شهدت رحاب كلية الحقوق بالرباط أكدال مؤخرا مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص تقدم بها الطالب الباحث محمد الحمياني، حول موضوع: "إشكالية العقوبة المبررة-دراسة مقارنة"، تحت اشراف الدكتورة لطيفة المهداتي.
وقد تشكلت لجنة المناقشة من الأساتذة الأجلاء:
الدكتور : عبد العزيز الحيلة .. رئيسا
الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي عضوا
الدكتورة لطيفة المهداتي مشرفة
الدكتور عبد السلام سليمان عضوا.
وقد قررت اللجنة قبول الرسالة ومنحها ميزة مشرف جدا.
وفيما يلي نص التقرير الذي تقدم به الطالب الباحث أمام لجنة المناقشة والذي تضمن أهم مضامين هذه الأطروحة التي تشكل اضافة نوعية للخزانة العلمية المغربية حيث تأتي لسد خصاص في موضوع يعرف شح المراجع والكتابات القانونية خاصة الوطنية منها، وتزداد أهمية الأطروحة لتزامنها مع ورش الاصلاحات التي تعرفها المنظومة الجنائية المغربية في أعقاب الاعلان عن الميثاق الوطني لاصلاح منظومة العدالة ومسودة تعديل القانون الجنائي الجديد.
إشكالية العقوبة المبررة – دراسة مقارنة.
أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص
تقدم بها الطالب الباحث محمد الحمياني
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، خلق الإنسان من علق، وعلمه بالقلم، كما علمه ما لم يعلم.
السيد الرئيس، السادة الأساتذة أعضاء اللجنة العلمية، أيها الحضور الكريم
يكون الحكم المخالف للقانون أحيانا بمنأى عن رقابة محكمة النقض، وذلك في حالة ما إذا كانت العقوبة التي صدر بها الحكم المطعون فيه تدخل بنوعها وقدرها في حدود العقوبة التي كان من الممكن الحكم بها لو أن الحكم قد صدر صحيحا وفقا للقانون، تلك هي "بنظرية العقوبة المبررة"
وغني عن البيان أن المشرع المغربي – حسب ما يستفاد من مقتضيات المادة 537 من ق م ج- قد حصر تطبيق العقوبة المبررة في نطاق الخطأ في الإشارة للنص القانوني المطبق على الواقعة، وحالة الخطأ في التكييف، وحالة الخطأ في عدد التهم أو إحداها، بما ينبئ بأن المشرع كان واعيا بأن الأمر يتعلق بحالة استثنائية عن قواعد النقض الجنائي.
فنظرية العقوبة المبررة هي إحدى النظريات الهامة في النقض الجنائي والتي يتعين تمحيص محتواها وبيان مداها وإيضاح خصائصها وتحديد شروطها ورصد آثارها، إذ يقرر الفقه والقضاء شروط يجب توفرها على اعتبار أنها استثناء من قواعد النقض الجنائي.
وبخصوص الإشكاليات التي عالجتها هذه الأطروحة فتتمحور عموما حول مجموعة من التساؤلات كالتساؤل عما إذا كان تقدير العقوبة على هذا الأساس لا يتناقض مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يوجب على المحكمة تكييف الواقعة طبقا للنص القانوني !! والتساؤل عن إمكانية تناقض محكمة النقض مع وظيفتها في السهر على التطبيق الصحيح للقانون لأنها تقر أحكاما ليست كذلك، وأيضا التساؤل عن مدى زعزعة الثقة في القضاء وإضعاف فعالية القانون !؟؟.
كما أنه إذا علمنا أن العقوبة تقدر وفق خطورة وشخصية المتهم استنادا إلى التكييف القانوني للجريمة، فكيف يتم الإبقاء على العقوبة التي روعي في تقديرها تكييف للجريمة على نحو معين رغم عدم صحته هذا التكييف، وبالتالي دلالته الخاطئة على خطورة المتهم !؟ وكيف يمكن لمحكمة النقض إقرار عقوبة روعي تقديرها على معطيات قانونية مغلوطة وكانت حاسمة في تفريد الجزاء ؟؟.
كذلك إذا أدين المتهم عن تهم متعددة، أليس من مصلحته الحكم ببراءته من إحداها إذا كانت هذه التهمة يعتبر معها إذا ارتكب جريمة مستقبلا في حالة عود خلافا للقانون، فضلا عن تأثيرها السلبي في مدة رد الاعتبار ومدة الإفراج الشرطي؟؟.
أليس للمتهم في جميع الأحوال مصلحة في اعتبار التكييف الصحيح إذا كان -من الناحية الأدبية- أقل خطورة من التكييف الذي اعتمدته محكمة الموضوع...؟؟.
أمام الرغبة في التعرف على الإجابات الدقيقة على هذه الإشكاليات القانونية، فإننا لم نقتصر فقط على استعراض ما يوجد في القوانين والأنظمة حول الموضوع، بل اشتملت دراستنا على ما يجب أن يكون، على ضوء الدراسة التأصيلية التحليلية والانتقادية، وفق تصورات منهجية استهدف التعرض لما يثيره الموضوع من مسائل قانونية وعملية مهمة.
اختياري لهذا الموضوع لم يكن نتيجة لما أثاره لدي من فضول معرفي واستفزاز فكري فقط، وإنما كذلك نظرا لأهميته النابعة من مجموعة من الدوافع أهمها:
- أن العقوبة هي أخطر ما يواجه به المتهم، وأن الخطأ فيها بمثابة خطأ في أغلى ما يملك الإنسان وهي حريته أو أمواله أو شرفه بحسب نوع العقوبة.
- أن مرحلة النقض هي المرحلة الأخيرة والحاسمة في مسار البت في الدعوى العمومية، وهي المجال الأبرز لمناقشة القانون وتفسيره، والمجال الخصب للاجتهاد القضائي وإعمال الفكر القانوني.
ولم يكن البحث في هذا الموضوع سهلا يسيرا، بل صادفنا خلاله عدة صعوبات علمية وعراقيل عملية نلخصها فيما يلي:
- أن النظام الجنائي المغربي لا يتضمن سوى نصا قانونيا واحدا هو المادة 537 من قانون المسطرة الجنائية التي تعرضت لموضوع العقوبة المبررة.
- ندرة المراجع المتخصصة بحيث لم نعثر على أي كتابة في الموضوع من طرف الفقه المغربي، كما لم ينل معالجة كافية من طرف الفقه المقارن.
- ما فرضه علينا الموضوع من الانتقال إلى العديد من الجامعات والمكتبات لاسيما خارج أرض الوطن.
والدراسة المتخصصة والبناءة لهذا الموضوع فرضت علينا الاعتماد على المنهج الاستنباطي والمقارن، وذلك قصد استجلاء ضوابط وشروط إعمال النظرية في القضاء المغربي أو المقارن، ونطاقها ومبررات إعمالها.
وقد اقتضت الدراسة على هذا الأساس تقسيم الموضوع إلى بابين، حيث تعرضنا في الباب الأول إلى ماهية العقوبة المبررة ومبررات تطبيقها عبر فصلين، خصصنا الأول لمفهوم النظرية ومجال تطبيقها.
وفي الفصل الثاني عاجنا مبررات تطبيق نظرية العقوبة المبررة، حيث توقفنا على ضابط المصلحة من الطعن باعتباره المبنى الأساسي للنظرية، ثم تعرضنا لمعيار الاعتبارات العملية وما اعتمده القضاء من تبريرات واقعية.
وبالنسبة للباب الثاني فخصص للتوسع القضائي في تطبيق نظرية العقوبة المبررة وآثاره، حيث عالجنا الفصل الأول توسع قضاء النقض في تطبيق نظرية العقوبة المبررة، والحالات التي أدخلتها في نطاق التطبيق.
أما في الفصل الثاني فتعرضنا لمختلف الآثار المترتبة عن هذا التوسع.
السيد الرئيس، السادة الأساتذة أعضاء اللجنة العلمية:
على ضوء ما سبق خلصنا إلى تسجيل عدة ملاحظات مؤاخذات نوجزها فيما يلي:
أولا: التناقض مع مبدأ الشرعية الجنائية:
إذ أنه في الوقت الذي يؤكد الفصل الثالث من القانون الجنائي أنه "لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لا يقررها القانون"، نجد المشرع بموجب المادة 537 من قانون المسطرة الجنائية يقر عقوبة لا يقرها القانون وإنما فرضتها الوقائع الثابتة فقط، وتسايره في ذلك محكمة النقض التي تدين الطاعن من أجل جريمة تقر هذه المحكمة نفسها أنه لم يرتكبها، والمبرر في ذلك هو عامل " انتفاء المصلحة" أو عامل "سرعة البت في الطعون" !!.
ورفضنا لذلك لا يعني رفضنا لسرعة التجريم في حد ذاته، وإنما يعني إصرارنا على التمسك الصارم بشرعيته، وتجنب أي انحرافا خطيرا في النظرة إلى مدنية التجريم وبشرية المجرم، ذلك أنه لا مصلحة سواء بالنسبة للمحكوم عليه، أو بالنسبة للنيابة العامة خير من مصلحة تطبيق القانون.
ثانيا: تراجع محكمة النقض عن وظيفتها الأساسية:
حيث إنه في الوقت الذي أكد فيه المشرع من خلال المادة 518 من ق م ج من أن محكمة النقض تتولى النظر في الطعون بالنقض المقدمة ضد الأحكام الصادرة عن المحاكم الزجرية، وتسهر على التطبيق الصحيح للقانون، ثم أكد المشرع أيضا من خلال المادة 534 من ق م ج أنه يجب أن يرتكز الطعن بالنقض في القرارات والأحكام القابلة للطعن على مجموعة من الأسباب من ضمنها الخرق الجوهري للقانون وانعدام الأساس القانوني...، عاد نفس المشرع مرة أخرى ليفاجئنا من خلال المادة 537 من نفس القانون، على أنه إذا كانت العقوبة المحكوم بها هي نفس العقوبة المقررة في النص المنطبق على الجريمة المرتكبة فلا يمكن نقض المقرر بدعوى وجود خطأ في التكييف أو الخطأ في عدد التهم في حالة تعددها، أي الخطأ في تطبيق القانون!!.
تأسيسا على ذلك يكون المشرع على هذا النحو بإقراره لعقوبة اعتبرها مبررة قد وقع في تناقض غير مبرر... وجعل من وظيفة محكمة النقض البحث عن أي "أساس يبرر العقوبة المقضي بها" ولو كانت هذه العقوبة مخالفة للقانون.
ثالثا: التعارض مع مبدأ تفريد العقاب:
يستفاد من خلال مقتضيات الفصول 141 إلى 161 من ق.ج أن للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها انطلاقا من النموذج القانوني للجريمة كما حدده لها المشرع، وحسب شخصية المجرم وخطورته وسوابقه... بل أحيانا حسب ما إذا كان هذا الأخير فاعلا أصليا أو شريكا، فكيف يمكن لمحكمة النقض في حالة الخطأ في التكييف القانوني من طرف محاكم الموضوع، إقرار عقوبة روعي في تقديرها على معطيات قانونية مغلوطة وكانت حاسمة في تفريد الجزاء !! وكيف يمكنها الإبقاء على تكييف قانوني له دلالته الخاطئة على خطورة المتهم!!.
فضلا عن ذلك فإنه يمكن القول أن المشرع لما سمح لمحكمة النقض التأكد فقط من قيام إحدى الجرائم أو بعضها دون الباقي -في حالة تعددها- وإقرار العقوبة المحكوم بها من لدن محاكم الموضوع، إنما هو نسف منه للسلطة التقديرية للقاضي في تقدير العقوبة استنادا إلى خطورة المتهم وظروف ارتكابه للجريمة.
ثم إن المشرع ومعه محكمة النقض بإقرارهما لنظرية العقوبة المبررة في هذا الشق لم يميز بين ما إذا كان الأمر يتعلق بتعدد مادي أو تعدد معنوي.
رابعا: عدم مراعاة الحق في الدفاع:
إن للمتهم الحق في معرفة التكييف الحقيقي الذي تبنته محكمة النقض قبل مناقشتها لقضيته، وليس عند إصدار قرارها برفض الطعن تطبيقا لنظرية العقوبة المبررة، علما أن المتهم قد لا يؤسس دفاعه دائما على تقدير العقوبة أو استبعاد ظرف من ظروف التشديد، أو استجلاء ظرف من ظروف التخفيف...، بل قد يؤسس دفاعه على انعدام الصفة الجرمية أساسا بمناقشة أركان الجريمة أو الجرائم بما يستدعي -في نظره على الأقل- التصريح ببراءته.
خامسا : نتائج غير قانونية وآثار سلبية أخرى:
إن تطبيق نظرية العقوبة المبررة يكون له التأثير البالغ على مركز ومستقبل المحكوم عليه، ذلك أنه مما لا شك فيه أن هناك تدرجا معنويا بين الجرائم من وجهة النظر الاجتماعية حتى ولو تساوت عقوبتها، وأن للمتهم مصلحة معنوية أكيدة في نقض الحكم ومؤاخذته بالجريمة حسب وصفها القانوني السليم، بل إن المسألة قد تتخذ أبعاد اجتماعية مرتبطة بنظرة المجتمع للمحكوم عليه استنادا إلى وصف التهمة التي نسبت إليه.
كما قد تتخذ أبعادا إدارية مرتبطة بوظيفة المحكوم عليه أو منصبه، أو بسجله القضائي ومدى استفادته من رخص أو حقوق مرتبطة بوصف وتكييف التهمة المحكوم من أجلها، مثل رد الاعتبار أو الإفراج الشرطي...
سادسا : التعارض مع المبادئ الدستورية:
إذا كان المشرع الدستوري قد أكد من خلال الفصل 110 من الدستور على أنه " لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون، ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون...". بما يفرض ذلك على القضاء ضرورة احترام المبادئ الأساسية المرتبطة بضمانات المحاكمة العادلة لكل ماثل أمام القضاء، وإصدار العقوبة طبقا للقانون، غير أنه بتطبيق نظرية العقوبة المبررة لاسيما بالشكل المتوسع فيه يكون القضاء قد انحاز عن تلك المهمة الجوهرية وخالف المبدأ الدستوري المنصوص عليه.
سابعا وأخيرا: التعارض مع مقومات الأمن القضائي والقانوني:
حيث أكد الفصل 117 من الدستور أنه "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون" بما يعني أن المشرع الدستوري قد أسس لمبدأ الأمن القضائي كإحدى الأهداف المطالب القضاء بتحقيقها، إلا أن التحولات الطارئة في تطبيق العقوبة وإقرار محكمة النقض لأحكام وعقوبات غير قانونية بدعوى أنها مبررة، لا يتماشى مع مبدأ الأمن القضائي كمبدأ دستوري، بل يشكل هدرا حقيقيا لأبرز مقوماته.
وفي الأخير
أتقدم بالشكر الجزيل والإمتنان العميق إلى أستاذتي الدكتورة لطيفة المهداتي التي يعود لها الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في إنجاز هذا البحث وفيما صح فيه واكتمل، حيث لم تدخر جهدا في توجيه كل الإرشادات والنصائح التي أنارت طريق البحث، والتي تعلمت منها الاحترام في التواصل والانضباط في التعامل، فجزاها عني خير الجزاء.
كما أتقدم بخالص التشكرات وأصدق التقديرات إلى السادة الأساتذة أعضاء اللجنة العلمية الذين شرفوني بقبولهم حضور هذه المناقشة من أجل لفت الانتباه لكل تصحيح أو تتميم والإشارة لكل تقويم أو تقييم.
فتحية إلى أستاذي الدكتور عبد العزيز الحيلة الذي تعلمت على يديه خصال الهدوء والتروي والأخلاق العالية، وتحية إخلاص ومحبة خاصة إلى أستاذي الدكتور محمد الادريسي العلمي المشيشي الذي زادنا شرفا بقبوله المشاركة في هذه المناقشة.
الشكر الوافر والثناء العاطر للأستاذ الدكتور عبد السلام بنسليمان الذي لم يتواني عن تقديم يد المساعدة كلما التجأت إليه.
ثم أتوجه بالدعاء لوالدي رحمه الله ... بأن يتغمده الله بواسع رحمته وأن يجمعنا به في دار كرامته.
كما أقدم بالشكر إلى والدتي المباركة أطال الله بقاءها ومتعها متاع الصالحين، فما فتأت بالدعاء لي أناء الليل وأطراف النهار بالتوفيق والسداد، اللهم جازيها خير ما جزيت به والدة عن أولادها وبارك في عمرها وارزقني برها.
وأشكر كذلك الحضور على اقتطاعهم جزء من وقتهم لحضور هذه المناقشة العلمية والاستماع لما سيدور من ملاحظات ونقاشات.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وقد تشكلت لجنة المناقشة من الأساتذة الأجلاء:
الدكتور : عبد العزيز الحيلة .. رئيسا
الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي عضوا
الدكتورة لطيفة المهداتي مشرفة
الدكتور عبد السلام سليمان عضوا.
وقد قررت اللجنة قبول الرسالة ومنحها ميزة مشرف جدا.
وفيما يلي نص التقرير الذي تقدم به الطالب الباحث أمام لجنة المناقشة والذي تضمن أهم مضامين هذه الأطروحة التي تشكل اضافة نوعية للخزانة العلمية المغربية حيث تأتي لسد خصاص في موضوع يعرف شح المراجع والكتابات القانونية خاصة الوطنية منها، وتزداد أهمية الأطروحة لتزامنها مع ورش الاصلاحات التي تعرفها المنظومة الجنائية المغربية في أعقاب الاعلان عن الميثاق الوطني لاصلاح منظومة العدالة ومسودة تعديل القانون الجنائي الجديد.
إشكالية العقوبة المبررة – دراسة مقارنة.
أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص
تقدم بها الطالب الباحث محمد الحمياني
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، خلق الإنسان من علق، وعلمه بالقلم، كما علمه ما لم يعلم.
السيد الرئيس، السادة الأساتذة أعضاء اللجنة العلمية، أيها الحضور الكريم
يكون الحكم المخالف للقانون أحيانا بمنأى عن رقابة محكمة النقض، وذلك في حالة ما إذا كانت العقوبة التي صدر بها الحكم المطعون فيه تدخل بنوعها وقدرها في حدود العقوبة التي كان من الممكن الحكم بها لو أن الحكم قد صدر صحيحا وفقا للقانون، تلك هي "بنظرية العقوبة المبررة"
وغني عن البيان أن المشرع المغربي – حسب ما يستفاد من مقتضيات المادة 537 من ق م ج- قد حصر تطبيق العقوبة المبررة في نطاق الخطأ في الإشارة للنص القانوني المطبق على الواقعة، وحالة الخطأ في التكييف، وحالة الخطأ في عدد التهم أو إحداها، بما ينبئ بأن المشرع كان واعيا بأن الأمر يتعلق بحالة استثنائية عن قواعد النقض الجنائي.
فنظرية العقوبة المبررة هي إحدى النظريات الهامة في النقض الجنائي والتي يتعين تمحيص محتواها وبيان مداها وإيضاح خصائصها وتحديد شروطها ورصد آثارها، إذ يقرر الفقه والقضاء شروط يجب توفرها على اعتبار أنها استثناء من قواعد النقض الجنائي.
وبخصوص الإشكاليات التي عالجتها هذه الأطروحة فتتمحور عموما حول مجموعة من التساؤلات كالتساؤل عما إذا كان تقدير العقوبة على هذا الأساس لا يتناقض مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يوجب على المحكمة تكييف الواقعة طبقا للنص القانوني !! والتساؤل عن إمكانية تناقض محكمة النقض مع وظيفتها في السهر على التطبيق الصحيح للقانون لأنها تقر أحكاما ليست كذلك، وأيضا التساؤل عن مدى زعزعة الثقة في القضاء وإضعاف فعالية القانون !؟؟.
كما أنه إذا علمنا أن العقوبة تقدر وفق خطورة وشخصية المتهم استنادا إلى التكييف القانوني للجريمة، فكيف يتم الإبقاء على العقوبة التي روعي في تقديرها تكييف للجريمة على نحو معين رغم عدم صحته هذا التكييف، وبالتالي دلالته الخاطئة على خطورة المتهم !؟ وكيف يمكن لمحكمة النقض إقرار عقوبة روعي تقديرها على معطيات قانونية مغلوطة وكانت حاسمة في تفريد الجزاء ؟؟.
كذلك إذا أدين المتهم عن تهم متعددة، أليس من مصلحته الحكم ببراءته من إحداها إذا كانت هذه التهمة يعتبر معها إذا ارتكب جريمة مستقبلا في حالة عود خلافا للقانون، فضلا عن تأثيرها السلبي في مدة رد الاعتبار ومدة الإفراج الشرطي؟؟.
أليس للمتهم في جميع الأحوال مصلحة في اعتبار التكييف الصحيح إذا كان -من الناحية الأدبية- أقل خطورة من التكييف الذي اعتمدته محكمة الموضوع...؟؟.
أمام الرغبة في التعرف على الإجابات الدقيقة على هذه الإشكاليات القانونية، فإننا لم نقتصر فقط على استعراض ما يوجد في القوانين والأنظمة حول الموضوع، بل اشتملت دراستنا على ما يجب أن يكون، على ضوء الدراسة التأصيلية التحليلية والانتقادية، وفق تصورات منهجية استهدف التعرض لما يثيره الموضوع من مسائل قانونية وعملية مهمة.
اختياري لهذا الموضوع لم يكن نتيجة لما أثاره لدي من فضول معرفي واستفزاز فكري فقط، وإنما كذلك نظرا لأهميته النابعة من مجموعة من الدوافع أهمها:
- أن العقوبة هي أخطر ما يواجه به المتهم، وأن الخطأ فيها بمثابة خطأ في أغلى ما يملك الإنسان وهي حريته أو أمواله أو شرفه بحسب نوع العقوبة.
- أن مرحلة النقض هي المرحلة الأخيرة والحاسمة في مسار البت في الدعوى العمومية، وهي المجال الأبرز لمناقشة القانون وتفسيره، والمجال الخصب للاجتهاد القضائي وإعمال الفكر القانوني.
ولم يكن البحث في هذا الموضوع سهلا يسيرا، بل صادفنا خلاله عدة صعوبات علمية وعراقيل عملية نلخصها فيما يلي:
- أن النظام الجنائي المغربي لا يتضمن سوى نصا قانونيا واحدا هو المادة 537 من قانون المسطرة الجنائية التي تعرضت لموضوع العقوبة المبررة.
- ندرة المراجع المتخصصة بحيث لم نعثر على أي كتابة في الموضوع من طرف الفقه المغربي، كما لم ينل معالجة كافية من طرف الفقه المقارن.
- ما فرضه علينا الموضوع من الانتقال إلى العديد من الجامعات والمكتبات لاسيما خارج أرض الوطن.
والدراسة المتخصصة والبناءة لهذا الموضوع فرضت علينا الاعتماد على المنهج الاستنباطي والمقارن، وذلك قصد استجلاء ضوابط وشروط إعمال النظرية في القضاء المغربي أو المقارن، ونطاقها ومبررات إعمالها.
وقد اقتضت الدراسة على هذا الأساس تقسيم الموضوع إلى بابين، حيث تعرضنا في الباب الأول إلى ماهية العقوبة المبررة ومبررات تطبيقها عبر فصلين، خصصنا الأول لمفهوم النظرية ومجال تطبيقها.
وفي الفصل الثاني عاجنا مبررات تطبيق نظرية العقوبة المبررة، حيث توقفنا على ضابط المصلحة من الطعن باعتباره المبنى الأساسي للنظرية، ثم تعرضنا لمعيار الاعتبارات العملية وما اعتمده القضاء من تبريرات واقعية.
وبالنسبة للباب الثاني فخصص للتوسع القضائي في تطبيق نظرية العقوبة المبررة وآثاره، حيث عالجنا الفصل الأول توسع قضاء النقض في تطبيق نظرية العقوبة المبررة، والحالات التي أدخلتها في نطاق التطبيق.
أما في الفصل الثاني فتعرضنا لمختلف الآثار المترتبة عن هذا التوسع.
السيد الرئيس، السادة الأساتذة أعضاء اللجنة العلمية:
على ضوء ما سبق خلصنا إلى تسجيل عدة ملاحظات مؤاخذات نوجزها فيما يلي:
أولا: التناقض مع مبدأ الشرعية الجنائية:
إذ أنه في الوقت الذي يؤكد الفصل الثالث من القانون الجنائي أنه "لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لا يقررها القانون"، نجد المشرع بموجب المادة 537 من قانون المسطرة الجنائية يقر عقوبة لا يقرها القانون وإنما فرضتها الوقائع الثابتة فقط، وتسايره في ذلك محكمة النقض التي تدين الطاعن من أجل جريمة تقر هذه المحكمة نفسها أنه لم يرتكبها، والمبرر في ذلك هو عامل " انتفاء المصلحة" أو عامل "سرعة البت في الطعون" !!.
ورفضنا لذلك لا يعني رفضنا لسرعة التجريم في حد ذاته، وإنما يعني إصرارنا على التمسك الصارم بشرعيته، وتجنب أي انحرافا خطيرا في النظرة إلى مدنية التجريم وبشرية المجرم، ذلك أنه لا مصلحة سواء بالنسبة للمحكوم عليه، أو بالنسبة للنيابة العامة خير من مصلحة تطبيق القانون.
ثانيا: تراجع محكمة النقض عن وظيفتها الأساسية:
حيث إنه في الوقت الذي أكد فيه المشرع من خلال المادة 518 من ق م ج من أن محكمة النقض تتولى النظر في الطعون بالنقض المقدمة ضد الأحكام الصادرة عن المحاكم الزجرية، وتسهر على التطبيق الصحيح للقانون، ثم أكد المشرع أيضا من خلال المادة 534 من ق م ج أنه يجب أن يرتكز الطعن بالنقض في القرارات والأحكام القابلة للطعن على مجموعة من الأسباب من ضمنها الخرق الجوهري للقانون وانعدام الأساس القانوني...، عاد نفس المشرع مرة أخرى ليفاجئنا من خلال المادة 537 من نفس القانون، على أنه إذا كانت العقوبة المحكوم بها هي نفس العقوبة المقررة في النص المنطبق على الجريمة المرتكبة فلا يمكن نقض المقرر بدعوى وجود خطأ في التكييف أو الخطأ في عدد التهم في حالة تعددها، أي الخطأ في تطبيق القانون!!.
تأسيسا على ذلك يكون المشرع على هذا النحو بإقراره لعقوبة اعتبرها مبررة قد وقع في تناقض غير مبرر... وجعل من وظيفة محكمة النقض البحث عن أي "أساس يبرر العقوبة المقضي بها" ولو كانت هذه العقوبة مخالفة للقانون.
ثالثا: التعارض مع مبدأ تفريد العقاب:
يستفاد من خلال مقتضيات الفصول 141 إلى 161 من ق.ج أن للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها انطلاقا من النموذج القانوني للجريمة كما حدده لها المشرع، وحسب شخصية المجرم وخطورته وسوابقه... بل أحيانا حسب ما إذا كان هذا الأخير فاعلا أصليا أو شريكا، فكيف يمكن لمحكمة النقض في حالة الخطأ في التكييف القانوني من طرف محاكم الموضوع، إقرار عقوبة روعي في تقديرها على معطيات قانونية مغلوطة وكانت حاسمة في تفريد الجزاء !! وكيف يمكنها الإبقاء على تكييف قانوني له دلالته الخاطئة على خطورة المتهم!!.
فضلا عن ذلك فإنه يمكن القول أن المشرع لما سمح لمحكمة النقض التأكد فقط من قيام إحدى الجرائم أو بعضها دون الباقي -في حالة تعددها- وإقرار العقوبة المحكوم بها من لدن محاكم الموضوع، إنما هو نسف منه للسلطة التقديرية للقاضي في تقدير العقوبة استنادا إلى خطورة المتهم وظروف ارتكابه للجريمة.
ثم إن المشرع ومعه محكمة النقض بإقرارهما لنظرية العقوبة المبررة في هذا الشق لم يميز بين ما إذا كان الأمر يتعلق بتعدد مادي أو تعدد معنوي.
رابعا: عدم مراعاة الحق في الدفاع:
إن للمتهم الحق في معرفة التكييف الحقيقي الذي تبنته محكمة النقض قبل مناقشتها لقضيته، وليس عند إصدار قرارها برفض الطعن تطبيقا لنظرية العقوبة المبررة، علما أن المتهم قد لا يؤسس دفاعه دائما على تقدير العقوبة أو استبعاد ظرف من ظروف التشديد، أو استجلاء ظرف من ظروف التخفيف...، بل قد يؤسس دفاعه على انعدام الصفة الجرمية أساسا بمناقشة أركان الجريمة أو الجرائم بما يستدعي -في نظره على الأقل- التصريح ببراءته.
خامسا : نتائج غير قانونية وآثار سلبية أخرى:
إن تطبيق نظرية العقوبة المبررة يكون له التأثير البالغ على مركز ومستقبل المحكوم عليه، ذلك أنه مما لا شك فيه أن هناك تدرجا معنويا بين الجرائم من وجهة النظر الاجتماعية حتى ولو تساوت عقوبتها، وأن للمتهم مصلحة معنوية أكيدة في نقض الحكم ومؤاخذته بالجريمة حسب وصفها القانوني السليم، بل إن المسألة قد تتخذ أبعاد اجتماعية مرتبطة بنظرة المجتمع للمحكوم عليه استنادا إلى وصف التهمة التي نسبت إليه.
كما قد تتخذ أبعادا إدارية مرتبطة بوظيفة المحكوم عليه أو منصبه، أو بسجله القضائي ومدى استفادته من رخص أو حقوق مرتبطة بوصف وتكييف التهمة المحكوم من أجلها، مثل رد الاعتبار أو الإفراج الشرطي...
سادسا : التعارض مع المبادئ الدستورية:
إذا كان المشرع الدستوري قد أكد من خلال الفصل 110 من الدستور على أنه " لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون، ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون...". بما يفرض ذلك على القضاء ضرورة احترام المبادئ الأساسية المرتبطة بضمانات المحاكمة العادلة لكل ماثل أمام القضاء، وإصدار العقوبة طبقا للقانون، غير أنه بتطبيق نظرية العقوبة المبررة لاسيما بالشكل المتوسع فيه يكون القضاء قد انحاز عن تلك المهمة الجوهرية وخالف المبدأ الدستوري المنصوص عليه.
سابعا وأخيرا: التعارض مع مقومات الأمن القضائي والقانوني:
حيث أكد الفصل 117 من الدستور أنه "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون" بما يعني أن المشرع الدستوري قد أسس لمبدأ الأمن القضائي كإحدى الأهداف المطالب القضاء بتحقيقها، إلا أن التحولات الطارئة في تطبيق العقوبة وإقرار محكمة النقض لأحكام وعقوبات غير قانونية بدعوى أنها مبررة، لا يتماشى مع مبدأ الأمن القضائي كمبدأ دستوري، بل يشكل هدرا حقيقيا لأبرز مقوماته.
وفي الأخير
أتقدم بالشكر الجزيل والإمتنان العميق إلى أستاذتي الدكتورة لطيفة المهداتي التي يعود لها الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في إنجاز هذا البحث وفيما صح فيه واكتمل، حيث لم تدخر جهدا في توجيه كل الإرشادات والنصائح التي أنارت طريق البحث، والتي تعلمت منها الاحترام في التواصل والانضباط في التعامل، فجزاها عني خير الجزاء.
كما أتقدم بخالص التشكرات وأصدق التقديرات إلى السادة الأساتذة أعضاء اللجنة العلمية الذين شرفوني بقبولهم حضور هذه المناقشة من أجل لفت الانتباه لكل تصحيح أو تتميم والإشارة لكل تقويم أو تقييم.
فتحية إلى أستاذي الدكتور عبد العزيز الحيلة الذي تعلمت على يديه خصال الهدوء والتروي والأخلاق العالية، وتحية إخلاص ومحبة خاصة إلى أستاذي الدكتور محمد الادريسي العلمي المشيشي الذي زادنا شرفا بقبوله المشاركة في هذه المناقشة.
الشكر الوافر والثناء العاطر للأستاذ الدكتور عبد السلام بنسليمان الذي لم يتواني عن تقديم يد المساعدة كلما التجأت إليه.
ثم أتوجه بالدعاء لوالدي رحمه الله ... بأن يتغمده الله بواسع رحمته وأن يجمعنا به في دار كرامته.
كما أقدم بالشكر إلى والدتي المباركة أطال الله بقاءها ومتعها متاع الصالحين، فما فتأت بالدعاء لي أناء الليل وأطراف النهار بالتوفيق والسداد، اللهم جازيها خير ما جزيت به والدة عن أولادها وبارك في عمرها وارزقني برها.
وأشكر كذلك الحضور على اقتطاعهم جزء من وقتهم لحضور هذه المناقشة العلمية والاستماع لما سيدور من ملاحظات ونقاشات.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.