مضت سنة على تنصيب رئاسة النيابة العامة، ومن ثَمّ اكتمال صرح السلطة القضائية المستقلة على المستويين القانوني والهيكلي عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، سنة عرفت انخراطا ملفتا للنظر للنيابة العامة في الكثير من القضايا وبآليات أكثر تطورا وجدة وفعالية، كما عرفت انفتاحا بشكل غير مسبوق على الأوساط الإعلامية والجامعية، مما ينمّ عن توجه جديد في تدبير شؤونها بمقومات لعل أبرزها السعي إلى ترسيخ استقلالية السلطة القضائية على كافة المستويات، وترسيخ البُعد الحقوقي في التعامل مع قضايا المواطنين، وجعل الممارسة المهنية لقضاة النيابة العامة منسجمة مع النص القانوني قلبا وقالبا، وغير ذلك من المقومات التي لن يتسع المقام للخوض فيها، في هذا العرض المخصص لدراسة قانونية وواقعية للزاوية التي تناولت بها رئاسة النيابة العامة موضوع "الإكراه البدني".
لا شك أنّ موضوع الإكراه البدني جدير بأن يستأثر بالاهتمام، نظرا لما له من أثر على حريات الناس وسلامتهم النفسية بل وحتى سلامتهم البدنية أحيانا، لهذا نجد المشرع قد أحاطه بما يكفي من العناية في مجموعة من القوانين، أهمّها قانون المسطرة الجنائية ومدونة تحصيل الديون العمومية؛ وتتجلي هذه العناية في دِقة التفاصيل المؤطرة لهذا الموضوع والتي تشمل عدة جوانب آثر المشرع عدم جعلها رهينة بالسلطة التقديرية للقاضي، فحدّد موجباته، وشروط تنفيذه، ودقَّقَ في مُدَده آخذا بعين الاعتبار مبلغ الدين المترتب في ذمة المطلوب في الإكراه، وميّز بين الإكراه البدني المشمول بظروف التخفيف فحدّد له حدّه الأدنى والمشمول بظروف التشديد فحدّد له حدّه الأقصى، كما تناول على وجه التفصيل العوارض المانعة من تنفيذه، وأحدث مؤسسة لمراقبة مدى قانونية إجراءاته بحيث لا يمكن تنفيذه إلا بعد موافقتها، وغير ذلك من التفاصيل المبثوثة في النصوص القانونية المتعلقة بالموضوع.
إلا أنه رغم كل ما سبق، أفرز لنا الواقع العملي قراءات مختلفة لنفس النصوص أدّت إلى تعدّد تجليات تنزيلها على أرض الواقع، إلى درجة أصبحت تَحيدُ عن منطوق تلك النصوص بل وأحيانا عن المنطق القانوني اللازم احترامه والالتزام به، ولعل هذا من بين الأسباب التي دفعت رئاسة النيابة العامة إلى إصدار مجموعة من الرسائل الدورية لترفع اللبس القائم في الممارسة المهنية، وأيضا لتجعل الواقع العملي بالمحاكم منسجما مع مقتضيات النص القانوني.
فما هي التوجهات العامة لرئاسة النيابة العامة في التعامل مع موضوع الإكراه البدني ؟
وما مدى حضور النص القانوني في هذه التوجهات ؟
وما هو الأثر الذي خلّفته تلك النصوص على الواقع العملي بالمحاكم ؟
هذا ما سنحاول مقاربته من خلال المبحثين أسفله.
المبحث الأول: دوريات رئاسة النيابة العامة المتعلقة بالإكراه البدني - السياق والتوجه
المبحث الثاني: دوريات رئاسة النيابة العامة المتعلقة بالإكراه البدني - إشكاليات التنزيل
المبحث الأول:
دوريات رئاسة النيابة العامة المتعلقة بالإكراه البدني
السياق والتّوجه
لا يهمنا في هذا المقام الوقوف عند التناقضات الجمّة لموضوع الإكراه البدني بين مدونة تحصيل الديون العمومية وقانون المسطرة الجنائية إلا بالقدر الذي يُساعدنا في ملامسة المحددات المنهجية لرئاسة النيابة على مستوى اختياراتها المتمثلة في تعليماتها وتوجيهاتها المتعلقة بالواقع العملي لقضاة النيابة؛ ومن ثمّ، لابد لنا أن نتساءل عن التوجه الذي تبنّته بخصوص تنفيذ الإكراه البدني، المُضمن في أربع رسائل دورية في مدة لا تتجاوز شهرا واحدا، صدر أوّلها بتاريخ 8 فبراير 2018، ورابعها بتاريخ 8 مارس 2018، وهي الوتيرة التي لها أكثر من دلالة !
ولنا أن نتساءل هنا عن خصوصية السياق الذي دفع رئاسة النيابة إلى طرح موضوع الإكراه البدني بالشكل الوارد في رسائلها الدورية، هل هو مجرّد إعلام للعاملين تحت سلطتها بدخولهم مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها حينما كانوا خاضعين لسلطة وزير العدل ؟
أم أنّ الأمر يتعلق فعلا بواقع عملي حادَ قليلا أو كثيرا عن مقتضيات قانونية صريحة ؟
أم أن المسألة تتعلق بتوجّه جديد يشمل المستويين معا كما يشمل غيرهما ؟
هذا ما سنحاول مقاربته في المطلبين أسفله.
المطلب الأول: قراءة سياقية للرسائل الدورية لرئاسة النيابة العامة
إذا كانت القراءة السِّيَاقِية بشكل عام تتطلب ربط النصوص بما يعرفه زمان إنتاجها من أحداث ووقائع، فإن قراءتنا هذه تتطلب قبل ذلك وضع الرسائل الدورية المتعلقة بالإكراه البدني بمجموعة من الرسائل الدورية الأخرى المؤطرة لعمل النيابات العامة، حتى يتسنى لنا تشكيل وجهة نظر قريبة من الصواب إن لم تكن صائبة.
أولا: السياق العام للرسائل الدورية المتعلقة بالإكراه البدني
لا يمكن استبعاد المعطى الجديد الذي عرفه المشهد القضائي والمتمثل في تعيين الوكيل العام للملك بمحكمة النقض رئيسا للنيابة العامة، وصدور القانون 17.33 المتعلق بنقل اختصاصات وزير العدل إلى هذا الأخير، وهو الحدث الذي شكل اكتمالا لاستقلال هياكل السلطة القضائية، وما كان له أن يمرّ دون أن يترك بصمة ظاهرة للعيان عن استقبال مرحلة جديدة للممارسة المهنية داخل النيابات العامة، الشيء الذي كان جليا في المنشور الأول لرئيسها، فجاء جامعا مانعا من حيثُ مضامينه، ودقيقا من حيثُ بَسطُه للمهام المنوطِ بقضاةِ النيابة العامة ومسؤوليهم التّسلسليين تحمّلها، وصريحا من حيث وضعُه لمحدّداتِ التوجهِ الجديد الذي أعطى مساحة أكبر للبُعد الحقوقي، وحتى يَتجلى هذا المعطى بشكل أكثر وضوحا، نُدلي بالملاحظات الآتية بخصوص السياق العام لصدور تلك الرسائل الدورية:
1- إنّ الكمّ الهائل للرسائل الدورية التي أصدرتها رئاسة النيابة العامة في فترة وجيزة وبشكل غير مسبوق، يؤكد سعيها الحثيث إلى الرفع
من وثيرة الأداء المهني لقضاتها، أو ربّما جعلِهم قاطرة للإصلاح، عبر التنزيل السليم للنصوص القانونية الجاري بها العمل من جهة
أولى، وعبر الإسهام الفعال في محاربة الجريمة والالتحام بهموم المواطنين من جهة ثانية، وهو ما يتأكد من خلال تنوع مواضيع تلك الرسائل الدورية لتشمل جلّ مجالات تدخلها، إيذانا بدخول مرحلة إعادة بناء المشهد القضائي وفق مقاربة تُولي لمؤسسة النيابة العامة
أهمية تنسجم مع خطورة المهام الملقاة على عاتقها؛
2- تناولت رئاسة النيابة العامة مجموعة من المواضيع الحساسة التي يُمكن اعتبارها ترسيخا لمفهوم جديد لهويتها باعتبارها جهازا مستقلا له أدوار مخصوصة عليه أن يضطلع بها بكل تجرد ونزاهة ونكران ذات، وهو ما حاولت فرضه من خلال الرسالة الدورية رقم 3 س/ر ن ع المتعلقة باحترام التسلسل الإداري، والتي اتّسَمَت بقدر كبير من الصرامة على مستوى التعليمات المُوَجهة إلى الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية، وصلت حدّ منعهم من مغادرة مقارِّ عملهم إلا بعد تأشير رئاسة النيابة العامة على الدعوات التي يتوصلون بها أيّا كانت الجهة المُصدرة لها، بل وحثّتهم على الإشعار بكل الدعوات التي يتوصلون بها سواء تعلقت بهم أو بباقي أعضاء النيابة العامة كي تكون الاستجابة لها مَبنِيّة على إذن يتوصلون به من طرفها؛ وهو ما يمكن اعتباره
خطابا جديدا يرمي إلى ترسيخ قِيَمٍ مِهَنيّة مختلفة داخل هذه المؤسسة على مستوى علاقتها بباقي مكونات المشهد القضائي؛
3- الخطاب الوارد في جلّ الرسائل الدورية التي أصدرتها رئاسة النيابة العامة، يتّسم بنبرة شديدة[1] على مستوى التعليمات المقدّمة من قِبلها إلى الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية وباقي قضاة النيابة العامة، وعددٌ لا يُستهانُ به من تلك الدوريات يتّسِم بالفورية أو بالاستعجال[2]، وعددٌ آخر يعطي آجالا صغيرة للقيام بمهامّ دقيقة[3] قد يستعصي الاستجابة لها في الوقت المحدّد من قبل عدة محاكم؛ الشيء الذي حَدَا برئاسة النيابة العامة إلى إصدارِ رسائل دورية أخرى في نفس الموضوع لحثّ هذه الأخيرة على الاستجابة الفورية لما سبق أن طُلب منها؛ وهذا الأسلوب في نظرنا، وإن كان من شأنه أن يُسهِم في تحقيق النجاعة المرجوة في تصريف الأشغال داخل المحاكم بوجهٍ عام، وداخل النيابات العامة بشكل خاص، إلا أنه قد يُعطي نتائج معكوسة في حالة تحوّل الأمر إلى مُجرّد استجابةٍ شكليةٍ لتلك التعليمات تُحوّل الأداء المهني إلى مجرّد أرقام.
إنّ هذه الملاحظات كافية للتدليل على أن للسياق العام الذي صدرت فيه تلك الرسائل الدورية المتعلقة بالإكراه البدني وطأته على ما تمَّ تضمينُه فيها، وأن توجّه رئاسة النيابة العامة على هذا المستوى إنما هو تجلّ لتوجّهها العام ولا ينفك عنه، فماذا عن السياق الخاص
لصدور تلك الرسائل الدورية ؟
ثانيا: السياق الخاص للرسائل الدورية المتعلقة بالإكراه البدني
لا مبالغة إن قلنا بأن رئاسة النيابة العامة اعتبرت موضوع الإكراه البدني من أولوياتها، فكان موضوعا لأربع رسائل دورية، فضلا عن التي تتعلق به بعض مضامينها، وسنحاول فيما يلي تسليط الضوء عن السياق الخاص لصدورها، عبر الملاحظات الآتية:
1- بالرجوع إلى الرسائل الدورية التي خصّصتها رئاسة النيابة العامة لموضوع الإكراه البدني، نجد بأنها ليست إلا إفرازا للواقع وتجاوبا إيجابيا معه، فالرسالة الدورية رقم 9 س/ر ن ع تم افتتاحها بما يُفيد الاطلاع على ما راج بوسائل الإعلام من تظلمات لمجموعة من المواطنين تتعلق بتطبيق الإكراه البدني في حقّهم بسبب أحكام لم يتم تبليغهم بها، الشيء الذي أكّدت رئاسة النيابة على كونه خرقا للإجراءات المقررة قانونا، ووجّهت تعليماتها إلى جميع النيابات العامة بمراجعة كافة الأوامر بالاعتقال التي أصدرتها في ملفات الإكراه
البدني للتأكد من قانونية المسطرة المتبعة فيها؛
2- الرسالة الدورية رقم 12 س/ر ن ع وسيرا على نفس المنوال، صرّحت في مُستهلّها بأنها ليست سوى استجابة لما أثارته بعض النيابات العامة من إشكالات واقعية تتعلق بتطبيق الإكراه البدني، فأدلت رئاسة النيابة العامة بالتوجه القانوني الذي يلزم اتباعه بهذا الخصوص لرفع تلك الإشكالات الواقعية وترسيخ الممارسة المهنية وفق ما تقتضيه النصوص القانونية الجاري بها العمل؛
3- الرسالتان الدوريتان المتبقيتان أي الدورية 10 س/ر ن ع والدورية 15 س/ر ن ع إنما جاءتا لحث النيابات العامة على الإسراع بالاستجابة لتعليمات رئاستهم الواردة في الرسالتين الدوريتين سالفتي الذكر، ومن ثمّ، فلا مراء في أنّ كل تلك الدوريات إنما هي استجابة للواقع ترمي بالأساس إلى تأطير الممارسة المهنية بالنصوص القانونية من جهة أولى، وأيضا إلى إرجاع الأمور إلى نصابها بخصوص المساطر التي تمّ سلوكها دون احترام للقانون.
وخلاصة القول في هذا المطلب، أن رئاسة النيابة العامة حاولت من خلال رسائلها الدورية أن تُوجه خطابا صريحا للقضاة الخاضعين لسلطتها ولكل المؤسسات المهتمة بالشأن القضائي بشكل عام وأدوار النيابة العامة بشكل خاص، تُعلِمهم من خلاله بحلول مرحلة جديدة بِسِمَات أكثر فاعلية وصرامة ودقة على المستوى الداخلي، وأكثر انفتاحا وتجاوبا ومراعاة لحقوق المتقاضين على المستوى الخارجي.
المطلب الثاني: قراءة في التوجه العام لرئاسة النيابة العامة من خلال رسائلها الدورية المتعلقة بالإكراه البدني
إن الاطلاع على ما تم تضمينه في الرسائل الدورية المتعلقة بتنفيذ الإكراه البدني، يجعلنا نستشف إصرار رئاسة النيابة على أمور شتى، منها التفاعل الإيجابي مع تظلمات المواطنين، وعدم الاقتصار على ما تتوصّل به المحاكم بشكل مباشر من طرف المعنيين به والانفتاح في ذلك على كل الوسائل المتاحة؛ ومنها الحرص على التأطير القانوني لمسطرة تنفيذ الإكراه البدني وعدم الاكتفاء بالدور السلبي الذي عمّر طويلا والذي لا يتجاوز إحالة طلبات الإكراه المتوصّل بها على قاضي تطبيق العقوبة ليُقرّر بشـأنها ما يراه مناسبا، فتلتزم بتنفيذ طلبات الإكراه التي حظيت بموافقته وحفظ التي تقرر رفض تنفيذها لسب أو لآخر، وهي الأدوار التي جعلتنا أمام دوريات متتالية وفي ظرف قياسي، نتقدم بخصوصها بالقراءة الآتية.
أولا: قراءة في بعض مضامين الرسالة الدورية 9 س/ر ن ع
أصدرت رئاسة النيابة العامة أول رسالة دورية في موضوع الإكراه البدني تحت عدد 9 س/ ر ن ع بتاريخ 8 فبراير 2018، ونورد حولها الملاحظات الآتية:
1- تأسست هذه الرسالة الدورية على ما راج في وسائل الإعلام حول تظلم مجموعة من المواطنين من تطبيق الإكراه البدني في حقهم بهذا
الخصوص مع أنهم لم يُبلّغوا بها، وهو ما يعني أن رئاسة النيابة العامة تفاعلت بشكل إيجابي مع نبض الشارع وبادرت بتحمل المسؤولية ضدّ توجه من شأنه أن يعصف ببعض ما جاء في الفصل السادس من الدستور والمتعلق بسمو القانون باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة، وأن الجميع مُلزم باحترامه، فكون المواطن قد خالف مقتضى أو أكثر من مقتضيات مدونة السير، لا يُخوّل لأيّ جهة -بما فيها قضاة النيابة العامة- أن تحرّك مسطرة الإكراه البدني في حقه دون مراعاة لأبسط حقوقه المتمثلة في تبليغه بالمنسوب إليه، وتوخي الدقة في
تنزيل المساطر اللازم تطبيقها في حقه وفق ما هو منصوص عليه في القوانين الجاري بها العمل؛
2- تضمنت هذه الرسالة الدورية تذكيرا لقضاة النيابة العامة بما يجب احترامه قبل تطبيق مسطرة الإكراه البدني وفق ما هو وارد في
قانون المسطرة الجنائية، وأيضا ما تعلق بتبليغ المقررات القضائية على اعتبار أن المشرع قد اشترط اكتسابها لقوة الشيء المقضي به
قبل الشروع في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية أو تطبيق الإكراه البدني؛ إلا أن أغلب المواد التي تمت الإشارة إليها في الفقرة الثالثة من هذه الرسالة لا تتعلق بتبليغ المقررات القضائية بل بتبليغ الاستدعاءات؛ كما أنّ هذه الأخيرة أغفلت مادة في غاية الأهمية لها ارتباط مباشر بالموضوع وهي المادة 400 من قانون المسطرة الجنائية التي حدّدت الآجال المتعلقة بالطعن بالاستئناف والتي يتم التمييز في تحديد
تاريخ الشروع في احتسابها بين الأحكام الحضورية والغيابية وبمثابة حضورية؛
3- دعت هذه الرسالة الدورية إلى المراجعة الفورية لكافة أوامر الاعتقال الصادرة في ملفات الإكراه البدني المتعلقة بالغرامات للتأكد من
سلوك المسطرة القانونية، وهو ما يؤكد بأن الواقع العملي يعرف بين الفينة والأخرى تجاوزات من شأنها أن تشغل الرأي العام، وقد وصلت في هذه الحالة حدّ تداولها بشكل مُلفِتٍ في وسائل الإعلام أدّى إلى تدخّل رئاسة النيابة العامة لإرجاع الأمور إلى نصابها عبر حثّ القضاة الخاضعين لسلطتها على مراجعة كل المساطر السابقة وإعادة النظر فيما لم يحترم القانون، ونظرا لخطورة هذا الأمر الذي يمسّ حرية الأشخاص، شدّدت رئاسة النيابة العامة على مسؤوليها القضائيين في الفقرة الأخيرة من هذه الرسالة الدورية بضرورة موافاتها في أجل أسبوع بتقريرٍ مُفصّل حول ما قاموا به لتنزيل مضامينها.
ثانيا: قراءة في بعض مضامين الرسالة الدورية 10 س/ر ن ع
أصدرت رئاسة النيابة العامة دورية ثانية حول موضوع الإكراه البدني تحت عدد 10 س/ر ن ع وذلك بتاريخ 21 فبراير 2018، وأسستها على ما جاء في الرسالة السابقة، والمُلفِتُ للانتباه أنها صدرت بعد أقل من ثلاثة أسابيع من هذه الأخيرة، إلا أنّها مجّرد تأنيب للنيابات العامة التي لم تُبادر بالاستجابة إلى رئاستها ولم تَتَقيّد بأجل الأسبوع الذي منحته إيّاهم لإنجاز تقارير حول ما قاموا به على مستوى مراجعة كل الأوامر بالاعتقال الصادرة في ملفات الإكراه البدني المتعلقة بالغرامات، وكان التأنيب مُذَيّلا بحثّ يكتسي نوعا من الصرامة على ضرورة التقيّد مستقبلا بتعليمات رئاسة النيابة العامة، وهو ما يجعلنا نتقدم بالملاحظات الآتية:
1- مضمون هذه الدورية يجعلنا نتوقف قليلا حول دواعي اختيار التواصل بين رئاسة النيابة العامة وكل النيابات الخاضعة لسلطتها عبر
هذه الوسيلة التي هي "الدوريات"، ونحسب أنّها لو اختارت التواصل عبر ما يُسمى ب "التعليمية" لكان أكثر دلالة وانسجاما مع طبيعة الخطاب الذي تحمِله، ولأعطت للوسيلة المعتمدة في توجيه تعليماتها وأوامرها سَنَدا دستوريا على اعتبار أنّ الفصل 110 من الدستور قد نص صراحة على طبيعة العلاقة التي تحكم قضاة النيابة العامة برؤسائهم التسلسليين، حيث جاء في فقرته الثانية: "يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها"، وبالرجوع إلى
مضمون هذه الرسالة الدورية نجد بأنها مجرد تذكير بالتعليمات الواردة في التي قبلها؛
2- لا شك أنّ الصرامة التي اتّسم بها خطاب رئاسة النيابة العامة في هذه الدورية له ما يبرّره إذا ما ربطناه بطبيعة العلاقة الدستورية التي تربط قضاة النيابة العامة بالسلطة التي يتبعون لها، وأيضا بناء على الطبيعة الحساسة للموضوع الذي يتعلّق بحرية المواطنين، إلا أنه يُخفى خلفه واقعا موضوعيا لا يمكن غض الطرف عنه، يتمثّل في كون التعليمات التي وجهت إلى النيابات العامة ليست سهلة المنال كي تتم الاستجابة لها في ظرف أسبوع من طرف الجميع، لأن الكثير من النيابات العامة وُجّهت إليها الآلاف من طلبات الإكراه على مدى شهور وسنوات، وباشرت الإجراءات فيها رغم الضغوط المتعلقة بِقِلّة الموارد البشرية، وطلبُ استجابة الجميع للتعليمات الرامية إلى مراجعة كل الأوامر الصادرة عنها دون تحديد لفترة زمنية معيّنة هو من باب التكليف بما لا يُطاق، على اعتبار أن هناك طلبات الإكراه المتعلق بالمخالفات التي ترجع إلى سنوات ماضية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحوسبة حديثة العهد ولا تشمل كل القديم، فضلا عن كون التطبيقية المستعملة لم تصل بعد إلى مستوى الإحكام الذي يجعلها تُقدّم كل المعطيات المطلوبة بشكل سَلِس وفي وقت وجيز، ولهذا فهي قابلة للتطوير لتستجيب إلى كل الحاجيات التي من شأنها الإسهام في الرقي بعمل كتابات النيابات العامة وقُضاتها بَلْه برئاستها.
ثالثا: قراءة في بعض مضامين الرسالة الدورية 12 س/ر ن ع
لم يَكَد يمض أسبوع عن توصل النيابات العامة بمحاكم المملكة بالدورية العاشرة أعلاه، حتى توصلت بالرسالة الدورية رقم 12 س/ر ن ع حول نفس الموضوع، وقد اتخذت هي الأخرى الرسالة الدورية رقم 9 س/ ر ن ع مرجعا لها؛ وحَدّدت الكيفية التي تراها رئاسة النيابة العامة مُوافِقة للقانون على مستوى معالجة الإشكالات المتصلة بتطبيق مسطرة الإكراه البدني، ونَحسب أنها أهمّ دورية صدرت عن هذه الأخيرة في الموضوع، نظرا لما تناولته من إشكالات يتداخل فيها القانوني بالعملي، مما يتطلب منا وقفة للتأمل في مضمونها والإدلاء في شأنها بما يلي:
1- قبل الخوض في مضامين هذه الرسالة الدورية، نثير الانتباه إلى ملاحظة شكلية تتعلق باعتمادها الدورية 9 س / ر ن ع مرجعا لها، وهو الأمر الذي لا يستقيم مع جزء مُهِمّ مما تم تضمينه إيّاها، على اعتبار أن هذه الأخيرة خُصصت لتطبيق الإكراه البدني في مخالفات السير، في حين أنّ الأولى تتعلق بمقتضى أعم بكثير، يشمل تطبيق الإكراه البدني بشكل عام وفي كلّ المقررات القضائية التي حُكم فيها بغرامات مالية، ومن ثمّ فاتخاذ تلك الدورية مرجعا لا يستقيم من حيث الشكل، وكان الأولى جعلها رسالة دورية مستقلة وُضعت لرفع
إشكالات واقعية توصلت بها برئاسة النيابة العامة من عدد من النيابات؛
2- عالجت هذه الدورية موضوعا في غاية الأهمية يتعلق بتقادم الغرامات المطلوب تنفيذ الإكراه البدني بشأنها، وهو الموضوع الذي ما فتئ يطرح إشكالات واقعية وقانونية جمّة، نظرا لما ينتج عنه من تعارض بين رغبة الدولة في تنفيذ المقررات القضائية حفاظا على هيبتها وهيبة مؤسساتها واستخلاصا لمبالغ مهمة تستفيد منها خزينتها؛ وبين نصوص قانونية قد لا تحقق ذلك إذا تَمّ تنزيلها حرفيا؛ وقد ذكّرت هذه الدورية بمجموعة من المقتضيات القانونية المتعلقة بالموضوع، إلا أنها تبنّت بعض الاختيارات التي نرى ضرورة الوقوف
عندها ومساءلتها حول حدود انسجامها مع مقتضيات النص القانوني وحدود تأطيرها للممارسة المهنية؛
3- تحدثت الرسالة الدورية في محورها الأول عن الإجراءات القاطعة للتقادم، وربطت إياها بالمواد 648 وما يليها من قانون المسطرة الجنائية والمادة 138 من مدونة تحصيل الديون العمومية، وأوردتها على وجه التمثيل كالآتي: "[...] فمن آخر إجراء تُباشِره هذه المصالح كتبليغ الحكم أو توجيه الإنذار أو تقديم طلب الإكراه البدني للنيابة العامة يبدأ أجل جديد للتقادم"، إلا أنه بالرجوع إلى هاتين المادتين نجدهما تحتويان على تناقضات كثيرة جدا لازالت مثار نقاش، غَضّت الدورية عنها الطرف، هذا فضلا عن كونهما معا لم يتضمنا أيّ إجراء من إجراءات التحصيل، مما يُلزمنا بإثارة الملاحظات الآتية:
أ- جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 648 من قانون المسطرة الجنائية ما يلي: "ينقطع التقادم فيما يخص المصاريف القضائية والغرامات، بكل إجراء من إجراءات التحصيل يتم بمسعى من الجهات المأذون لها بتحصيل تلك الأموال"؛
ب- المادة 138 من مدونة تحصيل الديون العمومية تناولت آجال التقادم التي تختلف عَمّا جاء في قانون المسطرة الجنائية، حيث جعلته سنتين في المخالفات وخمس سنوات في الجنح وعشرين سنة في الجنايات؛ كما أنها تضم مقتضى آخر يتناقض مع مقتضيات المواد 649 و650 و651 من قانون المسطرة الجناية من حيث تاريخ الشروع في احتساب التقادم، إذ في الحين الذي جعلته هذه الأخيرة من تاريخ اكتساب المقررات القضائية لقوة الشيء المقضي به، جعلته مدونة تحصيل الديون العمومية من تاريخ النطق بالحكم، وهو ما يجعل إِدْرَاج المادة 138 أعلاه باعتبارها سَنَدا قانونيا في الموضوع مُشَوّشا على الموضوع بشكل كبير جدا، بل ومعرقلا للنجاعة المطلوبة في تنزيل مضامين الدورية ومن خلالها المقتضيات القانونية المتعلقة بتقادم الغرامات المحكوم بها.
4- مع أنّ المحور الأول لهذه الرسالة الدورية تحدث عن الإجراءات القاطعة للتقادم، إلا أن المادتين المشار إليهما فيها، لم يُحدّدا هذه الإجراءات لا على وجه التفصيل ولا على وجه الإجمال، والمادة التي تناولتها هي المادة 39 من مدونة تحصيل الديون العمومية وفق ما يلي: "تباشر إجراءات التحصيل الجبري للديون العمومية حسب الترتيب التالي: الإنذار؛ الحجز؛ البيع. ويمكن أيضا اللجوء إلى الإكراه البدني لتحصيل الضرائب والرسوم والديون العمومية الأخرى [...]"؛ وهو ما يعني أنّ هذه الإجراءات جاءت على وجه الحصر، ومن ثمّ فلا مجال للحديث عن تبليغ الحكم كأحد هذه الإجراءات، حسب ما جاء في الدورية أعلاه، فضلا عن كون تبليغ الأحكام يدخل في المرحلة السابقة لمرحلة تحصيل الغرامات باعتبارها دينا عموميا؛ ولعل سبب هذا الإدراج هو ما جاء في المادة 642 من قانون المسطرة الجنائية التي ربطت القيمة القانونية للإنذار بتبليغ المقرر القضائي حيث جاء فيها: "إذا لم يتم تبليغ مقرر الإدانة مسبقا للمدين، فإنه يتعين تبليغه قبل توجيه الإنذار. ولا يعتد بالإنذار غير المسبوق بتبليغ مقرر الإدانة"، ولابد من الإشارة هنا أن الأمر يتعلق بالشروط اللازم مُراقبتها قبل تطبيق الإكراه البدني وليس بالإجراءات القاطعة للتقادم، أي أنه لابد من التأكد من تبليغ المقرر القضائي أولا قبل الشروع في إجراءات التحصيل، فإن وقع سهو في ذلك، فإن الإجراءات المتعلقة بالتحصيل وعلى رأسها الإنذار تصبح والعدم سواء من الناحية القانونية، لأن هذا التبليغ شرط للشروع في تلك الإجراءات، و"الشرط ما لزم من عدمه عدم الشيء".
5- تناولت هذه الرسالة الدورية في محورها الثاني موضوعا تقنيا كثيرا ما يكون محطّ إشكالات عملية بخصوص تطبيق الإكراه البدني، يتعلق الأمر بتقادم الغرامات المحكوم بها دون المصاريف القضائية بناء على اختلاف الآجال القانونية المتعلقة بكل منهما، وذهبت رئاسة النيابة العامة إلى إعطاء تعليماتها بهذا الخصوص لكل النيابات العامة بمحاكم المملكة بضرورة الإيقاف الفوري للمسطرة في الملفات المعنية بهذا المقتضى وإرجاعها إلى كتابات الضبط لتقوم بإعداد طلبات جديدة تقتصر فقط على الشق غير المتقادم والمتعلق بالمصاريف القضائية، مع احترام كل الشروط المتطلبة قانونا لتنفيذ الإكراه البدني، وهو ما يجعلنا نتقدم بخصوصه بما يلي:
أ- الطلبات التي تتقدم بها كتابات الضبط بخصوص تطبيق الإكراه البدني لا تكتسي أية إلزامية، والاستجابة لها رهينة بمراقبة مؤسستين، هما النيابة العامة وقاضي تطبيق العقوبة، ومن ثمّ، فالقرار المتخذ بخصوص تلك الطلبات يُفترض أن يكون على وجه التفصيل وليس على وجه الإجمال، أي أنّ تقادم شق مما طُلب تطبيق الإكراه البدني بخصوصه، لا يُلغي قيمة الطلب بخصوص الشق الذي لم يتقادم؛
ب- يُفترض في قاضي تطبيق العقوبة أثناء تحديده للمدة المُقابلة لمبلغ الدين العمومي أن يُراعي ما تقادم منه مما لم يَطلهُ التقادم، ويوضحَ مرتكزات قراره في التعليل المقدّم من قِبَلِه لمنطوق الأمر الذي أصدره، وله كامل الصلاحية في تحديد تطبيق الإكراه البدني على جُزءٍ مما
طُلب أو على الكل؛
ج- القول بضرورة إرجاع الملفات برمتها وإخضاعها من جديد لنفس المسطرة على أساس أن تقتصر على الشق غير المتقادم لا يحقّق النجاعة المرجوة في تصريف الأشغال داخل المحاكم، فضلا عمّا يشكّله من إثقال لكاهل جهاز كتابة الضبط بأعباء إضافية يمكن تلافيها
بجعل ملتمس النيابة العامة وقرار قاضي تطبيق العقوبة مُقتصرا على ذلك الشق دون غيره؛
د- إرجاع الملفات يطرح إشكالا تقنيا يَصعب حلّه إن لم نقل يستحيل، لأن الملفات التي تَقدّم المحاسب العمومي فيها بطلب تطبيق الإكراه البدني، سبق له أن تحمّل بشأنها بكامل المبلغ المُضمن في طلبه، ويستحيل عليه إعادة التحمّل بجزء مما سبق أن تحمّل به إلا بعد التَّحلُّلِ من المبلغ الكلي، وبما أنّ الأداء لم يتم فليس أمامه إلا توجيه طلبٍ لإلغاء تلك المبالغ إلى الخازن الجهوي، الشيء الذي يُقابل بالرفض من طرف هذا الأخير كما جرت العادة بخصوص الملفات التي يُثار فيها التقادم؛ ومن ثم، يتعذر عَمَليا أن يتحمّل المحاسبون العموميون في المحاكم بنفس المبلغ مرتين.
إنّ ما سبق بيانه أعلاه، يجعل مقترح رئاسة النيابة العامة المتعلّق بإرجاع الملفات التي تقادمت فيها الغرامات دون المصاريف القضائية مُقترحا غير قابل للتنفيذ على مستوى الإجراءات المنوطة بالمحاسبين العموميين داخل المحاكم، والأولى الاكتفاء بمباشرة مسطرة الإكراه البدني على الشق غير المتقادم.
هذه مجرّد أمثلة عن التوجّه العام لرئاسة النيابة العامة بخصوص ما ورد في الرسالة الدورية 12 س/ ر ن ع، وهي كافية لتحديد المعالم الكبرى لذلك التوجه في أهمّ دورية صدرت عنها بخصوص تنفيذ الإكراه البدني.
رابعا: قراءة في بعض مضامين الرسالة الدورية رقم 15 س/ر ن ع
صدرت هذه الدورية أسبوعا فقط بعد الدورية 12 س/ر ن ع، وقد اعتبرت هذه الأخيرة مَرجعا لها، وهي في مُجملها مجرّد حثٍّ للنيابات العامة على التقيد بتلك الدورية وإحالة ما يُفيد التّقيّد بمضمونها على شكل إحصاء يُبيّن عدد ملفات الإكراه البدني التي تمت دراستها ومعالجتها، وعدد مذكرات البحث التي تم إلغاؤها بسبب تقادم العقوبة أو بسبب عدم تقيدها بالشروط القانونية لتطبيق الإكراه البدني، وأيضا عدد الملفات التي تم إرجاعها إلى كتابات الضبط لنفس الأسباب، وقد حدّدت أجل أسبوع لهذه النيابات للاستجابة للتعليمات، ومن ثمّ ينطبق عليها ما ينطبق على الدورية رقم 10 س/ر ن ع بهذا الشأن.
وخلاصة القول في هذا المطلب، أنّ رئاسة النيابة العامة قد تبنّت توجها يكتسي من الصرامة ما يكتسي من الحرص على الالتزام بمقتضيات النصوص القانونية الجاري بها العمل، ويفتح الباب على مصراعيه لتبني مقاربة تفاعلية جديدة في تدبير شؤون النيابة تتأسس على القرب من هموم المواطنين بشكل عام وتُراعي تظلماتهم، وإن كان عدد من المقترحات التي تقدمت بها يصعب تنزيلها على مستوى الممارسات المهنية داخل المحاكم، خاصة ما تعلق منها بالمواضيع مُتَعَددة المتدخّلين، والتي تستلزم فتح حوار بيني يُدلي فيه الجميع بوجهة نظرِه في الآليات القانونية التي يمكن اعتمادها في رفع الإشكالات الواقعية، وتحقيق النجاعة المتوخاة من طرف الجميع.
المبحث الثاني:
دوريات رئاسة النيابة العامة المتعلقة بالإكراه البدني
إشكاليات التنزيل
لاشك أنّ التوجه الذي تبنّته رئاسة النيابة العامة والذي يتميز بالصرامة على مستوى ربط الممارسة المهنية لقضاة النيابات العامة بالنصوص القانونية الجاري بها العمل، قد أرخى بظلاله على عمل كتابات الضبط بالمحاكم، خاصة أنّها وَجَّهت تعليماتها بضرورة مراجعة كل الملفات التي سبق أن حُرّرت فيها برقيات البحث، وتوقيف تنفيذ الإكراه البدني إذا ثبت تقادم الغرامات، وإرجاع هذه الملفات إلى كتابات الضبط أو حفظها بحسب الحالة، وهو ما يتطلب منّا التوقف مَلِيّا عند هذه التعليمات، لربطها بالنصوص القانونية المؤطِّرَة لها والممارسة المهنية المؤطَّرة بها من جهة أولى، وأيضا لتسليط الأضواء عن بعض الإشكالات الواقعية التي يمكن اعتبارها إفرازا مباشرا لها.
فما هو الإشكال المركزي الذي ينبثق عن إثارة تقادم الغرامات المحكوم بها وإيقاف تنفيذ الإكراه البدني بناء على ذلك ؟
ومَن هي الجهة التي تتحمل مسؤولية ضياع أموال طائلة على خزينة الدولة بسبب إثارة التقادم؟
وبما أنّ المحاسب العمومي داخل المحكمة مسؤول مسؤولية شخصية عن استخلاص تلك الغرامات التي أثارت النيابة العامة تقادمها، فهل يمكن تحميل هذه المسؤولية إلى قضاة النيابة العامة أو قاضي تطبيق العقوبة أو الضابطة القضائية في حالة ما إذا ثبت بأنّ هذه الدّيون
تقادمت بعد تقدِيمِه طلب الإكراه البدني بخصوصها ؟
وهل يمكن مباشرة تحصيل الدّين العمومي رغم تقادمه تلك الغرامات ؟
وما موقع الخزينة العامة من هذا النقاش ؟
أسئلة كثيرة طرحت نفسها بإلحاح بعد صدور الرسائل الدورية أعلاه، سنحاول مقاربة الجواب عنها في المطلبين أسفله.
المطلب الأول: تقادم الغرامات بين النصوص القانونية ودوريات رئاسة النيابة العامة
شددت الرسالة الدورية 12 س/ر ن ع بخصوص مراقبة قانونية تنفيذ الإكراه البدني على عدة مستويات، من بينها عدم تقادم الغرامة المحكوم بها، ومن ثمّ ضرورة إعمال المواد من 649 إلى 651 من قانون المسطرة الجنائية التي حددت مُدد التقادم في سنة بخصوص المخالفات، وأربع سنوات بخصوص الجنح، وخمسة عشر سنة بخصوص الجنايات، والكل ابتداء من تاريخ اكتساب المقرر القضائي القاضي بهذه العقوبة لقوة الشيء المقضي به[4]، وقد أخذت بعين الاعتبار كون جل ملفات التحصيل لا تقتصر على الغرامات بل تكون مُحمّلة إلى جانب هذه الأخيرة بالمصاريف القضائية التي فصلها القانون 86.23 المتعلق بالمصاريف القضائية في الميدان الجنائي، وحدَّدَ تقادمها في الفصل 52 منه في خمسة عشر سنة، الشيء الذي أكدته المادة 138 من مدونة التحصيل الديون العمومية؛ وقد رتّبت الرسالة الدورية أعلاه عدّة آثار على تقادم الغرامات المحكوم بها سواء كانت مرفقة بتقادم المصاريف القضائية[5] أو تقادمت دون هذه الأخيرة، لعلّ أبرزها هو إيقاف تنفيذ الإكراه البدني بناء على ذلك.
فكيف تعامل المشرع مع موضوع تقادم الغرامات ؟
وأيّ أثر لإثارة التقادم على مسؤولية المحاسب العمومي داخل المحكمة ؟
لقد عَرّت الدورية أعلاه على واقع يعرف إخلالا بالمقتضيات القانونية المنصوص عليها في كل من القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية ومدونة تحصيل الديون العمومية، إذ رغم تشديد الكثير من النصوص على سقوط الدين العمومي بتقادمه، ومن ثَمّ سقوط حق المحاسب العمومي في استخلاص ما تقادم، نجد على مستوى الواقع العملي إهمالا لا يُستهان به لهذه المقتضيات، بدعوى أن تلك الغرامات إنما تُستخلص لفائدة خزينة الدولة، وهو ما يجعلنا نتوقف عند ما جاء في كل من مدونة تحصيل الديون العمومية وقانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي، لنؤكد بأن ما جاءت به الرسالة الدورية 12 س/ر ن ع إنما هو تحصيل حاصل، كان يُفترض أن يكون واقعا عمليا، حتى لا تسقط محاكم المملكة في أزمة تدبيرية جَرّاء كمّ الملفات التي تُباشر فيها مسطرة الإكراه البدني بعد تقادم العقوبات المالية المحكوم بها.
أولا: أثر تقادم الغرامات من خلال مدونة تحصيل الديون العمومية[6]
تناولت مدونة تحصيل الديون العمومية هذا الموضوع في المادة 125 التي جاء فيها: "إن المحاسبين المكلفين بالتحصيل الذين تركوا أجل التقادم يمر دون القيام بإجراءات التحصيل أو الذين شرعوا فيها ثم تخلوا عنها إلى أن تقادمت الديون المعهود إليهم بتحصيلها، تسقط حقوقهم تجاه المدينين [...]"، وهذه المادة وإن كانت صريحة في كون عدم تحصيل الدين العمومي قبل تقادمه يترتب عنه سقوط حق المحاسب العمومي في استخلاصه باعتباره أثرا مباشرا لتقادم الغرامة، إلا أنه قد يذهب البعض إلى القول بأنّ المادة تحدّثت عن سقوط حق المحاسب العمومي في الاستخلاص ولا يلزم منه بالضرورة عدم متابعة مسطرة الإكراه البدني من قِبَل النيابة العامة، كما قد يعتبر البعض الآخر بأنّ هذه المادة تتعلق فقط بالمحاسبين الذين لم يُباشروا إجراءات التحصيل أو شرعوا فيها ثم تَخلّوا عنها قبل استخلاص الغرامات، وهما الاحتمالان اللذان يُعترض عليهما بما يلي:
1-
بخصوص الاحتمال المتعلق بعدم التلازم بين سقوط حق المحاسب العمومي في الاستخلاص وسقوط واجب النيابة العامة في تنفيذ الإكراه البدني، فمردود عليه بما يلي:
أ- سقوط الأصل الذي هو استخلاص الدين العمومي يترتب عنه بالضرورة سقوط ما تفرع عنه، أي تنفيذ الإكراه البدني بناء على عدم الأداء، لأن مباشرة النيابة العامة لمسطرة الإكراه البدني، تتأسّس على طلب المحاسب العمومي بعد امتناع المَدين عن أداء الدين العمومي المترتب في ذمّته؛
ب- بما أنّ طلب المحاسب العمومي فَقَدَ قيمته القانونية بمجرّد سقوط الدّين العمومي، فإن كل ما ترتب عنه من إجراءات يفقد سنده القانوني؛
ج- بما أنّ السبب في تحريك مسطرة الإكراه البدني هو ثبوت الدّين في ذِمّة المطلوب إكراهه، فإن سقوط هذا الدّين من ذِمّته بالتقادم، يُفضي بالضرورة إلى سقوط واجب النيابة العامة في مباشرة هذه المسطرة، لأن السبب -وكما هو معلوم- يَلزم من وجوده وجود الشيء ومن عدمِهِ عدمُهُ.
2- بخصوص الاحتمال الذي يربط هذه المادة بالمحاسبين الذين لم يُباشروا إجراءات التحصيل أو شرعوا فيها ثُم تَخلّوا عنها قبل
استخلاص الغرامات، ويؤسس على ذلك كون الغرامات التي تقادمت لأسباب أخرى لا ترجع إلى تقصير المحاسب العمومي يمكن أن تُباشَر فيها مسطرة الإكراه البدني، فهذا الاحتمال وإن بَدَا وجيها في بنائه، إلا أنه لا يستقيم من حيث فحواه، لعدة اعتبارات من بينها:
أ- العبرة هنا هي سقوط الدين العمومي بالتقادم وليس بالوسيلة التي أفضت إلى هذا التقادم، وسقوط الحق في الاستخلاص مُرتبط بهذه العلة
وليس بوسيلتها؛
ب- إذا كانت هذه المادة تؤطر سقوط الدين العمومي بالتقادم حتى وإن لم يستوف المحاسب العمومي كل الإجراءات لاستخلاص الغرامة المحكوم بها، فإنها من باب أولى أن تشمل سقوط هذا الدين إذا تقادم بعد استيفائه كل الوسائل القانونية دون أن تُفضي إلى النتيجة المتوخاة، كأن يباشر كل إجراءات التحصيل الممكنة قانونا بما فيها طلب الإكراه البدني وتُحال برقية البحث على الضابطة القضائية وتبقى دون نتيجة تُذكر إلى أن تتقادم العقوبة إما لمغادرة المدين مَقرّ سكناه الأصلي أو لعدم العثور عليه أو غير ذلك من الأسباب؛
ج- يُعضض هذا التوجه ما جاء في الفقرة الأولى من المادة 648 من قانون المسطرة الجنائية والتي جاءت عامة وتشمل كل حالات التقادم كما سنفصل فيه القول أسفله.
ثانيا: أثر تقادم الغرامات من خلال قانون المسطرة الجنائية
تناول قانون المسطرة الجنائية موضوع أثر تقادم الغرامات في الفقرة الأولى من المادة 648، وهي صريحة في كون تقادم الغرامة يُفضي بالضرورة إلى سقوط ما يترتب عنها، حيث جاء فيها: "يترتب عن تقادم العقوبة تخلص المحكوم عليه من آثار الإدانة إذا لم تكن العقوبة قد نفذت خلال الآجال المحددة في المادة 649 وما بعدها إلى المادة 651 بعده"، وأوّل أثر من آثار الإدانة هو تنفيذ تلك العقوبة عليه، سواء كانت مالية كما هو الحال بالنسبة للغرامات، أو بدنية كما هو الحال بالنسبة للإكراه البدني.
ولعله باد للعيان، أن المُشَرع سواء تعلق الأمر بمدونة تحصيل الديون العمومية أو قانون المسطرة الجنائية، يسير في نفس الاتجاه، أي عدم قانونية تنفيذ العقوبات المحكوم بها إذا طالها التقادم، وهو المقتضى القانوني الذي جاءت الرسالة الدورية رقم 12 س/ر ن ع لرئاسة النيابة العامة لِتَحُثّ على ضرورة الالتزام به، عبر دعوتها إلى التوقف الفوري عن تنفيذ الإكراه البدني في كل الملفات التي عَرفت تقادم الغرامات المحكوم بها، وأيضا عبر إلغاء برقيات البحث التي سبق تحريرها في الموضوع، وهو ما يعني أنّ الواقع العملي بمحاكم المملكة يعرف تساهلا غير يسير بهذا الخصوص، خاصة أن مُجرّد التلويح بتطبيق الإكراه البدني يجعل المطلوب إكراهه يهرع إلى أداء الغرامات المحكوم بها حتى وإن طالها التقادم؛ وهنا لابد من الوقوف عند موقف القانون الجنائي من استخلاص الغرامات المتقادمة أو إصدار أوامر مبنية على هذا الأساس، وهو ما سنفصل فيه القول أسفله.
ثالثا: أثر تقادم الغرامات من خلال مجموعة القانون الجنائي
هذا من المواضيع التي يُغَضّ عنها الطرف في الممارسة المهنية داخل المحاكم، من قِبل جلّ المعنيين به، سواء تعلّق الأمر بالمحاسبين العموميين أو بمن ينتدبونهم للقيام بمهام تحصيل الديون العمومية أو من قِبل قضاة النيابة العامة، ونُلاحظ بهذا الخصوص أنّ الرسالة الدورية أعلاه لم تُشر إليه رغم الصرامة الكبيرة التي تحتوي عليها.
جاء في الفصل 243 من القانون الجنائي: "يعد مرتكبا للغدر، ويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس وبغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم، كل قاض أو موظف عمومي طلب أو تلقى أو فرض أوامر بتحصيل ما يعلم أنه غير مستحق أو أنه يتجاوز المستحق، سواء للإدارة العامة أو الأفراد الذين يحصل لحسابهم أو لنفسه خاصة. تضاعف العقوبة إذا كان المبلغ يفوق مائة ألف درهم".
ولنا أن نتساءل هنا: ألا يُحِيل هذا الفصل بوجه من الوجوه على مسؤولية قضاة النيابة العامة في الحالة التي يُفضي فيها تنفيذهم للإكراه البدني رغم تقادم الغرامات إلى أدائها من قِبل المُطالَبين في الإكراه ؟ وأيضا مسؤولية المحاسبين العموميين الذي يُقْدِمون على استفاء تلك الغرامات المتقادمة حتى أصبح الإجراء اعتياديا ومألوفا داخل المحاكم.
إن التأمل في مقتضيات هذا الفصل يجعلنا نَخلُص إلى ما يلي
:
1- تحصيل ما لا يُستحق أو أكثر من المُستحق يعتبر ارتكابا لجريمة الغدر؛
2- سواء كان التحصيل لفائدة الإدارة العامة أو لفائدة الأفراد فالجريمة لا تتغير صفتها ولا عقوبتها؛
3- جريمة الغدر ثابتة في حق المحاسب المكلف بالتحصيل كما هي ثابتة في حق أي قاضي أو ضابط من ضباط الشرطة القضائية، سواء كان طالبا لاستخلاص مبالغ لم تعد مستحقة، أو كان مُتَلقّيا لها أو فرض أوامر بتحصيلها؛
4- عقوبة المحاسب المكلف بالتحصيل الذي يستخلص ما لا يُستحق أو القاضي الذي يُفضي تنفيذه للإكراه البدني على غرامات متقادمة إلى أداء هذه الأخيرة أو أيّ ضابط من ضباط الشرطة القضائية تثبت في حقه جريمة الغدر، هي الحبس من سنتين إلى خمس سنوات وغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم مع إمكانية أن تصل العقوبة الحبسية إلى عشر سنوات والغرامة إلى مائتي ألف درهم إن كان المبلغ المستخلص يتجاوز مائة ألف درهم.
لعلّ هذه المقتضيات المستخلصة من منطوق الفصل 243 من القانون الجنائي كافية لبيان حدود مسؤولية المحاسبين المكلفين بالتحصيل وكذا قضاة النيابة وضباط الشرطة القضائية فيما يتعلق بالديون التي سقطت بالتقادم ويتم مع ذلك مباشرة المساطر المُفضية إلى استخلاصها، ولمزيد من التفصيل يمكننا أن نتساءل: هل الغرامات المتقادمة تدخل في إطار مالا يُستحق أم لا ؟
يعترض البعض مدّعيا بأنّ اعتبار الديون العمومية المتقادمة مما لا يُستحق مُجانب للصواب، إلا أنه بالرجوع إلى المادة 648 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنصّ على ما يلي: "يترتب عن تقادم العقوبة تخلص المحكوم عليه من آثار الإدانة"، ولا معنى لتخلّصه من آثار الإدانة إلا اعتبار تلك الغرامات غير مستحقة، وهو نفس ما أشارت إليه مدونة تحصيل الديون العمومية في مادتها 125 حينما أكدت على سقوط حقّ المحاسبين تُجاه المدينين الذين تقادمت الغرامات المحكوم عليهم بأدائها.
فإذا صح هذا، فهل يمكن التسليم بأن كلا من المحاسبين العموميين بالمحاكم الذي يعملون على استخلاص المبالغ المتقادمة وقضاة النيابة الذين تُفضي مباشرتهم لمسطرة الإكراه البدني إلى أداء تلك الغرامات المتقادمة، و ضباط الشرطة القضائية الذين ينفذون أوامر النيابة العامة المتعلقة بهذا الشأن كل هؤلاء معنيون بجريمة الغدر ؟
لعلّ الفصل 243 صريح فيما ذهب إليه، فسواء كان المحاسب المكلف بالتحصيل أو قاضي النيابة العامة أو ضابط الشرطة القضائية طالبا أو متلقيا أو فارضا بمقتضى أمر، فهو معنيّ بالجريمة بمجرّد ثبوت تقادم الغرامة المطلوب استخلاصها والعمل مع ذلك على استيفائها بشتى الوسائل بما في ذلك تنفيذ الإكراه البدني.
هذه من الإشكالات العملية المترتبة عن إثارة التقادم أو عن استخلاص الغرامات المتقادمة، ولعلّها تجعل من الرسائل الدورية التي أصدرتها رئاسة النيابة العامة مُوَجّهة لواقع عملي حَادَ في العديد من الإجراءات عن المقتضيات القانونية اللازم احترامها في الممارسة المهنية داخل المحاكم بشكل عام ولقضاة النيابة بشكل خاص.
المطلب الثاني: إثارة النيابات العامة لتقادم الغرامات وأثره على مسؤولية المحاسبين العموميين
أدّى تنزيل الرسالة الدورية 12 س/ر ن ع من طرف النيابات العامة إلى إحداث الكثير من الارتباك في عدد لا يُستهان به من كتابات الضبط بمحاكم المملكة، والسبب في ذلك أن هذه الدورية جاءت لتُعالج واقعا استمر لسنوات طوال، أدى إلى تراكم عدد كبير جدا من طلبات الإكراه البدني بالنيابات العامة بناء على امتناع المدينين عن أداء ما بذمتهم من ديون عمومية مع عدم توفرهم على ما يمكن حجزه، وما أنْ أصدرت رئاسة النيابة العامة هذه الدورية حتى بدأت كتابات النيابة العامة بالمحاكم وتحت إشراف المسؤولين القضائيين لديها ونوابهم عملية مُراجعة ذلك الركام الهائل ثم ترتيب ما تراه ملائما بخصوص تلك الملفات، ومن تلك الترتيبات إحالة عدد كبير منها على كتابات الضبط لتعيد فيه الإجراءات كما هو وارد في تلك الدورية أو إلغاء برقيات البحث أو حفظ الملفات.
إن واقعا كهذا، أدى إلى طرح سؤال جوهري بخصوص الكم الهائل من الملفات التي تقادمت الغرامات المحكوم بها بعد إحالة طلبات تنفيذ الإكراه البدني على النيابات العامة، إذ وكما هو معلوم، فبمجرّد تكفّل المحاسبين العموميين بالمبالغ المحكوم بها والمنصوص عليه في المادة 133 من مدونة تحصيل الديون العمومية، يصبحون مُلزمين بتحصيلها ومسوؤلين مسؤلية شخصية عنها حسب المادة 6 من القانون رقم 61.99 المتعلق بتحديد مسؤولية الآمرين بالصرف والمراقبين والمحاسبين العموميين التي جاء في فقرتها الأولى: "يعتبر المحاسبون العموميون للدولة والجماعات المحلية وهيئاتها، [...] مسؤولين شخصيا وماليا في حدود الاختصاصات المسندة إليهم بمقتضى النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل عما يلي : [...] القبض القانوني للمداخيل المعهود إليهم بتحصيلها".
فإذا عُلم من النصوص القانونية الجاري بها العمل أن إكراه المدينين لا يُسقط الدين المترتب في ذمتهم[7]، بل يبقى المحاسب العمومي مُلزما بمواصلة التنفيذ على أموال المدينين مستقبلا إن ظهرت، وأنّ طلبات الإلغاء المؤسسة على تنفيذ الإكراه البدني في حق الملزم بالدين العمومي تُقابل بالرفض؛ فكيف سيكون الأمر بخصوص المبالغ التي دعت رئاسة النيابة العامة إلى عدم مباشرة مسطرة
تنفيذ الإكراه البدني بشأنها نظرا لتقادمها ؟
إن عددا لا يُستهان به من الغرامات تتقادم بعد إحالة طلبات الإكراه البدني على النيابة العامة، ولعلّ السبب في ذلك يرجع بالأساس إلى كون المُشرع لم يُخول لها أيّ إجراء قاطع للتقادم على هذا المستوى، حيث أورد هذه الإجراءات على سبيل الحصر كما سبق بيانه أعلاه، وآخر إجراء قاطع للتقادم هو تقديم طلب الإكراه البدني؛ فمن يتحمّل مسؤولية المبالغ المتكفّل بها بعد حِفظ تلك الملفات وبقائها في ذمة
المحاسب العمومي ؟
وهل يصح تحميل المسؤولية إلى هذا الأخير لمجرّد أنّه مسؤول بصفة شخصية عن استخلاصها رغم قيامه بكل ما خول له القانون القيام به ؟
هذا ما لا يمكن التسليم به، على اعتبار أن المشرع في المادة 125 من مدونة تحصيل الديون العمومية جعل المسؤولية لازمة في حقّه عند عدم القيام بالإجراءات اللازمة لقطع التقادم، أما والحالة هذه، فهل تُلقى المسؤولية على عاتق من ثبت تقصيره في القيام بما يلزم إلى أن تقادمت العقوبة ؟
بالرجوع إلى الواقع العملي، فإن تقادم الغرامات المحكوم بها بعد إحالة طلب تنفيذ الإكراه البدني، يتحمل مسؤوليته عدة أطراف، فقد يصدر التقصير من طرف كتابة النيابة العامة التي تتلقى طلبات الإكراه البدني من طرف كتابة الضبط، وقد يصدر من طرف قضاة النيابة العامة إذا لم يُباشروا المهام المنوطة بهم سواء قبل الإحالة على قاضي تطبيق العقوبة أو بعد الحصول على قرار هذا الأخير، كما يمكن أن يصدر التقصير من طرف قاضي تطبيق العقوبة إذا لم يقرر في شأن تلك الطلبات التي أحالتها عليه النيابة العامة، ويمكن أن يكون يصدر التقصير عن الضابطة القضائية التي تتوصل ببرقيات البحث ويمر أجل التقادم دون أن تستطيع تنفيذ ما طُلب منها لسبب أو لآخر.
فكيف يمكن تحديد المسؤوليات إذا كان كلّ هؤلاء مُلزمون بالقيام بالمهام المنوطة بهم والمتعلقة بمرحلة ما بعد تقديم طلبات الإكراه البدني
في أجل لا يتعدى سنة بخصوص المخالفات وأربع سنوات بخصوص الجنح ؟
فكلّ طرف من هؤلاء يحتفظ بالملف جزءا من الفترة المُحَدّدة للتقادم ولا يفتح له أجل جديد عند تسلّمه للملف أو تسليمه لطرف آخر؛ ولعلّ المشكل التشريعي القائم هنا، هو أن تلك المدة غير قابلة للتجزيء ولا للتجديد، فإذا بقي الطلب في كل مرحلة من هذه المراحل لفترة معينة أقل من مدة التقادم، لا يمكن إثبات التقصير في حق جهة دون أخرى ولا تحميلها تَبِعَة باقي الفترات.
لا شك أن فتح هذا النقاش يجعلنا ندخل في سلسلة من الاحتمالات التي يصعب معها الخروج بنتيجة دقيقة ومضبوطة إلا في الشق المتعلق بتقادم الغرامات لدى الضابطة القضائية، على اعتبار أن عددا كبيرا من الملفات -خاصة في المخالفات- حينما تصل إليها تكون على وشك التقادم بمرور سنة من تاريخ تحرير طلب تطبيق الإكراه البدني، وأيضا لأن عملية البحث عن المدينين كثيرا ما تعترضها عوائق موضوعية كتغيير عناوينهم أو أن هذه العناوين غير مضبوطة أو كونهم لا يترددون عليها إلا نادرا وفي أوقات غير منضبطة.
لابد في هذا المقام أن نُشير إلى مقتضى في غاية الأهمية، يتعلّق بما نصت عليه المادة 7 من القانون رقم 61.99 المتعلق بتحديد مسؤولية الآمرين بالصرف والمراقبين والمحاسبين العموميين والتي نصّت على ما يلي: "كل موظف أو عون يوجد تحت إمرة آمر بالصرف أو مراقب أو محاسب عمومي أو يعمل لحساب أحدهم، يمكن أن يعتبر مسؤولا بصفة شخصية محل الآمر بالصرف أو المراقب أو المحاسب العمومي إذا ثبت أن الخطأ المرتكب منسوب إلى الموظف أو العون المذكور"، وهو ما يعني أن المسؤولية الشخصية تثبت فقط في حق مَن يُزاول مهامه تحت إمرة المحاسب العمومي الذي قُدِّمَ طلب الإكراه البدني باسمه، ومن ثمّ تسقط مسؤولية قضاة النيابة العامة وقاضي تطبيق العقوبة والضابطة القضائية في هذا الباب، وتبقى المسؤولية كاملة للمحاسب العمومي والموظفين الذين يباشرون مهامهم تحت سلطته، ونخص بالذكر هنا: أولئك الذين يقومون بمهمة التحصيل والذين يحررون طلبات الإكراه وأيضا الذين يحتفظون بالملفات المحالة على قاضي تطبيق العقوبة إلى أن تتقادم الغرامات المحكوم بها؛ أما موظفو كتابة النيابة العامة فحتى لو تقادمت الغرامات بعد إحالة طلبات الإكراه البدني عليهم، فليست لهم أية مسؤولية شخصية في الموضوع لأنهم يباشرون مهامهم تحت إشراف رؤساء كتابة النيابة العامة.
إنّ ما سبق بيانه أعلاه، يولّد واقعا غريبا جدا، حيث إنّ المشرع جعل مسؤولية المحاسب العمومي الشخصية بخصوص تلك المبالغ المتحمّل بها رهينة بتقصيره في مباشرة إجراءات التحصيل، ولم يُحمّله أيّة مسؤولية إذا ما قام بالإجراءات اللازمة ثم تقادمت الغرامات بعد ذلك لسبب أو لآخر، وفي نفس الوقت لم يُحمّل الجهات الأخرى التي تسلّمت الملف أيّة مسؤولية مع أنه فتح لها أجلا كاملا يبدأ من تاريخ تحرير طلب تنفيذ الإكراه البدني؛ وفي مقابل كل هذا تبقى تلك المبالغ في ذمة المحاسب العمومي بالمحكمة، ومهما قدّم من طلبات للإلغاء فإنها تُقابلها بالرفض.
والأخطر من كل ما سبق، حسب ما أفضت إليه الرسالة الدورية أعلاه، والذي لا يوجد فيه مخرجٌ للمحاسبين العموميين بالمحاكم، يَكْمُن في الملفات التي تم إرجاعها إلى كتابة الضبط بعلة عدم استيفائها للإجراءات اللازمة، لكن بعد تقادم الغرامات المحكوم بها، لأنه والحالة هذه، يُصبح المحاسب العمومي مُعرّضا للمساءلة الشخصية بخصوص مبالغ ضخمة مع أنّه حينما أحال طلبات تنفيذ الإكراه البدني، كان أمام النيابة العامة أجل يتراوح بين سنة وأربع سنوات لإعادة تلك الملفات التي لم تُباشر فيها الإجراءات بشكل سليم، وهي حينما لم تقم بمراقبتها طيلة تلك المدة، فَوّتت على المحاسب العمومي إمكانية إصلاح المسطرة، وجعلته مسؤولا عن تلك المبالغ المتقادمة؛ لأنّ تقادمها أسقط حقّه في استخلاصها، وعدم سلامة الإجراءات أثبَت مسؤوليته الشخصية، ولا يُلتفتُ إلى كون الغرامات قد تقادمت بعد إحالتها على النيابة العامة أو بعد إحالتها على الضابطة القضائية، وهو ما نرى ضرورة إعادة النظر فيه على عدة مستويات نُجملها فيما يلي:
المستوى الأول: أهميّة تفعيل مقتضيات الرسالة الدورية لرئاسة النيابة العامة رقم 5 س/ر ن ع المتعلقة بضرورة احترام الأجل المعقول في تصريف الأشغال المنوطة بالنيابات العامة، ولعلّه من باب تحقيق النجاعة مراعاة الملفات المرتبطة بآجال محددة، ولمَ لا ترتيب
المسؤوليات على عدم الالتزام بذلك؛
المستوى الثاني: أهمية التدخّل التشريعي لتشطير المسؤولية، أو على الأقل لفتح أجل جديد للمحاسب العمومي لإصلاح المسطرة في الحالة
التي تكون فيها الغرامات قد تقادمت في يد مؤسسة أخرى، أو إعفاؤه من المسؤولية بهذا الخصوص؛
المستوى الثالث: أهمية وضع إطار قانوني مُحكم لطبيعة تعامل الخزينة العامة مع طلبات الإلغاء، يُراعي المقتضيات القانونية التي أشرنا إليها أعلاه، بخصوص الملفات التي باشر فيها المحاسبون العموميون كل الإجراءات المخولة لهم قانونا ثم تقادمت الغرامات المحكوم بها بين يدي أطراف أخرى ليست مسؤولة مسؤولية شخصية عن تلك الأموال التي تحمّل بها أولئك، ومن ثمّ ضرورة التنصيص على إلزامية قبول طلبات الإلغاء المقدّمة في هذا الشأن.
الخاتمة:
هذا غيض من فيض ما يُمكن فتح النقاش حوله مما تضمّنته الرسائل الدورية التي أصدرتها النيابة العامة، تلكم الرسائل التي لا شك أنها خلقت حركية جديدة في ردهات المحاكم، وأحدثت دينامية على مستوى التعاطي مع الكثير من الملفات، كما فتحت آفاقا أرحب لعلاقة المواطنين بشكل عام والمرتفقين بشكل خاص بمؤسسة كانت لزمن طويل موضع توجس مجتمعي، وكلّ هذه مؤشرات إيجابية على مستوى استشراف مستقبلٍ مختلفٍ في الكثير من تفاصيله فيما يتعلّق بالأداء المهني لقضاة النيابة العامة، والذي نتوقع من خلال رصدنا لوتيرة عمل رئاسة النيابة العامة أنّه سيعرف تطورا كبيرا، إن على مستوى إخضاعه بشكل أكبر للمقتضيات القانونية الجاري بها العمل أو على مستوى نجاعته في تصريف الأشغال.
إلا أنّ ما سبق، لا يجب أن يُفضي إلى خلق القطيعة الوظيفية بين مكونات المشهد القضائي بشكل عام، بناء على خصوصيات المهام المنوطة بكلّ جهاز على حدة، بل على العكس من ذلك، فالواجب أن تُستثمر هذه الدينامية الجديدة في توسيع مجال التدبير المشترك داخل المحاكم، لرفع الإشكالات المترتبة عن تنزيل النصوص القانونية، خاصة في القضايا التي تتداخل فيها المسؤوليات وتتعدد فيها مجالات التنزيل ومستويات التداول، كما هو الشأن بالنسبة لموضوع تنفيذ الإكراه البدني، الذي تتقاطع فيه مسؤوليات المحاسب العمومي بواجبات قضاة النيابة ومهام قضاة تطبيق العقوبة واختصاصات ضباط الشرطة القضائية.
لقد بيّنا بما لا يدع مجالا للشك أنّ توجه رئاسة النيابة العامة في مجال تنفيذ الإكراه البدني الذّي اتّسم بكثير من الصرامة، قد عَرّى جُزءا من الممارسة المهنية التي كانت تمسّ بحق من الحقوق المخوّلة للمدينين الذين تسقط العقوبات المحكوم بها في حقّهم بالتقادم ومع ذلك تُنفّذ عليهم رغما عن النص القانوني، أو الذين خول لم المشرّع مجموعة من الضمانات الواجب احترامها قبل الوصول إلى مرحلة التنفيذ ويتمّ مع ذلك غضّ الطرف عنها إما تغافلا أو تحت وطأة كثرة القضايا المعروضة أو رغبة في تحقيق النجاعة على مستوى النتائج وإن كان ذلك على حساب احترام قوانين الشكل التي تُقيّد تلك النتائج بمساطر دقيقة.
[1] من ذلك ما جاء على سبيل المثال في الرسالة الدورية رقم 3 س/ر ن ع من تعليمات للوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية من بينها: "أطلب منكم: أولا: عدم مغادرة مقار عملكم إلا في الحالات التي تكون الدعوات الموجهة إليكم تحمل تأشيرة هذه الرئاسة [...]"، وأيضا: "ونظرا لأهمية هذه التعليمات [...] أطلب منكم الحرص على تنفيذها بدقة"، وغير ذلك من الأمثلة.
[2] من ذلك ما جاء في الفقرة ما قبل الأخيرة من الرسالة الدورية رقم 9 س/ر ن ع التي طلبت من المسؤولين القضائيين التابعين لسلطتها بأن يستجيبوا فورا لتعليماتها الرامية إلى مراجعة كافة أوامر الاعتقال الصادرة في ملفات الإكراه البدني المتعلقة بالغرامات قصد التأكد من قانونية المسطرة المتبعة فيها.
[3] من ذلك على سبيل المثال ما ورد في الرسالة الدورية رقم 15 س/ر ن ع التي طلبت معلومات دقيقة حول ملفات الإكراه البدني دون أن تحدد السنوات المعنية بها محدّدة لذلك مهلة أسبوع، حيث جاء فيها: "ونظرا لأهمية هذه المعطيات في إبراز دور النيابة العامة في السهر على احترام الضمانات القانونية للأفراد قبل تطبيق الإكراه البدني في حقهم، فإني أدعوكم إلى التعجيل بموافاة رئاسة النيابة العامة بنتائج عملكم قبل تاريخ 15 مارس 2018" هذا مع أن هذه الدورية حرّرت بتاريخ 08 مارس 2018؛ ولابد من الإشارة هنا أن الرسالة الدورية التي قبلها والمتعلقة بنفس الموضوع طلبت معطيات رقمية دون أن تفصل في نوعها، ونخص بالذكر هنا الدورية رقم 12 س/ر ن ع، ومن ثم يصعب احتساب الأجل المتعلق بها بخصوص التعليمات الواردة في الرسالة الدورية اللاحقة.
[4] سبق أن أثرنا الانتباه إلى التناقض بين ما جاء في قانون المسطرة الجنائية ومدونة تحصيل الديون العمومية إن فيما يخص آجال التقادم كما جاءت في المادة 138 من هذه الأخيرة و المواد من 649 إلى 651 من قانون المسطرة الجنائية؛ أو فيما يتعلق بتاريخ بَدءِ حساب آجال التقادم الذي جعلته مدونة تحصيل الديون العمومية ينطلق من تاريخ صدور المقرر القضائي.
[5] وهو ما سبق أن فصلنا فيه القول أعلاه على مستوى رصد التوجه العام لرئاسة النيابة العامة من خلال رسائلها الدورية، وسنكتفي في هذا المبحث بمناقشة الآثار المترتبة عن الإجراءات التي جاءت في تعليمات رئاسة النيابة العامة في علاقتها مع مسؤولية المحاسبين العموميين بالمحاكم وما يحيط بها من إشكالات.
[6] للتفصيل أكثر في هذا الموضوع وما يتفرع عنه من إشكالات يُمكن الرجوع إلى النشور الخامس لمكتب الدراسات لإصلاح وتحديث الإدارة القضائية الذي صدر تحت عنوان: "وحدات التبليغ والتحصيل بمحاكم المملكة – أيّة آليات لتحقيق الحكامة القانونية والنجاعة الإدارية؟" وخاصة الفصل الأول من القسم الثاني الذي خصص للتقادم بين القانونية والتنظيمية وما جرى به العمل بمحاكم المملكة.
[7] وهو ما أكدته المادة 83 من مدونة تحصيل الديون العمومية التي جاء فيها: "لا يسقط الدين بحبس المدين، إلا أنه لا يمكن اعتقاله من جديد من أجل نفس الدين، باستثناء الحالة المنصوص عليها في المادة السابقة".