MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



صلاحية النيابة العامة بين سلطة الاتهام والملاءمة

     

د / العربي محمد مياد
باحث في العلوم القانونية والادارية


لا يسع المرء إلا أن يفتخر بدستور بلاده وقوانيه، التي جعلت من السلطة القضائية سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وجعلت من جلالة الملك الضامن لاستقلال السلطة القضائية، وأنه يلزم قضاة الحكم إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكامهم إلا على أساس التطبيق العادل للقانون .
وقد سرني وأنا أطلع على الموقع الرسمي للنيابة العامة بالمغرب ، التفاعل الايجابي الذي توليه هذه المؤسسة مع كل الجهات الرسمية وغير الرسمية بما يتضمنه من معلومات واحصائيات بل وتجيهات وأشغال في تناغم مريح مع مقتضيات الدستور ولا سيما في الجانب المتعلق في الحق في المعلومة طبقا للفصل 27 ، الذي يدخل ضمن الجيل الجديد لحقوق الانسان.
ولا غرو أن أعضاء النيابة العامة جزء لا يتجزأ من أسرة القضاء ، غير أنه طبقا للفقرة الثانية من الفصل 110 من الدستور " يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون ، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعونها، وأنه طبقا للفصل 116 من الدستور " يراعي المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، في القضايا التي تهم قضاة النيابة العامة ، تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعونها ."
ولنا أن تساءل عن المقصود بالسلطة التي يتبعونها ، هل المجلس الأعلى للسلطة القضائية في شخص الرئيس المنتدب ؟ أم المقصود هو الوكيل العام لدى محكمة النقض باعتباره رئيس النيابة العامة ؟
طبقا للمادة 25 من النظام الأساسي للقضاة، يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين. كما أنه طبقا للمادة 43 من نفس القانون يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها وفق الشروط والكيفيات المحددة في القانون.
كما يلتزم قضاة النيابة العامة بالامتثال للأوامر والملاحظات القانونية الصادرة عن رؤسائهم التسلسليين، أي الوكلاء العامين للملك ونوابهم ووكلاء الملك وذلك حسب الجهة القضائية التي يباشرون فيها عملهم . .
وفي هذا الإطار لابد من التذكير أنه يبلغ عدد قضاة النيابة العامة حاليا حوالي ألف قاضية وقاضي (997) أي حوالي 25% من مجموع قضاة المملكة، من بينهم 159 قاضية (بنسبة 16% من قضاة النيابة العامة) .ويتوزع قضاة النيابة العامة حاليا على الشكل التالي:
محكمة النقض: 46 قاضيا بنسبة 4.61%؛_
محاكم الاستئناف العادية: 257 قاضيا بنسبة 25.77%؛
محاكم الاستئناف التجارية: 6 قضاة بنسبة 0.60%؛_
المحاكم الابتدائية العادية ومراكز القضاة المقيمين: 671 قاض بنسبة 67.30%؛_
المحاكم التجارية: 17 قاضيا بنسبة 1.70%؛_
ويوجد من بين قضاة النيابة 26 قاضيا يمارسون مهامهم خارج بنايات المحاكم في إطار الالحاق يجهات إدارية علىى الخصوص (معلومات مستقاة من موقع النيابة العامة بالمغرب ).
يستشف من كل ما ذكر، أن من حق أعضاء النيابة العامة عدم الالتزام بالتعليمات الشفوية الموجهة إليهم ، وكذا التعليمات الكتابية غير القانونية ، وهنا يسترجع قاضي النيابة العامة استقلاله وتجرده كزميله قاضي الحكم . وهذا ما أكدت عليه المادة 38 من قانون المسطرة الجنائية بنصها على أن النيابة العامة حرة في تقديم الملاحظات الشفوية التي تراها ضرورية لفائدة العدالة .
وبحكم الفضول العلمي استرعاني أول منشور رقم 1 الصادر عن رئيس النيابة العامة بمجرد تسلمه مهامه من وزير العدل ابتداء من سابع أكتوبر 2017 تنفيذا لمقتضيات المادتين 111 و 117 من النظام الأساسي للقضاة والمادة 10 من القانون رقم 17 _ 33 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة وبسن قواعد لتنظيم رئاسة النيابة العامة ؛ وقد تضمن هذا المنشور فقرة نرى فيها كحقوقيين أنها في غاية الأهمية تبشر بتحول جدري في منظور السلطة القضائية عامة والنيابة العامة خاصة لقرينة البراءة وما يترتب عنها من آثار على الحرية الفردية للمشتبه فيهم .ونعني بها الفقرة 6 من النقطة المتعلقة بحماية الحقوق والحريات المتعلقة بترشيد الاعتقال الاحتياطي وتفعيل بدائلة ، حيث تضمنت تعليمات قوية تعبر عن بوادر سياسة جنائية جديدة ، حيث تأكد بالملموس لرئيس النيابة العامة بأن نسبة مهمة من المعتقلين احتياطيا تنتهي قضاياهم بالبراءة ،وهو أمر يسائل ضمائر قضاة النيابة العامة لتعارضه مع مبدأ قرينة البراءة . وأن 15 في المئة من المعتقلين احتياطيا يفرج عنهم إما بالسراح المؤقت أو لأنهم لم يحكم عليهم سوى بمجرد غرامة أو بحبس موقوف التنفيذ .
إثر ذلك طلب رئيس النيابة من مرؤوسيه قضاة النيابة ،عقلنة تطبيق الاعتقال الاحتياطي وترشيده ، والاهتمام بمعالجة قضايا الاعتقال الاحتياطي على 3 مستويات :
_ المستوى الأول : عدم الايداع رهن الاعتقال الاحتياطي إلا في الحالات التي تتوفر فيها الشروط القانونية وأنه إجراء ضروري ولا يمكن للإجراءات البديلة تعويضه ، بالإضافة إلى وجود قرائن قوية أو وسائل إثبا ت كافية ،
_ المستوى الثاني :العمل على إحالة الملفات المطعون فيها بالاستئناف أو النقض إلى المحاكم المختصة فور الطعن فيها ؛
_ المستوى الثالث: الحرص على تفعيل بدائل الاعتقال الاحتياطي مع التاكيد على الدور الايجابي للنيابة العامة في تفعيل العدالة ،التي جعلها المشرع من أولويات السياسة الجنائية التصالحية كبديل لتحريك المتابعة في بعض القضايا ،وذلك بغية الحفاظ على العلاقات الاجتماعية وتخفيف العبء عن المحاكم .

وهذا ما يدفعنا أن نتساءل عن صلاحيات النيابة العامة المتعلقة في مرحلة تحريك الدعوى العمومية ؟ وهل اتخاذ قرار الاعتقال الاحتياطي يتم بناء على قناعة قضاة النيابة العامة أم لا بد من تعليمات كتابية بذلك من رؤسائهم ؟
وطبقا للمادة 40 من قانون المسطرة الجنائية المعدلة بمقتضى القانون رقم 32.18 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف بتاريخ 8 يوليو 2019، يتلقى وكيل الملك المحاضر والشكايات والوشايات ويتخذ بشأنها ما يراه ملائما .
ويستشف من هذه المادة رغم تعديلها ، أن المشرع المغربي ظل متشبتا بالأسلوب المتبع في تحريك المتابعة الجنائية ، أي السلوب التقديري ومؤداه أنه يبقى لسلطة النيابة العامة سلطة تقديرية في ما يرد عليها من بلاغات وشكايات بإرتكاب أفعال جرمية ويكون بالتالي من حقها تحريك المتابعة أو حفظ الملف .
ويرى أستاذنا الفقيه أحمد الخمليشي أن عيب هذا الأسلوب أنه " يجعل من النيابة العامة محكمة تتولى تقدير قيمة وسائل الإثبات مع أن هذا ليس من اختصاصها بالإضافة إلىأنه يسهل عليها امكانية التحيز والمحاباة ".( راجع مؤلفه شرح قانون المسطرة الجنائية ، الجزء الأول ط 1980، مكتبة المعارف ص38 ). وهذا عكس الأسلوب القانوني الذي يفرض على النيابة فتح المتابعة ضد أي شخص قدمت به شكاية أو وشاية حتى لو كانت ملفقة .
ونحن نعتقد بأن المشرع المغربي أحسن صنعا عندما اعتمد الأسلوب التقديري في مجال تحريك الدعوى العمومية وفتح المجال للمتضرر بالموازاة مع ذلك امكانية سلوك الإدعاء المباشر أمام قاضي التحقيق أو المحكمة من أجل إثارة المتابعة والمطالبة بالتعويض .
لكن يظل السؤال العريض إلى أي حد يمكن للنيابة العامة ممارسة السلطة التقديرية ومعها سلطة الملاءمة بخصوص الاعتقال الاحتياطي ؟
قبل الجواب على هذا السؤال المحوري نرى من الفائدة التذكير بالمنشور رقم 44 بتاريخ 15 نونبر2018 والدورية رقم 5 بتاريخ 29 يناير 2019 ، الذي أصدرهما رئيس النيابة العامة في موضوع ترشيد الاعتقال الاحتياطي. حيث حث في المنشور الأول كل من المحامي العام الأول لدى محكمة النقض والوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية على ترشيد الاعتقال الاحتياطي خاصة وأن العديد من الأشخاص يتم اعتقالهم احتياطيا دون وجود مبررات قانونية تدعو إلى ذلك ، وأحيانا في قضايا لا تتوفر فيها وسائل كافية وتنتهي بالبراءة . كما أنه دعا في الدورية 5 رؤساء مؤسسات النيابة العامة إلى تتبع حالات الاعتقال الاحتياطي بصفة شخصية ، ومحاولة تأطير مساعديهم نحو استعمال هذه الآلية القانونية في أضيق الحدود باعتبارها تدبيرا استثنائيا .
وعلى هذا الأساس يؤكد رئيس النيابة العامة أن تدابير الاعتقال الاحتياطي هي تدابير استثنائية لا يلجأ إليها إلا لماما ، تماشيا مع القاعدة الكونية والدينية " البراءة هي الأصل " .وأن هذا المبدأ يجب أن يتحول إلى ثقافة معتمدة لدى السلطات العمومية وعلى رأسها من أو كل لهم الدستور تطبيق القانون وحماية الحقوق الشخصية والحريات.
وبالاطلاع على الاحصائيات الرسمية المستقاة من موقع رئاسة النيابة العامة نجد ما يلي :
نسبة الاعتقال الاحتياطي من مجموع الساكنة السجنية مجموع المعتقلين الاحتياطيين مجموع الساكنة السجنية السنوات
5،42% 30083 70785 2012
2،43% 3133 72005 2013
5،42% 31850 74941 2014
98،40% 30340 74039 2015
45،40% 31840 78716 2016

بينما عدد الحكام الموقوفة التنفيذ في قضايا المعتقلين الإحتياطيين حسب جهة الاعتقال خلال ينة 2018 كانت كالتالي :
عدد الحكام الموقوفة التنفيذ الجهة المصدرة للأمر بالإعتقال
741 الوكيل العام
7807 وكيل الملك
567 قاضي التحقيق
50 قاضي التحقيق للأحداث
186 قاضي الأحداث
60 رئيس غرفة الجنايات الابتدائية في محكمة الاستئناف
9411 المجموع العام

والحاصل أن نسبة الأشخاص المعتقلين احتياطيا تكاد تكون نصف الساكنة السجنية ، مما يثقل كاهل رجال المؤسسة السجنية ، ويصيب قرينة البراءة في مقتل ، وقد نجد في بعض الأحيان أن أشخاصا قد يقضون مدة غير يسيرة وراء القطبان أو يطلق سراحهم وهو في وضعية الاعتقال الاحتياطي.
وقد يسأل سائل لماذا يتم اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي بهذه النسبة العالية وكأنها المسطرة الأصلية وليس الاستثنائية ؟
بالرجوع إلى تقريررئيس النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة برسم سنة 2018 ، يجد الباحث أنه وقع تخفيض ملموس بخصوص معدل الاعتقال الاحتياطي إذ نزل عن سقف 40 في المئة بين الساكنة السجنية .غير أن التحكم في الاعتقال الاحتياطي يتطلب جملة من الاجراءات لعل أهمها توفير بدائل قانونية ، الزيادة في عدد القضاة ولا سيما على مستوى محاكم الاستئناف من أجل ضمان البت في القضايا المعروضة في أسرع وقت ، إذ تسجل محاكم الاستئناف لوحدها وجود 80 في المئة من مجموع المعتقلين الاحتياطيين (25740 من 32732 معتقلا احتياطيا بالسجون ).
وإذا كان تضخم المعتقلين الاحتياطيين أمرا غير مستحسن من طرف رئيس النيابة العامة بالمغرب ، فلماذا إذن يعمل به في قضايا يرى الرأي العام الوطني أنها لا تتطلب هذا الإجراء الاستثنائي ؟
في اعتقادنا لا يجب اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي إلا في الحالات التي لا تتوفر وسائل بديلة، كما أن المعول عليه هو تحقق مجموعة من الشروط ، من أبرزها :
_أن يكون الجاني خطيرا عن النظام العام وسلامة الأشخاص والممتلكات ؛
_أن يكون الفعل المقترف خطيرا وأن حجم الأضرار الناجمة عنه جسيمة ؛
_أن تكون أداة الجريمة خطيرة أوغير عادية ؛
_عدم وجود ضمانات كافية لحضور الجاني أمام قضاة الحكم .
وحتى مع توفر كل هذه الشروط ، فإن الأمر بالاعتقال الاحتياطي يجب أن يكون معللا تعليلا كافيا وقانونيا، مستحضرا مبدأ "قرينة البراءة ".
والحاصل ، أنه إذا كان المشرع المغربي أخذ بسلطة الملاءمة في عمل وصلاحيات النيابة العامة، وبالتالي لا تكون هذه المؤسسة القضائية حرة في ممارسة هذا الاختصاص بل سلطاتها مقيدة بمبدأين اثنين، المبدأ الأول المشروعية والمبدأ الثاني الملاءمة المقيدة.
ونقصد بالمشروعية في تقديرنا ، اعتماد كل تصرفات جهاز النيابة العامة على النص القانوني الصريح إذ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وأن الشك يفسر لمصلحة المتهم . وفي هذا اقرار لقاعدة المساواة بين المواطنين جمعاء. بينما تقدير الملاءمة كما قال الفقيه محمد سمير عبد الفتاح لا يمكن أن يكون مبنيا على الوقائع وحدها دون الاعتداد بالقانون وإلا صار من الممكن أن يصبح تعسفيا. (راجع مؤلفه النيابة العامة وسلطاتها في انهاء الدعوى الجنائية بدون محاكمة ط 1991 ص 155).










الجمعة 20 سبتمبر 2019
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter