إن جرائم الاعتداء على العرض عديدة داخل كل مجتمع، وتشترك كلها في الممارسة الجنسية غير المشروعة سواء برضا الأطراف او بدون ذلك، لكن في بعض الأحيان تكون الوقائع المكونة للفعل الجرمي مبهمة و غير واضحة ، تجعل القضاء يتخبط في التكييف المتعدد للأفعال حسب اقتناع كل قاضي. هذا ما يجسده القرار محل التعليق و الذي تتلخص وقائعه فيما يلي:
"" أنه و بتاريخ 2012...... استأنفت كل من النيابة العامة و المطالب بالحق المدني، حكما صادرا عن المحكمة الابتدائية بتازة، الذي قضى بمؤاخذة المتهم من أجل جنحة الفساد طبقا للفصل 490 ق ج وعقابه بشهر واحد حبسا موقوف التنفيذ ،وتحميله الصائر دون الإجبار، و رفض الدعوى المدنية و تحميل رافعها الصائر .
و ذلك بناء على الشكاية التي تقدمت بها (المشتكية د ....) في 2010 ....مدعية أنها تعرضت للاغتصاب مصاحب بافتضاض بكارتها ، من طرف ابن عمها عقب زيارته لهم بمنزل والدها ، و ذلك بعد أن ناولها قرص منوم مقدم لها كدواء لألم في معدتها .
إلى أن فوجئت في الصباح أنها كانت ضحية اغتصاب، لكن المتهم طمأنها ووعدها بالزواج مما جعلها تتراخى في تقديم الشكاية في وقتها، لكن لم يوفي بوعده رغم جهود العائلة .
في المقابل صرح المتهم بأنه فعلا مارس الجنس مع المشتكية بعدما فوجئ بها تعانقه و تقبله، الأمر الذي دفعه إلى مبادلتها نفس الشعور، لكن لم تكن له نية اغتصابها ولا علم له بواقعة الافتضاض، لأنها كانت حسب علمه ثيب (sans virginité) ، و نفى أن يكون قد ناولها قرص منوم .
وفي نفس الصدد أكد ( المسمى ن ....) كشاهد وهو خال الضحية أن المتهم كان قد استعطفه لإيجاد حل لورطته، و الشاهد الثاني صرح أن أب المتهم بحكم انه زميل له في العمل، كان قد سمعه يتكلم عبر الهاتف مع أم الضحية بهذا الخصوص .
و بعد احالة القضية على قاضي التحقيق انكر المتهم مجددا أن يكون قد اغتصب المشتكية، وأكد ما صرح به تمهيديا ولم يضف جديدا إلى الملف، لهذا اصدر قاضي التحقيق أمره بمتابعة المتهم من اجل المنسوب إليه ، وكانت أخر جلسة صدر فيها القرار بتاريخ 2013 ..... بحضور جميع الإطراف و دفاعهم، حيث وجهت التهمة للمتهم فأجاب بان المشتكية هي من رغبت في الدخول معه في علاقة جنسية و أنكر واقعة الاغتصاب .
دفاع المشتكية أكد ما صرحت به هذه الاخيرة ولم يضف جديدا .
دفاع المتهم اقر أن موكله مارس الجنس مع الضحية ، ولكن برضاها و الشاهد على ذلك هو خالها الذي لم يدلي بشهادته إبانها ،والملف يخلو من الشهود او أية حجة تفيد واقعة الاغتصاب، و التمس إعادة تكييف الفعل الى جريمة فساد الفصل 490 ق ج و تأييد الحكم الابتدائي .
وبعد المداولة وفي الدعوى العمومية، ألغت المحكمة الحكم المستأنف ومتابعة المتهم من اجل جناية الاغتصاب طبقا للفصول 486 و 488 ق ج و حكمت عليه بسنتين حبسا نافذا،
بعدما اقتنعت بتصريحات الشاهد الأول الذي أخبره المتهم بتخدير الضحية و اغتصابها،
وفي الدعوى العمومية إلغاء الحكم المستأنف، و الحكم على الولي القانوني للمتهم بأدائه لفائدة المطالب بالحق المدني تعويض عشرة ألاف درهم مع تحميله الصائر مجبرا في الأدنى.
وواضح مما سبق أن الأمر يتعلق من الناحية القانونية بالأساس الذي اعتمدته المحكمة الاستئناف في تكييف الوقائع من فساد الى اغتصاب و إدانة المتهم .
لذا يمكن صياغة المشكل القانوني البارز ضمن القرار في "" هل يمكن اعتبار شهادة الشاهد خال الضحية، و الناتجة عن إخبار المتهم دليلا كافيا لتكييف الفعل،واثبات القصد الجنائي في جريمة الاغتصاب ؟؟؟
لا شك أن مناقشة هذا الإشكال و التعليق عليه، يحتم علينا أن نتعرف بداية في النقطة الأولى على موقف المشرع المغربي من الإشكال السالف الذكر، على أن نناقش في النقطة الثانية ما إذا كانت محكمة الاستئناف في هذه النازلة موافقة لما قرره المشرع المغربي بصدد هذا الموضوع .
وعليه نقترح ان يكون تصميم هذا التعليق على المنوال التالي :
النقطة الأول: موقف المشرع من الاقتناع الصميم للقاضي "بشهادة الشهود" الناتجة عن إخبار المتهم
النقطة الثانية: مدى مطابقة ما قضى به القرار مع توجه المشرع بخصوص إثبات واقعة الاغتصاب.
النقطة الأولى: موقف المشرع من الاقتناع الصميم للقاضي "بشهادة الشهود" الناتجة عن إخبار المتهم
لقد تباين تكييف الوقائع في جميع مراحل الدعوى الجنائية المشار إليها سلفا، بين المحكمة الابتدائية و الاستئنافية و كذا الدفاع ، لذا يجب الوقوف على كل العناصر الواردة في القرار و التي كان لها وقع في الدعوى .
بخصوص الاغتصاب و كما جاء في الفصل 486 ق ج هو مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها ،إذ نستخلص أن هذه الجريمة تتكون من ثلاثة عناصر، مواقعة رجل لامرأة وانعدام رضا المرأة و توفر قصد جنائي .
- مواقعة رجل لامرأة من خلال الموضع الطبيعي للتناسل .
- انعدام الرضا وهو عنصر ضروري لتمييز الاغتصاب عن جريمة الفساد
- ثم القصد الجنائي ويعني اتجاه إرادة الجاني إلى مواقعة المرأة بدون رضاها مع علمه بحقيقة الواقعة الإجرامية و التي تثبت من خلال الامتناع الضحية و مقاومتها ، ويكفي خداعها بجميع الوسائل الممكنة .
مسألة الإثبات عامة
إن مدخل اقتضاء الحق في العدالة الجنائية هو إثباته، من خلال التطابق الحاصل بين إدراك القاضي،و الوقائع كما جرت على ارض الواقع ،لكن التطابق قد يتعذر أحيانا مما يترتب عنه اختلاف بين الحقيقة القضائية و الواقعية، و هو ما يؤدي الى الوقوع في الأخطاء القضائية
[1]
لقد اعتبرت المسطرة الجنائية كل شخص بريء، والشك في التهمة الموجهة إليه يفسر لصالحه، و ذلك تماشيا مع ما تقتضيه المواثيق الدولية و مبادئ حقوق الإنسان. حيث نصت المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "" أن كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى ان تثبت ارتكابه لها قانونا "" و هو نفس المبدأ الذي كرسه العهد الدولي في المادة 14.
و لقد تعرضت المواد من 286 الى 296 ق م ج للحديث عن الإثبات في المادة الجنائية،
حيث نصت المادة 286 ق م ج على حرية الإثبات بجميع الوسائل، مع إشارتها إلى حرية القاضي في بناء اقتناعه الصميم.
لكن بالرجوع الى المادة 365 في بندها 8 ق م ج عملت على تقييد"الاقتناع الصميم" بضرورة تبريره بالأسباب الواقعية و القانونية، و اعتبرتها من العناصر الجوهرية في تعليل القرار .
فهذه القاعدة قيدت القضاة لتعليل القرار تعليلا كافيا .
وفي ظل غياب أدلة دامغة لا تحتاج الى دليل، فان الفقه يرى أن اقتناع القاضي يشترط فيه أن يبلغ إلى درجة الاطمئنان العقلي ، لا يحتمل الشك و التأكيد الجازم حول حقيقة الأفعال الإجرامية ، ونسبتها إلى المتهم و ثبوتها في حقه ثبوتا لا ريب فيه، ينتفي معه الشك و التردد و ليس على الاحتمال و التخمين المبني على الأهواء الشخصية و المشاعر الذاتية و الانفعالات الظرفية .
[2]
مسألة شهادة الشهود
الشهادة هي تقرير أمر شاهده " الشاهد " بعينه أو سمعه بأذنه عن واقعة معينة و يعتمد عليها في الإثبات بعد أداء اليمين. حيث جعلها المشرع وسيلة من وسائل الإثبات في حالة غياب الأقوى منها، و قد نظم المشرع الشهادة في المواد من 325 إلى 345 ،[3] كما خصها بمجموعة من الشروط لكي تكن صحيحة، لكن ما يهمنا في القرار المادة 330 ق م ج التي نعتبر أن المحكمة لم تحترم ما ورد بمضمونها "" ان الرئيس يستفسر كل شاهد عن معلوماته الشخصية و ما اذا كانت تربطه بأحد الأطراف علاقة أو قرابة أو مصاهرة أو أية علاقة عداوة أو خصومة ""
كما جعلت الشريعة الإسلامية الشهادة دليل مهم لتكوين قناعة القاضي في إثبات الجرم وذلك "" بشهادة رجلين أو رجل و امرأتين.
"" لقول الله سبحانه وتعالى "" واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ""
[4]
باستثناء النسب الذي يثبت «« بشهادة الشهود أو السماع في الوجود"" كما جاء في التحفة. لكن الجرم يتطلب حجة قاطعة لا تقبل الشك مع أن تتوفر في الشاهد عدة خصائص من بينها الحرية و الإسلام و الحياد و البصيرة .....""
[5]
النقطة الثانية : مدى مطابقة ما قضى به القرار مع توجه المشرع بخصوص إثبات واقعة الاغتصاب.
بتنزيل الأحكام النظرية الواردة في النقطة السالفة الذكر على وقائع القرار و حيثياته يتبين :
أن المحكمة أسست اقتناعها بالإدانة على شهادة الشاهد الذي اخبره المتهم بالمنسوب إليه ( أي أنه مارس الجنس مع الضحية )، وليس على إثبات القصد الجنائي، الذي لم يشر إليه القرار في حيثياته، لكونه لا يستقيم وجوده في الجريمة إلا بتوافر عنصريين العلم و الإرادة، فالمتهم كان يريد مواقعة المشتكية كما كانت تبادله هي الأخرى نفس الشعور من خلال اعترافاته التلقائية في سائر مراحل الدعوى، لكن لم يتوفر له العلم بانعدام إرادتها، مادام انها راودته عن نفسه .
فالمحكمة لما أسندت الفعل الذي هو المواقعة ونتيجته إلى مصدره ألا و هو المتهم، دون ان تثير الحالة النفسية و الذهنية المرافقة للمواقعة باعتبارها من العناصر الجوهرية في الاغتصاب، لا تكون قد عللت قرارها تعليلا كافيا، و بالتالي تبقى الجريمة فساد طبقا للفصل 490 ق ج على التكييف الابتدائي هي الأقرب للصواب .
إن اعتماد المحكمة على شهادة الشاهد الأول خال المشتكية كأساس لتعليل قرارها جانب الصواب لعدة اعتبارات :
الاعتبار الأول، أن المحكمة لم تعلل قرارها تعليلا كافيا ، و إنما أسست اقتناعها على شهادة المدعو ( ن....) مع إضافة العبارة التي دأب القضاء على استعمالها في تعليله الناقص و هي "" و حيث اقتنعت المحكمة بثبوت التهمة في حق المتهم "" بالرغم من أنها غير كافية للإدانة ،و مقيدة بالفقرة 8 من المادة 365 ق م ج التي قضت بضرورة تبرير القرار أو الحكم بالأسباب الواقعية و القانونية ،التي ينبني عليها كعناصر جوهرية في تعليل القرار،لكن للأسف لا زال القضاء يستعمل هذه القاعدة في احكمه الناقصة التعليل والقاضية بالإدانة.
فالشاهد لم يعاين واقعة الاغتصاب قط، وإنما بنى تصريحاته على مجرد ما اخبره المتهم فقط ،و بالتالي فان إفصاح هذا الأخير عن معلوماته للشاهد ليس دليلا كافيا.
الاعتبار الثاني هو أن الشاهد لم يدلي بشهادته في المرحلة الابتدائية، مما يجعل قناعته في الشهادة تكونت حتى تم الطعن بالاستئناف .
الاعتبار الثالث أن الشاهد خال الضحية، و القاضي لم يستفسره عن العلاقة التي تربطه بالأطراف تطبيقا للمادة 330 ق م ج حيث تبقى شهادته معيبة و من باب الاستئناس فقط، ولا ترقى إلى الشهادة المعتمدة في القانون و الشرع ، و ما دام أن دفاع المتهم جرح الشاهد بوجود عداوة بينه و بين عائلة المتهم دامت لمدة عشر سنوات، لكن المحكمة آبت ألا تناقش هذا الطرح و لم تشير إليه في حيثيات القرار، عكس ما أشادت به المحكمة المصرية " ...... وحيث ان الاستئنافية لما طرحت شهادة احد الشاهدين لاستحكام الخصومة بينه وبين المتهم تكون قد صادفت الصواب "" [6]
الاعتبار الرابع ان المتهم اعترف و تمسك باعترافاته التلقائية في سائر مراحل الدعوى الجنائية، انه مارس الجنس برضا المشتكية مما يعني أن الاعتراف كسيد الأدلة بالمحضر غير موجود .بالإضافة الى انتفاء وسائل الإثبات الأخرى.
و ختاما فان قرار محل التعليق لما سكتت فيه المحكمة عن العلاقة بين الشاهد و الأطراف،و لم تأخذ باعتراف المتهم بخصوص جريمة الفساد ، وأسست قناعتها على وقائع غير ملموسة راجعة لأهواء شخصية و مشاعر ذاتية و انفعالات ظرفية ، فلا تكون قد اهتدت بالقانون ، مما يصبح قرارها مجانب للصواب، وقابل للطعن بالنقض بناء على الفقرة الخامسة من المادة 534 ق م ج .
المصادر:
- قانون المسطرة الجنائية .
- القانون الجنائي .
- محمد الادريسي العلمي المشيشي ،ملاءمة ق م ج مع مبادئ حقوق الانسان ط 2012
- عبد الحكيم فودة جرائم العرض في القانون المصري جامعة الاسكندرية سنة 1997
- فتحي رضوان فلسفة التشريع الإسلامي بدون سنة
- قرار محكمة النقض المصرية عدد 2134 جزائي جلسة 2002 _ 11_12
- لبياض محمد عبد الفتاح، وسائل الإثبات في التشريع المغربي مقال منشور marocdroit.com
الهوامش
[1] محمد الادريسي العلمي المشيشي ،ملاءمة ق م ج مع مبادئ حقوق الانسان ط 2012 ص 202
[2] عبد الحكيم فودة جرائم العرض في القانون المصري جامعة الاسكندرية سنة 1997 ص 46
[3] لبياض محمد عبد الفتاح، وسائل الإثبات في التشريع المغربي مقال منشور marocdroit/com ص 9
[4] سورة البقرة الاية 282 "
[5] فتحي رضوان فلسفة التشريع الإسلامي دون سنة ص 238
[6] قرار محكمة النقض المصرية عدد 2134 جزائي جلسة 2002 _ 11_12