تحظى دراسة حقوق الإنسان بأهمية خاصة ترجع إلى الارتباط الوثيق بين احترام حقوق الإنسان من جانب، والتقدم والتنمية وتحقيق الرخاء والرفاهية لصالح الشعوب من جانب آخر، لذلك نجد الدساتير والقوانين الداخلية تهتم بهذه الحقوق وبحمايتها.
ومن بين موضوعات حقوق الإنسان، تتمتع دراسة الأقليات بمكانة خاصة، وذلك للارتباط الوثيق بين احترام حقوق الأقليات والاستقرار الدولي، فالأحداث الجارية تشهد وقوع اضطرابات وعدم استقرار في بعض الدول بسبب وجود صراع بين الأقليات والأغلبية، وغالباً لا يتوقف هذا الصراع عند حدود الدولة التي يوجد بها خلاف بين الأقلية والأغلبية، بل يمتد ليشمل أكثر من دولة.
وإذا كان الأصل أن تهتم الدولة بتنظيم العلاقة بين الأغلبية والأقلية فيها، إلا أن الدول في تنظيمها لهذه العلاقة قد تغفل عن عمد أو عن حسن نية الخصوصية
الذاتية لأقلياتها، الأمر الذي يضر أشد الضرر بحقوق الأقليات، كما أن التاريخ نفسه يشهد بوقوع حالات كثيرة ضاقت فيها الحكومات بأقلياتها، فهضمت حقوقها، بل ومارست ضدها أحياناً سياسات ترمي إلى إفنائها سواء على المدى القريب أو البعيد، ومن هنا اتجهت الأقليات صوب القانون الدولي طالبة منه الحماية من جور حكوماتها، فنشأت بذلك الحماية الدولية لحقوق الأقليات.
يمكن اعتبار موضوع الأقليات من الموضوعات الهامة والقديمة-المتجددة مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي حدثت في الحقب التاريخية المختلفة، وهو موضوع تتداخل فيه تخصصات عديدة مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والتاريخ ودراسات الحضارة وعلم الوراثة، لذلك فهو يثير الجدل والمناقشة والاختلاف بين قطاعات واسعة من الأكاديميين والمهتمين بالمشكلات الإنسانية، وقد تخطى هذا الاهتمام قاعات الدراسة، لأن مشكلة الأقليات والعنصرية برزت واقعياً على سطح حياة كثير من المجتمعات، بالذات الدول حديثة العهد بالاستقلال، لأنها مرتبطة بالوحدة الوطنية وكيان الدولة الجديدة المتماسكة وبقضايا التنمية والتطور الاقتصادي والاستقرار السياسي، كما أن هذه المشكلة تخفي داخلها صراعات حقيقية أخرى مثل الصراعات الطبقية والاجتماعية- الاقتصادية المختلفة والتي تظهر كصراعات عرقية أو إثنية.
يرتبط موضوع الأقليات بمفاهيم مثل العنصر والعرق والمجموعات الإثنية، ويهتم بالعلاقات العرقية والعنصرية والتفرقة العنصرية، كما كان الحال في جنوب إفريقيا، وهو موضوع قديم بالذات حين يأخذ بعداً أوسع يقوم على أساس أيديولوجي، أي ضمن رؤية شاملة للعالم والإنسان، وبالتالي يصنف الإنسان الآخر حسب أصله وعرقه أو ثقافته بالمفهوم الشامل، ويقوم على مثل هذا التصنيف تحديد كافة العلاقات الاجتماعية الأخرى من العشيرة أو القبيلة وحتى الدولة الوطنية، أو العلاقات بين المجتمعات أو الدول المختلفة على صعيد عالمي أو إنساني عام، أو حتى طبيعة الحماية القانونية المقررة لهم.
إن دراسة موضوع الأقليات تفترض – كسياق عام- التصدي بوضوح لوجود النزاعات بين مختلف مبادئ الانتماء الأولية، إذ من شأن هذه النزاعات التي تشكل أساساً لدراسة مفهوم الأقلية، ومفهوم الذاكرة الجماعية معاً، أن تسمح بإدراك الالتباس في الخطابات حول الهوية الجماعية، كما تسمح في الوقت نفسه بإدراك الدور المهم لعوامل الدينامية الاجتماعية الذي لم تستطع النظرية الاقتصادية أن تحيط به تماماً حتى الآن، لا سيما وأن الدراسات المعاصرة المنصبة على فهم مسألة الصراع الإثني داخل إطار الدولة، لجأت إلى استخدام مفاهيم جديدة ليست مستخلصة من التناقض القائم على ثنائية التقليدية والحداثة، أو الثقافة المدنية النموذجية، فقد بدأ الباحثون باكتشاف أن التناقض بين المجتمعات الحديثة والقديمة ليس بالحجم المصور، وأن افتراض مجموعة ركائز وأسس لما هو حديث وما هو قديم كثيراً ما يخطئ حيث يلتقي القديم بالحديث، وعلى هذا فإن الحداثة لا تعني غياب الإثنية، كما أن الثقافة المدنية النموذجية، هي فرضية نظرية أكثر من كونها تمثل واقعاً اجتماعياً وسياسياً محدداً، وهذا ينطبق على النظم السياسية أيضاً، فهي كافة تجمع بين التقليدية والحداثة: بمعنى أنه ليست هناك أبنية وثقافات حديثة بالكامل، وليست هناك أبنية وثقافات تقليدية بالكامل، فأي نظام سياسي يضم العديد من الأبنية، وتتباين الأنظمة السياسية حسب مدى غلبة أي من العناصر الحديثة أو التقليدية فيها.
يمكن تعريف مفهوم الأقلية من عدة زوايا، إلا أن ما يجمع معظم هذه التعريفات هو الإقرار بوجوب تضمين الحماية القانونية اللازمة لهذه الأقليات، المعرضة بين الفينة والأخرى إلى مزيد من الانتهاكات والمخاطر الناشئة عن الممارسات المختلفة للدول والأنظمة التي تتكون من أقليات عدة، وعليه فإنه يمكن تعريف الأقلية بأنها:
"جماعة من مواطني دولة، يرتبط أفرادها ببعضهم البعض عن طريق روابط عرقية أو دينية أو لغوية، تميزهم عن بقية السكان، ويتضامن أفراد هذه الجماعة فيما بينهم للحفاظ على هذه الخصائص وتنميتها"، حيث تتعدد التعريفات حول مفهوم الأقلية بتعدد المدارس والأدبيات التي تتناول هذا المفهوم، فمن ناحية يمكن النظر إلى الأقلية من زاوية اجتماعية صرفة، أو من زاوية سياسية، أو قانونية، أو اقتصادية، وعليه فإن الإشكال حول موضوع الأقليات هو بالأساس مفاهيمي، تطور بعد ذلك ليصل إلى مستويات تتعلق بالحماية القانونية وطبيعتها.
وهذا ما يظهر بوضوح، عند الاستشهاد بنماذج مختلفة من الصراعات الإثنية التي تعانيها دول عديدة، إذ أن هذه الصراعات لم تستثن حتى البلدان المتقدمة من العالم، ومن بين هذه البلدان يمكن أن نشير وبإيجاز شديد، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إلى كل من فرنسا، بلجيكا، ايرلندا، الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، ففي فرنسا مثلاً هناك مشكلة الجماعات الإثنية القاطنة في مقاطعات بريتانيا، الباسك، كورسيكا، والتي لم تنصهر حتى الآن – بشكل تام- في بوتقة الثقافة الفرنسية، بدلالة وجود حركات واتجاهات تدعو إلى حكم ذاتي أو المحافظة على خصوصيتها الثقافية ضمن الدولة الفرنسية.
وتعاني بلجيكا الصراع بين الجماعتين الرئيسيتين في البلاد، هما "الوالون" الناطقون بالفرنسية، ويقطنون جنوب بلجيكا، و"الفليمنغ" أو "الفلاندرز"، الناطقون باللغة الدويتشية ويسكنون في الشمال، إذ هنالك كراهية واضحة ببين الجماعتين، ويتوقع بعض الباحثين، أن يؤدي ذلك إلى انقسام بلجيكا، علماً بأن "الوالون" هم المسيطرون سياسياً واقتصادياً في البلاد، رغم قلة نسبتهم المئوية قياساً بــ"الفلاندرز"، فالنسبة هي 32 بالمائة لـ "الوالون" مقابل 56 بالمائة للآخرين. وكذلك الحال بالنسبة إلى ايرلندا، "منطقة استر" التي تعاني صراعاً حاداً بين الكاثوليك والبروتستانت، واسبانيا التي تعاني مشكلة إثنية حادة في الباسك، إضافة إلى إقليم كاتولونيا. كذلك تعاني استراليا أيضاً، من مشكلات ذات طابع اثني، وذلك لأن المجتمع الاسترالي هو خليط من شتى الجماعات الإثنية والثقافية، التي وفدت إلى استراليا من جميع القارات، حيث يوجد فيها ما يقارب من 107 جماعة إثنية في عموم استراليا، وهذا ما يؤدي إلى التسبب في مشاكل عديدة، لا سيما بين استراليا دولة المقر والدول التي قدم منها هؤلاء الوافدون "دول الأصل"، إضافة إلى وجود الجماعة الإثنية الأصلية "سكان استراليا الأصليون"، المسمون "الأبوري جينز"، والذين يعانون هيمنة الجماعات الوافدة، ولا سيما من قبل الأغلبية البيضاء الناطقة بالانجليزية.
ومن هذه الأمثلة "العالمية"، يتضح لنا أن هذه المشكلة لا تقتصر على البلدان المتخلفة والنامية فقط، وإنما تعانيها حتى البلدان المتقدمة، وإن كانت حدتها في العالم الثالث أكثر وضوحاً، وذلك لاقترانها بتفاوت اجتماعي/ اقتصادي ملحوظ بين الجماعات الإثنية المختلفة، ينعكس في تباين درجة تأثيرها السياسي، مما يؤدي إلى تفجير الاضطرابات، والتي قد تصل في بعضها إلى حد قيام الحروب الأهلية، كما حدث ويحدث في كل من أثيوبيا، السودان، جنوب أفريقيا، لبنان، العراق.
ومن هنا يمكن القول أن للأقليات وجوداً طبيعياً في كل مجتمع إنساني، ويبدو وجودها أكثر بروزاً حيث يتسع الوطن، وتتعدد الأصول الإثنية التي أسهمت في تكوين الدولة، أما مشاكل الأقليات وخطورتها فتتناسب عكسياً، مع تقدم المجتمع وتطوره وتتصل بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة بأكثر من اتصالها بنسبة الأقليات في المجتمع.
وإذا كانت مشكلة الأقليات ذات طبيعة عالمية، بمعنى عدم اقتصارها على دول معينة أو قارات معينة، فإنها كذلك ليست بالحديثة أو المستحدثة، وإنما هي مشكلة قديمة- حديثة في آن واحد، فهي جديدة بإلحاحها المستمر على التحليل السياسي نظراً لارتباطها بمسائل الوحدة الوطنية والأمن الوطني والاستقرار السياسي، ودحضها كل التنبؤات بانحسارها تحت وطأة التحديث، رغم كل تأثيراته الإيجابية إزاء الإقلال من حدة المشكلة، فمن ناحية يعد التعدد الإثني هو السمة المميزة لدول العالم، ومن ناحية ثانية يأتي العنف الذي تمارسه بعض الأقليات، في مقدمة أشكال العنف السياسي وأكثرها تطرفاً من جانب، وتهديداً لسلامة الوحدة الوطنية واستقرار الأوضاع الداخلية للدولة من جانب آخر.
وقد ازدادت مشكلة الأقليات حدةً ووضوحاً مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وذلك إثر انهيار إمبراطوريتين كبيرتين، هما إمبراطورية النمسا والمجر، والإمبراطورية العثمانية واستسلام ألمانيا.
حيث أعيد توزيع المستعمرات الألمانية في إفريقيا، وهي "تنجانيقا، رواندا، بوروندي، وناميبيا"، كما تم تقاسم وتوزيع أملاك الإمبراطوريتين السابقتين، مما أدى إلى ظهور دول عديدة، خصوصاً في منطقة البلقان، إلى درجة أن كلمة البلقنة أصبحت تستخدم للدلالة على أية سياسة تفتيتية أو تجزيئية للدول، وهكذا أسفر الوضع الجديد لهذه الدول الفتية، عن وجود أقليات عديدة في كل منها: دينية، لغوية، قومية، عرقية، فمثلاً أصبح ربع سكان بولندا من الأقليات: الألمانية، الروسية، وغيرها، وكذلك الحال مع تشيكوسلوفاكيا، والتي تكونت من التشيك والسلوفاك، رغم العداوة التاريخية بينهما، وتكونت يوغسلافيا "سلافيا الجنوبية" من قوميات عدة، منها الصرب، الكروات، السلوفيين، قومية الجبل الأسود "تسرناغورا"، مقدونيا، وجزء من القومية الألبانية.
و مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، دخل النظام السياسي الدولي مرحلة جديدة لم يألفها من قبل، وهي انخراط معظم شعوب العالم ما يسمى بالعالم الثالث "لا سيما بلدان آسيا وإفريقيا" في إطار دول خاصة بها، بعد أن كانت مستعمرات تابعة للقوى الأوروبية، أو كيانات تعيش في إطار تنظيمات قبلية أو طائفية أو إقليمية بعيدة عن طابع الدول المعاصرة، باستثناء حالات قليلة شهدت قيام دول خاصة بتلك الشعوب، التي لم تخضع للاستعمار الأوروبي، أو كان خضوعها له متأخراً أو لسنوات قليلة، مثل اليمن، أثيوبيا، أجزاء من المغرب وقليل غيرها.
إشكالية البحث:
تتمحور إشكالية الدراسة في التساؤل التالي:
إلى أي حد يمكن أن تشكل الأقليات تهديداً للاستقرار السياسي في البلدان العربية؟
تثير هذه الإشكالية بدورها العديد من التساؤلات الفرعية، أهمها:
هل يمكن أن تشكل الأقليات شرخاً مؤذياً في جدار الوحدة الوطنية؟ وبعداً مساعداً في تصدع البناء الداخلي للمجتمع الوطني؟ أم أن التعددية يمكن أن تكون عاملاً مساهماً في الإثراء الفكري والثقافي للمجتمع؟ وإلى أي مدى تفضي العلاقة الإيجابية التي تربط النظام السياسي بوحدات المجتمع وجماعاته المختلفة إلى تحقيق الاستقرار والأمن للدولة؟ وإلى أي مدى تؤدي العلاقة السلبية التي تحكم توجهات النظام السياسي بتلك الجماعات، وبما تتضمنه من حالات تهميش وإبعاد وتضييق في فرص المشاركة السياسية وسوء توزيع الثروات الاقتصادية في تحقيق ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وخلق الأوضاع المضطربة التي تفسح المجال للقوى الخارجية لاختراق مقومات الأمن الوطني أو القومي؟ وهل أن مشكلة التعصب لصيقة بالأغلبية أم بالأقلية؟ أم هي صفة ملازمة للاثنين؟ وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر توجهات بعض القوى الإقليمية نحو الزعامة في المنطقة على إثارة إشكالية الأقليات في الدول العربية، وبالتالي تهديد الاستقرار السياسي فيها؟ وإلى أي حد ارتبطت مشاريع الإصلاح الدولية كـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بتهديد الاستقرار السياسي في الدول العربية؟
إن مقاربة هذه الإشكالية وما تطرحه من تساؤلات تقتضي التطرق إلى تأصيل مفهوم الأقليات نظرياً، وتحديد الأسس القانونية لحقوق الأقليات، على نحو يساهم في تحديد الإشكاليات المرتبطة بها على الصعيد الإجرائي والموضوعي، وبالتالي مقاربة ذلك مع التوجهات السياسية للنظم العربية تجاه مسألة الأقليات، وكيفية تعاطيها مع التطلعات المشروعة للأقليات نحو مزيد من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تضمن بالتالي مجتمعاً قائم على أسس ديمقراطية وتعددية يسود فيه الاستقرار السياسي بكل مفاهيمه وتجلياته.
الأهمية والهدف من الدراسة:
تكمن أهمية الدراسة في تناولها بالتحليل العلمي والموضوعي، مدى ارتباط وجود الأقليات في البلدان العربية بظاهرة الاستقرار السياسي، من خلال الممارسات السياسية المتبعة، سواء من قبل الأقليات أو من قبل الأنظمة السياسية للبلدان العربية.
لذلك تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء حول عدد من القضايا التي يثيرها، منها
الكشف عن بعض الإشكاليات الموضوعية والإجرائية التي تعاني منها الأقليات، سواء على الصعيد الدولي، أو على صعيد المنطقة العربية، من خلال مقاربة نظرية لهذه الإشكاليات.
تتبع آليات الحماية القانونية للأقليات على المستوى الدولي والعربي، وبالتالي تسليط الضوء على المقاربة القانونية العربية لحماية الأقليات، وذلك بالتركيز على المواثيق والمقررات الخاصة بهذا الشأن.
تبيان طبيعة العلاقة التي تجمع الأقليات بالنظم السياسية العربية، بالإضافة إلى وضعيتها الاجتماعية داخل تلك البلدان، وتداعيات هذه العلاقة عليها.
دراسة توجهات النظم السياسية العربية تجاه الأقليات من خلال البحث في أزمة النظام السياسي وشرعيته.
تسليط الضوء حول العوامل الإقليمية والدولية المهددة للاستقرار السياسي في المنطقة، انطلاقاً من التدخل في مسألة الأقليات في الدول العربية.
إن الدراسات المتعلقة بمشكلات الاستقرار السياسي بشكل عام، وعلاقتها بظاهرة الأقليات والجماعات الإثنية بشكل خاص، ولا سيما في بلدان العالم الثالث، ومنها البلدان العربية – موضوع دراستنا – هي من التعقيد والتشعب والحساسية، بحيث يصعب على أي دارس مهما أوتي من قوة في الملاحظة والرصد متابعتها بدقة، خاصة إذا كانت هذه الدراسات لا تهدف إلى مجرد الحصر والوصف، وإنما تسعى إلى التحليل والتأصيل.
فالدراسات التأصيلية التركيبية هي من أشق أنواع الدراسات، ولقد أثبتت الخبرة، أنه مع كل تقدم في البحث والوصول إلى جانب جديد من المقولة، لا بد أن يراجع الوصف والتحليل اللذين تم إجراؤهما من قبل على ضوء هذا الجانب الجديد، وهكذا حتى آخر كلمة في الخاتمة، بل وقد يستدعي الأمر، بعد الاهتداء إلى المقولة المبتغاة في صورتها النهائية، مراجعة كل ما تم من قبل وإعادة تحريره كله أو بعضه.
الدراسات السابقة:
إن هذه الدراسة وبحكم تناولها لأحد الظواهر الاجتماعية التي تتسم بخصوصياتها، وتشابك وتداخل العوامل المؤثرة فيها، ما بين الذاتي والموضوعي، الداخلي والخارجي، فإنها لا تدعي إحاطتها ومقاربتها لكافة ما تثيره هذه الظاهرة من تساؤلات وإشكاليات، لكنها تسعى إلى أن تشكل مساهمة متواضعة في مجال البحث العلمي والأكاديمي، خاصة في ظل الصعوبات التي واجهتها الدراسة على صعيد المصادر والدراسات السابقة حول موضوعها، والتي و إن تم الاعتماد على العديد منها في هذه الدراسة، إلا أنها تميزت إما بتناولها لمسألة الأقليات من ناحية كونها من ضمن موضوعات حقوق الإنسان، وارتباطها أكثر بالشق القانوني المتعلق بالتنظيم القانوني الدولي لها، أو من خلال دراستها واختزالها ضمن نموذج معين، أو من خلال تناولها بعموميتها. لا نروم من ذلك التقليل من أهمية تلك المصادر والدراسات، وإنما تسليط الضوء حول غياب البحوث والدراسات العلمية التي تتناول بشمولية موضوع الأقليات وارتباطه بمفهوم الاستقرار السياسي في الدول العربية، والذي هو مطلب وغاية ثابتين لكافة الشعوب العربية، وما قد يشكله ذلك من تحدي أمام الباحثين في تتبع الظاهرة، والربط بين مختلف العناصر والعوامل المؤثرة فيها.
المنهجية:
تعتمد الدراسة على مجموعة من مناهج ونظريات البحث العلمي المناسبة لاستخدامها وتوظيفها في تفكيك الإشكالية، ونظراً لصعوبة الاعتماد على منهج محدد لطبيعة ما تفرضه الدراسة من إشكاليات متعددة تستدعي توظيف مجموعة من تلك المناهج والنظريات، ولكن ذلك لا يغني عن الاعتماد على منهج رئيسي مثل المنهج البنيوي- الوظيفي- النسقي، الذي يساعد في تفكيك الظاهرة محل الدراسة إلى مجموعة من البنى والوظائف، لتعطي حكماً منهجياً على طبيعة النسق في العلاقة والتكوين بين مكونات البحث وموضوعاته المتباعدة والمتقاربة.
يمكن من خلال توظيف المنهج البنيوي اعتبار مفهوم الأقليات كمؤسسة مستقلة بذاتها "وحدة" ينبغي تفكيكها لإيضاح تكوينها ووظيفتها في التأثير على ظاهرة البحث ككل "النسق"، كذلك ولصعوبة تناول صيرورة ظاهرة متحركة وفضفاضة مفهوماً وممارسة كظاهرة "الاستقرار السياسي"، حيث يساعد المنهج البنيوي في تناول ظاهرة الاستقرار السياسي باعتبارها بنية مستقلة، تستدعي ربطها بمكونات مادية بالاعتماد على الدول العربية، وعلى وظيفة معينة كالوظيفة السياسية التي تعمل بوظيفتها على تحقيق الاستقرار.
ونظراً لصعوبة حكم الموضوع بمنهج معين، فقد فرض البحث في بعض فقراته الاستئناس بالمنهج التاريخي، لأهميته في رصد التراكمات التاريخية ومقاربتها بواقع الإشكاليات التي يثيرها البحث، بالإضافة للمنهج المقارن في استخداماته المتعددة التي فرضها تناول ودراسة بعض وضعيات الأقليات في دول مختلفة، وطبيعة الممارسة المتبعة حيالهم من قبل الأنظمة السياسية، كذلك لا يقف البحث عند رصد الظاهرة وتحليلها دون أن يكون معنياً بالدخول فيها، وذلك للخروج بمجموعة من السيناريوهات والاستنتاجات، باستخدام المنهج الاستشرافي من خلال طرح الخلاصات، وفتح البحث على موضوعات أخرى ذات علاقة.
ونظراً لاعتماد الدراسة على عدد من المواثيق والاتفاقيات واللوائح القانونية المنظمة لمسألة الأقليات، مما يفرض ذلك الاعتماد على المنهج القانوني لرصد وتوثيق هذه الأنظمة واللوائح القانونية المتعددة، والتي أخذت حيزاً هاماً في القسم الأول من البحث، وذلك من خلال رصد بعض اللجان الخاصة بتنظيم وجود وحماية الأقليات، كاللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، واللجان العديدة المعنية بحقوق الإنسان والتمييز العنصري.
اختيار التصميم:
جرى التفكير في بعض التصاميم لمقاربة إشكاليات الدراسة، منها تقسيم الموضوع إلى قسمين، الأول يتناول الموضوع ضمن إطار نظري، والثاني يتناول دراسة سوسيولوجية مقارنة لنموذجين من الأقليات، إلا أن هذا التصميم يمكن أن يختزل الحديث بشمولية أكبر عن عديد الأقليات الموجودة في الدول العربية، وبالتالي الإشكاليات العديدة التي يمكن أن تثار من خلالها.
أما التصميم الثاني، فيتناول في قسم أول منه، طبيعة العلاقة بين الأقليات والمكونات المجتمعية الأخرى في إطار الدولة العربية، والثاني طبيعة التوجهات السياسية للنظم العربية وممارساتها المختلفة تجاه الأقليات، وانعكاس ذلك على الاستقرار السياسي في البلدان العربية، إلا أن هذا التصميم يتجنب الحديث عن التأصيل النظري لمفهوم الأقليات وبالتالي الحماية القانونية المقررة لها، كأساس لوجود هذه الأقليات وتمتعها بحقوقها ضمن إطار هذه الدول، دون أي انتهاك يمكن أن يمارس ضدها.
لذلك ارتأت الدراسة أن يساهم التصميم الذي تعتمده في الحفاظ على وحدة الظاهرة، وعدم تجزئتها أو اختزال مراحلها، نظراً للترابط الحاصل بين مختلف العوامل المؤثرة فيها، والإشكاليات التي يثيرها موضوع الدراسة.
وعليه سعت الدراسة إلى تبني تصميم يمكن من خلاله تقديم مقاربة موضوعية للإشكاليات التي تطرحها، مع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات السابقة، ويتمثل هذا التصميم في تناول الموضوع ضمن قسمين:
القسم الأول: الإطار النظري للأقليات وتنظيمها القانوني
القسم الثاني: الأقليات والاستقرار السياسي في الدول العربية: أية علاقة
القسم الأول: الإطار النظري للأقليات وتنظيمها القانوني
الفصل الأول:الأقليات: ماهيتها المفاهيمية والإسناد القانوني
الفصل الثاني: آليات الحماية القانونية للأقليات على المستوى الدولي والعربي
الفصل الأول:الأقليات: ماهيتها المفاهيمية والإسناد القانوني
المبحث الأول: تعريف الأقليات وتطورها التاريخي
يتناول هذا المبحث إبراز مفهوم الأقليات والإشكاليات العديدة المثارة حوله، والتي ترجع في غالبها إلى التعدد الفقهي وتعدد المدارس العلمية، الساعية بدورها إلى تقديم تعريف يتناسب وحجم الإشكاليات التي يمكن أن تثار، والتي ترتبط أحياناً بتعدد وتنوع هذه الأقليات. حيث أفردنا المطلب لتبيان مفهوم الأقليات على كل من الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى التعريفات القانونية الدولية الخاصة بهذا الشأن بالرجوع إلى مواثيق وقرارات الأمم المتحدة واللجان الدولية الأخرى المختصة بهذه المسألة، إضافة إلى تصنيف هذه الأقليات التي تتعدد وتنوع من لغوية إلى دينية، وقومية وعرقية وقبلية. وفي مطلب ثاني، تحدثنا عن التطور التاريخي للحماية الدولية لحقوق الأقليات، من خلال عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة.
المبحث الثاني: الأسس القانونية لحقوق الأقليات: أية إشكاليات
يتناول هذا المبحث في مطلب أول منه، مضمون حقوق الأقليات، والتي تتنوع بين الحق في الوجود ومنع التمييز، بالإضافة إلى الحق في تحديد الهوية وتقرير المصير. أما المطلب الثاني، فقد تناول المقاربة النظرية لمشكلات الأقليات، من خلال البحث في الإشكاليات الموضوعية التي تعاني منها الأقليات، ما بين الاندماج والتمييز، وما بين المعايير الدستورية للتمييز، إضافة إلى الإشكاليات الإجرائية التي تعاني منها الأقليات، وأهمها إشكالية التهميش، والسبل الجديرة بالتغلب والقضاء عليها.
***
الفصل الثاني: آليات الحماية القانونية للأقليات على المستوى الدولي والعربي
المبحث الأول: الوسائل القانونية الدولية لتعزيز حقوق الأقليات
يتناول هذا المبحث الآليات الدولية التي تم اعتمادها من قبل المنتظم الدولي لحماية حقوق الأقليات، حيث أفردنا المطلب الأول ليتناول، الرقابة الخاصة والعامة التي تكونت للمساهمة في حماية حقوق الأقليات. بينما تناول المطلب الثاني، مدى الإسهام الدولي في تطبيق هذه الحماية، من خلال بعض الاتفاقيات الإقليمية التي نشأت في هذا المجال، إضافة إلى تطبيق هذه الحماية من خلال الممارسة الفعلية على الأرض، وما يعنيه ذلك من وجوب حالات يسمح فيها بالتدخل الإنساني الدولي.
المبحث الثاني: المقاربة القانونية العربية لحماية الأقليات
بالوصول إلى المنطقة العربية، فإن قضية الأقليات تحتل جانباً مهماً على الصعيد العلائقي بين دول المنطقة وعديد المنظمات الدولية والإقليمية في مجال حقوق الإنسان، فقد أفردنا المطلب الأول للحديث عن الواقع المعاش لهذه الأقليات في الدول العربية والإسلامية، من خلال طبيعة الممارسة السياسية الإسلامية على مدار التاريخ، إضافة إلى جدلية العلاقة بين مجتمعي الأغلبية والأقلية في الدول العربية، من خلال النظر إلى الاتجاهات التعصبية التي تحكم توجهات الطرفين، وطبيعة التفاعل الاجتماعي بينهما. أما المطلب الثاني فقد تناول تقنين مسألة حقوق الإنسان بعامة والأقليات بخاصة، في عدد من المواثيق العربية والإسلامية في مجال حقوق الإنسان.
القسم الثاني: الأقليات والاستقرار السياسي في الدول العربية: أية علاقة
الفصل الأول: الأقليات والنظم السياسية العربية: إشكاليات عديدة
الفصل الثاني: العوامل الإقليمية والدولية المهددة للاستقرار السياسي
الفصل الأول: الأقليات والنظم السياسية العربية: إشكاليات عديدة
المبحث الأول: العلاقة بين الأقليات والمجتمعات العربية المعاصرة
تناولنا في هذا المبحث طبيعة العلاقة القائمة بكل تداعياتها بين مختلف التشكيلات المجتمعية داخل إطار الدولة العربية، حيث أفردنا المطلب الأول للحديث عن العلاقة التي تربط الأقليات بمجتمع الأغلبية، سواء كانت دينية غير إسلامية أو دينية إسلامية أو المعبر عنها بـ"الطوائف الإسلامية"، إضافة إلى الأقليات القومية والثقافية على تعددها في المجتمعات العربية. وأفردنا المطلب الثاني للحديث عن تداعيات هذه العلاقات بيت مختلف المكونات على أكثر من صعيد، سواء كان على الصعيد الفكري، والخلط الحاصل بين عدد من المفاهيم الأساسية، أو على صعيد الممارسة الفعلية المتبعة، سواء كان تجاه الأقليات الدينية أو تجاه الأقليات الثقافية والقومية.
المبحث الثاني: توجهات النظم السياسية العربية تجاه الأقليات
تحدثنا في هذا المبحث عن طبيعة الممارسة السياسية المتبعة من قبل النظام السياسي الحاكم في الدول العربية تجاه الأقليات، وذلك بالتركيز في مطلب أول على طبيعة ومفهوم النظام السياسي بعموميته، وبخصوصيته العربية، ومدى توفر مقومات الشرعية والديمقراطية فيه، ومصادر هذه الشرعية ومدي اكتسابها صفة الإجماع الشعبي. بينما تحدثنا في مطلب ثاني، حول الإشكاليات العالقة بين النظم السياسية تلك وجماعات الأقليات، من خلال التركيز على أهم الأزمات المتعلقة بطبيعة تشكل الدولة العربية في مراحلها الأولى غداة الاستقلال.
***
الفصل الثاني: العوامل الإقليمية والدولية المهددة للاستقرار السياسي
المبحث الأول: البعد الإقليمي لمشكلة الأقليات في الدول العربية
تحدثنا خلال هذا المبحث على طبيعة المشكلات الناتجة من الجوار الجغرافي للمنطقة العربية، حيث تم في مطلب أول الحديث عن الصراع الإقليمي في المنطقة والآليات التي تم اعتمادها في بعض الحالات من قبل هذه القوى، للتدخل في الشؤون العربية من خلال تحريك مسألة الأقليات. بينما انفرد المطلب الثاني بالحديث عن هذه الدول تحديداً أو ما يطلق عليها دول الجوار الجغرافي، وذلك بالتركيز على دور كل من تركيا وإيران في إثارة بعض الإشكاليات المتعلقة سواء بالأكراد في شمالي العراق، أو بالشيعة في كل من لبنان والعراق، إضافة إلى التدخلات المستمرة لبعض الدول المجاورة للسودان، كإثيوبيا وأوغندا وإريتريا، ودورهم المتنامي والهادف إلى زعزعة استقرار القطر السوداني، عبر تغذية التحركات الانفصالية في جنوبه، وهو ما تحقق في النهاية.
المبحث الثاني: البعد الدولي لمشكلة الأقليات في الدول العربية وإمكانيات تحقيق الاستقرار السياسي
تتمثل أي قضية تعاني منها المنطقة العربية، بتعدد العوامل المتداخلة والمؤثرة فيها، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، ففي مطلب أول من هذا المبحث تم تناول دور المتغيرات الدولية في إثارة مشكلة الأقليات في المنطقة العربية، سواء المتغيرات النظرية والتي تمثل أهمها في نظريتي التفوق الأمريكي وصدام الحضارات، أو على صعيد السياسة الدولية تجاه مسألة الأقليات في الدول العربية متضمنة الدور الإسرائيلي والأمريكي في هذا الاطار. بينما أفردنا المطلب الثاني للحديث عن إمكانيات تحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة على ضوء جميع العراقيل السابقة وعلى ضوء الواقع المعاش للأقليات في الدول العربية، من خلال طرح سيناريوهات مستقبلية لهذه المسألة، أو من خلال التفكير بالوسائل الكفيلة بتحقيق الاستقرار السياسي من خلال تعزيز المفاهيم الديمقراطية، أو تفعيل دور المجتمع المدني.
توصيات الدراسة:
توصلت الدراسة إلى مجموعة من الخلاصات والاستنتاجات، والتي ارتبطت بالأساس بتفكيك الإشكالية الرئيسية للموضوع، حيث تمثلت على الشكل التالي:
أن الإجراءات القانونية الدولية المتبعة في شأن تنظيم وحماية حقوق الأقليات، تحتاج إلى مزيد من المتابعة والرصد من جانب المجتمع الدولي، ممثلاً بالأجهزة الرقابية التابعة للأمم المتحدة، كاللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، وكذلك مجلس حقوق الإنسان، بالإضافة إلى لجنة القضاء على التمييز العنصري
تتميز التحركات العربية والإسلامية في شأن تنظيم وحماية حقوق الأقليات ضمن إطار قانوني، بعدم توفرها على ضوابط إجرائية، تساهم في الحد من الانتهاكات المتكررة في هذا الميدان
إن الإشكال المفاهيمي الحاصل على مستوى "القومية، الإسلام، العروبة" من شأنه خلق مزيد من التعقيدات داخل المجتمعات العربية بما تحتويه من جماعات بشرية متمايزة، وقد تصل في بعض الحالات إلى مستويات صدامية بأشكال متعددة
تعتبر إشكالية الشرعية في النظم السياسية العربية من المعضلات الرئيسية التي تساهم في تحريك قضية الأقليات، نظراً لارتباطها بالممارسات السياسية المتبعة حيال مجتمع الأقلية، وبالتالي التشكيك من قبل هذه الأخيرة بطبيعة هذه الممارسة، المستمدة بنظرها من أساس غير شرعي.
ألقت الإشكاليات ذات العلاقة بمسألة بناء الدولة في المجتمعات العربية، بظلالها على طبيعة التفاعل الاجتماعي بين الجماعات البشرية المتمايزة داخل هذه المجتمعات، الأمر الذي ساهم في تأجيج إشكالية الأقليات التي تعاني منها معظم الدول العربية
إن بروز مسألة الأقليات في الدول العربية وتجددها، ارتبط كثيراً بالأبعاد الإقليمية والدولية، المتمثلة بسياسات بعض القوى الكبرى الرامية إلى تكريس حالة التجزئة العربية، عبر استغلال المتناقضات الداخلية في المجتمع العربي، وتغذيتها بالشكل الذي يهيئ المجال أمام تلك القوى لإعادة رسم الخريطة السياسية العربية على نحو جديد، يضمن عملياً السيطرة على مقدرات المنطقة العربية
إن السير في سبيل الحلول والمقترحات الوطنية الشاملة لإنهاء قضايا وإشكاليات الأقليات في المنطقة، لا يمكن أن يتجاوز واقع الدولة القطرية، بما تتضمنه من أسس ثابتة وأطر رضائية جامعة لكل المكونات البشرية داخلها، دون الارتكان إلى شروط القوى التدخلية الخارجية وضغوطها.
إن الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والأقليات، وتعزيز الديمقراطية في الدول العربية يفسره أيضاً أن البقاء بعيداً عما يجري من أحداث وتطورات في عالم اليوم، لم يعد أمراً مقبولاً حتى لأكثر الشعوب تخلفاً، وهذا ما ينطبق على البيئة الدولية الراهنة، التي أصبحت فيها قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات من المفردات الأساسية فيها، وهذه المفردات من قيم وحقوق واهتمامات لا يمكن أن تكون ملكاً لدولة أو مجموعة دول أو حضارة أو إقليم أو شعوب معينة، ما دامت هي حصيلة الجهد الإنساني كله وإرثاً للبشرية بأسرها، تلك حقيقة يجب الإقرار بها وبغض النظر عن استخدام هذه المفردات كأسلحة سياسية في خدمة بعض السياسات الكونية.
من هذا المنطلق، يتوجب على الكثير من النظم العربية، السعي الحثيث لتبني الخطوات العملية التي تكفل تمتع أبناء الأقليات بحقوقهم السياسية والاقتصادية، وإشاعة أجواء الديمقراطية، والإقرار بالتعددية السياسية والتي من خلالها يتم الاعتراف بشرعية تداول السلطة سلمياً، وإطلاق حرية التعبير والمشاركة الشعبية الواعية التي تمنح الإنسان الثقة المفقودة والانتماء الوطني والقومي، والمساهمة في عملية التنمية الشاملة، والتوزيع العادل للثروات، بما يمكن كل الجماعات من الحضور والمشاركة في العمل الديمقراطي، دون اعتبار لخصوصياتها الطائفية أو الدينية والعرقية، ولا شك أن من شأن ذلك أن يضيق الفجوة إن لم يكن يلغيها، بين كل الفئات والجماعات الوطنية، ويدعم لحمة الانتماء الجماعي للوطن، ويجمد الصراعات السلبية الكامنة والمحتملة في المجتمع، والتي عادة ما يغذيها غياب المناخ الديمقراطي.
إن من شأن السعي في تثبيت وإقرار الحلول الديمقراطية أن يساعد، ليس على تحصين الجبهة الداخلية لبعض الأقطار العربية وإنقاذها من الانهيار الذي تتعرض له فحسب، وإنما في تثبيت أركان تلك النظم، وتأسيس شرعية جديدة لها، بدلاً من الشرعية المصطنعة التي خلفتها سنوات الاستبداد السابقة.
ومن أجل أن يأخذ الحل الديمقراطي بعده العربي أو القومي، لا بد لنا من التذكير بأهمية الدور الجماعي الذي يفترض أن يقوم به العرب للمساعدة في تثبيت الحلول السلمية والديمقراطية، وتشجيع الأخذ بها، سواء بتعزيز دور الجامعة العربية في هذا المجال، أو دور المؤسسات العربية المعنية بحقوق الإنسان، وبقية مؤسسات المجتمع العربي الأخرى، ورجال الفكر والمثقفين العرب، فمن المؤكد أن المشاركة الجماعية للعرب، تعطي الانطباع بالإحساس المشترك لحجم المخاطر التي أخذت تتعرض لها الدول العربية، وبضرورة العمل العربي المشترك لمنع التردي والحيلولة دون مزيد من التصدع والتشقق، عبر إيجاد الآليات المساعدة في حل مشكلة الأقليات في بعض الدول العربية، وبما يساعد كمرحلة لاحقة في سد الثغرات التي يتهدد من خلالها الأمن القومي للدول العربية، عبر تصاعد موجة حروب الأقليات وتزايد تدخلات القوى الخارجية في تأجيجها.
ومن بين موضوعات حقوق الإنسان، تتمتع دراسة الأقليات بمكانة خاصة، وذلك للارتباط الوثيق بين احترام حقوق الأقليات والاستقرار الدولي، فالأحداث الجارية تشهد وقوع اضطرابات وعدم استقرار في بعض الدول بسبب وجود صراع بين الأقليات والأغلبية، وغالباً لا يتوقف هذا الصراع عند حدود الدولة التي يوجد بها خلاف بين الأقلية والأغلبية، بل يمتد ليشمل أكثر من دولة.
وإذا كان الأصل أن تهتم الدولة بتنظيم العلاقة بين الأغلبية والأقلية فيها، إلا أن الدول في تنظيمها لهذه العلاقة قد تغفل عن عمد أو عن حسن نية الخصوصية
الذاتية لأقلياتها، الأمر الذي يضر أشد الضرر بحقوق الأقليات، كما أن التاريخ نفسه يشهد بوقوع حالات كثيرة ضاقت فيها الحكومات بأقلياتها، فهضمت حقوقها، بل ومارست ضدها أحياناً سياسات ترمي إلى إفنائها سواء على المدى القريب أو البعيد، ومن هنا اتجهت الأقليات صوب القانون الدولي طالبة منه الحماية من جور حكوماتها، فنشأت بذلك الحماية الدولية لحقوق الأقليات.
يمكن اعتبار موضوع الأقليات من الموضوعات الهامة والقديمة-المتجددة مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي حدثت في الحقب التاريخية المختلفة، وهو موضوع تتداخل فيه تخصصات عديدة مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والتاريخ ودراسات الحضارة وعلم الوراثة، لذلك فهو يثير الجدل والمناقشة والاختلاف بين قطاعات واسعة من الأكاديميين والمهتمين بالمشكلات الإنسانية، وقد تخطى هذا الاهتمام قاعات الدراسة، لأن مشكلة الأقليات والعنصرية برزت واقعياً على سطح حياة كثير من المجتمعات، بالذات الدول حديثة العهد بالاستقلال، لأنها مرتبطة بالوحدة الوطنية وكيان الدولة الجديدة المتماسكة وبقضايا التنمية والتطور الاقتصادي والاستقرار السياسي، كما أن هذه المشكلة تخفي داخلها صراعات حقيقية أخرى مثل الصراعات الطبقية والاجتماعية- الاقتصادية المختلفة والتي تظهر كصراعات عرقية أو إثنية.
يرتبط موضوع الأقليات بمفاهيم مثل العنصر والعرق والمجموعات الإثنية، ويهتم بالعلاقات العرقية والعنصرية والتفرقة العنصرية، كما كان الحال في جنوب إفريقيا، وهو موضوع قديم بالذات حين يأخذ بعداً أوسع يقوم على أساس أيديولوجي، أي ضمن رؤية شاملة للعالم والإنسان، وبالتالي يصنف الإنسان الآخر حسب أصله وعرقه أو ثقافته بالمفهوم الشامل، ويقوم على مثل هذا التصنيف تحديد كافة العلاقات الاجتماعية الأخرى من العشيرة أو القبيلة وحتى الدولة الوطنية، أو العلاقات بين المجتمعات أو الدول المختلفة على صعيد عالمي أو إنساني عام، أو حتى طبيعة الحماية القانونية المقررة لهم.
إن دراسة موضوع الأقليات تفترض – كسياق عام- التصدي بوضوح لوجود النزاعات بين مختلف مبادئ الانتماء الأولية، إذ من شأن هذه النزاعات التي تشكل أساساً لدراسة مفهوم الأقلية، ومفهوم الذاكرة الجماعية معاً، أن تسمح بإدراك الالتباس في الخطابات حول الهوية الجماعية، كما تسمح في الوقت نفسه بإدراك الدور المهم لعوامل الدينامية الاجتماعية الذي لم تستطع النظرية الاقتصادية أن تحيط به تماماً حتى الآن، لا سيما وأن الدراسات المعاصرة المنصبة على فهم مسألة الصراع الإثني داخل إطار الدولة، لجأت إلى استخدام مفاهيم جديدة ليست مستخلصة من التناقض القائم على ثنائية التقليدية والحداثة، أو الثقافة المدنية النموذجية، فقد بدأ الباحثون باكتشاف أن التناقض بين المجتمعات الحديثة والقديمة ليس بالحجم المصور، وأن افتراض مجموعة ركائز وأسس لما هو حديث وما هو قديم كثيراً ما يخطئ حيث يلتقي القديم بالحديث، وعلى هذا فإن الحداثة لا تعني غياب الإثنية، كما أن الثقافة المدنية النموذجية، هي فرضية نظرية أكثر من كونها تمثل واقعاً اجتماعياً وسياسياً محدداً، وهذا ينطبق على النظم السياسية أيضاً، فهي كافة تجمع بين التقليدية والحداثة: بمعنى أنه ليست هناك أبنية وثقافات حديثة بالكامل، وليست هناك أبنية وثقافات تقليدية بالكامل، فأي نظام سياسي يضم العديد من الأبنية، وتتباين الأنظمة السياسية حسب مدى غلبة أي من العناصر الحديثة أو التقليدية فيها.
يمكن تعريف مفهوم الأقلية من عدة زوايا، إلا أن ما يجمع معظم هذه التعريفات هو الإقرار بوجوب تضمين الحماية القانونية اللازمة لهذه الأقليات، المعرضة بين الفينة والأخرى إلى مزيد من الانتهاكات والمخاطر الناشئة عن الممارسات المختلفة للدول والأنظمة التي تتكون من أقليات عدة، وعليه فإنه يمكن تعريف الأقلية بأنها:
"جماعة من مواطني دولة، يرتبط أفرادها ببعضهم البعض عن طريق روابط عرقية أو دينية أو لغوية، تميزهم عن بقية السكان، ويتضامن أفراد هذه الجماعة فيما بينهم للحفاظ على هذه الخصائص وتنميتها"، حيث تتعدد التعريفات حول مفهوم الأقلية بتعدد المدارس والأدبيات التي تتناول هذا المفهوم، فمن ناحية يمكن النظر إلى الأقلية من زاوية اجتماعية صرفة، أو من زاوية سياسية، أو قانونية، أو اقتصادية، وعليه فإن الإشكال حول موضوع الأقليات هو بالأساس مفاهيمي، تطور بعد ذلك ليصل إلى مستويات تتعلق بالحماية القانونية وطبيعتها.
وهذا ما يظهر بوضوح، عند الاستشهاد بنماذج مختلفة من الصراعات الإثنية التي تعانيها دول عديدة، إذ أن هذه الصراعات لم تستثن حتى البلدان المتقدمة من العالم، ومن بين هذه البلدان يمكن أن نشير وبإيجاز شديد، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إلى كل من فرنسا، بلجيكا، ايرلندا، الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، ففي فرنسا مثلاً هناك مشكلة الجماعات الإثنية القاطنة في مقاطعات بريتانيا، الباسك، كورسيكا، والتي لم تنصهر حتى الآن – بشكل تام- في بوتقة الثقافة الفرنسية، بدلالة وجود حركات واتجاهات تدعو إلى حكم ذاتي أو المحافظة على خصوصيتها الثقافية ضمن الدولة الفرنسية.
وتعاني بلجيكا الصراع بين الجماعتين الرئيسيتين في البلاد، هما "الوالون" الناطقون بالفرنسية، ويقطنون جنوب بلجيكا، و"الفليمنغ" أو "الفلاندرز"، الناطقون باللغة الدويتشية ويسكنون في الشمال، إذ هنالك كراهية واضحة ببين الجماعتين، ويتوقع بعض الباحثين، أن يؤدي ذلك إلى انقسام بلجيكا، علماً بأن "الوالون" هم المسيطرون سياسياً واقتصادياً في البلاد، رغم قلة نسبتهم المئوية قياساً بــ"الفلاندرز"، فالنسبة هي 32 بالمائة لـ "الوالون" مقابل 56 بالمائة للآخرين. وكذلك الحال بالنسبة إلى ايرلندا، "منطقة استر" التي تعاني صراعاً حاداً بين الكاثوليك والبروتستانت، واسبانيا التي تعاني مشكلة إثنية حادة في الباسك، إضافة إلى إقليم كاتولونيا. كذلك تعاني استراليا أيضاً، من مشكلات ذات طابع اثني، وذلك لأن المجتمع الاسترالي هو خليط من شتى الجماعات الإثنية والثقافية، التي وفدت إلى استراليا من جميع القارات، حيث يوجد فيها ما يقارب من 107 جماعة إثنية في عموم استراليا، وهذا ما يؤدي إلى التسبب في مشاكل عديدة، لا سيما بين استراليا دولة المقر والدول التي قدم منها هؤلاء الوافدون "دول الأصل"، إضافة إلى وجود الجماعة الإثنية الأصلية "سكان استراليا الأصليون"، المسمون "الأبوري جينز"، والذين يعانون هيمنة الجماعات الوافدة، ولا سيما من قبل الأغلبية البيضاء الناطقة بالانجليزية.
ومن هذه الأمثلة "العالمية"، يتضح لنا أن هذه المشكلة لا تقتصر على البلدان المتخلفة والنامية فقط، وإنما تعانيها حتى البلدان المتقدمة، وإن كانت حدتها في العالم الثالث أكثر وضوحاً، وذلك لاقترانها بتفاوت اجتماعي/ اقتصادي ملحوظ بين الجماعات الإثنية المختلفة، ينعكس في تباين درجة تأثيرها السياسي، مما يؤدي إلى تفجير الاضطرابات، والتي قد تصل في بعضها إلى حد قيام الحروب الأهلية، كما حدث ويحدث في كل من أثيوبيا، السودان، جنوب أفريقيا، لبنان، العراق.
ومن هنا يمكن القول أن للأقليات وجوداً طبيعياً في كل مجتمع إنساني، ويبدو وجودها أكثر بروزاً حيث يتسع الوطن، وتتعدد الأصول الإثنية التي أسهمت في تكوين الدولة، أما مشاكل الأقليات وخطورتها فتتناسب عكسياً، مع تقدم المجتمع وتطوره وتتصل بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة بأكثر من اتصالها بنسبة الأقليات في المجتمع.
وإذا كانت مشكلة الأقليات ذات طبيعة عالمية، بمعنى عدم اقتصارها على دول معينة أو قارات معينة، فإنها كذلك ليست بالحديثة أو المستحدثة، وإنما هي مشكلة قديمة- حديثة في آن واحد، فهي جديدة بإلحاحها المستمر على التحليل السياسي نظراً لارتباطها بمسائل الوحدة الوطنية والأمن الوطني والاستقرار السياسي، ودحضها كل التنبؤات بانحسارها تحت وطأة التحديث، رغم كل تأثيراته الإيجابية إزاء الإقلال من حدة المشكلة، فمن ناحية يعد التعدد الإثني هو السمة المميزة لدول العالم، ومن ناحية ثانية يأتي العنف الذي تمارسه بعض الأقليات، في مقدمة أشكال العنف السياسي وأكثرها تطرفاً من جانب، وتهديداً لسلامة الوحدة الوطنية واستقرار الأوضاع الداخلية للدولة من جانب آخر.
وقد ازدادت مشكلة الأقليات حدةً ووضوحاً مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وذلك إثر انهيار إمبراطوريتين كبيرتين، هما إمبراطورية النمسا والمجر، والإمبراطورية العثمانية واستسلام ألمانيا.
حيث أعيد توزيع المستعمرات الألمانية في إفريقيا، وهي "تنجانيقا، رواندا، بوروندي، وناميبيا"، كما تم تقاسم وتوزيع أملاك الإمبراطوريتين السابقتين، مما أدى إلى ظهور دول عديدة، خصوصاً في منطقة البلقان، إلى درجة أن كلمة البلقنة أصبحت تستخدم للدلالة على أية سياسة تفتيتية أو تجزيئية للدول، وهكذا أسفر الوضع الجديد لهذه الدول الفتية، عن وجود أقليات عديدة في كل منها: دينية، لغوية، قومية، عرقية، فمثلاً أصبح ربع سكان بولندا من الأقليات: الألمانية، الروسية، وغيرها، وكذلك الحال مع تشيكوسلوفاكيا، والتي تكونت من التشيك والسلوفاك، رغم العداوة التاريخية بينهما، وتكونت يوغسلافيا "سلافيا الجنوبية" من قوميات عدة، منها الصرب، الكروات، السلوفيين، قومية الجبل الأسود "تسرناغورا"، مقدونيا، وجزء من القومية الألبانية.
و مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، دخل النظام السياسي الدولي مرحلة جديدة لم يألفها من قبل، وهي انخراط معظم شعوب العالم ما يسمى بالعالم الثالث "لا سيما بلدان آسيا وإفريقيا" في إطار دول خاصة بها، بعد أن كانت مستعمرات تابعة للقوى الأوروبية، أو كيانات تعيش في إطار تنظيمات قبلية أو طائفية أو إقليمية بعيدة عن طابع الدول المعاصرة، باستثناء حالات قليلة شهدت قيام دول خاصة بتلك الشعوب، التي لم تخضع للاستعمار الأوروبي، أو كان خضوعها له متأخراً أو لسنوات قليلة، مثل اليمن، أثيوبيا، أجزاء من المغرب وقليل غيرها.
إشكالية البحث:
تتمحور إشكالية الدراسة في التساؤل التالي:
إلى أي حد يمكن أن تشكل الأقليات تهديداً للاستقرار السياسي في البلدان العربية؟
تثير هذه الإشكالية بدورها العديد من التساؤلات الفرعية، أهمها:
هل يمكن أن تشكل الأقليات شرخاً مؤذياً في جدار الوحدة الوطنية؟ وبعداً مساعداً في تصدع البناء الداخلي للمجتمع الوطني؟ أم أن التعددية يمكن أن تكون عاملاً مساهماً في الإثراء الفكري والثقافي للمجتمع؟ وإلى أي مدى تفضي العلاقة الإيجابية التي تربط النظام السياسي بوحدات المجتمع وجماعاته المختلفة إلى تحقيق الاستقرار والأمن للدولة؟ وإلى أي مدى تؤدي العلاقة السلبية التي تحكم توجهات النظام السياسي بتلك الجماعات، وبما تتضمنه من حالات تهميش وإبعاد وتضييق في فرص المشاركة السياسية وسوء توزيع الثروات الاقتصادية في تحقيق ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وخلق الأوضاع المضطربة التي تفسح المجال للقوى الخارجية لاختراق مقومات الأمن الوطني أو القومي؟ وهل أن مشكلة التعصب لصيقة بالأغلبية أم بالأقلية؟ أم هي صفة ملازمة للاثنين؟ وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر توجهات بعض القوى الإقليمية نحو الزعامة في المنطقة على إثارة إشكالية الأقليات في الدول العربية، وبالتالي تهديد الاستقرار السياسي فيها؟ وإلى أي حد ارتبطت مشاريع الإصلاح الدولية كـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بتهديد الاستقرار السياسي في الدول العربية؟
إن مقاربة هذه الإشكالية وما تطرحه من تساؤلات تقتضي التطرق إلى تأصيل مفهوم الأقليات نظرياً، وتحديد الأسس القانونية لحقوق الأقليات، على نحو يساهم في تحديد الإشكاليات المرتبطة بها على الصعيد الإجرائي والموضوعي، وبالتالي مقاربة ذلك مع التوجهات السياسية للنظم العربية تجاه مسألة الأقليات، وكيفية تعاطيها مع التطلعات المشروعة للأقليات نحو مزيد من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تضمن بالتالي مجتمعاً قائم على أسس ديمقراطية وتعددية يسود فيه الاستقرار السياسي بكل مفاهيمه وتجلياته.
الأهمية والهدف من الدراسة:
تكمن أهمية الدراسة في تناولها بالتحليل العلمي والموضوعي، مدى ارتباط وجود الأقليات في البلدان العربية بظاهرة الاستقرار السياسي، من خلال الممارسات السياسية المتبعة، سواء من قبل الأقليات أو من قبل الأنظمة السياسية للبلدان العربية.
لذلك تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء حول عدد من القضايا التي يثيرها، منها
الكشف عن بعض الإشكاليات الموضوعية والإجرائية التي تعاني منها الأقليات، سواء على الصعيد الدولي، أو على صعيد المنطقة العربية، من خلال مقاربة نظرية لهذه الإشكاليات.
تتبع آليات الحماية القانونية للأقليات على المستوى الدولي والعربي، وبالتالي تسليط الضوء على المقاربة القانونية العربية لحماية الأقليات، وذلك بالتركيز على المواثيق والمقررات الخاصة بهذا الشأن.
تبيان طبيعة العلاقة التي تجمع الأقليات بالنظم السياسية العربية، بالإضافة إلى وضعيتها الاجتماعية داخل تلك البلدان، وتداعيات هذه العلاقة عليها.
دراسة توجهات النظم السياسية العربية تجاه الأقليات من خلال البحث في أزمة النظام السياسي وشرعيته.
تسليط الضوء حول العوامل الإقليمية والدولية المهددة للاستقرار السياسي في المنطقة، انطلاقاً من التدخل في مسألة الأقليات في الدول العربية.
إن الدراسات المتعلقة بمشكلات الاستقرار السياسي بشكل عام، وعلاقتها بظاهرة الأقليات والجماعات الإثنية بشكل خاص، ولا سيما في بلدان العالم الثالث، ومنها البلدان العربية – موضوع دراستنا – هي من التعقيد والتشعب والحساسية، بحيث يصعب على أي دارس مهما أوتي من قوة في الملاحظة والرصد متابعتها بدقة، خاصة إذا كانت هذه الدراسات لا تهدف إلى مجرد الحصر والوصف، وإنما تسعى إلى التحليل والتأصيل.
فالدراسات التأصيلية التركيبية هي من أشق أنواع الدراسات، ولقد أثبتت الخبرة، أنه مع كل تقدم في البحث والوصول إلى جانب جديد من المقولة، لا بد أن يراجع الوصف والتحليل اللذين تم إجراؤهما من قبل على ضوء هذا الجانب الجديد، وهكذا حتى آخر كلمة في الخاتمة، بل وقد يستدعي الأمر، بعد الاهتداء إلى المقولة المبتغاة في صورتها النهائية، مراجعة كل ما تم من قبل وإعادة تحريره كله أو بعضه.
الدراسات السابقة:
إن هذه الدراسة وبحكم تناولها لأحد الظواهر الاجتماعية التي تتسم بخصوصياتها، وتشابك وتداخل العوامل المؤثرة فيها، ما بين الذاتي والموضوعي، الداخلي والخارجي، فإنها لا تدعي إحاطتها ومقاربتها لكافة ما تثيره هذه الظاهرة من تساؤلات وإشكاليات، لكنها تسعى إلى أن تشكل مساهمة متواضعة في مجال البحث العلمي والأكاديمي، خاصة في ظل الصعوبات التي واجهتها الدراسة على صعيد المصادر والدراسات السابقة حول موضوعها، والتي و إن تم الاعتماد على العديد منها في هذه الدراسة، إلا أنها تميزت إما بتناولها لمسألة الأقليات من ناحية كونها من ضمن موضوعات حقوق الإنسان، وارتباطها أكثر بالشق القانوني المتعلق بالتنظيم القانوني الدولي لها، أو من خلال دراستها واختزالها ضمن نموذج معين، أو من خلال تناولها بعموميتها. لا نروم من ذلك التقليل من أهمية تلك المصادر والدراسات، وإنما تسليط الضوء حول غياب البحوث والدراسات العلمية التي تتناول بشمولية موضوع الأقليات وارتباطه بمفهوم الاستقرار السياسي في الدول العربية، والذي هو مطلب وغاية ثابتين لكافة الشعوب العربية، وما قد يشكله ذلك من تحدي أمام الباحثين في تتبع الظاهرة، والربط بين مختلف العناصر والعوامل المؤثرة فيها.
المنهجية:
تعتمد الدراسة على مجموعة من مناهج ونظريات البحث العلمي المناسبة لاستخدامها وتوظيفها في تفكيك الإشكالية، ونظراً لصعوبة الاعتماد على منهج محدد لطبيعة ما تفرضه الدراسة من إشكاليات متعددة تستدعي توظيف مجموعة من تلك المناهج والنظريات، ولكن ذلك لا يغني عن الاعتماد على منهج رئيسي مثل المنهج البنيوي- الوظيفي- النسقي، الذي يساعد في تفكيك الظاهرة محل الدراسة إلى مجموعة من البنى والوظائف، لتعطي حكماً منهجياً على طبيعة النسق في العلاقة والتكوين بين مكونات البحث وموضوعاته المتباعدة والمتقاربة.
يمكن من خلال توظيف المنهج البنيوي اعتبار مفهوم الأقليات كمؤسسة مستقلة بذاتها "وحدة" ينبغي تفكيكها لإيضاح تكوينها ووظيفتها في التأثير على ظاهرة البحث ككل "النسق"، كذلك ولصعوبة تناول صيرورة ظاهرة متحركة وفضفاضة مفهوماً وممارسة كظاهرة "الاستقرار السياسي"، حيث يساعد المنهج البنيوي في تناول ظاهرة الاستقرار السياسي باعتبارها بنية مستقلة، تستدعي ربطها بمكونات مادية بالاعتماد على الدول العربية، وعلى وظيفة معينة كالوظيفة السياسية التي تعمل بوظيفتها على تحقيق الاستقرار.
ونظراً لصعوبة حكم الموضوع بمنهج معين، فقد فرض البحث في بعض فقراته الاستئناس بالمنهج التاريخي، لأهميته في رصد التراكمات التاريخية ومقاربتها بواقع الإشكاليات التي يثيرها البحث، بالإضافة للمنهج المقارن في استخداماته المتعددة التي فرضها تناول ودراسة بعض وضعيات الأقليات في دول مختلفة، وطبيعة الممارسة المتبعة حيالهم من قبل الأنظمة السياسية، كذلك لا يقف البحث عند رصد الظاهرة وتحليلها دون أن يكون معنياً بالدخول فيها، وذلك للخروج بمجموعة من السيناريوهات والاستنتاجات، باستخدام المنهج الاستشرافي من خلال طرح الخلاصات، وفتح البحث على موضوعات أخرى ذات علاقة.
ونظراً لاعتماد الدراسة على عدد من المواثيق والاتفاقيات واللوائح القانونية المنظمة لمسألة الأقليات، مما يفرض ذلك الاعتماد على المنهج القانوني لرصد وتوثيق هذه الأنظمة واللوائح القانونية المتعددة، والتي أخذت حيزاً هاماً في القسم الأول من البحث، وذلك من خلال رصد بعض اللجان الخاصة بتنظيم وجود وحماية الأقليات، كاللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، واللجان العديدة المعنية بحقوق الإنسان والتمييز العنصري.
اختيار التصميم:
جرى التفكير في بعض التصاميم لمقاربة إشكاليات الدراسة، منها تقسيم الموضوع إلى قسمين، الأول يتناول الموضوع ضمن إطار نظري، والثاني يتناول دراسة سوسيولوجية مقارنة لنموذجين من الأقليات، إلا أن هذا التصميم يمكن أن يختزل الحديث بشمولية أكبر عن عديد الأقليات الموجودة في الدول العربية، وبالتالي الإشكاليات العديدة التي يمكن أن تثار من خلالها.
أما التصميم الثاني، فيتناول في قسم أول منه، طبيعة العلاقة بين الأقليات والمكونات المجتمعية الأخرى في إطار الدولة العربية، والثاني طبيعة التوجهات السياسية للنظم العربية وممارساتها المختلفة تجاه الأقليات، وانعكاس ذلك على الاستقرار السياسي في البلدان العربية، إلا أن هذا التصميم يتجنب الحديث عن التأصيل النظري لمفهوم الأقليات وبالتالي الحماية القانونية المقررة لها، كأساس لوجود هذه الأقليات وتمتعها بحقوقها ضمن إطار هذه الدول، دون أي انتهاك يمكن أن يمارس ضدها.
لذلك ارتأت الدراسة أن يساهم التصميم الذي تعتمده في الحفاظ على وحدة الظاهرة، وعدم تجزئتها أو اختزال مراحلها، نظراً للترابط الحاصل بين مختلف العوامل المؤثرة فيها، والإشكاليات التي يثيرها موضوع الدراسة.
وعليه سعت الدراسة إلى تبني تصميم يمكن من خلاله تقديم مقاربة موضوعية للإشكاليات التي تطرحها، مع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات السابقة، ويتمثل هذا التصميم في تناول الموضوع ضمن قسمين:
القسم الأول: الإطار النظري للأقليات وتنظيمها القانوني
القسم الثاني: الأقليات والاستقرار السياسي في الدول العربية: أية علاقة
القسم الأول: الإطار النظري للأقليات وتنظيمها القانوني
الفصل الأول:الأقليات: ماهيتها المفاهيمية والإسناد القانوني
الفصل الثاني: آليات الحماية القانونية للأقليات على المستوى الدولي والعربي
الفصل الأول:الأقليات: ماهيتها المفاهيمية والإسناد القانوني
المبحث الأول: تعريف الأقليات وتطورها التاريخي
يتناول هذا المبحث إبراز مفهوم الأقليات والإشكاليات العديدة المثارة حوله، والتي ترجع في غالبها إلى التعدد الفقهي وتعدد المدارس العلمية، الساعية بدورها إلى تقديم تعريف يتناسب وحجم الإشكاليات التي يمكن أن تثار، والتي ترتبط أحياناً بتعدد وتنوع هذه الأقليات. حيث أفردنا المطلب لتبيان مفهوم الأقليات على كل من الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى التعريفات القانونية الدولية الخاصة بهذا الشأن بالرجوع إلى مواثيق وقرارات الأمم المتحدة واللجان الدولية الأخرى المختصة بهذه المسألة، إضافة إلى تصنيف هذه الأقليات التي تتعدد وتنوع من لغوية إلى دينية، وقومية وعرقية وقبلية. وفي مطلب ثاني، تحدثنا عن التطور التاريخي للحماية الدولية لحقوق الأقليات، من خلال عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة.
المبحث الثاني: الأسس القانونية لحقوق الأقليات: أية إشكاليات
يتناول هذا المبحث في مطلب أول منه، مضمون حقوق الأقليات، والتي تتنوع بين الحق في الوجود ومنع التمييز، بالإضافة إلى الحق في تحديد الهوية وتقرير المصير. أما المطلب الثاني، فقد تناول المقاربة النظرية لمشكلات الأقليات، من خلال البحث في الإشكاليات الموضوعية التي تعاني منها الأقليات، ما بين الاندماج والتمييز، وما بين المعايير الدستورية للتمييز، إضافة إلى الإشكاليات الإجرائية التي تعاني منها الأقليات، وأهمها إشكالية التهميش، والسبل الجديرة بالتغلب والقضاء عليها.
***
الفصل الثاني: آليات الحماية القانونية للأقليات على المستوى الدولي والعربي
المبحث الأول: الوسائل القانونية الدولية لتعزيز حقوق الأقليات
يتناول هذا المبحث الآليات الدولية التي تم اعتمادها من قبل المنتظم الدولي لحماية حقوق الأقليات، حيث أفردنا المطلب الأول ليتناول، الرقابة الخاصة والعامة التي تكونت للمساهمة في حماية حقوق الأقليات. بينما تناول المطلب الثاني، مدى الإسهام الدولي في تطبيق هذه الحماية، من خلال بعض الاتفاقيات الإقليمية التي نشأت في هذا المجال، إضافة إلى تطبيق هذه الحماية من خلال الممارسة الفعلية على الأرض، وما يعنيه ذلك من وجوب حالات يسمح فيها بالتدخل الإنساني الدولي.
المبحث الثاني: المقاربة القانونية العربية لحماية الأقليات
بالوصول إلى المنطقة العربية، فإن قضية الأقليات تحتل جانباً مهماً على الصعيد العلائقي بين دول المنطقة وعديد المنظمات الدولية والإقليمية في مجال حقوق الإنسان، فقد أفردنا المطلب الأول للحديث عن الواقع المعاش لهذه الأقليات في الدول العربية والإسلامية، من خلال طبيعة الممارسة السياسية الإسلامية على مدار التاريخ، إضافة إلى جدلية العلاقة بين مجتمعي الأغلبية والأقلية في الدول العربية، من خلال النظر إلى الاتجاهات التعصبية التي تحكم توجهات الطرفين، وطبيعة التفاعل الاجتماعي بينهما. أما المطلب الثاني فقد تناول تقنين مسألة حقوق الإنسان بعامة والأقليات بخاصة، في عدد من المواثيق العربية والإسلامية في مجال حقوق الإنسان.
القسم الثاني: الأقليات والاستقرار السياسي في الدول العربية: أية علاقة
الفصل الأول: الأقليات والنظم السياسية العربية: إشكاليات عديدة
الفصل الثاني: العوامل الإقليمية والدولية المهددة للاستقرار السياسي
الفصل الأول: الأقليات والنظم السياسية العربية: إشكاليات عديدة
المبحث الأول: العلاقة بين الأقليات والمجتمعات العربية المعاصرة
تناولنا في هذا المبحث طبيعة العلاقة القائمة بكل تداعياتها بين مختلف التشكيلات المجتمعية داخل إطار الدولة العربية، حيث أفردنا المطلب الأول للحديث عن العلاقة التي تربط الأقليات بمجتمع الأغلبية، سواء كانت دينية غير إسلامية أو دينية إسلامية أو المعبر عنها بـ"الطوائف الإسلامية"، إضافة إلى الأقليات القومية والثقافية على تعددها في المجتمعات العربية. وأفردنا المطلب الثاني للحديث عن تداعيات هذه العلاقات بيت مختلف المكونات على أكثر من صعيد، سواء كان على الصعيد الفكري، والخلط الحاصل بين عدد من المفاهيم الأساسية، أو على صعيد الممارسة الفعلية المتبعة، سواء كان تجاه الأقليات الدينية أو تجاه الأقليات الثقافية والقومية.
المبحث الثاني: توجهات النظم السياسية العربية تجاه الأقليات
تحدثنا في هذا المبحث عن طبيعة الممارسة السياسية المتبعة من قبل النظام السياسي الحاكم في الدول العربية تجاه الأقليات، وذلك بالتركيز في مطلب أول على طبيعة ومفهوم النظام السياسي بعموميته، وبخصوصيته العربية، ومدى توفر مقومات الشرعية والديمقراطية فيه، ومصادر هذه الشرعية ومدي اكتسابها صفة الإجماع الشعبي. بينما تحدثنا في مطلب ثاني، حول الإشكاليات العالقة بين النظم السياسية تلك وجماعات الأقليات، من خلال التركيز على أهم الأزمات المتعلقة بطبيعة تشكل الدولة العربية في مراحلها الأولى غداة الاستقلال.
***
الفصل الثاني: العوامل الإقليمية والدولية المهددة للاستقرار السياسي
المبحث الأول: البعد الإقليمي لمشكلة الأقليات في الدول العربية
تحدثنا خلال هذا المبحث على طبيعة المشكلات الناتجة من الجوار الجغرافي للمنطقة العربية، حيث تم في مطلب أول الحديث عن الصراع الإقليمي في المنطقة والآليات التي تم اعتمادها في بعض الحالات من قبل هذه القوى، للتدخل في الشؤون العربية من خلال تحريك مسألة الأقليات. بينما انفرد المطلب الثاني بالحديث عن هذه الدول تحديداً أو ما يطلق عليها دول الجوار الجغرافي، وذلك بالتركيز على دور كل من تركيا وإيران في إثارة بعض الإشكاليات المتعلقة سواء بالأكراد في شمالي العراق، أو بالشيعة في كل من لبنان والعراق، إضافة إلى التدخلات المستمرة لبعض الدول المجاورة للسودان، كإثيوبيا وأوغندا وإريتريا، ودورهم المتنامي والهادف إلى زعزعة استقرار القطر السوداني، عبر تغذية التحركات الانفصالية في جنوبه، وهو ما تحقق في النهاية.
المبحث الثاني: البعد الدولي لمشكلة الأقليات في الدول العربية وإمكانيات تحقيق الاستقرار السياسي
تتمثل أي قضية تعاني منها المنطقة العربية، بتعدد العوامل المتداخلة والمؤثرة فيها، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، ففي مطلب أول من هذا المبحث تم تناول دور المتغيرات الدولية في إثارة مشكلة الأقليات في المنطقة العربية، سواء المتغيرات النظرية والتي تمثل أهمها في نظريتي التفوق الأمريكي وصدام الحضارات، أو على صعيد السياسة الدولية تجاه مسألة الأقليات في الدول العربية متضمنة الدور الإسرائيلي والأمريكي في هذا الاطار. بينما أفردنا المطلب الثاني للحديث عن إمكانيات تحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة على ضوء جميع العراقيل السابقة وعلى ضوء الواقع المعاش للأقليات في الدول العربية، من خلال طرح سيناريوهات مستقبلية لهذه المسألة، أو من خلال التفكير بالوسائل الكفيلة بتحقيق الاستقرار السياسي من خلال تعزيز المفاهيم الديمقراطية، أو تفعيل دور المجتمع المدني.
توصيات الدراسة:
توصلت الدراسة إلى مجموعة من الخلاصات والاستنتاجات، والتي ارتبطت بالأساس بتفكيك الإشكالية الرئيسية للموضوع، حيث تمثلت على الشكل التالي:
أن الإجراءات القانونية الدولية المتبعة في شأن تنظيم وحماية حقوق الأقليات، تحتاج إلى مزيد من المتابعة والرصد من جانب المجتمع الدولي، ممثلاً بالأجهزة الرقابية التابعة للأمم المتحدة، كاللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، وكذلك مجلس حقوق الإنسان، بالإضافة إلى لجنة القضاء على التمييز العنصري
تتميز التحركات العربية والإسلامية في شأن تنظيم وحماية حقوق الأقليات ضمن إطار قانوني، بعدم توفرها على ضوابط إجرائية، تساهم في الحد من الانتهاكات المتكررة في هذا الميدان
إن الإشكال المفاهيمي الحاصل على مستوى "القومية، الإسلام، العروبة" من شأنه خلق مزيد من التعقيدات داخل المجتمعات العربية بما تحتويه من جماعات بشرية متمايزة، وقد تصل في بعض الحالات إلى مستويات صدامية بأشكال متعددة
تعتبر إشكالية الشرعية في النظم السياسية العربية من المعضلات الرئيسية التي تساهم في تحريك قضية الأقليات، نظراً لارتباطها بالممارسات السياسية المتبعة حيال مجتمع الأقلية، وبالتالي التشكيك من قبل هذه الأخيرة بطبيعة هذه الممارسة، المستمدة بنظرها من أساس غير شرعي.
ألقت الإشكاليات ذات العلاقة بمسألة بناء الدولة في المجتمعات العربية، بظلالها على طبيعة التفاعل الاجتماعي بين الجماعات البشرية المتمايزة داخل هذه المجتمعات، الأمر الذي ساهم في تأجيج إشكالية الأقليات التي تعاني منها معظم الدول العربية
إن بروز مسألة الأقليات في الدول العربية وتجددها، ارتبط كثيراً بالأبعاد الإقليمية والدولية، المتمثلة بسياسات بعض القوى الكبرى الرامية إلى تكريس حالة التجزئة العربية، عبر استغلال المتناقضات الداخلية في المجتمع العربي، وتغذيتها بالشكل الذي يهيئ المجال أمام تلك القوى لإعادة رسم الخريطة السياسية العربية على نحو جديد، يضمن عملياً السيطرة على مقدرات المنطقة العربية
إن السير في سبيل الحلول والمقترحات الوطنية الشاملة لإنهاء قضايا وإشكاليات الأقليات في المنطقة، لا يمكن أن يتجاوز واقع الدولة القطرية، بما تتضمنه من أسس ثابتة وأطر رضائية جامعة لكل المكونات البشرية داخلها، دون الارتكان إلى شروط القوى التدخلية الخارجية وضغوطها.
إن الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والأقليات، وتعزيز الديمقراطية في الدول العربية يفسره أيضاً أن البقاء بعيداً عما يجري من أحداث وتطورات في عالم اليوم، لم يعد أمراً مقبولاً حتى لأكثر الشعوب تخلفاً، وهذا ما ينطبق على البيئة الدولية الراهنة، التي أصبحت فيها قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات من المفردات الأساسية فيها، وهذه المفردات من قيم وحقوق واهتمامات لا يمكن أن تكون ملكاً لدولة أو مجموعة دول أو حضارة أو إقليم أو شعوب معينة، ما دامت هي حصيلة الجهد الإنساني كله وإرثاً للبشرية بأسرها، تلك حقيقة يجب الإقرار بها وبغض النظر عن استخدام هذه المفردات كأسلحة سياسية في خدمة بعض السياسات الكونية.
من هذا المنطلق، يتوجب على الكثير من النظم العربية، السعي الحثيث لتبني الخطوات العملية التي تكفل تمتع أبناء الأقليات بحقوقهم السياسية والاقتصادية، وإشاعة أجواء الديمقراطية، والإقرار بالتعددية السياسية والتي من خلالها يتم الاعتراف بشرعية تداول السلطة سلمياً، وإطلاق حرية التعبير والمشاركة الشعبية الواعية التي تمنح الإنسان الثقة المفقودة والانتماء الوطني والقومي، والمساهمة في عملية التنمية الشاملة، والتوزيع العادل للثروات، بما يمكن كل الجماعات من الحضور والمشاركة في العمل الديمقراطي، دون اعتبار لخصوصياتها الطائفية أو الدينية والعرقية، ولا شك أن من شأن ذلك أن يضيق الفجوة إن لم يكن يلغيها، بين كل الفئات والجماعات الوطنية، ويدعم لحمة الانتماء الجماعي للوطن، ويجمد الصراعات السلبية الكامنة والمحتملة في المجتمع، والتي عادة ما يغذيها غياب المناخ الديمقراطي.
إن من شأن السعي في تثبيت وإقرار الحلول الديمقراطية أن يساعد، ليس على تحصين الجبهة الداخلية لبعض الأقطار العربية وإنقاذها من الانهيار الذي تتعرض له فحسب، وإنما في تثبيت أركان تلك النظم، وتأسيس شرعية جديدة لها، بدلاً من الشرعية المصطنعة التي خلفتها سنوات الاستبداد السابقة.
ومن أجل أن يأخذ الحل الديمقراطي بعده العربي أو القومي، لا بد لنا من التذكير بأهمية الدور الجماعي الذي يفترض أن يقوم به العرب للمساعدة في تثبيت الحلول السلمية والديمقراطية، وتشجيع الأخذ بها، سواء بتعزيز دور الجامعة العربية في هذا المجال، أو دور المؤسسات العربية المعنية بحقوق الإنسان، وبقية مؤسسات المجتمع العربي الأخرى، ورجال الفكر والمثقفين العرب، فمن المؤكد أن المشاركة الجماعية للعرب، تعطي الانطباع بالإحساس المشترك لحجم المخاطر التي أخذت تتعرض لها الدول العربية، وبضرورة العمل العربي المشترك لمنع التردي والحيلولة دون مزيد من التصدع والتشقق، عبر إيجاد الآليات المساعدة في حل مشكلة الأقليات في بعض الدول العربية، وبما يساعد كمرحلة لاحقة في سد الثغرات التي يتهدد من خلالها الأمن القومي للدول العربية، عبر تصاعد موجة حروب الأقليات وتزايد تدخلات القوى الخارجية في تأجيجها.