تعتبر شهادة الشهود من بين أهم الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها من أجل إثبات جرائم الأعمال في جل التشريعات الحديثة بما فيها التشريع المغربي، وإذا كانت النصوص الجنائية المكونة للقانون الجنائي للأعمال، تطرقت أكثر للوسائل العلمية الفنية، فإن هذا لا يعني استبعاد شهادة الشهود التي تبقى لها دورها في إثبات وتوضيح كثير من جرائم الأعمال.
والسند في كون شهادة الشهود، تبقى وسيلة من وسائل الإثبات في جرائم الأعمال، يجد أساسه في قانون المسطرة الجنائية، التي تبقى شريعة عامة على مستوى الإجراءات والإثبات، تمتد لتطبق على كل الجرائم التي نص عليها القانون أيا كان نوعها.
والشهادة هي إثبات واقعة ما، بناء على ما عاينه الشاهد أو سمعه أو أدركه، على وجه العموم بحواسه([1])، لذلك فشهادة الشهود في جرائم الأعمال لها قيمتها الإثباتية، يخضع العمل بها للسلطة التقديرية للمحكمة.
والمشرع المغربي خول إمكانية الإثبات بواسطة الشهود([2]). لذلك نجده نظم في قانون المسطرة الجنائية كيفية الاستماع إليهم من طرف قاضي التحقيق، وكذلك هيئة الحكم وشروط ذلك([3]).
والإثبات بشهادة الشهود في جرائم الأعمال، يصطدم بمجموعة من الحواجز، أهمها إعتماد الشاهد على ذاكرته من جهة، واعتماده على إدراكه الشخصي أثناء أداء الشهادة من جهة ثانية.
إذن أية شهادة يدلي بها الشاهد فإنه يعتمد فيما يدلي به على الذاكرة، هذه الأخيرة التي يصعب عليها تخزين كل المعلومات والوقائع التي تصل إلى علم الشاهد. لذلك فإنه في أحيان كثيرة يصعب على الشاهد تذكر كل الوقائع والحيثيات المتعلقة بجريمة ما، خاصة إذا مر على ارتكابها مدة ليست بقليلة، بل إنه يكون ملزما بأدائها بشكل شفوي، وفي ظروف قد تؤثر على كيفية أدائه لها، أما الاستعانة بالمكتوبات لا يكون إلا استثناء. هكذا نصت المادة 337 من قانون المسطرة الجنائية على أنه "يؤدي الشاهد شهادته شفهيا ويمكنه بصفة استثنائية أن يستعين بمذكرات بإذن من رئيس الهيئة"([4]).
لذلك يمكن القول على أن الاعتماد على شهادة الشهود لإثبات جرائم الأعمال، وإن كان يساعد على الإثبات في بعضها، فإنه في البعض الآخر قد لا يساعد على ذلك، نظرا لكون الذاكرة الإنسانية معرضة للنسيان([5]) خاصة بالنسبة للجرائم التي تعتمد على تخزين معلومات دقيقة.
هكذا فشهادة الشهود قد لا تساعد في أحيان كثيرة، على إثبات الركن المادي المكون للجريمة الاقتصادية، إما لتعرض ذاكرة الشاهد للنسيان، أو لعدم قدرتها على استيعاب فعل ما بالكيفية الواجبة لإدراك وتميز الفعل الجرمي.
جرائم الأعمال، هي جرائم يرتكبها في الغالب أشخاص لهم كفاءة علمية جد عالية، وبالتالي فالشاهد الذي يعاين فعل جرمي معين، لابد أن يكون له إدراك وكفاءة بدوره عالية، حتى يستطيع تميز هذا الفعل الجرمي، والإبلاغ عنه بالكفيفة الواجبة، فجرائم الأنترنيت مثلا، يصعب على أي شاهد أن يفسر أو يخبر المحكمة عن الوقائع المادية المكونة لها، ما دام لا يتوفر على كفاءة في مجال المعلوميات، تؤهله لتميز تصرف ما أيا كانت طبيعته شرعية أم غير شرعية.
لذلك فحتى يتم إثبات جرائم الأعمال -خاصة منها التقنية- لابد أن يكون لكل من شاهد أو عاين واقعة معينة دراية علمية وكفاءة تقنية تؤهله لتميز الأفعال الجرمية عن غيرها، فالشاهد في هذه الحالة - وإذا استثنينا حالة الشهادة على الأقوال والمعاينات العادية- فإنه يستحيل عليه في كثير من الأحيان الإدلاء بشهادة تقنية بالكيفية المطلوبة، لأنه يفتقد أصلا تلك الدراية التقنية، حتى يدركها بحواسه([6]) ففاقد الشيء لا يعطيه.
غالبا ما يكون مرتكب الفعل الجرمي في جرائم الأعمال، صاحب مقاولة له مجموعة من الأنشطة التجارية، وأعماله كلها تتم بواسطة أشخاص يستخدمهم ويؤدي لهم أجرهم. لذلك فإن أقرب الأشخاص إليه والذين يمكنهم الإدلاء بشهادة ضده، غالبا ما يكونون تابعين له في إطار علاقة الشغل، وبالتالي يصعب على هؤلاء الإدلاء بشهادتهم في مواجهة مشغلهم.
وهذا يعني أن إجبارهم على الشهادة ضد مشغلهم، يعني بصورة أو أخرى فقدانهم لمورد عيشهم، لذلك قد يفضلون الامتناع عن الشهادة أو قد يدلون بشهادة مجاملة تجنبهم الحكم عليهم بغرامة مالية، إذا امتنعوا صراحة عن الإدلاء بالشهادة.
وتأثير علاقة التبعية على الأجراء فيما يتعلق بالإدلاء بالشهادة ضد المشغل لوحظ في فرنسا بالنسبة لمراقب الحسابات، إذ أن هذا الأخير والذي تم تكليفه من طرف المشرع الجنائي بالتبليغ عن الجرائم التي يكتشفها بمناسبة عمله لا يقوم بالتبليغ إلا بالنسبة للجرائم الخطيرة([7])، وذلك راجع إلى أن مراقب الحسابات، يبقى جزء لايتجزأ من المنظومة الرامية إلى حماية مصالح المقاولة التي يعمل بها.
كل هذا يؤكد على أن العلاقة التبعية التي تجمع المشغل بالأجير يصعب أن تتيح الفرصة للمستخدم للإدلاء بشهادة بأريحية، بخصوص أية جريمة قد يرتكبها المشغل، ما دامت شهادته ضده بشكل واضح قد تعرضه إلى الطرد من العمل. وربما هذه إحدى الأسباب التي جعلت بعض الفقه يذهب إلى القول بأن شهادة الشهود قرينة مشكوك فيها([8]) لأنها قد تكون بعيدة عن الصدق والإخلاص.
إذا كانت الشهادة تعرف على أنها تعبير عن مضمون الإدراك الحسي([9])، فالملاحظ أن هناك مجموعة من جرائم الأعمال، يصعب أن يتم إدراك الوقائع المكونة لها بالحس، لكونها جرائم تتم دون شهود، من قبيل ذلك تزوير العلامات التجارية وتحريفها، والغش في البضائع، فهذه الجرائم تقوم على أعمال تقنية محضة يصعب على شاهد عادي إثبات التزوير أو التحريف اللاحق بها بشكل مجرد، بل إن المشرع في القانون المنظم للملكية الصناعية والتجارية، جعل إثبات التحريف أو التزوير الذي يلحق العلامة التجارية متوقف على مجموعة من الإجراءات، أهمها إنجاز محضر وصفي للسلع موضوع تزوير العلامة. وكذلك نص على ضرورة حجز نماذج من هذه السلع، تم بعد ذلك ترفع الدعوى بخصوص تزوير أو تحريف العلامة التجارية لدى المحاكم التجارية، التي قد تستعين بخبرة تقنية في الموضوع، وبعد صدور حكم نهائي في موضوع التزوير أو التحريف اللاحقة بالعلامة التجارية. آنذاك يمكن لصاحب العلامة اللجوء إلى النيابة العامة من اجل تطبيق النصوص الجنائية المتعلقة بتزوير العلامة وتحريفها.
الخلاصة أن شهادة الشهود في جرائم الأعمال تبقى جد محدودة نظرا لطبيعة الأفعال الجرمية التي ترتكب في مجال الأعمال، والتي يوظف فيها المجرم قدرة علمية ومالية جد هائلة، يصعب على الشاهد إدراكها ما لم تكن له على الأقل كفاءة مماثلة، بل إنه حتى وإن كانت عنده هذه الكفاءة، فإن علاقة التبعية التي قد تجمعه بالمجرم قد تجعل شهادته غير حاسمة، خشية من فقدان مورد عيشه، مما يفرض اللجوء إلى وسائل أخرى من أجل الإثبات .
كثير من الفقه يميز في الجرائم بين الجرائم الطبيعية،([10]) والجرائم المصطنعة، هذه التفرقة سبق وأن نادى بها الفقيه جاروفالو أحد أقطاب المدرسة الوضعية([11])، فالجرائم الطبيعية هي التي تشكل انتهاكا لمبادئ الاستقامة والأخلاق، وتمس بالشعور العام للمجتمع، في حين أن الجرائم المصطنعة تفتقد إلى مثل الإحساس، لأنها جرائم من صنع القانون وليست نابعة من ضمير المجتمع([12]).
فهذه الجرائم وجدت لحماية مصالح مستحدثة في المجتمع، عكس الجرائم التقليدية التي ترتبط بوجدان وشعور المجتمع.
لذلك يمكن القول على أن الشاهد في الجرائم الطبيعية أو التقليدية، يؤدي الشهادة اعتمادا على وازعه الديني والأخلاقي، الذي يجعله يشعر بمسؤولية أخلاقية ودينية تجاه المجتمع، وتجاه المتضرر من هذا النوع من الجرائم. فالشاهد مثلا في جريمة إيذاء جسدي أو سرقة يؤدي الشهادة، وهو متمسك بما يفرضه عليه ضميره وأخلاقه، لأنه على يقين أن شهادته ستنصف الضحية، وستقتص من الجاني الذي مس بالشعور العام للمجتمع.
هذا في الوقت الذي قد لا يشعر الشاهد بهذا الإحساس، بمناسبة الحديث عن الجرائم المصطنعة، فالوازع الديني والأخلاقي لديه قد لا يعتبر جريمة من الجرائم المصطنعة من طرف القانون، تمس القيم الاجتماعية والأخلاقية، وبالتالي لا يرى فيها تهديدا لقيم المجتمع ولا يعيرها أي اهتمام، مما يعني أن شهادته لن تكون بتلك القوة متى تعلق الأمر بالجرائم الطبيعية أو التقليدية، بل إنه عند معاينة الجاني يقترف الفعل الجرمي، فانه لا يعتبر ذلك مخالفة للقانون الأخلاقي والقيم الاجتماعية، وبالتالي قد لا يعير هذه الواقعة الاهتمام اللازم، الذي قد يجعل شهادته فيما بعد مساعدة ومفيدة في إثبات الفعل الجرمي([13]).
لذلك فالشاهد عند الاستماع إليه أمام المحكمة بمناسبة مناقشة جريمة من الجرائم المصطنعة، فإنه قد يشفق على الجاني ويبادر إلى عدم الإدلاء بالتصريح بالكيفية اللازمة، إيمانا منه أنه ينقذ مظلوم من محاكمة غير عادلة، فينقلب الشاهد من وسيلة إثبات للإدانة إلى وسيلة إثبات للبراءة.
وطبعا هو قد يقوم بذلك بعد أداء اليمين، ولا يؤنبه ضميره الديني والأخلاقي لأن الجريمة المصطنعة، بالنسبة له ليست جريمة، وإنما هو فعل مفتعل أريد به فقط إدانة شخص لم يرتكب جريمة بالمعنى الطبيعي، الذي سبقت الإشارة له.
ولما كانت جرائم الأعمال معظمها جرائم مصطنعة، فإن إثباتها يتأثر بدوره بالوازع الديني والأخلاقي للشاهد، وبالتالي فإن هذا الأخير قد يفسر الجريمة المصطنعة التي قد يرتكبها الظنين، على أنها مجرد افتراء أريد به أن يحاكم شخصا محاكمة جنائية غير عادلة، لأن السلوك المعاقب عليه كما يقول بعض الفقه المغربي([14]) لا يدرك الرجل العادي خطره على سلامة المجتمع ونموه.
إذن هذا التميز الذي تعرفه جرائم الأعمال - والتي تعتبر في الغالب جرائم مصطنعة- قد يؤثر على شهادة الشاهد الذي قد لا يعتبر الجرائم المصطنعة، تمثل شذوذا في السلوك كما يقول بعض الفقه([15]).
الخلاصة أن فعالية الإثبات بواسطة شهادة الشهود في جرائم الأعمال، تبقى جد محدودة، نظرا لطبيعة الأفعال الجرمية في مجال الأعمال، والتي يوظف فيها المجرم قدرة علمية ومالية جد هائلة، يصعب على الشاهد إدراكها ما لم تكن له على الأقل كفاءة مماثلة لتلك التي يتوفر عليها مرتكب الفعل الجرمي، بل إنه حتى وإن كانت عنده هذه الكفاءة، فإن علاقة التبعية التي قد تجمعه بالمجرم قد تجعل شهادته غير حاسمة خشية من فقدان مورد عيشه متى توجه بشهادة تضر مشغله.
لذلك يبقى اللجوء إلى وسائل إثبات أخرى، لإثبات جرائم الأعمال أمرا ضروريا وملحا، خاصة إذا علمنا أن الشاهد، وهو يمتنع عن الإدلاء بشهادته أو يؤديها بشكل محتشم، يأخذ بعين الاعتبار أن جرم الأعمال هو جرم مصطنع، لا يمس وازعه الديني والأخلاقي، لأن الجرائم الاقتصادية، هي بالنسبة له لا تمس مبادئه، لأنها مجرد جرائم مبتدعة من طرف القانون، لا تخدش شعور المجتمع كما تفعل الجرائم الطبيعية أو التقليدية.
وفي هذا الإطار، لوحظ على أن القضاء المغربي، لم يقبل إلا الشهادة التي تحقق الاقتناع الوجداني للقاضي([16])، وبعدما أن راجت أمامه، وتلمس مصداقيتها ومراعاة الشهود فيما يدلون به من شهادة لشعورهم الديني.
هكذا مثلا استبعد قرار لمحكمة النقض([17]) (المجلس الأعلى سابقا) شهادة الشهود المدلى بها أمام الضابطة القضائية واعتمد على شهادة نفس الشهود التي أديت أمام المحكمة بعد أداء اليمين وذلك في جريمتي الاتجار في المخدرات ومسك التبغ المهرب، والتي تعتبر من بين جرائم الأعمال، هكذا جاء في حيثيات هذا القرار
"حيث إنه بالرجوع إلى القرار المطعون فيه تبين أنه ألغى الحكم الابتدائي فيما قضى به من براءة المتهم الطاعن من أجل جنح حيازة والاتجار فيها وتسهيل استهلاكها للغير ومسك التبغ المهرب، وأدانه من أجلها اعتمادا على ما صرح به المصرحون أمام الضابطة القضائية مستبعدا ما شهد به هؤلاء أمام المحكمة بعد أدائهم اليمين القانونية معتبرا أن تلك الشهادة تفتقر إلى المصداقية، وأن القرار ... يكون قد خالف القانون وعلى وجه الخصوص الفصل 289 من قانون المسطرة الجنائية الذي نص على أنه "لا يمكن للقاضي أن يبني مقرره إلا على حجج عرضت أثناء الإجراءات ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامه ويكون بالتالي فاسد التعليل ومنعدم الأساس ومعرضا للنقض والإبطال...".
هكذا من خلال هذا القرار، يلاحظ على أن الشهود في هذه النازلة أدلوا بشهادة متناقضة أمام المحكمة عن تلك التي أدلوا بها أمام الضابطة القضائية، وقد ذهبت محكمة النقض في قرارها المذكور إلى اعتماد الشهادة التي راجت أمام المحكمة والتي تم الإدلاء بها بعد أداء اليمين القانونية، على اعتبار أن القاضي الجنائي يجب أن يطمئن للشهادة التي راجت أمامه بعد أداء اليمين القانونية([18]) ولا يطمئن إلى شهادة تم الإدلاء بها لجهات أخرى لأن ظروف الإدلاء بالشهادة وإن لم يشر إليها قرار محكمة النقض صراحة أمام الضابطة القضائية تختلف عن ظروف الإدلاء بها أمام المحكمة، فالأولى تمت دون أداء اليمين في حين أن الثانية صرح بها بعد أداء اليمين القانونية.
الهوامش
والسند في كون شهادة الشهود، تبقى وسيلة من وسائل الإثبات في جرائم الأعمال، يجد أساسه في قانون المسطرة الجنائية، التي تبقى شريعة عامة على مستوى الإجراءات والإثبات، تمتد لتطبق على كل الجرائم التي نص عليها القانون أيا كان نوعها.
والشهادة هي إثبات واقعة ما، بناء على ما عاينه الشاهد أو سمعه أو أدركه، على وجه العموم بحواسه([1])، لذلك فشهادة الشهود في جرائم الأعمال لها قيمتها الإثباتية، يخضع العمل بها للسلطة التقديرية للمحكمة.
والمشرع المغربي خول إمكانية الإثبات بواسطة الشهود([2]). لذلك نجده نظم في قانون المسطرة الجنائية كيفية الاستماع إليهم من طرف قاضي التحقيق، وكذلك هيئة الحكم وشروط ذلك([3]).
والإثبات بشهادة الشهود في جرائم الأعمال، يصطدم بمجموعة من الحواجز، أهمها إعتماد الشاهد على ذاكرته من جهة، واعتماده على إدراكه الشخصي أثناء أداء الشهادة من جهة ثانية.
1- اعتماد الشهادة على الذاكرة
لذلك يمكن القول على أن الاعتماد على شهادة الشهود لإثبات جرائم الأعمال، وإن كان يساعد على الإثبات في بعضها، فإنه في البعض الآخر قد لا يساعد على ذلك، نظرا لكون الذاكرة الإنسانية معرضة للنسيان([5]) خاصة بالنسبة للجرائم التي تعتمد على تخزين معلومات دقيقة.
هكذا فشهادة الشهود قد لا تساعد في أحيان كثيرة، على إثبات الركن المادي المكون للجريمة الاقتصادية، إما لتعرض ذاكرة الشاهد للنسيان، أو لعدم قدرتها على استيعاب فعل ما بالكيفية الواجبة لإدراك وتميز الفعل الجرمي.
2- اعتماد الشهادة على قدرة الإدراك والكفاءة العلمية للشهود
لذلك فحتى يتم إثبات جرائم الأعمال -خاصة منها التقنية- لابد أن يكون لكل من شاهد أو عاين واقعة معينة دراية علمية وكفاءة تقنية تؤهله لتميز الأفعال الجرمية عن غيرها، فالشاهد في هذه الحالة - وإذا استثنينا حالة الشهادة على الأقوال والمعاينات العادية- فإنه يستحيل عليه في كثير من الأحيان الإدلاء بشهادة تقنية بالكيفية المطلوبة، لأنه يفتقد أصلا تلك الدراية التقنية، حتى يدركها بحواسه([6]) ففاقد الشيء لا يعطيه.
3- وجود علاقة التبعية
وهذا يعني أن إجبارهم على الشهادة ضد مشغلهم، يعني بصورة أو أخرى فقدانهم لمورد عيشهم، لذلك قد يفضلون الامتناع عن الشهادة أو قد يدلون بشهادة مجاملة تجنبهم الحكم عليهم بغرامة مالية، إذا امتنعوا صراحة عن الإدلاء بالشهادة.
وتأثير علاقة التبعية على الأجراء فيما يتعلق بالإدلاء بالشهادة ضد المشغل لوحظ في فرنسا بالنسبة لمراقب الحسابات، إذ أن هذا الأخير والذي تم تكليفه من طرف المشرع الجنائي بالتبليغ عن الجرائم التي يكتشفها بمناسبة عمله لا يقوم بالتبليغ إلا بالنسبة للجرائم الخطيرة([7])، وذلك راجع إلى أن مراقب الحسابات، يبقى جزء لايتجزأ من المنظومة الرامية إلى حماية مصالح المقاولة التي يعمل بها.
كل هذا يؤكد على أن العلاقة التبعية التي تجمع المشغل بالأجير يصعب أن تتيح الفرصة للمستخدم للإدلاء بشهادة بأريحية، بخصوص أية جريمة قد يرتكبها المشغل، ما دامت شهادته ضده بشكل واضح قد تعرضه إلى الطرد من العمل. وربما هذه إحدى الأسباب التي جعلت بعض الفقه يذهب إلى القول بأن شهادة الشهود قرينة مشكوك فيها([8]) لأنها قد تكون بعيدة عن الصدق والإخلاص.
4- استحالة الشهادة في بعض جرائم الأعمال
الخلاصة أن شهادة الشهود في جرائم الأعمال تبقى جد محدودة نظرا لطبيعة الأفعال الجرمية التي ترتكب في مجال الأعمال، والتي يوظف فيها المجرم قدرة علمية ومالية جد هائلة، يصعب على الشاهد إدراكها ما لم تكن له على الأقل كفاءة مماثلة، بل إنه حتى وإن كانت عنده هذه الكفاءة، فإن علاقة التبعية التي قد تجمعه بالمجرم قد تجعل شهادته غير حاسمة، خشية من فقدان مورد عيشه، مما يفرض اللجوء إلى وسائل أخرى من أجل الإثبات .
5- ارتباط الشهادة بالوازع الأخلاقي
فهذه الجرائم وجدت لحماية مصالح مستحدثة في المجتمع، عكس الجرائم التقليدية التي ترتبط بوجدان وشعور المجتمع.
لذلك يمكن القول على أن الشاهد في الجرائم الطبيعية أو التقليدية، يؤدي الشهادة اعتمادا على وازعه الديني والأخلاقي، الذي يجعله يشعر بمسؤولية أخلاقية ودينية تجاه المجتمع، وتجاه المتضرر من هذا النوع من الجرائم. فالشاهد مثلا في جريمة إيذاء جسدي أو سرقة يؤدي الشهادة، وهو متمسك بما يفرضه عليه ضميره وأخلاقه، لأنه على يقين أن شهادته ستنصف الضحية، وستقتص من الجاني الذي مس بالشعور العام للمجتمع.
هذا في الوقت الذي قد لا يشعر الشاهد بهذا الإحساس، بمناسبة الحديث عن الجرائم المصطنعة، فالوازع الديني والأخلاقي لديه قد لا يعتبر جريمة من الجرائم المصطنعة من طرف القانون، تمس القيم الاجتماعية والأخلاقية، وبالتالي لا يرى فيها تهديدا لقيم المجتمع ولا يعيرها أي اهتمام، مما يعني أن شهادته لن تكون بتلك القوة متى تعلق الأمر بالجرائم الطبيعية أو التقليدية، بل إنه عند معاينة الجاني يقترف الفعل الجرمي، فانه لا يعتبر ذلك مخالفة للقانون الأخلاقي والقيم الاجتماعية، وبالتالي قد لا يعير هذه الواقعة الاهتمام اللازم، الذي قد يجعل شهادته فيما بعد مساعدة ومفيدة في إثبات الفعل الجرمي([13]).
لذلك فالشاهد عند الاستماع إليه أمام المحكمة بمناسبة مناقشة جريمة من الجرائم المصطنعة، فإنه قد يشفق على الجاني ويبادر إلى عدم الإدلاء بالتصريح بالكيفية اللازمة، إيمانا منه أنه ينقذ مظلوم من محاكمة غير عادلة، فينقلب الشاهد من وسيلة إثبات للإدانة إلى وسيلة إثبات للبراءة.
وطبعا هو قد يقوم بذلك بعد أداء اليمين، ولا يؤنبه ضميره الديني والأخلاقي لأن الجريمة المصطنعة، بالنسبة له ليست جريمة، وإنما هو فعل مفتعل أريد به فقط إدانة شخص لم يرتكب جريمة بالمعنى الطبيعي، الذي سبقت الإشارة له.
ولما كانت جرائم الأعمال معظمها جرائم مصطنعة، فإن إثباتها يتأثر بدوره بالوازع الديني والأخلاقي للشاهد، وبالتالي فإن هذا الأخير قد يفسر الجريمة المصطنعة التي قد يرتكبها الظنين، على أنها مجرد افتراء أريد به أن يحاكم شخصا محاكمة جنائية غير عادلة، لأن السلوك المعاقب عليه كما يقول بعض الفقه المغربي([14]) لا يدرك الرجل العادي خطره على سلامة المجتمع ونموه.
إذن هذا التميز الذي تعرفه جرائم الأعمال - والتي تعتبر في الغالب جرائم مصطنعة- قد يؤثر على شهادة الشاهد الذي قد لا يعتبر الجرائم المصطنعة، تمثل شذوذا في السلوك كما يقول بعض الفقه([15]).
الخلاصة أن فعالية الإثبات بواسطة شهادة الشهود في جرائم الأعمال، تبقى جد محدودة، نظرا لطبيعة الأفعال الجرمية في مجال الأعمال، والتي يوظف فيها المجرم قدرة علمية ومالية جد هائلة، يصعب على الشاهد إدراكها ما لم تكن له على الأقل كفاءة مماثلة لتلك التي يتوفر عليها مرتكب الفعل الجرمي، بل إنه حتى وإن كانت عنده هذه الكفاءة، فإن علاقة التبعية التي قد تجمعه بالمجرم قد تجعل شهادته غير حاسمة خشية من فقدان مورد عيشه متى توجه بشهادة تضر مشغله.
لذلك يبقى اللجوء إلى وسائل إثبات أخرى، لإثبات جرائم الأعمال أمرا ضروريا وملحا، خاصة إذا علمنا أن الشاهد، وهو يمتنع عن الإدلاء بشهادته أو يؤديها بشكل محتشم، يأخذ بعين الاعتبار أن جرم الأعمال هو جرم مصطنع، لا يمس وازعه الديني والأخلاقي، لأن الجرائم الاقتصادية، هي بالنسبة له لا تمس مبادئه، لأنها مجرد جرائم مبتدعة من طرف القانون، لا تخدش شعور المجتمع كما تفعل الجرائم الطبيعية أو التقليدية.
وفي هذا الإطار، لوحظ على أن القضاء المغربي، لم يقبل إلا الشهادة التي تحقق الاقتناع الوجداني للقاضي([16])، وبعدما أن راجت أمامه، وتلمس مصداقيتها ومراعاة الشهود فيما يدلون به من شهادة لشعورهم الديني.
هكذا مثلا استبعد قرار لمحكمة النقض([17]) (المجلس الأعلى سابقا) شهادة الشهود المدلى بها أمام الضابطة القضائية واعتمد على شهادة نفس الشهود التي أديت أمام المحكمة بعد أداء اليمين وذلك في جريمتي الاتجار في المخدرات ومسك التبغ المهرب، والتي تعتبر من بين جرائم الأعمال، هكذا جاء في حيثيات هذا القرار
"حيث إنه بالرجوع إلى القرار المطعون فيه تبين أنه ألغى الحكم الابتدائي فيما قضى به من براءة المتهم الطاعن من أجل جنح حيازة والاتجار فيها وتسهيل استهلاكها للغير ومسك التبغ المهرب، وأدانه من أجلها اعتمادا على ما صرح به المصرحون أمام الضابطة القضائية مستبعدا ما شهد به هؤلاء أمام المحكمة بعد أدائهم اليمين القانونية معتبرا أن تلك الشهادة تفتقر إلى المصداقية، وأن القرار ... يكون قد خالف القانون وعلى وجه الخصوص الفصل 289 من قانون المسطرة الجنائية الذي نص على أنه "لا يمكن للقاضي أن يبني مقرره إلا على حجج عرضت أثناء الإجراءات ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامه ويكون بالتالي فاسد التعليل ومنعدم الأساس ومعرضا للنقض والإبطال...".
هكذا من خلال هذا القرار، يلاحظ على أن الشهود في هذه النازلة أدلوا بشهادة متناقضة أمام المحكمة عن تلك التي أدلوا بها أمام الضابطة القضائية، وقد ذهبت محكمة النقض في قرارها المذكور إلى اعتماد الشهادة التي راجت أمام المحكمة والتي تم الإدلاء بها بعد أداء اليمين القانونية، على اعتبار أن القاضي الجنائي يجب أن يطمئن للشهادة التي راجت أمامه بعد أداء اليمين القانونية([18]) ولا يطمئن إلى شهادة تم الإدلاء بها لجهات أخرى لأن ظروف الإدلاء بالشهادة وإن لم يشر إليها قرار محكمة النقض صراحة أمام الضابطة القضائية تختلف عن ظروف الإدلاء بها أمام المحكمة، فالأولى تمت دون أداء اليمين في حين أن الثانية صرح بها بعد أداء اليمين القانونية.
الهوامش
[1] - محمد زكي أبو عامر: مرجع سابق، صفحة 205.
[2] - عرف فقهاء المالكية الشهادة على أنها إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه، وعرفها الحنفية، بأنها اخبار صدق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء، للتفصيل أكثر أنظر: عبد القادر إدريس: " الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي " طبعة 2010، صفحة35
[3] - المادة 117 إلى المادة 133 من قانون المسطرة الجنائية بالنسبة لاستماع قاضي التحقيق لشهادة الشهود.
[4] - في هذا الإطار ذهبت محكمة النقض المصرية إلى تعريف الشهادة كما يلي: "ان الشهادة تقوم على إخبار شفوي يدلي به الشاهد في مجلس القضاء بعد يمين يؤدها على الوجه الصحيح" نقض مصري رقم6/1/1964 أشار إليه احمود فالح الخرابشة: "الإشكالات الإجرائية للشهادة في المسائل الجزائية، دراسة مقارنة"، دار الثقافة للنشر والتوزيع، طبعة2010، صفحة32.
[5] - جندي عبد المالك: مرجع سابق صفحة124.
[6] -وفي هذا الإطار يمكن استحضار رأي لمحكمة النقض المصرية، عرفت بموجبه الشهادة، على أنها " هي في الأصل تقرير شخصي لما يكون قد رآه أو سمعه أو أدركه على وجه العموم بحواسه " تعريف أشار إليه: احمود فالح الخرابشة: مرجع سابق، صفحة33.
[7] - سناء الوزيري: " السياسة الجنائية في ميدان الشركات التجارية " أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، كلية الحقوق اكدال الرباط، الموسم الجامعي2005-2006 ، صفحة244.
[8] - جندي عبد المالك: مرجع سابق صفحة124.
[9] - عبد العزيز سليم: مرجع سابق، صفحة332.
[10] - محمد حماد الهيتي: "الخطأ المفترض في المسؤولية الجنائية" دار الثقافة للنشر والتوزيع ، عمان الأردن 2005، الصفحة53.
[11] - أورده: محمد حماد الهيتي: مرجع سابق، صفحة53.
[12] - أحمد الخمليشي: " شرح القانون الجنائي " الجزء الأول، الطبعة الخامسة، صفحة135.
[13] - وهنا لابد من الاشار، إلى أن المشرع المغربي، جعل الاستماع الى شاهد محكوم عليه بعقوبة جناية أو محروم من أداء الشهادة، يتم دون أداء اليمين القانونية، وعلى سبيل الاستئناس فقط، نظرا لارتباط الشهادة بالوازع الأخلاقي والديني، الذي قد لايكون حاضر لدى الشاهد الذي له سوابق قضائية، أتناء أدائه لها( المادة332 من قانون المسطرة الجنائية).
أنظر في هذا الإطار: احمود فالح الخرابشة، مرجع سابق، صفحة60
أنظر في هذا الإطار: احمود فالح الخرابشة، مرجع سابق، صفحة60
[14] - أحمد الخمليشي: مرجع سابق، صفحة135.
[15] - المرجع نفسه، صفحة 136.
[16]- في إطار المبدأ الذي يخول للمحكمة تقدير الشهادة أنظر في هذا الإطار:
- عمرو عيسى الفقي: " ضوابط الإثبات الجنائي " منشأة المعارف الإسكندرية 1999 الطبعة غير مذكورة صفحة59.
- عمرو عيسى الفقي: " ضوابط الإثبات الجنائي " منشأة المعارف الإسكندرية 1999 الطبعة غير مذكورة صفحة59.
[17] - قرار عدد 544/9 بتاريخ 6/4/2005 في الملف جنحي عدد 20986/2001 منشور بمجلة الملف: العدد 9 نونبر 2006، الصفحة 264.
[18]- في إطار مبدأ حرية اقتناع القاضي الجنائي أنظر:
- Jean Larguier : procédure pénal;p 310.
- Jean Larguier : procédure pénal;p 310.