المدنية العادلة عامة، على أساس أنهما لم يعودا حقين مطلقين بقدر ما هما حقين مندرجين في إطار النظام العام الاجرائي، وبدلالة أخرى، لا معنى للحق في الدفاع خارج المرتكزات الإجرائية، وهي النزاهة والسرعة والاقتصاد في الإجراءات.
فلا تؤخذ المبادئ إذن على إطلاقها وإنما تُفهم في سياقها وفي النظام الذي تتفاعل معه، حيث بدأ القضاء المقارن يطبق هذا المبدأ الاجرائي المتفرع عن القانون المسطري المدني، وقد قضت محكمة الاستئناف بتونس كون " مبدأ المواجهة وحق الدفاع ليسا حقين مطلقين بل شرّعا لحماية المصالح والحقوق بما يعني أن العدول عنهما يبقى ممكنا إذا ما اتضح أنه ليس لخرقهما تأثير جوهري على أصل النزاع والحكم في شأنه"[22].
ويتحد حول هذا التوجه كل من موقف المشرع التونسي وفقه القضاء اللذان يُغلّبان المصلحة العامة الإجرائية على المصلحة الخاصة الإجرائية، وهما في نفس الآن متوافقان مع علوية النظام العام الإجرائي الذي ينبغي أن يقدّم على النظام الخاص الاجرائي، وهو اتحاد يفضي لا محالة الى علوية مصلحة العدالة ومصلحة النظام القانوني المسطري بما تحمله من انسجام متجسد في اتحاد مبادئ السرعة والاقتصاد والنزاهة على حقوق المتقاضين إذا ما تعارضت معها، فحماية مصالح أطراف الخصومة المدنية مقدمة وتسمو فوق كل اعتبار ولو على حساب حقوق الدفاع التي قد يؤدي التمسك بها بشكل حرفي حسب منطوق النص، الى اصدار المحكمة حكما جائرا بالتطبيق الحرفي لنصوص القانون الاجرائي أو الموضوعي بدل التطبيق العادل للقانون الذي ينص عليه دستور المملكة الجديد، وهو أمر يُزكي أن حقوق الدفاع ذات طبيعة نسبية وغير مطلقة كلما كان الأخذ بها بحذافره يحتمل معه مساس بمصالح الخصوم[23].
ومنه، فإن حقوق الدفاع التي يَتَمَسَّكُ بها الخصوم أمام القضاء المدني نسبية، ومرد ذلك لاعتبارات تتمثل في ضمان توازن المصالح بين الأطراف المتنازعة، كما هو الحال في المنازعات التجارية التي تتطلب مناقشتها من طرف المحكمة الإدلاء بالوثائق والمستندات التي تشكل في حالات كثيرة مساسا بسر الأعمال مثلا، فالحق في السرية مكفول لكل تاجر، لكن على قدر من التوافق الواجب لكلا الخصمين بما يحفظ حقهما في السرية، و تجنبا لأي ضرر محتمل قد نتج عن إفشاء الأسرار التجارية من جهة، ثم حفظ الحق في الدفاع ضمانا للسير العادي والنزيه للإجراءات المسطرية من جهة أخرى، وذلك حسب ما يتطلبه مبدأ النزاهة في الإجراءات كما هو الأمر بالنسبة لمحكمة التعقيب التونسية عندما استندت ـــ ضمنيا ــــ في قرار لها الى المبدأ المذكور، وهو الظاهر من خلال رفضها الطعن بالتعقيب على أساس أن الطاعن يناقض موقفه الأول الذي رضي من خلاله بالحكم الابتدائي الذي تقرر استئنافيا، وقد جاء في حيثيات القرار أن " الطعن بالتعقيب له تعلق بالمصلحة العامة لأن محكمة التعقيب عندما تفصل في المسائل القانونية فإن ذلك يكون بغرض توحيد القضاء وعملا لاستقراره في توجه واحد وقد جعل المشرع من وظائف النيابة العمومية لدى التعقيب مساعدا للقضاء في وضع القواعد القانونية الصحيحة بإبداء الراي في الطعون التي ترفع الى محكمة التعقيب كتابة أو مناقشة"[24].
وما يدعم القول بكون حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني إنما هي حقوق نسبية أيضا، كون المادة 16 الواردة أعلاه من قانون إحداث المحاكم التجارية إنما يستشف منها أن المحكمة التي تنظر الخصومة يقع على عاتق أطرافها التزام "الإيجابية المسطرية" حيث يساهم الأطراف من خلال إدلائهم بالوثائق والمستندات في تسريع إجراءات الخصومة من خلال الأدوار الإيجابية التي يقومون بها بمعية الدور الإيجابي الذي تقوم به المحكمة أيضا، وهو الأمر ذاته الذي يستشف من الفصول الواردة أعلاه من مدونة التجارة حيث الأطراف أدوارا إيجابية في تدبير إجراءات الدعوى وتحقيقها[25].
المحور الثاني: أسس حق الدفاع المثار أمام القضاء المدني والمأمـــــــــــــــــــــــول منه
بديهي أن كل مؤسسة قانونية لها أسس ومرتكزات تقوم عليها، وكانت عاملا أساسيا في ولادتها بالحُلة التي هي عليها، وحق الدفاع باعتباره عمادُ الحقوق الإجرائية والقانون المسطري بوجه عام، فإن له أُسسا ذات طابع نظري وأخرى ذات طابع قانوني ( البند الأول )، ولئن كانت هذه الأسس كلاسيكية في نظر الفقه القانوني، إلا أنها ضرورية الى درجة وجودية، حيث لا يمكن تصور الحق في الدفاع أمام القضاء المدني دون أسسه النظرية والقانونية والعكس صحيح، وهو الامر الذي يجعل المأمول من تكريس الحق في الدفاع أبعد من حفظ الحق الاجرائي بالمفهوم الضيق، بل هو مدخل لضمان محاكمة مدنية عادلة ( البند الثاني ).
البند الاول : بحث في أسس الحق في الدفاع المثار أمام القضاء المدني
أولا: الأساس النظري لحق الدفاع أمام القضاء المدني: بالرغم من تعدد الأسس
النظرية للحق في الدفاع ذو الطابع المدني، فإن بحثه يفرض التركيز على أهمها، والتي تتمثل في نظريتين أساسيتين لهذا الحق في نطاق الإجراءات المدنية، و هما: نظرية المبادئ القانونية ( أ )، ونظرية القانون الطبيعي ( ب ).
أ: نظرية المبادئ القانونية العامة: فحق الدفاع ذو الطابع المدني يستند الى نظرية المبادئ القانونية العامة التي تفيد أن للقاضي دورا إيجابيا آن تطبيق القاعدة القانونية، فهو من يبث الروح فيها من خلال تطبيقها على النوازل المعروضة عليه، وكل نقص في القاعدة القانونية فإنه يقوم بسده طبقا لما تُمليه عليه مقتضيات وظيفته وهو ما يتولد عنه " المبدأ القانوني العام"، بحيث أن القاضي قد يستمد العون من دائرة الفلسفة والأخلاق كلما سنحت له الفرصة من أجل تكملة القانون وتطبيقه بشكل أفضل، فالقاضي يتمتع بحاسة الشعور بالقانون، وإنه كبشر يشعر دائما بالعدل، ومن خلال هذا الشعور بالقانون والشعور بالعدل يستطيع القضاء تقرير ما يسمى بالمبادئ القانونية العامة التي تسود المنازعة المعروضة على أنظاره، وهي بذلك تندمج مع حق الدفاع الذي يروم تحقيق المساواة في المراكز الإجرائية بين الخصوم[26]، لتكون من ثمة نظرية المبادئ القانونية العامة أساسا صالحا للحق في الدفاع في نطاق الدعوى المدنية.
ب: نظرية القانون الطبيعي: يستند حق الدفاع في نطاق الخصومة المدنية الى نظرية القانون الطبيعي التي تفيد وجود " قواعد ذات قيمة قانونية عالمية Des règles ayant une valeur universelle " لارتكازها على الضمير الإنساني، ومن منطلق أن فكرة العدل تتجاوز فكرة القانون، فإن الغاية الأساسية لدى القاضي هي تحقيق العدل من خلال التطبيق العادل للقانون.
إن اعتماد نظرية القانون الطبيعي أساسا لحق الدفاع، يتمثل من خلال المبادئ الإجرائية التي تتولد عنها الحقوق الإجرائية غير الموجودة في القانون الوضعي المكتوب بينما هي راسخة في القانون الطبيعي، كقاعدة ألا يكون القاضي خصما وحكما أو أن يحكم على شخص دون سماع دفاعه، فهذه الحقوق تثبت للإنسان لمجرد كونه إنسانا، وهي التي تسمى بحق الدفاع الذي يحكم كل الروابط الإجرائية[27].
ثانيا: بحث في الأساس القانوني للحق في الدفاع المثار أمام القضاء المدني: لعل خير ما يمكن أن يكون أساسا قانونيا صالحا للحق في الدفاع في نطاق الدعوى المدنية هو نص الدستور المغربي لسنة 2011 الذي ينص في فصله 120 على أن: " حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم".
والجدير بالذكر أنه ما دام أسمى قانون في البلاد يكفل حقوق الدفاع لكل المتقاضين أمام المحاكم المغربية، فإن ما سواه من القوانين سواء ذات الطابع الموضوعي أو الاجرائي، إنما يستند إليها في اعتبارها أساسا قانونيا لحقوق الدفاع التي تدخل في كنف الدعوى المدنية، وفي مقدمتها قانون المسطرة المدنية باعتباره يضم القواعد المنظمة لهذا الحق أمام القضاء المدني وكذا مباشرته عند نظر الدعوى[28].
البند الثاني: المأمول من احترام حقوق الدفاع المثارة أمام القضاء المدني
لئن تعددت حقوق الدفاع المتاحة أمام القضاء المدني، فالمغزى منها أوحد متصل
بكفالة حق الخصوم في محاكمة مدنية عادلة، هذه الأخيرة مرتبطة وجودا وعدما بمدى الاحترام الواجب لكل حق من حقوق الدفاع، أو الحقوق المسطرية التي يتشكل بها حق الدفاع أساسيا كان أو مُساعدا.
وإنه لإبراز كون حقوق الدفاع مدخل لمحاكمة مدنية عادلة، يقتضي الوقوف عند مدلولها وفق ما يقتضيه المقام، والمتمثل في كونها تفيد كُتلة المبادئ مثل المساواة والتساوي في الأسلحة لإتاحة الخصم فرصة تقديم وسائله القانونية بين يدي المحكمة، حتى لا يكون أحد الخصوم في مركز ضُعف عند مواجهة خصمه، وأن تخضع جميع عناصر الخصومة لزوما للمناقشة بين الطرفين، مع إدارتها في آجال معقولة وبطريقة علنية، وأن تُعلَّل الاحكام الصادرة بشأنها من طرف القاضي الطبيعي[29].
فالقول بمحاكمة مدنية عادلة مرتبط ارتباطا عُضويا بحقوق الدفاع، حتى أنه يكاد يصعب إعطاء تعريف لها دون استحضار الحقوق والواجبات الإجرائية التي تُشكل حقوقا للدفاع تارة، وتارة أخرى عنصرا من عناصر حق الدفاع الذي يتوجب أن يُحترم ويُصان، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بمحاكمة مدنية عادلة دون رُكنها وعمادها الذي تجسده حقوق الدفاع الممكنة أمام القضاء المدني.
من هذا المنطلق إذن، يكون المدخل الأساسي لتكريس محاكمة مدنية عادلة متمثلا في حقوق الدفاع ومدى كفالتها، وإن حماية وصيانة حقوق الدفاع من الخرق السافر، ودفعا لكل إضرار محتمل بحقوق الخصوم المتنازعة، لا تكتمل حماية هذه الحقوق إلا بضمان باقي الحقوق الإجرائية وفي مقدمتها مبدأ التقاضي على درجتين كإجراء يجب توفيره للمتقاضي، ثم مبدأ الآجال المعقولة للمحاكمات و أحكامها و الذي يشكل عنصرا حاسما للفصل في النزاعات و القضايا، حيث إن هذا المبدأ يعرف عدة تغيرات نسبية في تطبيقاته و مفاهيمه، فهو إجراء كحل وسط ما بين متطلبات ما قرّر لهذه المحاكمة من وقت و ما بين التمعن و التروي للنظر في الخصومة، دون أن تؤدي هاته الآجال سواء كان بالسرعة أو التأني الى إهدار حقوق المتقاضين.
وهذا المبدأ له تطبيقات عديدة أمام القضاء الإداري في المغرب، والذي دأب العمل فيه على تكريس أدوات إجرائية عديدة تقوم بُرهانا على وجود حاجة مُلحة الى إعداد مسطرة خاصة بالقواعد الإجرائية المطبقة أمام القضاء الإداري تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المنازعة الإدارية وتخلق انسجاما بين إيقاع سير القضاء وبين توفير ضمانات البت في آجال معقولة[30].
ومن تطبيقات هذا المبدأ ما تعرض له قضاء المحكمة الإدارية بالرباط بشأن ضبط بعض ملامح مفهوم الأجل المعقول، وورد في حيثيات الحكم ما يلي: "دون تجاوز للأجل المعقول للبت والذي تراعى فيه طبيعة القضية والدفوع المثارة ومستندات الدعوى واحترام حق الدفاع والوقت الكافي لدارسة الدعوى والبت فيها"[31].
إضافة الى ما سلف، فقد تطرق قانون المسطرة المدنية الى حقوق الدفاع لكن ليس بهذا المصطلح الصريح بل جاء ذلك بطريقة ضمنية تحدث فيها عن أدوات و طرق استعمال هذه الحقوق و ذلك باتباع اجراءات معينة عند تنظيمه للخصومة المدنية بكل جوانبها، وهو بذلك قد رام كل صور مظاهر حقوق الدفاع المتصل في أكثر من موضع بمبدأ الوجاهية بين المتقاضين، هذا المبدأ الذي أخذ حيزا وفيرا في المجال القانوني و الاجرائي كآلية من آليات حق الشخص في محاولة وصوله الى محاكمة مدنية عادلة، وكل ما يتصل به مقرر تحت طائلة بطلان الإجراء المعيب أو بُطلان الحكم الصادر بناء على إجراء معيب خُرق فيه حق من حقوق الدفاع، كما أنه من اللازم الاشارة لمبدأ العلنية الذي يعتبر عاملا أساسيا لإضفاء الشفافية أثناء ممارسة حقوق الدفاع، والكل ضمانا لحماية مصالح المتقاضين و حفاظا على النظام العام الاجرائي.
وفي هذا الصدد من المفيد الاشارة الى بعض سقطات القانون الاجرائي من حيث تنظيمه للقواعد المسطرية التي يحاول فيها المتقاضي السعي لتكريس محاكمة مدنية عادلة، ولعلها مُتجلية في بعض المسائل التقنية والفنية ذات الكُنه الشكلي، والمقترنة بقُصور النص المنشئ لها من جهة، ثم ببعض التوجهات المُكَرسة من طرف ممارسي القانون الاجرائي والمُنظِّرين فيه من جهة أخرى، والأهم في ذلك مُحاولة تصحيح ما أمكن من هذه الأخطاء والثغرات التي قد تُجَنِّب المساس بمبدأ المحاكمة العادلة.
خاتمة:
وختاما، فإن موضوع " تأملات في أسس حقوق الدفاع أمام القضاء المدني وأبعاده " وإن كان شاسعَ النطاق وله ارتباطات في كل مناحي القانون الاجرائي المغربي، فقد تم التركيز فيما تقدّم على تقديم مقاربة مفاهيمية له وإيضاح مضمون الحق في الدفاع إبَّان البت في الخصومة المدنية.
ولعل أهمية موضوع حقوق الدفاع أمام القضاء المدني إنما تتبدى أهميتها بشكل أكثر وضوحا عند كل مساس بها، سواء كان مساسا بمثابة خرق سافر لها أو مساسا يسيرا قابلا للإصلاح مسطريا، من طرف المحكمة أو الأطراف شخصيا وبواسطة دفاعهم، والكل مع مراعاة الغاية العليا من كفالة هذه الحقوق أساسية كانت أو مساعدة، لأن في ضمانها ضمان وتحقيق للأمن القانوني والأمن القضائي بما هما مبدأين ومطلبين دستوريين على حد سواء.
فهذا الموضوع ـــ بما له من ارتباطات داخل المنظومة الإجرائية ــــ إنما يروم ضمان " محاكمة مدنية عادلة"، من منطلق أن لها ضمانات عديدة وأساسية ينبغي توفرها لزوما في كل خصومة مدنية بين يدي القضاء المدني، لأن في صيانة حقوق الدفاع، تكريس للمحاكمة المدنية العادلة، بناء على كونها مطلبا دستوريا، وإلى جانبها مضمونة أيضا حقوق الدفاع، وهو الامر الذي يتوجب معه على مشرع القانون المسطري المدني في المغرب، تقديم ضبط مزيدا، بدءا من صياغة النصوص المسطرية، مرورا بوسائل تنزيلها، وصولا الى حكم قضائي احترُمت فيه حقوق الدفاع، بناء على التطبيق العادل للقانون.
انتهى بحمد الله وعونه
الهوامش
[1] ـ إن مبدأ "التطبيق العادل للقانون" أصبح التزاما قانونيا يفرضه التشريع الأساسي بالمغرب، وذلك من خلال دستور المملكة المغربية لسنة 2011، في المادة 110 منه التي تنص على ما يلي: " لا يُلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون . ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون " ــ ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 شعبان 1432 ( 29 يوليو 2011 ) بتنفيذ نص الدستور، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر الصادر بتاريخ 28 شعبان 1432 ( 30 يوليو 2011 ) ص 3600.
[2] ـ تجب الإشارة الى كون حق الخصم في إسماع القاضي دفاعه لا يقتصر على نطاق الإجراءات المدنية، ولكنه مبدأ عام يسيطر على كل خصومة أمام القضاء مدنيا كان أم زجريا أم إداريا.
[3] - ينص الفصل 120 من الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 على أن: " حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم ".
[4] - إبراهيم نجيب سعد، قاعدة لا تحكم دون سماع الخصوم، أو ضرورة احترام الحرية والمساواة والتقابل والدفاع، منشأة المعارف الإسكندرية، 1981، ص 21.
[5] - عزمي عبد الفتاح، واجب القاضي في تحقيق مبدأ المواجهة باعتباره أهم تطبيق لحق الدفاع، دار النهضة العربية 32 شارع عبد الخالق ثروت ــ القاهرة، 1990، ص 6.
[6] - ادريس العلوي العبدلاوي، الوسيط في شرح المسطرة المدنية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، 314.
ـ انظر أيضا تعريف الفقيه الفرنسي موتولسكي ـ Moutulsky الذي يفيد أن المقصود بحق الدفاع هو " حق الخصوم في أن يقدموا حُجَجَهم أمام المحكمة وأن يعرفوا كل حجج خصومهم، وكذلك كل إجراءات التحقيق المتخذة من قبل المحكمة".
- Henri Moutulsky, Le droit naturel dans la pratque jurisprudentielle le respect des droits de defense en procedure civil, Ecrit Dalloz, Paris, 1973 N 9, P .66.
ـ انظر أيضا تعريف الفقيه الفرنسي موتولسكي ـ Moutulsky الذي يفيد أن المقصود بحق الدفاع هو " حق الخصوم في أن يقدموا حُجَجَهم أمام المحكمة وأن يعرفوا كل حجج خصومهم، وكذلك كل إجراءات التحقيق المتخذة من قبل المحكمة".
- Henri Moutulsky, Le droit naturel dans la pratque jurisprudentielle le respect des droits de defense en procedure civil, Ecrit Dalloz, Paris, 1973 N 9, P .66.
[7] ـ علي عبيد الحريري، التعسف في استعمال الحق الاجرائي في الدعوى المدنية ـ دراسة مقارنة، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، الطبعة الأولى 2015 م، ص 111.
[8] ـ تنص المادة الخامسة من ق م م على أنه: "يجب على كل متقاض ممارسة حقوقه طبقا لقواعد حسن النية". ـ ظهير شريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 بتاريخ 11 رمضان 1394 ( 28 شتنبر 1974 ) بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية كما تم تعديله بتاريخ 22 يوليوز 2021، ج ر عدد 3230 مكرر، بتاريخ 13 رمضان 1394( 30 شتنبر 1974 ) ، ص 2741.
[9] ـ وجدي راغب، دراسات في مركز الخصم أمام القضاء المدني، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية: مجلة محكمة، ع 1، س 18 (يناير1976)، ص 115.
[10] ـ عزمي عبد الفتاح، مرجع سابق، ص 11.
[11] ـ ينص الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية المغربي على أنه :" يجب أن تكون طلبات نقض الأحكام المعروضة على محكمة النقض مبنية على أحد الأسباب الآتية: .... ــ 2 ــ خرق قاعدة مسطرية أضر بأحد الأطراف".
[12] ـ قرار صادر عن محكمة النقض عدد 349 المؤرخ في 29/3/2012، ملف تجاري عدد 243/3/2/2011.
[13]- Jacques CHEVALLER, Remarques sur l'utilisation pre le juge de ses informations personnelles, Rev, trim. Dr. Civ. 1962, p: 5.
[14] ـ عزمي عبد الفتاح، تسبسب الاحكام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية، دار النهضة العربية، القاهرة 2016، ص 340.
[15] ـ هادي حسين الكعبي وعلي فيصل نوري، تسبيب الأحكام المدنية (دراسة مقارنة)، مجلة المحقق الحلي للعلوم القانونية والسياسية العدد الثاني/ السنة السادسة، 2014، ص 141.
[16] ـ " يمكن تعريف الحياد على أنه صفة التقدير أو الحكم على شخص أو موضوع أو فكرة دون اتخاذ أي موقف مؤيد أو معاكس سلفا، لأن القاضي متجرد وبعيد عن التأثر بالمصالح والعواطف الشخصية فلا يتأثر ولا يؤثر عليه ... ويرتكز مبدأ الحياد على أساس منطقي باعتبار أن الدعوى المدنية لا تهم مبدئيا سوى المتقاضين، ودور القاضي هو فصل النزاعات التي تُرفع إليه والبت فيها في حدود ما طلبه الأطراف، ويعتبر هذا المبدأ من أهم مرتكزات نظام الاثبات في الدعوى المدنية، وبه فحياد القاضي يجب ان يقف موقفا سلبيا من كلا الخصمين على حد سواء" ، الجومي عبد السلام، ضمانات الحق في المحاكمة المدنية العادلة بين المبادئ الدولية والتشريع الجزائري، مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في الحقوق، تخصص : تحولات الدولة، جامعة قاصدي مرباح ــ بورقلة، السنة الجامعية 2010/2011، ص 58.
[17] ـ هيئة عامة ــ مخاصمة القضاة، أساس 454 لعام 2002، قرار 265 بتاريخ 23/6/2002، منشور بمجلة المحامون، 2003، العددان 11 و 12، ص 1094.
[18] ـ قرار صادر عن المجلس الأعلى عدد 224 بتاريخ 10/4/1976، منشور بمجلة الملحق القضائي عدد 21، ص 54.
[19]- Articl 114 : Aucun acte de procédure ne peut être déclaré nul pour vice de forme si la nullité n'en est
pas expressément prévue par la loi, sauf en cas d'inobservation d'une formalité substantielle ou d'ordre
public. La nullité ne peut être prononcée qu'à charge pour l'adversaire qui l'invoque de prouver le grief
que lui cause l'irrégularité, même lorsqu'il s'agit d'une formalité substantielle ou d'ordre public. – code de procédure civile francais, edition : 2022, institut francais d’nformation juridique, droit.org.
pas expressément prévue par la loi, sauf en cas d'inobservation d'une formalité substantielle ou d'ordre
public. La nullité ne peut être prononcée qu'à charge pour l'adversaire qui l'invoque de prouver le grief
que lui cause l'irrégularité, même lorsqu'il s'agit d'une formalité substantielle ou d'ordre public. – code de procédure civile francais, edition : 2022, institut francais d’nformation juridique, droit.org.
[20] ـ ذهبت محكمة النقض المصرية على خطى المشرع المصري إلى ترتيب البطلان عن الخلل الذي يشوب إجراءات التبليغ، حيث جاء في قرار لها أنه: " إن المادة العاشرة من قانون المرافعات تنص على أن يجري تسلم الأوراق المطلوب إعلانها إلى الشخص نفسه أو في موطنه، و إذا كان الثابت من مدونات الحكم المطعون فيه أن الطاعن أعلن المطعون ضدهم بصحيفة الدعوى على العنوان الكائن بالمنزل رقم ... شارع ... فوردت إجابة المحضر أنهم لا يقيمون في هذا العنوان فقام بإعلانهم على ذات العنوان مُخاطبا مع مأمور القسم لقيامهم و غلق مسكنهم فيكون إعلانهم قد وقع باطلا عملا بنص المادة العاشرة من قانون المرافعات السالفة الذكر، و إذا انتهى الحكم المطعون فيه إلى بطلان إعلان صحيفة الدعوى و رتب على ذلك قضاءه ببطلان الحكم المستأنف فإنه يكون قد التزم صحيح القانون و يضحى النعي عليه بهذا السبب على غير أساس". قرار رقم 424، صادر بتاريخ 11/6/1987، بالإضافة إلى قرارات أخرى صادرة عن محكمة النقض المصرية في نقس الموضوع: ـ قرار رقم 595 الصادر في 3/2/1999، و قرار رقم 2049 الصادر في 6/6/2001 ، أشار إلى هذه القرارات مصطفى مجدي هرجة، قانون المرافعات المدنية و التجارية في ضوء الفقه و القضاء، الجزء الأول، المجلد الأول، طبعة 2007، مطبعة منشأة الاسكندرية، ص 253 و ما يليها.
[21] ـ قرار صادر عن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 30/12/2004 ، دون ذكر رقم الملف وعدد الحكم، منشور بالموقع الالكتروني،www.mahkamaty.com ، تاريخ الولوج: 01/12/2022.
[22] ـ حكم استئنافي صادر عن محكمة الاستئناف بتونس تحد عدد 85022 بتاريخ 3 مارس 2016، أورده: كمال العياري، اتصال القضاء في المادة المدنية، مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، الطبعة الأولى ــ جانفي ـت 2017، ص 363.
[23] ـ وفي هذا الصدد تجب الإشارة الى أنه توجد بعض السمات التشريعية الاجرائية الدالة على نسبية الحق في الدفاع في بعض النصوص القانونية المنظمة للتقاضي في المادة التجارية، ومنها ما نصت عليه مدونة التجارة في المادة 22 ، وقانون إحداث المحاكم التجارية في المادة 16 والمادة 24.
[24] ـ قرار تعقيبي مدني عدد 76445 مؤرخ في 8/5/2000، نشرية محكمة التعقيب 2000، ج 2، ص 224، أورده: كمال العياري، مرجع سابق، ص362.
[25] ـ وتجدر الإشارة الى كون نفس التوجه مكر في قانون المسطرة المدنية الفرنسي في الفصول من 132 الى 137 والمتعلقة بتبادل المستندات والوثائق بين أطراف الخصومة، ويتمثل ذلك في:
- Chapitre I er : La communication des pièces entre les parties.
- Décret 75-1123 1975-12-05 JORF 9 décembre 1975 rectificatif JORF 27 janvier 1976, Code de procedure civile francais, derniere modification: 22/07/2019, edition : 29/12/2022.
[26] ـ عزمي عبد الفتاح، تسبسب الاحكام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية، دار النهضة العربية، القاهرة 2016، ص 14.
[27] - Henri MOUTULKY: Le droit natural dans la pratque jurisprudentielle, le respect des droit de la defense en procedure civil, Melanges Roubier, tom 2. P 26.
[28] ـ نظرا للخلفية الدينية الدستورية التي تعتبر أن " الإسلام دين الدولة" فإن الأساس القانوني لحق الدفاع المثار أمام القضاء المدني إنما يستمد أساسه القانوني أيضا من الشريعة الاسامية باعتبارها مصدرا من مصادر التشريع بالمغرب، وفي هذا جعل فقهاء الشريعة لحق الدفاع أساسا مبنيا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم ونصه " عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء. رواه أحمد وأبو داود والترمذي، محمد نجيب لمطيعي، كتاب المجموع ـ شرح المهذب للشيرازي، الجزء الثاني والعشرون، مكتبة الارشاد ـ جدة، المملكة العربية السعودية، ص 371.
[29] ـ Julio Meurnier "la notion de procès équitable devant la cour européenne des droits de l’Homme ", internet. le, 03/01/2020. http://halshs.archives-ouvertes.fr.
ـ انظر: الجومي عبد السلام، ضمانات الحق في المحاكمة المدنية العادلة بين المبادئ الدولية والتشريع الجزائري، مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في الحقوق، تخصص: تحولات الدولة، جامعة قاصدي مرباح ــ بورقلة، السنة الجامعية 2010/2011، ص 12.
ـ انظر: الجومي عبد السلام، ضمانات الحق في المحاكمة المدنية العادلة بين المبادئ الدولية والتشريع الجزائري، مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في الحقوق، تخصص: تحولات الدولة، جامعة قاصدي مرباح ــ بورقلة، السنة الجامعية 2010/2011، ص 12.
[30] ـ إضافة الى "مبدأ الأجل المعقول" الذي يكرسه القضاء الإداري، فإن الممارسة القضائية ــ وفي نفس السياق ــ تعمل على تكريس " آلية التقليص من زمن المنازعة "، وهو ما يتجلى من خلال الاحكام القضائية الصادرة بهذا الشأن، كما أنه باستقراء مقتضيات الفصل 146 من قانون المسطرة المدنية التي تنص على أنه إذا أبطلت أو الغت غرفة الاستئنافات بالمحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف الحكم المطعون فيه وجب عليها أن تتصدى للحكم في الجوهر إذا كانت الدعوى جاهزة للبت فيها.
واعتبار القضية جاهزة أم لا، يخضع للسلطة التقديرية للقاضي، بيد أن التعامل مع حق التصدي تميز باختلاف ملفت في وجهات النظر ارتبط أساسا بمدلول جاهزية الدعوى ومضمون هذه الجاهزية فهل ينظر إليها من زاوية توفر المحكمة الأعلى درجة على الجانب الموضوعي للنزاع بغض النظر عن كون الحكم الابتدائي قد اكتفى بالبت في الجانب الشكلي من الدعوى. وبمعنى أوضح، فقد ذهب بعض العمل القضائي إلى القول بأن اعتبار الدعوى جاهزة لا يخضع التمييز بين ما إذا كان الحكم الابتدائي بت في موضوعها أم اقتصر على التصريح بعدم قبولها شكلا، منتهيا في نفس الآن إلى أن نظام التقاضي على درجتين لا يعني وجوب الحكم في موضوع الدعوى خلال مرحلتي التقاضي، بل يكفي أن يكون أطرافها قد متعوا بنظرها من لدن محكمة الأدنى درجة والمحكمة التي تعلوها.
ففي قرار عدد 176 الصادر بتاريخ 11/02/2004 في الملف رقم 1210/3/1/2002 منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 150 ص 227 وما يليها أقر المجلس الأعلى باجتماع غرفتين ما يلي: «الفصل 146 من قمم يوجب على محكمة الاستئناف متي أبطلت أو ألغت الحكم المطعون فيه أن تتصدى الحكم في الجوهر إذا كانت الدعوى جاهزة للبت فيها والمحكمة مصدرة القرار المطعون فيه التي تبين لها من أوراق الملف أن الدعوى جاهزة وألغت الحكم الابتدائي القاضي بعدم القبول وتصدت للحكم في الموضوع، تكون قد طبقت وعن صواب المقتضى المذكور ".
ونفس المنحي سار فيه القرار عدد 1044 الصادر عن ذات الجهة القضائية بتاريخ 2006 / 12 / 27 في الملف الإداري رقم 2005 / 1296، إذ أن الغرفة الإدارية لدى المجلس الأعلى باعتبارها درجة استئنافية ألغت حكما ابتدائيا قضى بعدم قبول الدعوى لتقديمها خارج الأجل القانوني لعدم إدلاء صاحب الشأن بالتظلم الاستعطافي الذي احتج به، إذ عاينت الغرفة الادارية وجود التظلم المذكور وأعملت أثره على تمديد أجل الطعن ، ثم انصرفت إلى معالجة جوهر النزاع والقول بأن المعني بالأمر يتوفر على معادلة الدبلوم الذي حصل عليه، وأنه كان على الإدارة أن تسوي وضعيته الإدارية بناء على هذا الدبلوم وألغت الحكم الابتدائي وتصدت للبت في النازلة بإلغاء القرار الإداري الضمني المطعون فيه وإحالة المعني بالأمر على إدارته بقصد تسوية وضعيته.
إلا أن جانبا آخر من العمل القضائي ينحو اتجاها معاكسا تماما بحيث يعطي مدلولا واسعا لحق التقاضي على درجتين ويقر بوجود مساس بهذا الحق طالما لم يتعرض الحكم الابتدائي لمناقشة دفوع الأطراف ولم يقطع فيها برأي، إذ أن تصدي محكمة الاستئناف يحمل في طياته تفويتا لدرجة من درجتي التقاضي مادام لم يتح للقاضي أن يقول كلمته في الدفوع الموضوعية.
وفي هذا المقام يمكن الاستشهاد بالقرار عدد 2325 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 1994 / 06 / 29 في الملف المدني رقم 93 / 4469 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 58 - 96 ص 239 وما يليها والذي ورد في إحدى حيثياته ما يلي: " إن قضت المحكمة بالأداء بعد إلغائها للحكم الابتدائي الصادر بعدم قبول الطلب شكلا لعدم إرفاقه بالمستندات دون إرجاع الملف إلى المحكمة الابتدائية التي لم تفصل في الموضوع، ولم تستنفذ سلطتها بعد تكون حرمت المحكوم عليه درجة من درجات التقاضي وعرضت قرارها النقض ".
وكرست محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط هذا الموقف، في العديد من المناسبات، إذ ذهبت في قراراها عدد 1470 بتاريخ 2012 / 04 / 04 الصادر في الملف الإداري رقم 8 / 11 / 16 إلى ما يلي: "وحيث صح ما جاء في هذا السيب ، ذلك أن تعليق الوضعية الإدارية والمالية للمستأنف عليها راجع إلى موقف الخازن الوزاري لدى وزارة التربية الوطنية بحسب ما تنسبه اليه تلك الوزارة ، مما يقتضيه تلك من تقييم مشروعية ذلك الموقف وأثره على تلك الوضعية ، الأمر الذي يستدعي حضور الخازن العام والخازن الوزاري في الدعوى ، والحال أن المقال الافتتاحي لم يوجه ضده ، وتم البت في النزاع لون استبيان موقفه ، مما يستتبع معه إلغاء ذلك الحكم وارجاع الملف الى نفس المحكمة قصد إنذار المدعية بإصلاح المسطرة في ضوء ذلك ومواصلة النظر فيه ، حفاظا على مبدأ التقاضي على درجتين " .
هذا الانقسام على مستوى مواقف العمل القضائي يقابله حاليا نقاش جدي يتداول حول حق التصدي كآلية يمكن اعتمادها لتقليص زمن المنازعة وهجر مسلك إرجاع الملف من جديد إلى الهيئة مصدرته عقب إلغاء الحكم الابتدائي وفتح الباب على مصراعيه أمام محكمة الدرجة الثانية الفصل في جوهره بعلة أن النزاع قد قطع أشواط وأدلى اطرافه بما لديهم من دفوعات ووثائق معززة وأن الاستئناف ينقل النزاع برمته أمام محكمة الدرجة الثانية ولم تعد هناك أي طائلة من إعادته إلى محكمة الدرجة الأولى تفاديا لميعة الوقت واطالة أمد النزاع، بل الأدهى من ذلك، فإن هذه المبررات ذاتها شكلت ذريعة لدى البعض للقول بضرورة الفصل في القضية على مستوى محكمة الدرجة الثانية في أول جلسة، لكون النزاع قد أخذ نصيبه من النقاش خلال مرحلة الدرجة الأولى، إلا أن مجاراة هذا الرأي فيها تغييب لبعض الحقائق القانونية من قبيل كون الطرف المستأنف عليه قد أعطاه المشرع حقوقا لا ينبغي أن يحرم منها، ذلك أن الفصل 135 من قانون المسطرة المدنية اجعل الاستئناف الفرعي أو الاستئناف المنار مقبولا في جميع الأحوال .
وعليه، فالاستئناف الفرعي هو منفذ ومسلك أمام المستأنف عليه الذي قد يرضى بالحكم الصادر لفائدته جزئيا رغبة منه في إنهاء النزاع وتصفيته، إلا أن موقف خصمه المبادر إلى الطعن بالاستئناف لا يمنعه من أن يواجهه بتقديم استئناف فرعي مطالبا الجهة الاستئنافية بالنظر فيما لم يستجب له ابتدائيا، ونفس الشيء يقال على كل طرف في الدعوى الابتدائية ولم يوجه ضده الاستئناف، إذ له أن يعمد إلى تقديم استئناف منار تحسبا لوقوع ضرر له ينتج عن احتمال تعديل الحكم.
فالاستئناف الفرعي اذن هو رخصة ارساها القانون فمن الواجب أن تترك الإمكانية لمباشرتها وألا يوصد الباب في وجه من له فيها مصلحة والتعجيل بالبت خلال أول جلسة يعلم الشروط الموضوعية لذلك وينهض مسا فعليا بحق الدفاع الذي أضحى يضمنه الدستور.
بيد أن ما يلاحظ هو أن محكمة النقض لا تلجأ إلا بشكل ثانوي إلى تفعيل مقتضيات المادة 17 من القانون 03.80 تحدث بموجبه محاكم استئناف إدارية الذي يخول لمحكمة النقض عند التصريح بالنقض في مجال دعوى الإلغاء حق التصدي للبت إذا كانت القضية جاهزة، إذ غالبا ما تم الوقوف على حسم المحكمة المذكورة في نقطة قانونية جوهرية تنهي النزاع، لكنها تجنح مع ذلك إلى النقض والإحالة ولا يتطلب الأمر سوى تقيد محكمة الإحالة بما تقرر، الشيء الذي يطرح الجدوى من تلك الإحالة مع أن المقتضى القانوني السالف الذكر يسعف في تصفية النزاع وتجنب إطالة عمره دون مبرر معقول.
واعتبار القضية جاهزة أم لا، يخضع للسلطة التقديرية للقاضي، بيد أن التعامل مع حق التصدي تميز باختلاف ملفت في وجهات النظر ارتبط أساسا بمدلول جاهزية الدعوى ومضمون هذه الجاهزية فهل ينظر إليها من زاوية توفر المحكمة الأعلى درجة على الجانب الموضوعي للنزاع بغض النظر عن كون الحكم الابتدائي قد اكتفى بالبت في الجانب الشكلي من الدعوى. وبمعنى أوضح، فقد ذهب بعض العمل القضائي إلى القول بأن اعتبار الدعوى جاهزة لا يخضع التمييز بين ما إذا كان الحكم الابتدائي بت في موضوعها أم اقتصر على التصريح بعدم قبولها شكلا، منتهيا في نفس الآن إلى أن نظام التقاضي على درجتين لا يعني وجوب الحكم في موضوع الدعوى خلال مرحلتي التقاضي، بل يكفي أن يكون أطرافها قد متعوا بنظرها من لدن محكمة الأدنى درجة والمحكمة التي تعلوها.
ففي قرار عدد 176 الصادر بتاريخ 11/02/2004 في الملف رقم 1210/3/1/2002 منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 150 ص 227 وما يليها أقر المجلس الأعلى باجتماع غرفتين ما يلي: «الفصل 146 من قمم يوجب على محكمة الاستئناف متي أبطلت أو ألغت الحكم المطعون فيه أن تتصدى الحكم في الجوهر إذا كانت الدعوى جاهزة للبت فيها والمحكمة مصدرة القرار المطعون فيه التي تبين لها من أوراق الملف أن الدعوى جاهزة وألغت الحكم الابتدائي القاضي بعدم القبول وتصدت للحكم في الموضوع، تكون قد طبقت وعن صواب المقتضى المذكور ".
ونفس المنحي سار فيه القرار عدد 1044 الصادر عن ذات الجهة القضائية بتاريخ 2006 / 12 / 27 في الملف الإداري رقم 2005 / 1296، إذ أن الغرفة الإدارية لدى المجلس الأعلى باعتبارها درجة استئنافية ألغت حكما ابتدائيا قضى بعدم قبول الدعوى لتقديمها خارج الأجل القانوني لعدم إدلاء صاحب الشأن بالتظلم الاستعطافي الذي احتج به، إذ عاينت الغرفة الادارية وجود التظلم المذكور وأعملت أثره على تمديد أجل الطعن ، ثم انصرفت إلى معالجة جوهر النزاع والقول بأن المعني بالأمر يتوفر على معادلة الدبلوم الذي حصل عليه، وأنه كان على الإدارة أن تسوي وضعيته الإدارية بناء على هذا الدبلوم وألغت الحكم الابتدائي وتصدت للبت في النازلة بإلغاء القرار الإداري الضمني المطعون فيه وإحالة المعني بالأمر على إدارته بقصد تسوية وضعيته.
إلا أن جانبا آخر من العمل القضائي ينحو اتجاها معاكسا تماما بحيث يعطي مدلولا واسعا لحق التقاضي على درجتين ويقر بوجود مساس بهذا الحق طالما لم يتعرض الحكم الابتدائي لمناقشة دفوع الأطراف ولم يقطع فيها برأي، إذ أن تصدي محكمة الاستئناف يحمل في طياته تفويتا لدرجة من درجتي التقاضي مادام لم يتح للقاضي أن يقول كلمته في الدفوع الموضوعية.
وفي هذا المقام يمكن الاستشهاد بالقرار عدد 2325 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 1994 / 06 / 29 في الملف المدني رقم 93 / 4469 منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى المادة المدنية 58 - 96 ص 239 وما يليها والذي ورد في إحدى حيثياته ما يلي: " إن قضت المحكمة بالأداء بعد إلغائها للحكم الابتدائي الصادر بعدم قبول الطلب شكلا لعدم إرفاقه بالمستندات دون إرجاع الملف إلى المحكمة الابتدائية التي لم تفصل في الموضوع، ولم تستنفذ سلطتها بعد تكون حرمت المحكوم عليه درجة من درجات التقاضي وعرضت قرارها النقض ".
وكرست محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط هذا الموقف، في العديد من المناسبات، إذ ذهبت في قراراها عدد 1470 بتاريخ 2012 / 04 / 04 الصادر في الملف الإداري رقم 8 / 11 / 16 إلى ما يلي: "وحيث صح ما جاء في هذا السيب ، ذلك أن تعليق الوضعية الإدارية والمالية للمستأنف عليها راجع إلى موقف الخازن الوزاري لدى وزارة التربية الوطنية بحسب ما تنسبه اليه تلك الوزارة ، مما يقتضيه تلك من تقييم مشروعية ذلك الموقف وأثره على تلك الوضعية ، الأمر الذي يستدعي حضور الخازن العام والخازن الوزاري في الدعوى ، والحال أن المقال الافتتاحي لم يوجه ضده ، وتم البت في النزاع لون استبيان موقفه ، مما يستتبع معه إلغاء ذلك الحكم وارجاع الملف الى نفس المحكمة قصد إنذار المدعية بإصلاح المسطرة في ضوء ذلك ومواصلة النظر فيه ، حفاظا على مبدأ التقاضي على درجتين " .
هذا الانقسام على مستوى مواقف العمل القضائي يقابله حاليا نقاش جدي يتداول حول حق التصدي كآلية يمكن اعتمادها لتقليص زمن المنازعة وهجر مسلك إرجاع الملف من جديد إلى الهيئة مصدرته عقب إلغاء الحكم الابتدائي وفتح الباب على مصراعيه أمام محكمة الدرجة الثانية الفصل في جوهره بعلة أن النزاع قد قطع أشواط وأدلى اطرافه بما لديهم من دفوعات ووثائق معززة وأن الاستئناف ينقل النزاع برمته أمام محكمة الدرجة الثانية ولم تعد هناك أي طائلة من إعادته إلى محكمة الدرجة الأولى تفاديا لميعة الوقت واطالة أمد النزاع، بل الأدهى من ذلك، فإن هذه المبررات ذاتها شكلت ذريعة لدى البعض للقول بضرورة الفصل في القضية على مستوى محكمة الدرجة الثانية في أول جلسة، لكون النزاع قد أخذ نصيبه من النقاش خلال مرحلة الدرجة الأولى، إلا أن مجاراة هذا الرأي فيها تغييب لبعض الحقائق القانونية من قبيل كون الطرف المستأنف عليه قد أعطاه المشرع حقوقا لا ينبغي أن يحرم منها، ذلك أن الفصل 135 من قانون المسطرة المدنية اجعل الاستئناف الفرعي أو الاستئناف المنار مقبولا في جميع الأحوال .
وعليه، فالاستئناف الفرعي هو منفذ ومسلك أمام المستأنف عليه الذي قد يرضى بالحكم الصادر لفائدته جزئيا رغبة منه في إنهاء النزاع وتصفيته، إلا أن موقف خصمه المبادر إلى الطعن بالاستئناف لا يمنعه من أن يواجهه بتقديم استئناف فرعي مطالبا الجهة الاستئنافية بالنظر فيما لم يستجب له ابتدائيا، ونفس الشيء يقال على كل طرف في الدعوى الابتدائية ولم يوجه ضده الاستئناف، إذ له أن يعمد إلى تقديم استئناف منار تحسبا لوقوع ضرر له ينتج عن احتمال تعديل الحكم.
فالاستئناف الفرعي اذن هو رخصة ارساها القانون فمن الواجب أن تترك الإمكانية لمباشرتها وألا يوصد الباب في وجه من له فيها مصلحة والتعجيل بالبت خلال أول جلسة يعلم الشروط الموضوعية لذلك وينهض مسا فعليا بحق الدفاع الذي أضحى يضمنه الدستور.
بيد أن ما يلاحظ هو أن محكمة النقض لا تلجأ إلا بشكل ثانوي إلى تفعيل مقتضيات المادة 17 من القانون 03.80 تحدث بموجبه محاكم استئناف إدارية الذي يخول لمحكمة النقض عند التصريح بالنقض في مجال دعوى الإلغاء حق التصدي للبت إذا كانت القضية جاهزة، إذ غالبا ما تم الوقوف على حسم المحكمة المذكورة في نقطة قانونية جوهرية تنهي النزاع، لكنها تجنح مع ذلك إلى النقض والإحالة ولا يتطلب الأمر سوى تقيد محكمة الإحالة بما تقرر، الشيء الذي يطرح الجدوى من تلك الإحالة مع أن المقتضى القانوني السالف الذكر يسعف في تصفية النزاع وتجنب إطالة عمره دون مبرر معقول.
[31] ـ الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط عدد 3181 بتاريخ 12 شتنبر 2012، منشور في التقرير السنوي لنشاط الوكالة القضائية للمملكة، السنة 2013، ص 74.