بادئ ذي بدأ أوجه شكري الخالص مع فائق التقدير والإحترام إلى كل أعضاء اللجنة العلمية الموقرة التي أبت وتجشمت متاعب حضور هذا اللقاء العلمي المبارك ، كما أوجه شكري أيضا إلى أسرتي وأصدقائي وزملائي وكل من حضر هذه المناقشة ـ
انطلاقا من التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المحيط الدولي والإقليمي العربي في الآونة الأخيرة، وما أفرزته من محاولات لتوسيع مجال الحقوق والحريات ، والتي استبق فيها المغرب بذكاء حاد هذه التيارات والموجات العارمة، إذ تمكن صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من تحقيق إجماع وطني على دستور 2011 هذا الأخير الذي جاء متضمنا لمجموعة من الحقوق والحريات، ولإصلاحات جوهرية ومتعددة تؤسس لتوجهات سياسية وقانونية كبرى، ولعل من أهمها وضع أسس متينة لسياسة جنائية عادلة، تحتل فيها السياسة العقابية الحيز الأكبر، حيث تمت ترجمتها من خلال إعطاء جلالته لإنطلاق ورش إصلاح منظومة العدالة والتي تبوأ فيها الشق المتعلق بالعقوبة المكانة الهامة لارتباط ذلك بمفهوم العدالة الجنائية ، مما انعكاس على تصور وتفعيل الإصلاح ، الذي تراهن بلادنا عليهاليوم وخاصة بعد الإصلاحات الدستورية الأخيرة التي تمحور جزء كبير منها حول مراجعة شاملة وعامة لمنظومة العدالة ،وخاصة في الشق المرتبط بتحديث المقتضيات المتعلقة بنظام التجريم والعقاب، وذلك في أفق صدور مدونة جنائية جديدة كفيلة بمكافحة الجريمة في شتى تجلياتها الحديثة ،ومواكبة لتطوراتها المتلاحقـةـ وقد لاحت بوادرها مؤخرا من خلال المسودة الأخيرة التي طالعتنا بها وزارة العدل والحريات والمتعلقة بتعديل قانون المسطرة الجنائية، وهو حدث سيتوج لا محالة إن سار على هذا النهج المسار الإصلاحي لمنظومتنا الجنائية.
وفي سياق أخر ونظرا لوقع ممارستي لوظيفتي المهنية لما يناهز 14 سنة بميدان الضابطة القضائية، بمختلف شعابها وبحكم العلاقة الجدلية بين أثر الوظيفة على شخصية الإنسان واستكمال تكوينه الفكري، فقد تولدت لدي قناعة راسخة بضرورة البحث العلمي في الشق المرتبط بطبيعة عملي والذي يفرض علي في أحيان كثيرة تتبع مالآت الأشخاص الذين يتم توقيفهم يوميا من طرف المصالح الأمنية، من جراء ارتكابهم لجرائم مختلفة، بقصد عرضهم على العدالة لتوقيع العقاب عليهم، وبالنظر لكون نسبة كبيرة من هؤلاء الموقوفين غالبا ما يحالون علينا من جديد في حالة عود، إذ ما يلبث أن يمر وقت قصير على تقديمهم من طرف مصالح الشرطة القضائية أمام العدالة بسبب اقترافهم لأفعال جرمية مختلفة، حتى يطالعوننا من جديد من أجل ارتكابهم لجنايات أو جنح أكثر خطورة من سابقتها التي حوكموا من أجلها، الشيء الذي جعلنا نقف وقفة الباحث الجنائي المتأمل، الذي يفكر بعمق ويتأمل بدقة في الكثير من الحالات والوقائع التي تعرض عليه باستمرار، ومن أجل ذلك وإسهاما منا في بلورة أفكار واقتراحات وتصورات متواضعة عساها أن تساهم ولو من بعيد في حسن تدبير وترشيد السياسة العقابية ببلادنا، وهو الأمر الذي رسخ لدينا الدافع الذاتي للبحث في هذا الموضوع ـ
وبالنظر للتزايد المضطرد في عدد الجرائم، وكذا ارتفاع حالات العود لارتكاب الجريمة، إضافة إلى ارتفاع عدد السجناء بالسجون المغربية لدرجة وصفت معها السياسة العقابية المتبعة حاليا بالمغرب بالقصور. واعتبارا لكون مطلب توفير الأمن العام في المجتمع من أهم مقومات الدولة الحديثة. فقد تبادر إلينا – وبتشجيع من أستاذنا و مؤطرنا في هذا البحث الدكتور إدريس السفياني- ضرورة البحث في هذا الموضوع لقلة الدراسات في هذا المجال من جهة، ولكونه شأن نعتبره مجتمعيا، حيث لا نخفي أننا واجهنا صعوبة بالغة في اختيار الطرح الذي سرنا على منواله في هذا البحث.
ففي مستهل مقاربة هذا الموضوع ، اعتقدنا أن الأمر يقتضي الشدة والقسوة في السياسة العقابية، وهو ما تكرسه جل الأحكام والقرارات القضائية القاضية بالعقوبات السالبة للحرية، لكن الظاهرة الإجرامية لازالت في تزايد مستمرـ وبالتالي ألا يكمن الحل في الرفع من درجة شدة وقسوة العقوبات مع الجناة ؟ وذلك مع توفير مستوى عال من الدعم للمؤسسات العقابية الحالية والعناية بها، عن طريق الزيادة في بناء السجون ودعمها بالعدد الكافي من الموظفين عسى ذلك أن يحقق الردع ويحمي المجتمع ؟
لكن وبعد دراسة دقيقة لموضوع السياسة الجنائية عامة والعقابية خاصة، وباستحضار النتائج المتوصل إليه حاليا باعتماد السياسة العقابية الحالية، وفي مناخ يسوده الانفتاح على العالم والمرونة في التشريع ، والتشبع بثقافة حقوق الإنسان، وكذا بالنظر للتجارب المقارنة، التي حادت عن النهج الطبي العلاجي الذي فشل في تحقيق أهدافه، حيث عوض أن تحقق العقوبة وظيفتها الردعية العامة والخاصة ، فإنها بخلاف ذلك ساعدت على تزايد و تفاقم الظاهرة الإجرامية، ولأجل ماسبق فقد تبنينا في بحثنا هذا التوجه الداعي لاعتماد سياسة عقابية مرنة، نهجنا فيها الطرح الذي نحن بصدد الدفاع عنه في هذه الأطروحة، مطالبين باعتماد أسلوب مرن في العقاب، يستحضر بدائل العقوبات السالبة للحرية ضمن أساليب السياسة العقابية المعاصرة ، إلى جانب العقوبات الحبسية والسجنية، ومن هنا تبرز أهمية الموضوع.
وتأسيسا على ذلك واستجلاءا له
فقد حاولنا من خلال هذا البحث تسليط الضوء على السياسة العقابية بالمغرب، باعتبار هذه السياسة بشكل خاص والسياسة الجنائية بشكل عام، ما هي إلا السياسة التشريعية للدولة في مجال القانون الجنائي الذي يترجم توجه المشرع في اختياراته للمصالح الواجب حمايتها، حيث يمثل التشريع الجنائي بمعناه الواسع المرجع الأساسي لوضع السياسة العقابية، وبالتالي من خلال التشريع الجنائي نستطيع تبيان المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة التي يهدف المشرع إلى حمايتها وإيلائها ما تستحقه من اهتمام .
وبما أن السياسة الجنائية الحديثة تحدد الهدف من الوقاية و العقاب على مستوى مراحل متعاقبة تشريعيا وقضائيا وتنفيذيا، في حين تتولى السياسة العقابية تحديد المبادئ التي يتوقف عليها تبيان العقوبات وتطبيقها ثم تنفيذها باعتبار أن التجريم لا يمكن أن يقوم بدون عقوبة، فإننا قد تطرقنا في بحثنا هذا لمجال العقوبات في التشريع الجنائي والتطبيق القضائي لها، و تنفيذها من طرف المؤسسات السجنية وحضور قاضي تنفيذ العقوبة، وذلك تبعا لمجالات السياسة العقابية التي يمكن حصرها في الآتي:
- المجال التشريعي، الذي تصاغ فيه العقوبة مبدئيا بشكل مجرد.
- المجال القضائي، ويتضمن بيان الأسس التي يجب إتباعها عند الحكم بتلك العقوبات والتي نص عليها القانون، كما يشمل بيان حق الدولة في العقاب وإجراءات الحكم بالعقوبات وتنفيذها.
- أما المجال التنفيذي، فيشمل الأسس التي يجب مراعاتها والإجراءات التي يتم إتباعها عند تنفيذ العقوبات.
وتبعا لذلك فإن فموضوع الأطروحة قد تناول السياسة العقابية بالمعنى الواسع، حيث تحدثنا عن هذه السياسة بالمغرب، من خلال تطورها التاريخي والفكري، وفي تداخلها مع سياسة التجريم المعتمدة ببلادنا، وكذا استحضار دور المؤسسات الدستورية ؛ القضائية والإدارية الساهرة على ضمان حسن تنزيل وتنفيذ هذه السياسة، مع بيان التحديات التي تعترض سيرها، ثم استشراف الأفاق المستقبلية القمينة بجعل السياسة العقابية بالمغرب قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة، مع استحضار البدائل العقابية ومدى نجاعتها في تحقيق فعالية أكثر في إصلاح و تقويم سلوك الجانح، وذلك طبعا لتسهيل إعادة إدماجه من جديد في المجتمع ، اقتداءا بالتجارب المقارنة السباقة في هذا المجال ـ الأمر الذي يفرز تساؤلات جوهرية عديدة، من قبيل هل العقاب يمنع الجريمة ،ويسهل اندماج المنحرفين في المجتمع؟ وهل النظام العام والأخلاق والتقاليد ثابتة في الزمان والمكان أم تتغير بتطور المجتمعات؟ ثم هل مشكل اكتظاظ السجون مرده إلى أحكام السياسة العقابية أم إلى آليات تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بها؟ أم هو راجع إلى تدني القيم لدى الإنسان، بكيفية أصبح معها ارتكاب الجريمة من الأمور التي يتعين القبول بها بالشكل الذي عليه وربما تتطور إلى الأسوأ.
وتأسيسا على هذه التساؤلات الأولية فإن طبيعة البحث فرضت علينا إشكالية جوهرية:
إلى أي حد توفقت السياسة العقابية المتبعة حاليا بالمغرب في الحد من الظاهرة الإجرامية ؟ وأي أفاق أكثر تحقيقا للردع بدون مساس بحرية الفرد ولا تفريط في أمن المجتمع".
وهي إشكالية تتفرع عنها مجموعة من التساؤلات تتمحور بالأساس حول: ماهية الأزمة في واقع السياسة العقابية، وما هي تجلياتها؟ وماهي الآفاق المستقبلية لهذه السياسة ؟ وتبعا لهذا فقد اعتمدنا لتحليل ومقاربة هذه الإشكالية المنهج التاريخي والتحليلي المقارن، حيث قمنا باعتماد المنهج التاريخي لتحليل ومقاربة الموضوع عموديا من خلال تتبعه في كل مرحلة تاريخية على حدا ، للغوص في العلل التاريخية التي تحكمت في بلورته، أما المنهج التحليلي المقارن فقد استعملناه لمقارنة الموضوع أفقيا من خلال استجلاء وتحليل عناصره ومكوناته الأساسية من جهة، ثم مقارنتها بنظيراتها في الأنظمة المقارنة وذلك من أجل الإحاطة والإلمام به وبجميع الإشكالات المتفرعة عنه.
ولسبر أغوار هذه الإشكالية قمنا وبتوجيه من أستاذنا المشرف، بالرجوع إلى أحكام التشريع الجنائي والمسطرة الجنائية فوجدنا أن السياسة الجنائية بشكل عام، والسياسة العقابية على وجه الخصوص يتم إقرارهما بواسطة السلطة التشريعية، في حين تتولى السلطتين القضائية والتنفيذية التنزيل والتطبيق والتنفيذ لمقتضيات هذه السياسة ، حيث تضع السلطة التشريعية مجموع القواعد التي تحدد على منوالها العقوبات وطريقة تنفيذها، وهي بذلك تروم في مجملها تحقيق الهدف من العقوبات. حيث تسعى–أي السياسة العقابية-إلى ضمان فعالية قواعد التجريم والعقاب وفق خاصيتي التناسب والتماثل بين الجرم المرتكب والعقوبة المقررة له،ودائما في إطار السلطة المخولة للقاضي في تفريد العقوبة ما بين حديها الأقصى والأدنى، وذلك بالشكل الذي يحقق الردع بنوعيه العام والخاص.
ومن تم فقد اقتضى المنطق القانوني مقاربة موضوع السياسة العقابية بالمغرب،من خلال تبيان مظاهرها وحدودها والمتدخلين في وضعها وتطبيقا ثم تنفيذها، ليتسنى رصد واقعها الحالي، ومن تم استشراف أفاقها المستقبلية، طالما من الضروري أن تتسم هذه السياسة بالمرونة كي تستطيع التكيف مع الظروف الواقعية المتغيرة في الزمان والمكان، ولدى نرى أنه من الضروري أن يظل المشرع على يقظة ليتدخل من حين لآخر لمواكبة المستجدات ويحدث تعديلات على التشريع الزجري، سواء لتوسيع وعاء التجريم أو لتضيقه أو للتخفيف أو التشديد من العقوبة([1])، وكل ذلك تم تناوله وفق التقسيم التالي:
الباب الأول:
السياسة العقابية الحالية والحد من الظاهرة الإجرامية.
وقد تم تحليله من خلال فصلين إثنين :
الفصل الأول ويتمحور حول السياسة العقابية في التشريع الجنائي المغربي حيث تناولت فيه ماهية السياسة العقابية وتطورها التاريخي انطلاقا من العصور القديمة ومرورا بالعصر الإسلامي ووصولا إلى المدارس الفكرية الفلسفية وموقفها من السياسة العقابية،ثم انتهاءا بالمرحلة التاريخية المغربية من خلال تحليل ودراسة العقوبة وتطورها عبر المراحل الأساسية لتاريخ التشريع الجنائي بالمغرب . كما تمت مقاربة السياسة العقابية وعلاقتها بباقي السياسات العمومية .ثم تناولت وضع وتنزيل السياسة العقابية في القانون المغربي ودور المؤسسات الدستورية في ذلك ، وخاصة دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومراقبة أوضاع السجون. ثم بعد ذلك تطرقنا لحدود اعتماد الجزاء الجنائي في السياسة العقابية مابين العقوبات البدنية والمالية.
أما الفصل الثاني من هذا الباب فقد تم تخصيصه لتحليل ودراسة تحديات السياسة العقابية بالمغرب ، من حيث مدى فعالية الردع بنوعيه كهدف من أهداف السياسة العقابية ومدى تحققه في التجربة المغربية ، وعلاقة ذلك بارتفاع حالات العود ، ثم تم الإنتقال الى إبراز مكامن ضعف وأزمة فاعلية النظام العقابي المغربي وعيوبه ،من خلال عدم التوازن وغياب الإنسجام في تحديد العقوبات ، وكذا اتساع هامش التقدير في تفريد العقاب وتعدد أنواعه،والتضخم الواضح في تحديد العقوبة وهيمنة ازدواجية معايير التجريم والعقاب ، ثم ختمنا هذا الفصل بالحديث عن مختلف أثار العقوبات السالبة للحرية .
وقد خلصنا في نهاية هذا الباب إلى أن الدراسة العلمية للسياسة العقابية تتطلب دراسة القواعد القانونية التي سنت من أجل وضع وتطبيق الجزاء العقابي وكيفية تنفيذه. وهي السياسة العقابية التي تتميز بالتباين والشتات بين النصوص القانونية، حيث هناك نصوص قانونية بالمدونة العامة للقانون الجنائي إلى جانب نصوص زجرية خاصة في كل قانون موضوعي على حدة ( مدونة التجارة، مدونة الشغل، مدونة الضرائب، قانون الشركات، مدونة السير...)، مع ما واكب ذلك من تفاوت في العقاب بين تلك القوانين إلى جانب القصور في الحد من الظاهرة الإجرامية، حيث الظاهرة الإجرامية وارتفاع حالات العود في ارتفاع مستمر، بالرغم من طابع الشدة الذي يميز نظامنا العقابي.
ومن خلال واقع السياسة العقابية بالمغرب، اتضح أن العقوبات السالبة للحرية وبخاصة قصيرة المدة منها، لها من السلبيات والمضار ما هو يفوق الإيجابيات، لاسيما عدم قدرتها على تأهيل المحكوم عليه وإعادة إدماجه ومنع عودته إلى السلوك المنحرف، وبالتالي طالبنا بالتخلي عن هذا النوع من العقوبات القصيرة المدة واستبدالها ببدائل أخرى، والتي ستكون موضوع دراسة وتحليل الباب الثاني من هذا البحث.
الباب الثاني:
آفاق السياسة العقابية بالمغرب
ويمكن إجمال أهم ما جاء فيه كوننا اعتمدنا فيه كذلك تقسيما ثنائيا موازيا للباب الأول عالجنا في الفصل الأول منه المقاربة الجديدة للسياسة العقابية من خلال تعديل العقاب في العديد من المجالات ،وكذا ظهور بوادر سياسة عقابية جديدة في المجال الإقتصادي و بالخصوص في مجال الأعمال وكذا الإكراه البدني والديون التعاقدية ، ثم اتجهنا بعد ذلك لتفسير أسباب فشل السياسة العقابية الحالية بالمغرب ، على رأسها تعدد المتدخلين فيها وطول وتعقيد مسطرة رد الإعتبار وإعادة إدماج المحكوم عليه ، وقد انتقلنا بعد ذلك إلى دراسة الإتجاهات الفكرية المؤيدة والمعارضة لكل من العقوبات السالبة للحرية وعقوبة الإعدام .
أما الفصل الثاني من هذا الباب فقد خصصناه لدراسة تحليلية مقارنة لبدائل العقوبات السالبة للحرية ، ومنها البدائل الغير مالية كالإفراج المقيد بشروط ـ نظام الإعتقال في المؤسسات المفتوحة ـ العمل لفائدة المنفعة العامة ـ القيد الإلكتروني ثم وقف تنفيذ العقوبة والتخفيظ التلقائي لها ، ومنها البدائل العقابية المالية كالغرامات المالية التقليدية واليومية باعتبارها بديل عن العقوبات السالبة للحرية.
وقد عملنا في ذلك على شرح وتوضيح كل بديل على حدة، حيث قمنا بدراسته من خلال التجارب المقارنة والسباقة في مجال اعتماد العقوبات البديلة ، وكذا طرق إقراره وتطبيقه ونتائج ذلك على الأنظمة القانونية لتلك الدول،ومن خلاله بحث مدى إمكانية تطبيقه في النظام العقابي المغربي ، لما لهذه العقوبات البديلة من نتائج إيجابية تجعلها العلاج الأمثل لحالة العود للجريمة ولمشكل اكتظاظ السجون ، وقد خلصنا في نهاية هذا الباب، أنه يتعين إقرار سياسة عقابية جديدة، تقوم على اعتبار الأصل هو البدائل والاستثناء هو السجن. على اعتبار أن إقرار بدائل للعقوبات التقليدية لا يعتبر بأي حال من الأحوال مساعدة للمتهم من أجل الإفلات من العقاب بقدر ما أنها نوع من العقوبات الإصلاحية التي تهدف إلى ردع الجاني وضمان عدم عودته لارتكاب المزيد من الأفعال الإجرامية، والتي سيتضرر منها المجتمع والضحايا مستقبلا.
فبالنسبة للعقوبات السالبة للحرية، وخاصة منها قصيرة المدة بالذات، فقد أبانت التجربة عن عدم جدواها في أداء دورها في إصلاح المحكوم عليه وتأهيله لإعادة إدماجه في النسيج الاجتماعي بعد انقضاء مدة العقوبة.
وتداعيات هذه العقوبة واضحة جلية، ففضلا عن كونها لا تكفي بطبيعتها لإصلاح الجاني واستفادته من البرامج التربوية (التأهيلية)، فإنها تؤدي به إلى الاحتكاك بالوسط السجني والاختلاط بمن تعودوا عليه، مع ما يتيحه ذلك من إمكانية اكتساب سلوكيات إنحرافية أكثر خطورة، هذا فضلا عن أنها تؤدي إلى تفكيك الروابط المهنية والأسرية للسجين، وتمس بكرامته وسمعته وسجله العدلي.
ومن تم فقد أصبح اللجوء إلى بدائل للعقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة بالنسبة للجرائم البسيطة الأقل تأثيرا على الأمن العام، خيارا لا محيد عنه، تراهن عليه السياسات الجنائية الحديثة في إطار مكافحتها للجريمة ومعاملة الجانحين. وهي بدائل بقدر ما تساهم في إضفاء البعد الإنساني والمرونة في السياسة العقابية المتبعة ومعالجة الظاهرة الإجرامية بطرق احتوائية مهذبة- ولا شك- تحد من تفاقم مشكل اكتظاظ السجون ببلادنا، كما تحافظ على الروابط الأسرية والمهنية والاجتماعية للمحكوم عليه بها، كما تعطيه فرصة التقويم ومراجعة الذات.
وللتأكيد من جديد على أهمية وراهنية هذا البحث المتواضع، وبالضبط بتاريخ لاحق لتقديمنا لهذه الأطروحة ، طالعتنا وزارة العدل والحريات بمسودة تعديل قانون المسطرة الجنائية ، مجمل ما يمكن أن يقال في شأنها أن الوزارة المكلفة بالقطاع قد فطنت أخيرا لأهمية وحتمية تبني نظام العقوبات البديلة، وأن هذه البادرة محمودة للغاية وسوف ترقى لا محالة _إذا ما أصبحت قانونا_ بالمنظومة العقابية المغربية إلى مصاف الدول المتقدمة والرائدة في المجال، وقد تجلى ذلك من خلال اقتراحها تعديل بعض المواد خاصة المادة 161 في الفقرة 19 منها حيث تمت إضافة نظام الوضع تحت المراقبة الإلكترونية كتدبير من تدابير وضع المتهم تحت المراقبة القضائية ،والمادة 174 من نفس المسودة في الفقرات 1و2و3 حيث بينت طرق تنفيذه والجهات الموكول لها ذلك ، ثم إضافة الباب الخامس مكرروالذي جاء بجديد يتعلق بإقرارتدابير عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة وقد جاء ذلك بتفصيل في المادة 647 الفقرات 1و2و3و4و5و6، ثم المادة 647 الفقرة7 التي أقرت ببديل وقف تطبيق العقوبة والذي أصبح بإمكان قاضي تطبيق العقوبة أن يقره بشروط حددتها نفس المادة ، وغير ذلك من التعديلات.
.
إلا انه لا ينبغي في إطار تحقيق واعتماد هذا التطور العقابي عدم إخفاء المخاطر التي تحيط بذلك، خاصة من الناحية الأمنية، وضرورة حماية الضحية و المجتمع من المجرم، الذي عوض أن يقضي عقوبته في السجن في ظل تطبيق العقوبات السالبة للحرية، أصبح بموجب الأخذ بالبدائل يقضيها داخل المجتمع الحر، وانعكاس هذا التعديل الذي طرأ من الناحية الأمنية، بحيث يكون المجتمع والضحية والمجرم في المحيط البيئي ذاته، وهو ما يقتضي تسخير مزيدا من الوسائل المادية والبشرية للجهات الأمنية ليتسنى لها مراقبة المجتمع والمعاقب-المجرم- وضمان اعتبار حق الضحية على حد سواء.
ومن تم وجب التنبيه إلى أن وضع بدائل للعقوبات السالبة للحرية يبقى محفوفاً بالمخاطر، ويشكل طرحها وتبنيها والسير بها، برنامجاً تأسيسياً على المستوين القضائي والمجتمعي، يهدف إلى تحقيق نظام جنائي أكثر إنسانية، وبالتالي فتوظيف هذا التوجه الجديد على مستوى العقوبات السالبة للحرية يجب وضعه في إطار استراتيجي موسع لإصلاح العدالة الجنائية في كافة مستوياتها. وتوفير المناخ العام المناسب لضمان فعالية وسلامة قضاء هذا النوع من العقوبات وسط المجتمع بشكل آمن.
وتجب الإشارة إلى وجود أنواع من الجرائم تتأرجح بين التصنيف الجنحي والجنائي، لا يمكن تخصيصها بالعقوبات البديلة ولاسيما تدابير (العمل في الخدمة العامة–المراقبة الالكترونية–وقف التنفيذ)، بالنظر لامتدادات المتورطين في هذا النوع من الجرائم كتعاطي المخدرات أو ترويجها أو الاتجار بها، إضافة لارتكابهم أفعال جرمية يدخل قسم منها في مكونات الجريمة المنظمة كالإرهاب مثلا. و ينسحب الأمر كذلك إلى المحكومين ألأجانب الذين يخشى في الكثير من الحالات هروبهم في حال خضعوا لعقوبات بديلة.
خـاتـمـة:
إن التطور الذي عرفه الفكر الجنائي أدى إلى الاقتناع بأن الدولة وحدها بالرغم مما تتوفر عليه من أجهزة ومؤسسات وقوانين صارمة في التجريم والعقاب، لن تستطيع القضاء على الجريمة، وأن مكافحة الجريمة شأن مجتمعي ينبغي أن تتضافر فيه جهود وفعاليات المجتمع من دولة ومؤسساتها ثم الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني([2])، وهي ظاهرة ينبغي أن تعطى لها الأولوية في السياسات العامة للدولة، طالما وثيرة الميل نحو الإجرام وارتكاب الجريمة يعرفان تصاعدا سريعا في الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء.
وإذا كانت لكل سياسة جنائية أهداف ومرتكزات وغايات، تتميز أيضا بخصائص من أهمها أنها توجه المشرع ليهتدي بمبادئها في سنه لقواعد القانون الجنائي، وأنها تتأثر بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر منها المجتمع وبالتالي ترتبط بالسياسة العامة للدولة ، فان الهدف من العقوبات البديلة ليس تعطيل العقوبات السالبة للحرية، إنما هي عقوبات سلكت طريقا تصاعديا لاعتمادها تعويضا عن السجن في بعض الجرائم وليس كل الجرائم، وذلك لكونها ترتقي لأهم الوسائل العقابية المبنية على سياسة جنائية عقابية منهجية وتحليلية، وقد بوشر بتنفيذها كما رأينا في الدول المتقدمة التي خفضت من مستوى اعتماد العقوبات سواء السالبة منها للحياة ( الإعدام ) أو الشاقة، أو للحرية من خلال الحبس.
فهذه العقوبات الجديدة، فتحت مما لا شك فيه إطارا حديثا لإصلاح المجرمين خارج المؤسسات العقابية، لان هدف السياسة الجنائية الحديثة كما أسلفنا هو الوقاية والردع إلى جانب الإيلام ، والعلاج وليس القسوة والشدة والإيلام فقط .
وفي نفس السياق، وفي ختام هذا التقديم تحضرني مداخلة للأستاذ محمد عبد النبوي في ندوة نظمت في رحاب هذه الكلية حول موضوع السياسة الجنائية ، حيث أكد فيها أن إصلاح السياسة الجنائية وحده لن يحقق الهدف المتمثل في التقليص من الجريمة بل ذلك هو شأن مجتمعي يجب أن تساهم فيه جميع فعاليات المجتمع المدني،وكذلك هو شأن حكومي يجب أن تتظافروتعمل من أجل تحقيقه باقي
السياسات العمومية الأخرى للدولة كسياسة التعليم والصحة والسكن ومحاربة الفقر والتهميش وغير ذلك من السياسات العمومية ،
وشكرا.
انطلاقا من التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المحيط الدولي والإقليمي العربي في الآونة الأخيرة، وما أفرزته من محاولات لتوسيع مجال الحقوق والحريات ، والتي استبق فيها المغرب بذكاء حاد هذه التيارات والموجات العارمة، إذ تمكن صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من تحقيق إجماع وطني على دستور 2011 هذا الأخير الذي جاء متضمنا لمجموعة من الحقوق والحريات، ولإصلاحات جوهرية ومتعددة تؤسس لتوجهات سياسية وقانونية كبرى، ولعل من أهمها وضع أسس متينة لسياسة جنائية عادلة، تحتل فيها السياسة العقابية الحيز الأكبر، حيث تمت ترجمتها من خلال إعطاء جلالته لإنطلاق ورش إصلاح منظومة العدالة والتي تبوأ فيها الشق المتعلق بالعقوبة المكانة الهامة لارتباط ذلك بمفهوم العدالة الجنائية ، مما انعكاس على تصور وتفعيل الإصلاح ، الذي تراهن بلادنا عليهاليوم وخاصة بعد الإصلاحات الدستورية الأخيرة التي تمحور جزء كبير منها حول مراجعة شاملة وعامة لمنظومة العدالة ،وخاصة في الشق المرتبط بتحديث المقتضيات المتعلقة بنظام التجريم والعقاب، وذلك في أفق صدور مدونة جنائية جديدة كفيلة بمكافحة الجريمة في شتى تجلياتها الحديثة ،ومواكبة لتطوراتها المتلاحقـةـ وقد لاحت بوادرها مؤخرا من خلال المسودة الأخيرة التي طالعتنا بها وزارة العدل والحريات والمتعلقة بتعديل قانون المسطرة الجنائية، وهو حدث سيتوج لا محالة إن سار على هذا النهج المسار الإصلاحي لمنظومتنا الجنائية.
وفي سياق أخر ونظرا لوقع ممارستي لوظيفتي المهنية لما يناهز 14 سنة بميدان الضابطة القضائية، بمختلف شعابها وبحكم العلاقة الجدلية بين أثر الوظيفة على شخصية الإنسان واستكمال تكوينه الفكري، فقد تولدت لدي قناعة راسخة بضرورة البحث العلمي في الشق المرتبط بطبيعة عملي والذي يفرض علي في أحيان كثيرة تتبع مالآت الأشخاص الذين يتم توقيفهم يوميا من طرف المصالح الأمنية، من جراء ارتكابهم لجرائم مختلفة، بقصد عرضهم على العدالة لتوقيع العقاب عليهم، وبالنظر لكون نسبة كبيرة من هؤلاء الموقوفين غالبا ما يحالون علينا من جديد في حالة عود، إذ ما يلبث أن يمر وقت قصير على تقديمهم من طرف مصالح الشرطة القضائية أمام العدالة بسبب اقترافهم لأفعال جرمية مختلفة، حتى يطالعوننا من جديد من أجل ارتكابهم لجنايات أو جنح أكثر خطورة من سابقتها التي حوكموا من أجلها، الشيء الذي جعلنا نقف وقفة الباحث الجنائي المتأمل، الذي يفكر بعمق ويتأمل بدقة في الكثير من الحالات والوقائع التي تعرض عليه باستمرار، ومن أجل ذلك وإسهاما منا في بلورة أفكار واقتراحات وتصورات متواضعة عساها أن تساهم ولو من بعيد في حسن تدبير وترشيد السياسة العقابية ببلادنا، وهو الأمر الذي رسخ لدينا الدافع الذاتي للبحث في هذا الموضوع ـ
وبالنظر للتزايد المضطرد في عدد الجرائم، وكذا ارتفاع حالات العود لارتكاب الجريمة، إضافة إلى ارتفاع عدد السجناء بالسجون المغربية لدرجة وصفت معها السياسة العقابية المتبعة حاليا بالمغرب بالقصور. واعتبارا لكون مطلب توفير الأمن العام في المجتمع من أهم مقومات الدولة الحديثة. فقد تبادر إلينا – وبتشجيع من أستاذنا و مؤطرنا في هذا البحث الدكتور إدريس السفياني- ضرورة البحث في هذا الموضوع لقلة الدراسات في هذا المجال من جهة، ولكونه شأن نعتبره مجتمعيا، حيث لا نخفي أننا واجهنا صعوبة بالغة في اختيار الطرح الذي سرنا على منواله في هذا البحث.
ففي مستهل مقاربة هذا الموضوع ، اعتقدنا أن الأمر يقتضي الشدة والقسوة في السياسة العقابية، وهو ما تكرسه جل الأحكام والقرارات القضائية القاضية بالعقوبات السالبة للحرية، لكن الظاهرة الإجرامية لازالت في تزايد مستمرـ وبالتالي ألا يكمن الحل في الرفع من درجة شدة وقسوة العقوبات مع الجناة ؟ وذلك مع توفير مستوى عال من الدعم للمؤسسات العقابية الحالية والعناية بها، عن طريق الزيادة في بناء السجون ودعمها بالعدد الكافي من الموظفين عسى ذلك أن يحقق الردع ويحمي المجتمع ؟
لكن وبعد دراسة دقيقة لموضوع السياسة الجنائية عامة والعقابية خاصة، وباستحضار النتائج المتوصل إليه حاليا باعتماد السياسة العقابية الحالية، وفي مناخ يسوده الانفتاح على العالم والمرونة في التشريع ، والتشبع بثقافة حقوق الإنسان، وكذا بالنظر للتجارب المقارنة، التي حادت عن النهج الطبي العلاجي الذي فشل في تحقيق أهدافه، حيث عوض أن تحقق العقوبة وظيفتها الردعية العامة والخاصة ، فإنها بخلاف ذلك ساعدت على تزايد و تفاقم الظاهرة الإجرامية، ولأجل ماسبق فقد تبنينا في بحثنا هذا التوجه الداعي لاعتماد سياسة عقابية مرنة، نهجنا فيها الطرح الذي نحن بصدد الدفاع عنه في هذه الأطروحة، مطالبين باعتماد أسلوب مرن في العقاب، يستحضر بدائل العقوبات السالبة للحرية ضمن أساليب السياسة العقابية المعاصرة ، إلى جانب العقوبات الحبسية والسجنية، ومن هنا تبرز أهمية الموضوع.
وتأسيسا على ذلك واستجلاءا له
فقد حاولنا من خلال هذا البحث تسليط الضوء على السياسة العقابية بالمغرب، باعتبار هذه السياسة بشكل خاص والسياسة الجنائية بشكل عام، ما هي إلا السياسة التشريعية للدولة في مجال القانون الجنائي الذي يترجم توجه المشرع في اختياراته للمصالح الواجب حمايتها، حيث يمثل التشريع الجنائي بمعناه الواسع المرجع الأساسي لوضع السياسة العقابية، وبالتالي من خلال التشريع الجنائي نستطيع تبيان المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة التي يهدف المشرع إلى حمايتها وإيلائها ما تستحقه من اهتمام .
وبما أن السياسة الجنائية الحديثة تحدد الهدف من الوقاية و العقاب على مستوى مراحل متعاقبة تشريعيا وقضائيا وتنفيذيا، في حين تتولى السياسة العقابية تحديد المبادئ التي يتوقف عليها تبيان العقوبات وتطبيقها ثم تنفيذها باعتبار أن التجريم لا يمكن أن يقوم بدون عقوبة، فإننا قد تطرقنا في بحثنا هذا لمجال العقوبات في التشريع الجنائي والتطبيق القضائي لها، و تنفيذها من طرف المؤسسات السجنية وحضور قاضي تنفيذ العقوبة، وذلك تبعا لمجالات السياسة العقابية التي يمكن حصرها في الآتي:
- المجال التشريعي، الذي تصاغ فيه العقوبة مبدئيا بشكل مجرد.
- المجال القضائي، ويتضمن بيان الأسس التي يجب إتباعها عند الحكم بتلك العقوبات والتي نص عليها القانون، كما يشمل بيان حق الدولة في العقاب وإجراءات الحكم بالعقوبات وتنفيذها.
- أما المجال التنفيذي، فيشمل الأسس التي يجب مراعاتها والإجراءات التي يتم إتباعها عند تنفيذ العقوبات.
وتبعا لذلك فإن فموضوع الأطروحة قد تناول السياسة العقابية بالمعنى الواسع، حيث تحدثنا عن هذه السياسة بالمغرب، من خلال تطورها التاريخي والفكري، وفي تداخلها مع سياسة التجريم المعتمدة ببلادنا، وكذا استحضار دور المؤسسات الدستورية ؛ القضائية والإدارية الساهرة على ضمان حسن تنزيل وتنفيذ هذه السياسة، مع بيان التحديات التي تعترض سيرها، ثم استشراف الأفاق المستقبلية القمينة بجعل السياسة العقابية بالمغرب قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة، مع استحضار البدائل العقابية ومدى نجاعتها في تحقيق فعالية أكثر في إصلاح و تقويم سلوك الجانح، وذلك طبعا لتسهيل إعادة إدماجه من جديد في المجتمع ، اقتداءا بالتجارب المقارنة السباقة في هذا المجال ـ الأمر الذي يفرز تساؤلات جوهرية عديدة، من قبيل هل العقاب يمنع الجريمة ،ويسهل اندماج المنحرفين في المجتمع؟ وهل النظام العام والأخلاق والتقاليد ثابتة في الزمان والمكان أم تتغير بتطور المجتمعات؟ ثم هل مشكل اكتظاظ السجون مرده إلى أحكام السياسة العقابية أم إلى آليات تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بها؟ أم هو راجع إلى تدني القيم لدى الإنسان، بكيفية أصبح معها ارتكاب الجريمة من الأمور التي يتعين القبول بها بالشكل الذي عليه وربما تتطور إلى الأسوأ.
وتأسيسا على هذه التساؤلات الأولية فإن طبيعة البحث فرضت علينا إشكالية جوهرية:
إلى أي حد توفقت السياسة العقابية المتبعة حاليا بالمغرب في الحد من الظاهرة الإجرامية ؟ وأي أفاق أكثر تحقيقا للردع بدون مساس بحرية الفرد ولا تفريط في أمن المجتمع".
وهي إشكالية تتفرع عنها مجموعة من التساؤلات تتمحور بالأساس حول: ماهية الأزمة في واقع السياسة العقابية، وما هي تجلياتها؟ وماهي الآفاق المستقبلية لهذه السياسة ؟ وتبعا لهذا فقد اعتمدنا لتحليل ومقاربة هذه الإشكالية المنهج التاريخي والتحليلي المقارن، حيث قمنا باعتماد المنهج التاريخي لتحليل ومقاربة الموضوع عموديا من خلال تتبعه في كل مرحلة تاريخية على حدا ، للغوص في العلل التاريخية التي تحكمت في بلورته، أما المنهج التحليلي المقارن فقد استعملناه لمقارنة الموضوع أفقيا من خلال استجلاء وتحليل عناصره ومكوناته الأساسية من جهة، ثم مقارنتها بنظيراتها في الأنظمة المقارنة وذلك من أجل الإحاطة والإلمام به وبجميع الإشكالات المتفرعة عنه.
ولسبر أغوار هذه الإشكالية قمنا وبتوجيه من أستاذنا المشرف، بالرجوع إلى أحكام التشريع الجنائي والمسطرة الجنائية فوجدنا أن السياسة الجنائية بشكل عام، والسياسة العقابية على وجه الخصوص يتم إقرارهما بواسطة السلطة التشريعية، في حين تتولى السلطتين القضائية والتنفيذية التنزيل والتطبيق والتنفيذ لمقتضيات هذه السياسة ، حيث تضع السلطة التشريعية مجموع القواعد التي تحدد على منوالها العقوبات وطريقة تنفيذها، وهي بذلك تروم في مجملها تحقيق الهدف من العقوبات. حيث تسعى–أي السياسة العقابية-إلى ضمان فعالية قواعد التجريم والعقاب وفق خاصيتي التناسب والتماثل بين الجرم المرتكب والعقوبة المقررة له،ودائما في إطار السلطة المخولة للقاضي في تفريد العقوبة ما بين حديها الأقصى والأدنى، وذلك بالشكل الذي يحقق الردع بنوعيه العام والخاص.
ومن تم فقد اقتضى المنطق القانوني مقاربة موضوع السياسة العقابية بالمغرب،من خلال تبيان مظاهرها وحدودها والمتدخلين في وضعها وتطبيقا ثم تنفيذها، ليتسنى رصد واقعها الحالي، ومن تم استشراف أفاقها المستقبلية، طالما من الضروري أن تتسم هذه السياسة بالمرونة كي تستطيع التكيف مع الظروف الواقعية المتغيرة في الزمان والمكان، ولدى نرى أنه من الضروري أن يظل المشرع على يقظة ليتدخل من حين لآخر لمواكبة المستجدات ويحدث تعديلات على التشريع الزجري، سواء لتوسيع وعاء التجريم أو لتضيقه أو للتخفيف أو التشديد من العقوبة([1])، وكل ذلك تم تناوله وفق التقسيم التالي:
الباب الأول:
السياسة العقابية الحالية والحد من الظاهرة الإجرامية.
وقد تم تحليله من خلال فصلين إثنين :
الفصل الأول ويتمحور حول السياسة العقابية في التشريع الجنائي المغربي حيث تناولت فيه ماهية السياسة العقابية وتطورها التاريخي انطلاقا من العصور القديمة ومرورا بالعصر الإسلامي ووصولا إلى المدارس الفكرية الفلسفية وموقفها من السياسة العقابية،ثم انتهاءا بالمرحلة التاريخية المغربية من خلال تحليل ودراسة العقوبة وتطورها عبر المراحل الأساسية لتاريخ التشريع الجنائي بالمغرب . كما تمت مقاربة السياسة العقابية وعلاقتها بباقي السياسات العمومية .ثم تناولت وضع وتنزيل السياسة العقابية في القانون المغربي ودور المؤسسات الدستورية في ذلك ، وخاصة دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومراقبة أوضاع السجون. ثم بعد ذلك تطرقنا لحدود اعتماد الجزاء الجنائي في السياسة العقابية مابين العقوبات البدنية والمالية.
أما الفصل الثاني من هذا الباب فقد تم تخصيصه لتحليل ودراسة تحديات السياسة العقابية بالمغرب ، من حيث مدى فعالية الردع بنوعيه كهدف من أهداف السياسة العقابية ومدى تحققه في التجربة المغربية ، وعلاقة ذلك بارتفاع حالات العود ، ثم تم الإنتقال الى إبراز مكامن ضعف وأزمة فاعلية النظام العقابي المغربي وعيوبه ،من خلال عدم التوازن وغياب الإنسجام في تحديد العقوبات ، وكذا اتساع هامش التقدير في تفريد العقاب وتعدد أنواعه،والتضخم الواضح في تحديد العقوبة وهيمنة ازدواجية معايير التجريم والعقاب ، ثم ختمنا هذا الفصل بالحديث عن مختلف أثار العقوبات السالبة للحرية .
وقد خلصنا في نهاية هذا الباب إلى أن الدراسة العلمية للسياسة العقابية تتطلب دراسة القواعد القانونية التي سنت من أجل وضع وتطبيق الجزاء العقابي وكيفية تنفيذه. وهي السياسة العقابية التي تتميز بالتباين والشتات بين النصوص القانونية، حيث هناك نصوص قانونية بالمدونة العامة للقانون الجنائي إلى جانب نصوص زجرية خاصة في كل قانون موضوعي على حدة ( مدونة التجارة، مدونة الشغل، مدونة الضرائب، قانون الشركات، مدونة السير...)، مع ما واكب ذلك من تفاوت في العقاب بين تلك القوانين إلى جانب القصور في الحد من الظاهرة الإجرامية، حيث الظاهرة الإجرامية وارتفاع حالات العود في ارتفاع مستمر، بالرغم من طابع الشدة الذي يميز نظامنا العقابي.
ومن خلال واقع السياسة العقابية بالمغرب، اتضح أن العقوبات السالبة للحرية وبخاصة قصيرة المدة منها، لها من السلبيات والمضار ما هو يفوق الإيجابيات، لاسيما عدم قدرتها على تأهيل المحكوم عليه وإعادة إدماجه ومنع عودته إلى السلوك المنحرف، وبالتالي طالبنا بالتخلي عن هذا النوع من العقوبات القصيرة المدة واستبدالها ببدائل أخرى، والتي ستكون موضوع دراسة وتحليل الباب الثاني من هذا البحث.
الباب الثاني:
آفاق السياسة العقابية بالمغرب
ويمكن إجمال أهم ما جاء فيه كوننا اعتمدنا فيه كذلك تقسيما ثنائيا موازيا للباب الأول عالجنا في الفصل الأول منه المقاربة الجديدة للسياسة العقابية من خلال تعديل العقاب في العديد من المجالات ،وكذا ظهور بوادر سياسة عقابية جديدة في المجال الإقتصادي و بالخصوص في مجال الأعمال وكذا الإكراه البدني والديون التعاقدية ، ثم اتجهنا بعد ذلك لتفسير أسباب فشل السياسة العقابية الحالية بالمغرب ، على رأسها تعدد المتدخلين فيها وطول وتعقيد مسطرة رد الإعتبار وإعادة إدماج المحكوم عليه ، وقد انتقلنا بعد ذلك إلى دراسة الإتجاهات الفكرية المؤيدة والمعارضة لكل من العقوبات السالبة للحرية وعقوبة الإعدام .
أما الفصل الثاني من هذا الباب فقد خصصناه لدراسة تحليلية مقارنة لبدائل العقوبات السالبة للحرية ، ومنها البدائل الغير مالية كالإفراج المقيد بشروط ـ نظام الإعتقال في المؤسسات المفتوحة ـ العمل لفائدة المنفعة العامة ـ القيد الإلكتروني ثم وقف تنفيذ العقوبة والتخفيظ التلقائي لها ، ومنها البدائل العقابية المالية كالغرامات المالية التقليدية واليومية باعتبارها بديل عن العقوبات السالبة للحرية.
وقد عملنا في ذلك على شرح وتوضيح كل بديل على حدة، حيث قمنا بدراسته من خلال التجارب المقارنة والسباقة في مجال اعتماد العقوبات البديلة ، وكذا طرق إقراره وتطبيقه ونتائج ذلك على الأنظمة القانونية لتلك الدول،ومن خلاله بحث مدى إمكانية تطبيقه في النظام العقابي المغربي ، لما لهذه العقوبات البديلة من نتائج إيجابية تجعلها العلاج الأمثل لحالة العود للجريمة ولمشكل اكتظاظ السجون ، وقد خلصنا في نهاية هذا الباب، أنه يتعين إقرار سياسة عقابية جديدة، تقوم على اعتبار الأصل هو البدائل والاستثناء هو السجن. على اعتبار أن إقرار بدائل للعقوبات التقليدية لا يعتبر بأي حال من الأحوال مساعدة للمتهم من أجل الإفلات من العقاب بقدر ما أنها نوع من العقوبات الإصلاحية التي تهدف إلى ردع الجاني وضمان عدم عودته لارتكاب المزيد من الأفعال الإجرامية، والتي سيتضرر منها المجتمع والضحايا مستقبلا.
فبالنسبة للعقوبات السالبة للحرية، وخاصة منها قصيرة المدة بالذات، فقد أبانت التجربة عن عدم جدواها في أداء دورها في إصلاح المحكوم عليه وتأهيله لإعادة إدماجه في النسيج الاجتماعي بعد انقضاء مدة العقوبة.
وتداعيات هذه العقوبة واضحة جلية، ففضلا عن كونها لا تكفي بطبيعتها لإصلاح الجاني واستفادته من البرامج التربوية (التأهيلية)، فإنها تؤدي به إلى الاحتكاك بالوسط السجني والاختلاط بمن تعودوا عليه، مع ما يتيحه ذلك من إمكانية اكتساب سلوكيات إنحرافية أكثر خطورة، هذا فضلا عن أنها تؤدي إلى تفكيك الروابط المهنية والأسرية للسجين، وتمس بكرامته وسمعته وسجله العدلي.
ومن تم فقد أصبح اللجوء إلى بدائل للعقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة بالنسبة للجرائم البسيطة الأقل تأثيرا على الأمن العام، خيارا لا محيد عنه، تراهن عليه السياسات الجنائية الحديثة في إطار مكافحتها للجريمة ومعاملة الجانحين. وهي بدائل بقدر ما تساهم في إضفاء البعد الإنساني والمرونة في السياسة العقابية المتبعة ومعالجة الظاهرة الإجرامية بطرق احتوائية مهذبة- ولا شك- تحد من تفاقم مشكل اكتظاظ السجون ببلادنا، كما تحافظ على الروابط الأسرية والمهنية والاجتماعية للمحكوم عليه بها، كما تعطيه فرصة التقويم ومراجعة الذات.
وللتأكيد من جديد على أهمية وراهنية هذا البحث المتواضع، وبالضبط بتاريخ لاحق لتقديمنا لهذه الأطروحة ، طالعتنا وزارة العدل والحريات بمسودة تعديل قانون المسطرة الجنائية ، مجمل ما يمكن أن يقال في شأنها أن الوزارة المكلفة بالقطاع قد فطنت أخيرا لأهمية وحتمية تبني نظام العقوبات البديلة، وأن هذه البادرة محمودة للغاية وسوف ترقى لا محالة _إذا ما أصبحت قانونا_ بالمنظومة العقابية المغربية إلى مصاف الدول المتقدمة والرائدة في المجال، وقد تجلى ذلك من خلال اقتراحها تعديل بعض المواد خاصة المادة 161 في الفقرة 19 منها حيث تمت إضافة نظام الوضع تحت المراقبة الإلكترونية كتدبير من تدابير وضع المتهم تحت المراقبة القضائية ،والمادة 174 من نفس المسودة في الفقرات 1و2و3 حيث بينت طرق تنفيذه والجهات الموكول لها ذلك ، ثم إضافة الباب الخامس مكرروالذي جاء بجديد يتعلق بإقرارتدابير عقوبة العمل من أجل المنفعة العامة وقد جاء ذلك بتفصيل في المادة 647 الفقرات 1و2و3و4و5و6، ثم المادة 647 الفقرة7 التي أقرت ببديل وقف تطبيق العقوبة والذي أصبح بإمكان قاضي تطبيق العقوبة أن يقره بشروط حددتها نفس المادة ، وغير ذلك من التعديلات.
.
إلا انه لا ينبغي في إطار تحقيق واعتماد هذا التطور العقابي عدم إخفاء المخاطر التي تحيط بذلك، خاصة من الناحية الأمنية، وضرورة حماية الضحية و المجتمع من المجرم، الذي عوض أن يقضي عقوبته في السجن في ظل تطبيق العقوبات السالبة للحرية، أصبح بموجب الأخذ بالبدائل يقضيها داخل المجتمع الحر، وانعكاس هذا التعديل الذي طرأ من الناحية الأمنية، بحيث يكون المجتمع والضحية والمجرم في المحيط البيئي ذاته، وهو ما يقتضي تسخير مزيدا من الوسائل المادية والبشرية للجهات الأمنية ليتسنى لها مراقبة المجتمع والمعاقب-المجرم- وضمان اعتبار حق الضحية على حد سواء.
ومن تم وجب التنبيه إلى أن وضع بدائل للعقوبات السالبة للحرية يبقى محفوفاً بالمخاطر، ويشكل طرحها وتبنيها والسير بها، برنامجاً تأسيسياً على المستوين القضائي والمجتمعي، يهدف إلى تحقيق نظام جنائي أكثر إنسانية، وبالتالي فتوظيف هذا التوجه الجديد على مستوى العقوبات السالبة للحرية يجب وضعه في إطار استراتيجي موسع لإصلاح العدالة الجنائية في كافة مستوياتها. وتوفير المناخ العام المناسب لضمان فعالية وسلامة قضاء هذا النوع من العقوبات وسط المجتمع بشكل آمن.
وتجب الإشارة إلى وجود أنواع من الجرائم تتأرجح بين التصنيف الجنحي والجنائي، لا يمكن تخصيصها بالعقوبات البديلة ولاسيما تدابير (العمل في الخدمة العامة–المراقبة الالكترونية–وقف التنفيذ)، بالنظر لامتدادات المتورطين في هذا النوع من الجرائم كتعاطي المخدرات أو ترويجها أو الاتجار بها، إضافة لارتكابهم أفعال جرمية يدخل قسم منها في مكونات الجريمة المنظمة كالإرهاب مثلا. و ينسحب الأمر كذلك إلى المحكومين ألأجانب الذين يخشى في الكثير من الحالات هروبهم في حال خضعوا لعقوبات بديلة.
خـاتـمـة:
إن التطور الذي عرفه الفكر الجنائي أدى إلى الاقتناع بأن الدولة وحدها بالرغم مما تتوفر عليه من أجهزة ومؤسسات وقوانين صارمة في التجريم والعقاب، لن تستطيع القضاء على الجريمة، وأن مكافحة الجريمة شأن مجتمعي ينبغي أن تتضافر فيه جهود وفعاليات المجتمع من دولة ومؤسساتها ثم الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني([2])، وهي ظاهرة ينبغي أن تعطى لها الأولوية في السياسات العامة للدولة، طالما وثيرة الميل نحو الإجرام وارتكاب الجريمة يعرفان تصاعدا سريعا في الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء.
وإذا كانت لكل سياسة جنائية أهداف ومرتكزات وغايات، تتميز أيضا بخصائص من أهمها أنها توجه المشرع ليهتدي بمبادئها في سنه لقواعد القانون الجنائي، وأنها تتأثر بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر منها المجتمع وبالتالي ترتبط بالسياسة العامة للدولة ، فان الهدف من العقوبات البديلة ليس تعطيل العقوبات السالبة للحرية، إنما هي عقوبات سلكت طريقا تصاعديا لاعتمادها تعويضا عن السجن في بعض الجرائم وليس كل الجرائم، وذلك لكونها ترتقي لأهم الوسائل العقابية المبنية على سياسة جنائية عقابية منهجية وتحليلية، وقد بوشر بتنفيذها كما رأينا في الدول المتقدمة التي خفضت من مستوى اعتماد العقوبات سواء السالبة منها للحياة ( الإعدام ) أو الشاقة، أو للحرية من خلال الحبس.
فهذه العقوبات الجديدة، فتحت مما لا شك فيه إطارا حديثا لإصلاح المجرمين خارج المؤسسات العقابية، لان هدف السياسة الجنائية الحديثة كما أسلفنا هو الوقاية والردع إلى جانب الإيلام ، والعلاج وليس القسوة والشدة والإيلام فقط .
وفي نفس السياق، وفي ختام هذا التقديم تحضرني مداخلة للأستاذ محمد عبد النبوي في ندوة نظمت في رحاب هذه الكلية حول موضوع السياسة الجنائية ، حيث أكد فيها أن إصلاح السياسة الجنائية وحده لن يحقق الهدف المتمثل في التقليص من الجريمة بل ذلك هو شأن مجتمعي يجب أن تساهم فيه جميع فعاليات المجتمع المدني،وكذلك هو شأن حكومي يجب أن تتظافروتعمل من أجل تحقيقه باقي
السياسات العمومية الأخرى للدولة كسياسة التعليم والصحة والسكن ومحاربة الفقر والتهميش وغير ذلك من السياسات العمومية ،
وشكرا.