بعد أن تم انتخاب الأعضاء ممثلي محاكم أول و ثاني درجة في شهر يوليوز من هذه السنة ممثلين لقضاة المملكة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية من المنتظر الإعلان عن تنصيب هذه المؤسسة الدستورية قريبا بتعيين الملك لخمس شخصيات من خارج الجسم القضائي مشهود لها بالكفاءة و التجرد و النزاهة و العطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء و سيادة القانون طبقا للفصل 115 من الدستور ليباشر المجلس عمله مباشرة بعد أداء اليمين القانونية أمام الملك.
و من أهم ما تتميز به مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في صيغتها الجديدة، التي ستحل محل المجلس الأعلى للقضاء، إضفاء طابع تشاركي على تكوينها بإشراك أعضاء ــ كاملي العضوية ــ من خارج السلك القضائي منفتحين على مبادئ الحكامة و متحررين من قيود الفكر القضائي المحافظ ، و مراعاة مقاربة النوع من خلال ضمان تمثيلية نسوية معادلة لنسبة عدد القاضيات في الجسم القضائي. لا شك إذن أن تبني الفكر التشاركي و مقاربة النوع سيكون لهما تأثير واضح في عمل المجلس ما دام أن الغاية من التعديلات الحاصلة هي ملامسة الجوهر لا تغيير الشكل فقط.
كذلك يعتبر انسحاب مؤسسة وزير العدل من تشكيلة المجلس دليلا واضحا على تحول نوعي في نقل عدة سلطات من وزارة العدل إلى المجلس، و نخص بالذكر نقل إدارة المفتشية العامة من قصر المأمونية إلى مقر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي كان بدوره مجرد ملحق من ملحقات وزارة العدل، لتشتغل تحت إشراف الرئيس المندب. و كذا نقل إدارة النيابة العامة إلى محكمة النقض تحت إشراف الوكيل العام للملك لديها.
كل هذه المؤشرات تجعل الأنظار متوجهة صوب هذا المجلس في ولايته التأسيسية تنتظر منه تفعيل العديد من المقتضيات القانونية الجديدة و العديد من الآليات المستحدثة للعمل على تحقيق الغاية الأساسية و هي تكريس استقلال حقيقي و فعلي للسلطة القضائية. و بالنظر إلى تعدد مهام و أدوار المجلس فسوف نقتصر على استعراض أهم الرهانات و التحديات التي تعترض طريقه من خلال النقط التالية:1ـ استقلال المجلس عن السلطة التنفيذية. 2ـ شفافية عمل المجلس. 3ـ إصلاح الإدارة القضائية.4ـ تجويد الخدمة القضائية.5ـ ضمان الحريات العامة للقضاة.
1ـ استقلال المجلس عن السلطة التنفيذية.
طبقا للفصل 107 من الدستور فإن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية. و إذا كان مفهوم السلطة القضائية لا يتطابق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية و إنما يقصد به تلك السلطة التي تمارس من قبل جميع القضاة الذين يزاولون فعليا مهامهم بإحدى المحاكم، فإن واقع و مؤشر استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية سوف يقاس و لا شك بمدى استقلال مؤسسة المجلس ـ باعتبارها المسيرة لشؤون القضاة ـ عن السلطات الحكومية.
و بطبيعة الحال لا يمكن الحديث في النظام السياسي و الدستوري المغربي عن فصل مطلق للسلطات ما دام أن الدستور ينص صراحة على نظام الفصل المرن ين السلطات الثلاث بشكل يقوم على تعاونها و توازنها ــ الفصل 1 من الدستور ــ. و إذا كان التوازن يعني عدم تعسف و عدم تغول سلطة دستورية على أخرى فإن مفهوم التعاون بين السلطة القضائية و السلطة التنفيذية يجب ألا يحيد عن هذا المفهوم؛ و بالتالي فإن التعاون بين السلطتين و إن كان واجبا و ضرورة حتمية لضمان حسن سير المرفق القضائي فإنه يجب ألا يتحول إلى مدخل من مداخل التأثير على السلطة القضائية. و لهذا نصت المادة 8 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس على عدم جواز الجمع بين العضوية في المجلس و العضوية في الحكومة نفيا لتضارب المصالح. كما نصت المادة 54 من نفس القانون على إحداث هيئة مشتركة بين المجلس و السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تتولى التنسيق في مجال الإدارة القضائية ، بما لا يتنافى و استقلال السلطة القضائية. كما أن إمكانية حضور وزير العدل لاجتماعات المجلس بمبادرة منه أو بطلب من المجلس مقيد من حيث الموضوع بتقديم معلومات أو معطيات أو بيانات تتعلق بالإدارة القضائية. و من ثمة يتبين أن مجال الإدارة القضائية، و هو الموضوع وثيق الصلة بسير المحاكم، يعتبر من أهم المجالات التي ينبغي فيها بحث سبل التعاون بين المجلس و الحكومة، بالإضافة إلى تدبير حاجيات المحاكم فيما يتعلق بتدبير الموارد البشرية و نفقات التسيير و بناء و إصلاح المحاكم و كل ما يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة.
إن استقلال المجلس الأعلى للسلطة القضائية إذن، و إن كان متجسدا في استقلاله المالي و الإداري، فإنه لا يمتد إلى استقلال المحاكم كوحدات إدارية عن التسيير الحكومي. و هو المطلب الذي ما فتئت تلح عليه بعض الجمعيات المهنية القضائية دون جدوى بحيث قوبل برفض صريح من السلطتين التنفيذية و التشريعية استنادا إلى الفصل 89 من الدستور الذي نص على أنه: ٌتمارس السلطة الحكومية السلطة التنفيذية.... و الإدارة موضوعة تحت تصرفها...ٌ فهل ستكون الحكومة منفتحة على حاجيات المحاكم البشرية و المادية و التقنية و اللوجيستيكية بحسب اقتراحات المسؤولين القضائيين بالشكل الذي يساهم في جودة الخدمة القضائية أم أنها ستشتغل بالمنطق الخاص بالتدبير الإداري و المالي الذي يعتمد اساسا على مفاهيم التكاليف و المردودية؟
إشكالية أخرى تضع مسألة استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية على المحك تلك التي يثيرها الفصل 109 من الدستور بمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، و التي تفرض على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهددا أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. فكيف سيتصرف هذا المجلس إذا كان مصدر الضغط أو التأثير هو السلطة الحكومية أو إحدى عناصرها؟ فراغ كبير في النصوص المنظمة للموضوع بالرغم من صرامة المشرع الدستوري. و رغم أن القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس حاول في المادة 105 منه و بشكل محتشم سد هذا النقص بتخويل المجلس إمكانية القيام بالأبحاث الضرورية و التحريات اللازمة بما في ذلك الاستماع إلى القاضي المعني و إلى كل من يرى فائدة في الاستماع إليه و اتخاذ الإجراء المناسب أو إحالة الأمر عند الاقتضاء على النيابة العامة إذا ظهر له أن الفعل يكتسي طابعا جرميا، فإن الملاحظ أن القانون لم يتعرض إلى شكليات و مسطرة الأبحاث و الاستماعات التي يقوم بها المجلس إذا كان التأثير صادرا عن إحدى مكونات السلطة التنفيذية بما فيها إمكانية مراسلة السلطة الحكومية المعنية؟ ربما قد يتدارك المجلس هذا الخصاص الإجرائي في نظامه الداخلي المرتقب صدوره بعد تنصيبه وفقا للقانون.
مظهر آخر لاستقلال المجلس عن السلطة التنفيذية يتعلق بموضوع استقلال النيابة العامة. فإذا كان النقاش حول استقلال النيابة العامة قد حسم لصالح استقلال هذا الجهاز عن الحكومة و خاصة وزير العدل إلا أن تقاطع عمل النيابة العامة و العمل الحكومي في مجال الإشراف على جهازي الشرطة و الدرك و كذا في مجال السياسة الجنائية عموما يحتم إيجاد درجات معينة من التعاون و التنسيق بين السلطة القضائية و السلطة الحكومية المعنية قد يضع الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بوصفه المشرف على النيابة العامة في الواجهة لتلقي ملاحظات و اقتراحات الحكومة و خاصة السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تهم أساسا تنزيل السياسات الجنائية العمومية.
كذلك تعتبر أهلية وزارة العدل و الوزارة المكلفة بالمالية لاتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ مقررات المجلس المتعلقة بالوضعيات الإدارية و المالية للقضاة بتعاون مع المصالح المختصة بالمجلس من الاختصاصات التنفيذية بيد الحكومة التي من شأنها أن تترجم مدى التنسيق الحاصل بين المجلس و السلطة التنفيذية.
2ـ شفافية عمل المجلس.
عديدة هي مظاهر اشتغال المجلس بطريقة واضحة و شفافة تضمن احترام القواعد المسطرية و كذا مراقبة المعايير الموضوعية للقرارات المتخذة. و لعل أهمها ضرورة انتظام انعقاد دورات المجلس المحددة في دورتين عاديتين في السنة. مع إمكانية عقد دورات استثنائية. و كذا وجوب الإعلان عن جدول أعمال كل دورة بطريقة واضحة. و الحرص على تفعيل اللجان الدائمة المنصوص عليها في المادة 49 من القانون التنظيمي للمجلس و التي حددت مهامها في تحضير الأشغال المعروضة على أنظار المجلس سيما فيما يخص تدبير الوضعية المهنية للقضاة و إعداد التقارير و الدراسات. و من بين الالتزامات الجديدة الملقاة على عاتق المجلس ضمان إجراء محاكمة تأديبية عادلة لا يمكن أن تكتمل في نظرنا إلا بسن نظام داخلي يعزز قواعد المحاكمة التأديبية العادلة و يضمن حقوق الدفاع و يحمي قرينة البراءة.
و في نفس الإطار نصت المادة 114 من الدستور على وجوب تعليل القرارات المتعلقة بالوضعية الفردية للقضاة و قابليتها للطعن أمام أعلى هيئة قضائية إدارية. و تطبيقا لهذا المقتضى نصت المادة 101 من القانون التنظيمي للمجلس على ممارسة الطعن أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض قاطعة الجدل الدائر حول إمكانية إحداث هيئة قضائية للطعن مستقلة عن محكمة النقض.
لأول مرة إذن سوف نشهد تعليلا للقرارات الإدارية الصادرة عن المجلس و كذا مراقبة سلامة هذا التعليل من طرف جهة الطعن التي سترسخ و لا شك اجتهادا قضائيا إداريا في مجال الوضعية الفردية للقضاة خاصة في مادة التأديب سينتقل بنا من مرحلة الغموض و التعتيم إلى مرحلة تأسيس قواعد معيارية واضحة قابلة للقياس و الاتباع.
آلية أخرى تعزز الشفافية و هي وجوب نشر النتائج الكاملة لأشغال كل دورة وفق الكيفية التي سيحددها النظام الداخلي باستثناء القرارات الخاصة بالعقوبات من الدرجتين الأولى و الثانية ــ المادة 60 ــ.
3ـ إصلاح الإدارة القضائية.
خصص القانون التنظيمي للمجلس على غرار النظام الأساسي للقضاة عدة مقتضيات قانونية تنظم موضوع معايير و مسطرة تعيين المسؤولين القضائيين . و هو ما يوضح بشكل جلي الدور الأساسي الذي تلعبه الإدارة القضائية ضمن السلطة القضائية. هكذا فبعد أن كان تعيين المسؤولين القضائيين لا يختلف كثرا عن تعيين باقي القضاة من خلال النظام المعمول به سابقا فإن هذا التعيين أصبح خاضعا لمسطرة خاصة في القانون الجديد تبتدئ بإعداد الأمانة العامة بالمجلس لائحة بالمسؤوليات الشاغرة كما يقوم المجلس بإصدار قرار في الموضوع يعلن فيه لائحة مهام المسؤولية الشاغرة و الشروط الواجب توفرها في المرشحين و لاسيما الكفاءات و التجربة المهنية المطلوبة، و أجل إيداع الترشيحات. بعدها ينظر المجلس في طلبات الترشيح وفق المعايير المنصوص عليها في المادة 72 و هي:ــ المسار المهني.ــ القدرة على تحمل المسؤولية. ــ القدرة على التواصل و التأطير و المواكبة. ــ القدرة على التنظيم و الإشراف و المراقبة.ــ القدرة على اتخاذ القرارات.ــ المؤهلات في مجال الإدارة القضائية. ــ الرغبات المعبر عنها من قبل المرشحين.
و قد كرس القانون قاعدة التعاون بين السلطة الحكومية و المجلس في موضوع الإدارة القضائية بتنصيصه على أن هذا الأخير يراعي التقارير التي يعدها الوزير المكلف بالعدل حول مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الإشراف على التدبير و التسيير الإداري للمحاكم ــ م 72ــ. مقتضى قانوني و إن كان يفتقد إلى الطابع الإلزامي إلا أنه سيكون من المعايير التي سيسترشد بها المجلس في تعيين المسؤولين القضائيين.
من الانتظارات المعقودة على المجلس إذن إحداث قطيعة مع الطريقة التقليدية المتبعة سابقا في تعيين المسؤولين القضائيين و المستندة أساسا إلى المعرفة الشخصية أو العلاقات الشخصية و التي أسفرت عن تخليد تعيين بعض المسؤولين القضائيين و عدم القدرة على تدبير و توفير الخلف و على تداول المسؤولية بشكل شفاف و موضوعي بالشكل الذي جعل سؤال استقلال الإدارة القضائية في صلب و عمق إشكالية استقلال القضاء.
4ـ تجويد الخدمة القضائية.
يعتبر تجويد الخدمة القضائية أحد أهم الأوراش التي تبناها الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة، ذلك أن تجويد الأداء القضائي، بما يعنيه من تسهيل الولوج إلى العدالة و ضمان القرب من المتقاضين و تبسيط المساطر القضائية و الإدارية و تسريع وثيرة البت في الملفات، يعد من أهم التحديات التي تواجه إصلاح القضاء و هو المرآة العاكسة لمدى رضى المواطنين عن القضاء و درجة ثقتهم فيه.
و تكمن صعوبة التحدي في تدخل عدة أجهزة إلى جانب السلطة القضائية معنية بالمساهمة في تحقيق خدمات قضائية ذات جودة، من قبيل مساعدي العدالة من محامين و مفوضين قضائيين و خبراء و عدول و موثقين في الشق المدني. و جهاز الشرطة القضائية و إدارة السجون و غيرهم في الشق الجنائي. بمعنى أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية و هو يراقب مدى حرص القضاء على ضمان الأمن القضائي للمتقاضين و حماية حقوقهم و حرياتهم عليه أن ينسق مع مختلف المصالح الحكومية و كذا الهيئات المهنية الحرة التي لها صلة وثيقة بالعدالة لتشخيص مختلف الاختلالات التي تعرقل سير العدالة و يقدم في شأنها اقتراح أنجع الحلول لها.
و بذلك يتبين أن الحرص على استقلال القرار القضائي يجب أن يواكبه انفتاح على مختلف آليات التدبير و على مختلف الفئات و الهيئات المسؤولة عن تقديم منتوج قضائي جيد ابتداء من مرحلة استقبال الشكايات و تسجيل الدعاوى إلى مرحلة إصدار الأحكام و تنفيذها.
في هذا السياق نصت المادة 22 من مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة رقم 15ـ38 على أنه: تعتمد المحاكم الإدارة الالكترونية للإجراءات و المساطر القضائية وفق برامج تحديث الإدارة القضائية التي تنفذها وزارة العدل. فهذا المثال يوضح بجلاء حتمية التعاون بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية و وزارة العدل ليبقى التساؤل القائم مرتبطا بكيفية تدبير الخلاف بين الطرفين خاصة و أن السلطة التنفيذية يسهل عليها تمرير قوانين عبر السلطة التشريعية تتعلق بالإدارة القضائية و المساطر القضائية في حين يعتبر القضاء صاحب سلطة في معالجة و تصريف الملفات القضائية مقيدا في ذلك بالمبادئ الدستورية و القانونية المرتبطة بالمحاكمة العادلة و ضمان حقوق الدفاع قبل أية مقتضيات قانونية مخالفة.
و يعتبر تدبير الزمن القضائي من أهم مواضيع التعاون بين المجلس و السلطة الحكومية المكلفة بالعدل لما يكتسيه من أهمية بالغة في اقتصاد الوقت و توفير النفقات و خدمة المتقاضين.
كذلك تقع على عاتق المجلس مسؤولية بذل الجهود الكفيلة بضمان جودة الأحكام من حيث تحريرها و صياغتها و تعليلها عبر مراقبة برامج تكوين الملحقين القضائيين و التكوين المستمر للقضاة في تنسيق مع المعهد العالي للقضاء و المحاكم. و عبر آلية التحفيز على نشر الأحكام القضائية للمساهمة في نشر المعلومة و تحقيق الأمن القضائي.
5ــ ضمان الحريات العامة للقضاة.
دشن دستور 2011 جيلا جديدا من الحريات العامة بالنسبة للقضاة، معترفا لهم بحقهم في حرية التعبير و في تأسيس الجمعيات المهنية القضائية.
و تفعيلا لدور الجمعيات المهنية القضائية في التخليق و الدفاع عن استقلال القضاء نصت المادة 106 من القانون التنظيمي للمجلس على وضعه لمدونة الأخلاق القضائية بعد استشارة الجمعيات المذكورة. كما نصت المادة 110 على أن المجلس يتلقى من الجمعيات المذكورة تقارير حول وضعية القضاء و منظومة العدالة.
بذلك يتبين أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية مطالب بالانفتاح على الجمعيات المهنية القضائية لمساعدتها على القيام بالأدوار المنوطة بها و أهمها الدفاع عن استقلال القضاء و حماية حقوق القضاة لا عزلها و التضييق عليها. و سوف يبرز تعاطي المجلس مع موضوع الحريات العامة للقضاة من خلال معالجته لقضايا الرأي و التعبير و كيفية ترسيم الحدود بين حرية التعبير و واجب التحفظ و الأخلاقيات القضائية.
و إذا كان القضاة ممنوعون من الانخراط في الأحزاب السياسية و المنظمات النقابية بحجة منعهم من العمل السياسي و النقابي فإن منعهم من تولي مناصب التسيير في الجمعيات المدنية بمقتضى المادة 38 من النظام الأساسي للقضاة يعتبر في نظرنا تضييقا غير قانوني على مساهمة القضاة في العمل ضمن المجتمع المدني الذي يعتبر من أهم سمات الدول الحديثة و من الركائز الأساسية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية. و نتمنى ألا يزداد التضييق على الحريات العامة للقضاة بعدم توسع المجلس في تبني مفهوم فضفاض لما يسمى بالتصريحات و المواقف التي تكتسي صبغة سياسية، و إلا تم إفراغ حرية التعبير من محتواها ، و سينعكس موقف المجلس و لا شك على نشاط و حيوية و فعالية الجمعيات المهنية القضائية في المساهمة من موقعها في الدفاع عن استقلال القضاء و نجاعته.
و من أهم ما تتميز به مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية في صيغتها الجديدة، التي ستحل محل المجلس الأعلى للقضاء، إضفاء طابع تشاركي على تكوينها بإشراك أعضاء ــ كاملي العضوية ــ من خارج السلك القضائي منفتحين على مبادئ الحكامة و متحررين من قيود الفكر القضائي المحافظ ، و مراعاة مقاربة النوع من خلال ضمان تمثيلية نسوية معادلة لنسبة عدد القاضيات في الجسم القضائي. لا شك إذن أن تبني الفكر التشاركي و مقاربة النوع سيكون لهما تأثير واضح في عمل المجلس ما دام أن الغاية من التعديلات الحاصلة هي ملامسة الجوهر لا تغيير الشكل فقط.
كذلك يعتبر انسحاب مؤسسة وزير العدل من تشكيلة المجلس دليلا واضحا على تحول نوعي في نقل عدة سلطات من وزارة العدل إلى المجلس، و نخص بالذكر نقل إدارة المفتشية العامة من قصر المأمونية إلى مقر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي كان بدوره مجرد ملحق من ملحقات وزارة العدل، لتشتغل تحت إشراف الرئيس المندب. و كذا نقل إدارة النيابة العامة إلى محكمة النقض تحت إشراف الوكيل العام للملك لديها.
كل هذه المؤشرات تجعل الأنظار متوجهة صوب هذا المجلس في ولايته التأسيسية تنتظر منه تفعيل العديد من المقتضيات القانونية الجديدة و العديد من الآليات المستحدثة للعمل على تحقيق الغاية الأساسية و هي تكريس استقلال حقيقي و فعلي للسلطة القضائية. و بالنظر إلى تعدد مهام و أدوار المجلس فسوف نقتصر على استعراض أهم الرهانات و التحديات التي تعترض طريقه من خلال النقط التالية:1ـ استقلال المجلس عن السلطة التنفيذية. 2ـ شفافية عمل المجلس. 3ـ إصلاح الإدارة القضائية.4ـ تجويد الخدمة القضائية.5ـ ضمان الحريات العامة للقضاة.
1ـ استقلال المجلس عن السلطة التنفيذية.
طبقا للفصل 107 من الدستور فإن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية. و إذا كان مفهوم السلطة القضائية لا يتطابق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية و إنما يقصد به تلك السلطة التي تمارس من قبل جميع القضاة الذين يزاولون فعليا مهامهم بإحدى المحاكم، فإن واقع و مؤشر استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية سوف يقاس و لا شك بمدى استقلال مؤسسة المجلس ـ باعتبارها المسيرة لشؤون القضاة ـ عن السلطات الحكومية.
و بطبيعة الحال لا يمكن الحديث في النظام السياسي و الدستوري المغربي عن فصل مطلق للسلطات ما دام أن الدستور ينص صراحة على نظام الفصل المرن ين السلطات الثلاث بشكل يقوم على تعاونها و توازنها ــ الفصل 1 من الدستور ــ. و إذا كان التوازن يعني عدم تعسف و عدم تغول سلطة دستورية على أخرى فإن مفهوم التعاون بين السلطة القضائية و السلطة التنفيذية يجب ألا يحيد عن هذا المفهوم؛ و بالتالي فإن التعاون بين السلطتين و إن كان واجبا و ضرورة حتمية لضمان حسن سير المرفق القضائي فإنه يجب ألا يتحول إلى مدخل من مداخل التأثير على السلطة القضائية. و لهذا نصت المادة 8 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس على عدم جواز الجمع بين العضوية في المجلس و العضوية في الحكومة نفيا لتضارب المصالح. كما نصت المادة 54 من نفس القانون على إحداث هيئة مشتركة بين المجلس و السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تتولى التنسيق في مجال الإدارة القضائية ، بما لا يتنافى و استقلال السلطة القضائية. كما أن إمكانية حضور وزير العدل لاجتماعات المجلس بمبادرة منه أو بطلب من المجلس مقيد من حيث الموضوع بتقديم معلومات أو معطيات أو بيانات تتعلق بالإدارة القضائية. و من ثمة يتبين أن مجال الإدارة القضائية، و هو الموضوع وثيق الصلة بسير المحاكم، يعتبر من أهم المجالات التي ينبغي فيها بحث سبل التعاون بين المجلس و الحكومة، بالإضافة إلى تدبير حاجيات المحاكم فيما يتعلق بتدبير الموارد البشرية و نفقات التسيير و بناء و إصلاح المحاكم و كل ما يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة.
إن استقلال المجلس الأعلى للسلطة القضائية إذن، و إن كان متجسدا في استقلاله المالي و الإداري، فإنه لا يمتد إلى استقلال المحاكم كوحدات إدارية عن التسيير الحكومي. و هو المطلب الذي ما فتئت تلح عليه بعض الجمعيات المهنية القضائية دون جدوى بحيث قوبل برفض صريح من السلطتين التنفيذية و التشريعية استنادا إلى الفصل 89 من الدستور الذي نص على أنه: ٌتمارس السلطة الحكومية السلطة التنفيذية.... و الإدارة موضوعة تحت تصرفها...ٌ فهل ستكون الحكومة منفتحة على حاجيات المحاكم البشرية و المادية و التقنية و اللوجيستيكية بحسب اقتراحات المسؤولين القضائيين بالشكل الذي يساهم في جودة الخدمة القضائية أم أنها ستشتغل بالمنطق الخاص بالتدبير الإداري و المالي الذي يعتمد اساسا على مفاهيم التكاليف و المردودية؟
إشكالية أخرى تضع مسألة استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية على المحك تلك التي يثيرها الفصل 109 من الدستور بمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، و التي تفرض على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهددا أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. فكيف سيتصرف هذا المجلس إذا كان مصدر الضغط أو التأثير هو السلطة الحكومية أو إحدى عناصرها؟ فراغ كبير في النصوص المنظمة للموضوع بالرغم من صرامة المشرع الدستوري. و رغم أن القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس حاول في المادة 105 منه و بشكل محتشم سد هذا النقص بتخويل المجلس إمكانية القيام بالأبحاث الضرورية و التحريات اللازمة بما في ذلك الاستماع إلى القاضي المعني و إلى كل من يرى فائدة في الاستماع إليه و اتخاذ الإجراء المناسب أو إحالة الأمر عند الاقتضاء على النيابة العامة إذا ظهر له أن الفعل يكتسي طابعا جرميا، فإن الملاحظ أن القانون لم يتعرض إلى شكليات و مسطرة الأبحاث و الاستماعات التي يقوم بها المجلس إذا كان التأثير صادرا عن إحدى مكونات السلطة التنفيذية بما فيها إمكانية مراسلة السلطة الحكومية المعنية؟ ربما قد يتدارك المجلس هذا الخصاص الإجرائي في نظامه الداخلي المرتقب صدوره بعد تنصيبه وفقا للقانون.
مظهر آخر لاستقلال المجلس عن السلطة التنفيذية يتعلق بموضوع استقلال النيابة العامة. فإذا كان النقاش حول استقلال النيابة العامة قد حسم لصالح استقلال هذا الجهاز عن الحكومة و خاصة وزير العدل إلا أن تقاطع عمل النيابة العامة و العمل الحكومي في مجال الإشراف على جهازي الشرطة و الدرك و كذا في مجال السياسة الجنائية عموما يحتم إيجاد درجات معينة من التعاون و التنسيق بين السلطة القضائية و السلطة الحكومية المعنية قد يضع الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بوصفه المشرف على النيابة العامة في الواجهة لتلقي ملاحظات و اقتراحات الحكومة و خاصة السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تهم أساسا تنزيل السياسات الجنائية العمومية.
كذلك تعتبر أهلية وزارة العدل و الوزارة المكلفة بالمالية لاتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ مقررات المجلس المتعلقة بالوضعيات الإدارية و المالية للقضاة بتعاون مع المصالح المختصة بالمجلس من الاختصاصات التنفيذية بيد الحكومة التي من شأنها أن تترجم مدى التنسيق الحاصل بين المجلس و السلطة التنفيذية.
2ـ شفافية عمل المجلس.
عديدة هي مظاهر اشتغال المجلس بطريقة واضحة و شفافة تضمن احترام القواعد المسطرية و كذا مراقبة المعايير الموضوعية للقرارات المتخذة. و لعل أهمها ضرورة انتظام انعقاد دورات المجلس المحددة في دورتين عاديتين في السنة. مع إمكانية عقد دورات استثنائية. و كذا وجوب الإعلان عن جدول أعمال كل دورة بطريقة واضحة. و الحرص على تفعيل اللجان الدائمة المنصوص عليها في المادة 49 من القانون التنظيمي للمجلس و التي حددت مهامها في تحضير الأشغال المعروضة على أنظار المجلس سيما فيما يخص تدبير الوضعية المهنية للقضاة و إعداد التقارير و الدراسات. و من بين الالتزامات الجديدة الملقاة على عاتق المجلس ضمان إجراء محاكمة تأديبية عادلة لا يمكن أن تكتمل في نظرنا إلا بسن نظام داخلي يعزز قواعد المحاكمة التأديبية العادلة و يضمن حقوق الدفاع و يحمي قرينة البراءة.
و في نفس الإطار نصت المادة 114 من الدستور على وجوب تعليل القرارات المتعلقة بالوضعية الفردية للقضاة و قابليتها للطعن أمام أعلى هيئة قضائية إدارية. و تطبيقا لهذا المقتضى نصت المادة 101 من القانون التنظيمي للمجلس على ممارسة الطعن أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض قاطعة الجدل الدائر حول إمكانية إحداث هيئة قضائية للطعن مستقلة عن محكمة النقض.
لأول مرة إذن سوف نشهد تعليلا للقرارات الإدارية الصادرة عن المجلس و كذا مراقبة سلامة هذا التعليل من طرف جهة الطعن التي سترسخ و لا شك اجتهادا قضائيا إداريا في مجال الوضعية الفردية للقضاة خاصة في مادة التأديب سينتقل بنا من مرحلة الغموض و التعتيم إلى مرحلة تأسيس قواعد معيارية واضحة قابلة للقياس و الاتباع.
آلية أخرى تعزز الشفافية و هي وجوب نشر النتائج الكاملة لأشغال كل دورة وفق الكيفية التي سيحددها النظام الداخلي باستثناء القرارات الخاصة بالعقوبات من الدرجتين الأولى و الثانية ــ المادة 60 ــ.
3ـ إصلاح الإدارة القضائية.
خصص القانون التنظيمي للمجلس على غرار النظام الأساسي للقضاة عدة مقتضيات قانونية تنظم موضوع معايير و مسطرة تعيين المسؤولين القضائيين . و هو ما يوضح بشكل جلي الدور الأساسي الذي تلعبه الإدارة القضائية ضمن السلطة القضائية. هكذا فبعد أن كان تعيين المسؤولين القضائيين لا يختلف كثرا عن تعيين باقي القضاة من خلال النظام المعمول به سابقا فإن هذا التعيين أصبح خاضعا لمسطرة خاصة في القانون الجديد تبتدئ بإعداد الأمانة العامة بالمجلس لائحة بالمسؤوليات الشاغرة كما يقوم المجلس بإصدار قرار في الموضوع يعلن فيه لائحة مهام المسؤولية الشاغرة و الشروط الواجب توفرها في المرشحين و لاسيما الكفاءات و التجربة المهنية المطلوبة، و أجل إيداع الترشيحات. بعدها ينظر المجلس في طلبات الترشيح وفق المعايير المنصوص عليها في المادة 72 و هي:ــ المسار المهني.ــ القدرة على تحمل المسؤولية. ــ القدرة على التواصل و التأطير و المواكبة. ــ القدرة على التنظيم و الإشراف و المراقبة.ــ القدرة على اتخاذ القرارات.ــ المؤهلات في مجال الإدارة القضائية. ــ الرغبات المعبر عنها من قبل المرشحين.
و قد كرس القانون قاعدة التعاون بين السلطة الحكومية و المجلس في موضوع الإدارة القضائية بتنصيصه على أن هذا الأخير يراعي التقارير التي يعدها الوزير المكلف بالعدل حول مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الإشراف على التدبير و التسيير الإداري للمحاكم ــ م 72ــ. مقتضى قانوني و إن كان يفتقد إلى الطابع الإلزامي إلا أنه سيكون من المعايير التي سيسترشد بها المجلس في تعيين المسؤولين القضائيين.
من الانتظارات المعقودة على المجلس إذن إحداث قطيعة مع الطريقة التقليدية المتبعة سابقا في تعيين المسؤولين القضائيين و المستندة أساسا إلى المعرفة الشخصية أو العلاقات الشخصية و التي أسفرت عن تخليد تعيين بعض المسؤولين القضائيين و عدم القدرة على تدبير و توفير الخلف و على تداول المسؤولية بشكل شفاف و موضوعي بالشكل الذي جعل سؤال استقلال الإدارة القضائية في صلب و عمق إشكالية استقلال القضاء.
4ـ تجويد الخدمة القضائية.
يعتبر تجويد الخدمة القضائية أحد أهم الأوراش التي تبناها الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة، ذلك أن تجويد الأداء القضائي، بما يعنيه من تسهيل الولوج إلى العدالة و ضمان القرب من المتقاضين و تبسيط المساطر القضائية و الإدارية و تسريع وثيرة البت في الملفات، يعد من أهم التحديات التي تواجه إصلاح القضاء و هو المرآة العاكسة لمدى رضى المواطنين عن القضاء و درجة ثقتهم فيه.
و تكمن صعوبة التحدي في تدخل عدة أجهزة إلى جانب السلطة القضائية معنية بالمساهمة في تحقيق خدمات قضائية ذات جودة، من قبيل مساعدي العدالة من محامين و مفوضين قضائيين و خبراء و عدول و موثقين في الشق المدني. و جهاز الشرطة القضائية و إدارة السجون و غيرهم في الشق الجنائي. بمعنى أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية و هو يراقب مدى حرص القضاء على ضمان الأمن القضائي للمتقاضين و حماية حقوقهم و حرياتهم عليه أن ينسق مع مختلف المصالح الحكومية و كذا الهيئات المهنية الحرة التي لها صلة وثيقة بالعدالة لتشخيص مختلف الاختلالات التي تعرقل سير العدالة و يقدم في شأنها اقتراح أنجع الحلول لها.
و بذلك يتبين أن الحرص على استقلال القرار القضائي يجب أن يواكبه انفتاح على مختلف آليات التدبير و على مختلف الفئات و الهيئات المسؤولة عن تقديم منتوج قضائي جيد ابتداء من مرحلة استقبال الشكايات و تسجيل الدعاوى إلى مرحلة إصدار الأحكام و تنفيذها.
في هذا السياق نصت المادة 22 من مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة رقم 15ـ38 على أنه: تعتمد المحاكم الإدارة الالكترونية للإجراءات و المساطر القضائية وفق برامج تحديث الإدارة القضائية التي تنفذها وزارة العدل. فهذا المثال يوضح بجلاء حتمية التعاون بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية و وزارة العدل ليبقى التساؤل القائم مرتبطا بكيفية تدبير الخلاف بين الطرفين خاصة و أن السلطة التنفيذية يسهل عليها تمرير قوانين عبر السلطة التشريعية تتعلق بالإدارة القضائية و المساطر القضائية في حين يعتبر القضاء صاحب سلطة في معالجة و تصريف الملفات القضائية مقيدا في ذلك بالمبادئ الدستورية و القانونية المرتبطة بالمحاكمة العادلة و ضمان حقوق الدفاع قبل أية مقتضيات قانونية مخالفة.
و يعتبر تدبير الزمن القضائي من أهم مواضيع التعاون بين المجلس و السلطة الحكومية المكلفة بالعدل لما يكتسيه من أهمية بالغة في اقتصاد الوقت و توفير النفقات و خدمة المتقاضين.
كذلك تقع على عاتق المجلس مسؤولية بذل الجهود الكفيلة بضمان جودة الأحكام من حيث تحريرها و صياغتها و تعليلها عبر مراقبة برامج تكوين الملحقين القضائيين و التكوين المستمر للقضاة في تنسيق مع المعهد العالي للقضاء و المحاكم. و عبر آلية التحفيز على نشر الأحكام القضائية للمساهمة في نشر المعلومة و تحقيق الأمن القضائي.
5ــ ضمان الحريات العامة للقضاة.
دشن دستور 2011 جيلا جديدا من الحريات العامة بالنسبة للقضاة، معترفا لهم بحقهم في حرية التعبير و في تأسيس الجمعيات المهنية القضائية.
و تفعيلا لدور الجمعيات المهنية القضائية في التخليق و الدفاع عن استقلال القضاء نصت المادة 106 من القانون التنظيمي للمجلس على وضعه لمدونة الأخلاق القضائية بعد استشارة الجمعيات المذكورة. كما نصت المادة 110 على أن المجلس يتلقى من الجمعيات المذكورة تقارير حول وضعية القضاء و منظومة العدالة.
بذلك يتبين أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية مطالب بالانفتاح على الجمعيات المهنية القضائية لمساعدتها على القيام بالأدوار المنوطة بها و أهمها الدفاع عن استقلال القضاء و حماية حقوق القضاة لا عزلها و التضييق عليها. و سوف يبرز تعاطي المجلس مع موضوع الحريات العامة للقضاة من خلال معالجته لقضايا الرأي و التعبير و كيفية ترسيم الحدود بين حرية التعبير و واجب التحفظ و الأخلاقيات القضائية.
و إذا كان القضاة ممنوعون من الانخراط في الأحزاب السياسية و المنظمات النقابية بحجة منعهم من العمل السياسي و النقابي فإن منعهم من تولي مناصب التسيير في الجمعيات المدنية بمقتضى المادة 38 من النظام الأساسي للقضاة يعتبر في نظرنا تضييقا غير قانوني على مساهمة القضاة في العمل ضمن المجتمع المدني الذي يعتبر من أهم سمات الدول الحديثة و من الركائز الأساسية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية. و نتمنى ألا يزداد التضييق على الحريات العامة للقضاة بعدم توسع المجلس في تبني مفهوم فضفاض لما يسمى بالتصريحات و المواقف التي تكتسي صبغة سياسية، و إلا تم إفراغ حرية التعبير من محتواها ، و سينعكس موقف المجلس و لا شك على نشاط و حيوية و فعالية الجمعيات المهنية القضائية في المساهمة من موقعها في الدفاع عن استقلال القضاء و نجاعته.