منذ البداية نشير إلى أن دراستنا لموضوع استراتيجية الفاعل الحزبي من أجل التموقع داخل محيطه لن تكون شاملة لجل عناصره وإشكالياته الأساسية، بل إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى محاولة لاستجلاء بعض النقط التي تعتبر معطى أساسي في عمل الفاعل داخل المجموعة التي يتعايش فيها كل الفاعلين ومن خلالها الحديث عن علاقة الفاعل الحزبي بالنظام أو الفضاء العام أو المحيط، وذلك باستعانتنا بأدوات التحليل الاستراتيجي التي أسس لها "ميشيل كروزييه وايرهارد فريدبيرج" في كتابهما الفاعل والنسق/النظام، الصادر في 1977، واللذان ركزا على تحليل سلوك الفاعل والفعل الاجتماعي وعلاقات السيطرة والنفوذ والصراع داخل المجموعة.
قد يتساءل القارئ عن أسباب اختيار حزب العدالة والتنمية كنموذج لهذه الدراسة، الجواب بكل بساطة هو محاولة فهم سلوك وإستراتيجية هذا الفاعل من أجل التموقع داخل النسق السياسي، خاصة وأن هذا الحزب منذ سنة 1999، تاريخ تغيير اسمه من الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية- المنشقة في الأصل عن الحركة الشعبية- لحزب العدالة والتنمية، وهو مصطف في موقع المعارضة، بالضبط منذ الولاية التشريعية السادسة (1997-2002)، حيث كان يتوفر على مجموعة نيابية تتكون فقط من 9 نواب، وهو في الحقيقة عدد المقاعد البرلمانية التي حصل عليها الحزب في الاستحقاقات التشريعية المجراة بتاريخ 13 يونيو 1997، فهذا الحزب الذي دخل البرلمان أول مرة سنة 1997، "لم يكن له وزن سياسي" داخل المشهد الحزبي عامة والمؤسسة التشريعية خاصة، وهذا الفاعل لما دخل البرلمان أول مرة لم يمارس معارضة قوية، بل اكتفى بلعب دور المساندة النقدية للأغلبية الحكومية التي قادها حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية.
ولم ينتقل هذا الحزب إلى ما سماها بالمعارضة الناصحة إلا بعد سنتين ونصف، وذلك بعد أن تَحَلَّلَ من موقف المساندة النقدية للأغلبية الحكومة، وقد برزت أولى تجليات هذا الموقف بدءا بمغادرة فريقه موقع العمل من داخل فرق الأغلبية والتصويت ضد مشروع القانون المالي لسنة 2001 واستمر في هذا الموقف حتى نهاية الولاية التشريعية، ولكن هذا الموقف الجديد، المتمثل في معارضة الحكومة سيبلغ أوجه منذ أن قرر الفريق النيابي للحزب توجيه عريضة طعن لدى المجلس الدستوري بخصوص بعض مقتضيات القانون المالي لسنة 2002.
التساؤل الذي يطرح نفسه هنا بقوة، كيف انتقل هذا الحزب الذي لم يكن يملك سوى 9 مقاعد في الولاية التشريعية السادسة 1997-2002، إلى حزب يتوفر على 107 مقاعد في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، و125 مقعدا في انتخابات 2016؟، ثم إلى أي حد تسعفنا أدوات التحليل الاستراتيجي لميشيل كروزييه في استجلاء الأسباب الكامنة وراء هذا التحول؟.
1- قوة نابعة من البناء التنظيمي والداخلي للحزب
ينطلق "ميشيل كروزييه وايرهارد فريدبيرج" في تحليلهما للتنظيم باعتباره نتاجا لمجموع إرادات الأفراد، فهو بناء جماعي قائم على التعاون والتفاوض عن طريق الخضوع الواعي لجميع الإرادات لقواعد التنظيم المبنية، مبدئيا، على حد أدنى من التوافق وليس الإكراه، وكلما كانت القواعد المنظمة للتنظيم واضحة ومتوافق بشأنها كلما كان التنظيم عقلانيا في أهدافه وأفعاله، وفي حالة بروز خلافات يتم حلها بالتفاوض دون أن تهدد وحدة التنظيم القائمة على ضرورة الحفاظ على الحرية النسبية لباقي الفاعلين.
وهكذا، وبالاطلاع على النظام الأساسي لحزب العدالة والتنمية نجده يقوم على نظام الجهوية واللامركزية واللاتمركز في تسيير شؤونه الداخلية وفق نظام واضح قائم على مبدأ التكامل والانسجام، واعتماد الديمقراطية في اتخاذ القرار والتكليف بالمسؤوليات والتداول على المسؤولية، كما يُخْضِع اختيار مرشحيه لمختلف الاستشارات الانتخابية والمناصب السياسية لمبدأ "الكفاءة" والأمانة والقدرة على المهام التمثيلية، بل نجده أخضع اختيار مرشحي الحزب للاستشارات الانتخابية لمسطرة خاصة تتمثل في إحداث لجان للترشيحات (م 97) هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نجد بأن الهندسة المجالية للحزب قائمة على مبدأ الانتخاب، حيث أن الكاتب الجهوي للحزب يتم انتخابه من لدن المؤتمر الجهوي (م56)، والكاتب الإقليمي ينتخبه المؤتمر الإقليمي (م69)، بينما الكاتب المحلي يتم انتخابه من قبل المؤتمر المحلي (م81)، وهذه الهندسة المجالية تنضبط لها الأجهزة الترابية بإرادتها بعيدا عن الإكراه، لأنها تضمن لهم صلاحية التقرير الذاتي بالشكل الذي يسمح لكل الهيئات المجالية للحزب بالحفاظ على هامش حريتها في الفعل والمناورة، فمثلا نجد بأن المؤتمر الجهوي للحزب هو أعلى هيئة تقريرية على صعيد الجهة، والمؤتمر الإقليمي أعلى هيئة تقريرية على المستوى الإقليمي يليه المؤتمر المحلي باعتباره أعلى هيئة تقريرية للحزب على صعيد الفرع المحلي، وهي نفس الهندسة المطبقة على أجهزة الانضباط الحزبي التي تخضع بدورها لأسلوب اللامركزية من خلال هيئات التحكيم الجهوية وإمكانية إحداث هيئات تحكيم بين جهوية (م89).
هذه الهندسة المجالية اللامركزية، تضمن هامشا من حرية التقرير للأجهزة المجالية للحزب، ونجدها غائبة في العديد من الأحزاب التي تشدد أنظمتها على فكرة المركزية، وهذا حال حزب الإستقلال، بحيث نجد بأن المجلس الإقليمي يقوم بتوجيه شؤون الحزب الإقليمية في نطاق قرارات المجلس الوطني وتوجيهات اللجنة التنفيذية (ف39)، وأكثر من هذا نجد بأن صلاحية اللجنة التنفيذية تمتد لتعيين مفتش (ة) في كل عمالة وإقليم مهمتهم تبليغ توجيهات اللجنة التنفيذية للحزب (ف 44 و45)، وهذا الأسلوب الذي يفقد الفاعل على المستوى المحلي هامش حريته يسري حتى على المجلس الجهوي الذي يتولى صلاحية تنسيق أنشطة الحزب بالجهة في نطاق قرارات المجلس الوطني وتوجيهات اللجنة التنفيذية (ف48).
نفس الأمر ينطبق على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي بالرغم من كون نظامه الداخلي ينص على اعتماد أسلوب الديمقراطية، إلا أن فكرة المركزية حاضرة، بحيث أنه يتعين على الأجهزة التنفيذية الأدنى الانضباط لقرارات الأجهزة التنفيذية الأعلى، وتتشكل هذه المركزية نزولا من المكتب السياسي إلى الكتابة الجهوية إلى الكتابة الإقليمية ثم مكتب الفرع، بل بإمكان الجهاز الأعلى أن يحل محل الجهاز الأدنى (م24). صحيح أن المؤتمر الجهوي هو أعلى هيئة تقريرية بالجهة (م69)، والمؤتمر الإقليمي هو أعلى هيئة تقريرية للحزب بالإقليم (م89)، غير أنه بإمكان المكتب السياسي حل الأجهزة التنفيذية الجهوية أو الإقليمية (م54)، هذا علما بأن الكاتب الأول يعتبر الرئيس التسلسلي للإدارة الحزبية يوقع التزكيات للترشيح وتزكيات إيداع الملف القانوني للكتابات الجهوية للحزب (م46).
إن النزوع للمركزية يمكن قبوله في حالة ما كان الانتخاب يسري على جميع هياكل التنظيم، والحال أن بعض الأحزاب تزاوج بين التعيين والانتخاب، فحزب التجمع الوطني للأحرار يمكن لمكتبه السياسي منح العضوية الشرفية لشخصيات أسدت للحزب خدمات (م1)، أو منح العضوية لمغاربة الخارج (م5)، وإن كان مجلس اتحادية المدينة ومجلس اتحادية المقاطعة ينتخب من بين أعضائه كاتبا عاما ونوابا، فإن منسقي الاتحادية والاتحادية الإقليمية والمنسق الجهوي للحزب يتم تعيينهم من قبل الرئيس (م34)، وهذا التعيين يجعلهم يستمدون سلطتهم من رئيس الحزب، وبالتالي عدم خضوعهم للهيئات المجالية.
وهذا أيضا حال حزب الحركة الشعبية، بحيث يتم تعيين منسقي الحزب بالأقاليم والعمالات بقرار من الأمين العام للحزب (م36)، أوبالرغم من كون النظام الداخلي للحزب ينص على عدم تدخلهم في عمل الفروع المحلية أو الإقليمية (م38)، إلا أنه يسمح لهم في نفس الآن بإمكانية التدخل في حدود ما تسمح به أنظمة الحزب، وبطبيعة الحال ليس هناك ما يمنعهم من التدخل في عمل التنظيمات المجالية، وهنا تطرح إشكالية حرية التقرير المجالي، إذ كيف لجهاز معين أن يراقب جهاز منتخب، أليس هذا إجراءا منافيا لهامش حرية الفاعل الذي نادى به كروزييه؟، وتزداد هذه الازدواجية المتمثلة في التعيين والانتخاب داخل حزب الإستقلال، حيث يضعف مفعول الانتخاب، ليحل محله التعيين خاصة حينما يتعلق الأمر بانتقاء أطر الحزب من قبيل جهاز المفتشين (الفصل 44)، ومجلس الرئاسة (57).
2- قوة نابعة من انضباط فريقه البرلماني
بالإضافة إلى ما سبق يتميز حزب العدالة والتنمية بانضباط فريقه البرلماني بالمؤسسة التشريعية، حيث تجدهم ملتزمين بالحضور الدائم للجلسات العمومية على مستوى الغرفة التشريعية، ومن نتائج هذا الانضباط كون حزب العدالة والتنمية هو الحزب الوحيد الذي لم يتأثر بظاهرة الترحال السياسي، خلال كل الولايات التشريعية، بحيث استطاع الحفاظ على تماسك فريقه النيابي، ومما أدل على ذلك هو أن الولاية التشريعية الثامنة (2007-2012) التي عرفت أكبر نسبة انتقال في صفوف النواب في إطار ما يسمى بظاهرة "النواب الرحل"، وبعد فترة زمنية قصيرة من المصادقة على الصيغة النهائية للقانون رقم 36.04 المتعلق بالأحزاب السياسية، الذي منع في مادته الخامسة هذه الظاهرة، غير أن الحزب لم يسجل أية عملية خاصة بحركية نوابه برسم جميع السنوات التشريعية بدءا من السنة الأولى (2007-2008) مرورا بالثانية والثالثة وصولا إلى السنة التشريعية الرابعة (2010-2011).
3- قوة نابعة من رهانات الحزب وإستراتيجيته تجاه النسق
بحسب كروزييه يرتبط الرهان ارتباطا عضويا بالأهداف أو القضايا التي أجلها يقوم الفاعل ببناء إستراتيجيته تجاه الآخرين والنسق العام، والرهانات تتميز بالتَّغَيُّر والتَّحَوُّل، بحسب الحالة التي يوجد فيها الفاعل وهي إما حالة الربح أو الخسارة، وهنا تحضر العقلانية للتمييز بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، والإستراتيجية تبقى محكومة باختيار الوقت والهدف والسلوك المناسبين، وسلوك الفاعل، بحسب كروزييه، يجب أن يكون عقلانيا ومرتبطا بأهداف واضحة، فحتى وإن لم يكن عقلانيا في علاقة مع الأهداف فهو عقلاني على الأقل مع السياق، والفاعل يكون إما في حالة هجوم وإما أن يكون في حالة دفاع.
في حالة الهجوم تكون الغاية هي تحسين وضعيته الشيء الذي يستلزم من الفاعل تنظيم الفرص واستثمارها. وهكذا، نجد بأن حزب العدالة والتنمية طوال تواجده بصف المعارضة منذ سنة 1997، استثمر بشكل ذكي وفعال تواجده بالمؤسسة التشريعية، وأدرك قواعد المناورة السياسية، صحيح أنه كان شبه "معزول" من ناحية التنسيق معه بالبرلمان، ولكنه في مقابل ذلك عرف كيف يشتغل واستفاد من أخطاء باقي الفاعلين وعرف أيضا كيف يستغل السياق السياسي لصالحه، خاصة في ظل التغييرات السياسية التي شهدتها بعض الدول المجاورة سنة 2011، لأن الفاعل، بحسب "كروزييه"، هو الذي يملك القدرة على التدخل والمشاركة في مشكلة ما، خصوصا إذا ما كان لديه شكل من أشكال التأثير في الفعل الجماعي.
اختار حزب العدالة والتنمية الوقت والسياق السياسي المناسبين، وتبنى استراتيجية هجومية من داخل منطقة الارتياب، "كروزييه"، بهدف تحسين موقعه وموضعه في النسق السياسي مستثمرا المستجدات الإقليمية والداخلية، ليمارس نوعا من "الضغط" على باقي الفاعلين، وقد استغل فقدان المواطن للثقة في السياسة والسياسيين، ونجح في توظيف هذا المورد الهام لصالحه، فالفاعل الذي يتحكم جيدا في منطقة الشك/الارتياب، يكون له تأثير ونفوذ، ومن الصدفة أنْ تزامن هذا مع تولي شخص يحسن فن "المناورة" السياسية لمهام الأمانة العامة للحزب (بنكيران)، وذلك عبر جر خصومه السياسيين لساحة السجال السياسي، بحيث الكل يتذكر الإستراتيجية الهجومية التي قادها الأخير تجاه فاعلين ممن لا يحسنون هذه اللعبة إما لحداثة ولوجهم للعمل السياسي وإما لطبيعة تكوينهم الفرنكوفوني الشيء لم يساعدهم في مجاراته إعلاميا لتَحْييده والحد من الشعبية التي اكتسبها من هذا الهجوم.
فهذا الحزب استفاد في فترة كانت فيها باقي الأحزاب منشغلة بالكيفية التي يمكن بها محاصرة أمينه العام، وهذا الانشغال بدا جليا بمناسبة تقديم أمناء عامين لبعض الأحزاب طلبات للهاكا للرد على تصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، سنوات 2013 و2014 و2015 و 2016، وهو ما تكرس مع حزب الأصالة والمعاصرة، بتاريخ 3 دجنبر 2015، من خلال تمكينه، من حق الرد على تصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبر قناة (Medi1TV)، وتكرر كذلك مع حزب الإستقلال الذي طالب بدوره القناتين الأولى والثانية، بتمتيع أمينه العام بممارسة حق الرد على تصريحات رئيس الحكومة المتعلقة بحزب الاستقلال وبأمينه العام.
بعد أن نجح هذا التنظيم هجوميا، انتقل لمرحلة الخطاب التبريري والدفاع عن تحصين المكتسبات التي حققها والحفاظ على موقعه الجديد في صدارة المشهد السياسي، خاصة عندما اكتشف بأنه من الصعب تحقيق الوعود التي سبق وسطرها في برنامجه الانتخابي، وبناء تحالفات سياسية جديدة، والكل لاحظ كيف أن رئيس الحكومة نسج علاقات مع من كان يعتبرهم حتى عهد قريب أعداء وبحث عن حلفاء من داخلهم وممن خاض ضدهم معارك سياسية، وكيف تبنى خطاب المظلومية واستعمل مفاهيم دخيلة عن القاموس السياسي "التماسيح والعفاريت".
4- قوة نابعة من الرهان على فئة ناخبة غير مُسَيَّسَة
إن تموقع حزب العدالة والتنمية في صدارة المشهد السياسي، لا يمكن فهمه بدون استحضار مراهنة هذا الفاعل الحزبي على استهداف كتلة ناخبة غير مُسَيَّسَة، فهذا التنظيم استفاد من هيئة ناخبة تمت تعبئتها بشكل مقصود، حيث جند كافة تنظيماته المجالية من أجل التغلغل داخل الفئات غير المُسَيَّسَة وتوجيه سلوكها الانتخابي لفائدته مستعينا بمفاهيم بسيطة في التواصل معهم وبأسلوب يفهمونه وباستعمال كلمات تلامس معيشهم اليومي، فهذا الحزب سَخَّرَ كل موارده من أجل استهداف جزء كبير من الرأي العام، خاصة عبر ترديد عبارات المظلومية من خلال لقاءاته وأنشطته التواصلية كالمهرجانات الخطابية التي أطرها أمينه العام .... وهكذا، استطاع هذا الحزب إيجاد رأسمال بشري جديد ينحدر من فئات شعبية فاقدة للثقة في من تناوبوا على تدبير الشأن العام بخلاف التنظيمات الأخرى، التي لم تجدد آلياتها التواصلية ولا زالت تشتغل بأدوات قديمة في محاولة منها لتحقيق توازن سياسي وانتخابي مع حزب نجح في استقطاب فئة من غير المُسَيَّسِين وأنتج من داخلهم دينامية سياسية، بخلاف الفاعلين الآخرين اللذين لا زالوا يراهنون على إواليات تواصلية قديمة.
5- قوة نابعة من ضعف المعارضة البرلمانية
تشكلت المعارضة في الولاية التشريعية التاسعة (2011- 2016)، من أحزاب اعتادت أصلا المشاركة في الأغلبية الحكومية أكثر من ممارسة المعارضة، وبالتالي فهي أحزاب لا تتوفر على تجربة في المعارضة، وهذا حال حزب الإستقلال الذي اعتاد التواجد في الأغلبية، أما حزب الأصالة والمعاصرة فهو حزب وُجد من أجل محاصرة حزب العدالة والتنمية، وإن نجح نسبيا في هذه المهمة على المستوى القروي بالاعتماد على الأعيان وباستعمال رمز الجرار وما يرمز له من دلالات في تَمَثُّل المواطن القروي، إلا أنه في مقابل ذلك، لم ينجح في ذلك حضريا حيث نسبة الوعي السياسي مرتفعة مقارنة بالمجال القروي.
فنتائج الانتخابات التشريعية لسنة2011، أماطت اللثام عن ضعف الأحزاب الأخرى، لأنها اعتادت التواجد ضمن الأغلبية ولم تكن مهيأة للقيام بدور المعارضة، لذلك ظل دورها محدودا خصوصا فيما يتعلق بمراقبة الحكومة، وما يمكن ملاحظته على المعارضة التي مارسها حزب الأصالة والمعاصرة تجاه الحكومة المنبثقة عن انتخابات 2011 هو أنها لا مضبوطة أو معارضة من أجل المعارضة، فعلى الرغم من تواجد حزب الأصالة والمعاصرة أشد حزب معارض للعدالة والتنمية بجانب أطياف سياسية مختلفة في المعارضة، فإنه لم ينجح في جعلها معارضة موحدة وملتئمة، بل هناك معارضات تناقضاتها مثل التناقضات الموجودة بين الأغلبية، فالمعارضة الممارسة ضد حزب العدالة والتنمية لم تجمعها قواسم مشتركة بخصوص المواقف السياسية من الأغلبية، بل ما وَحَّدَها هو كونها توجد في موقع المعارضة، حيث سيادة عنصر التباعد في المواقف وعدم الانسجام وعدم التنسيق فيما بينها، وغياب التجانس بين مكونات المعارضة استفاد منه حزب العدالة والتنمية، وذلك بالرغم من كون دستور2011 يمنح المعارضة العديد من الحقوق، إلا أنه لوحظ غياب التقارب بين مكوناتها، فضلا عن الخليط الهجين للأحزاب التي تشكلت منها المعارضة، فقوة هذه الأخيرة تنبع من قدراتها على التوافق بغض النظر عن الاختلافات الإيديولوجية والسياسية، لأن التنسيق أحد عوامل قوتها ضد الأغلبية الحكومية التي تستفيد من الامتياز الحكومي لتهميش المعارضة وإضعاف شوكتها وجعلها غير قادرة على مجاراة العمل الحكومي.
6- قوة نابعة من استثمار الجانب الإعلامي
عادة ما توظف الأحزاب قنواتها الإعلامية من أجل الدعاية والتواصل أو كمنبر لتسليط الضوء على الأنشطة التي يقوم بها الحزب واللقاءات التي يترأسها أمينه العام تشملها أيضا تغطية مكثفة يتم من خلالها التركيز على تدخلاته. وأمام انفتاح وسائل الإعلام على الأحزاب، ثم استغلال مجموعة من البرامج الإعلامية لتسليط الأضواء على شخص الأمين العام للحزب وقدراته في الرد على أسئلة الصحافيين ونوعية الشخصيات السياسية التي حضرت وتابعت باهتمام ما قاله من كلمات التي تُقَابل بتصفيقات الجمهور كل هذه الوسائل عادة ما تزيد من ترسيخ مكانة الفاعل الحزبي وتقوي مكانته السياسية في المخيال الشعبي، خاصة لدى الشخص العادي، وهذا واقع حال حزب العدالة والتنمية الذي روج، خلال مرحلة عبد الإله بنكيران، بشكل مكثف لكل خرجاته الإعلامية ولقاءاته مع الصحافة الوطنية، وكذا تدخلاته السياسية على مستوى المؤسسة التشريعية بمناسبة أجوبته على أسئلة النواب.
قد يتساءل القارئ عن أسباب اختيار حزب العدالة والتنمية كنموذج لهذه الدراسة، الجواب بكل بساطة هو محاولة فهم سلوك وإستراتيجية هذا الفاعل من أجل التموقع داخل النسق السياسي، خاصة وأن هذا الحزب منذ سنة 1999، تاريخ تغيير اسمه من الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية- المنشقة في الأصل عن الحركة الشعبية- لحزب العدالة والتنمية، وهو مصطف في موقع المعارضة، بالضبط منذ الولاية التشريعية السادسة (1997-2002)، حيث كان يتوفر على مجموعة نيابية تتكون فقط من 9 نواب، وهو في الحقيقة عدد المقاعد البرلمانية التي حصل عليها الحزب في الاستحقاقات التشريعية المجراة بتاريخ 13 يونيو 1997، فهذا الحزب الذي دخل البرلمان أول مرة سنة 1997، "لم يكن له وزن سياسي" داخل المشهد الحزبي عامة والمؤسسة التشريعية خاصة، وهذا الفاعل لما دخل البرلمان أول مرة لم يمارس معارضة قوية، بل اكتفى بلعب دور المساندة النقدية للأغلبية الحكومية التي قادها حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية.
ولم ينتقل هذا الحزب إلى ما سماها بالمعارضة الناصحة إلا بعد سنتين ونصف، وذلك بعد أن تَحَلَّلَ من موقف المساندة النقدية للأغلبية الحكومة، وقد برزت أولى تجليات هذا الموقف بدءا بمغادرة فريقه موقع العمل من داخل فرق الأغلبية والتصويت ضد مشروع القانون المالي لسنة 2001 واستمر في هذا الموقف حتى نهاية الولاية التشريعية، ولكن هذا الموقف الجديد، المتمثل في معارضة الحكومة سيبلغ أوجه منذ أن قرر الفريق النيابي للحزب توجيه عريضة طعن لدى المجلس الدستوري بخصوص بعض مقتضيات القانون المالي لسنة 2002.
التساؤل الذي يطرح نفسه هنا بقوة، كيف انتقل هذا الحزب الذي لم يكن يملك سوى 9 مقاعد في الولاية التشريعية السادسة 1997-2002، إلى حزب يتوفر على 107 مقاعد في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، و125 مقعدا في انتخابات 2016؟، ثم إلى أي حد تسعفنا أدوات التحليل الاستراتيجي لميشيل كروزييه في استجلاء الأسباب الكامنة وراء هذا التحول؟.
1- قوة نابعة من البناء التنظيمي والداخلي للحزب
ينطلق "ميشيل كروزييه وايرهارد فريدبيرج" في تحليلهما للتنظيم باعتباره نتاجا لمجموع إرادات الأفراد، فهو بناء جماعي قائم على التعاون والتفاوض عن طريق الخضوع الواعي لجميع الإرادات لقواعد التنظيم المبنية، مبدئيا، على حد أدنى من التوافق وليس الإكراه، وكلما كانت القواعد المنظمة للتنظيم واضحة ومتوافق بشأنها كلما كان التنظيم عقلانيا في أهدافه وأفعاله، وفي حالة بروز خلافات يتم حلها بالتفاوض دون أن تهدد وحدة التنظيم القائمة على ضرورة الحفاظ على الحرية النسبية لباقي الفاعلين.
وهكذا، وبالاطلاع على النظام الأساسي لحزب العدالة والتنمية نجده يقوم على نظام الجهوية واللامركزية واللاتمركز في تسيير شؤونه الداخلية وفق نظام واضح قائم على مبدأ التكامل والانسجام، واعتماد الديمقراطية في اتخاذ القرار والتكليف بالمسؤوليات والتداول على المسؤولية، كما يُخْضِع اختيار مرشحيه لمختلف الاستشارات الانتخابية والمناصب السياسية لمبدأ "الكفاءة" والأمانة والقدرة على المهام التمثيلية، بل نجده أخضع اختيار مرشحي الحزب للاستشارات الانتخابية لمسطرة خاصة تتمثل في إحداث لجان للترشيحات (م 97) هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نجد بأن الهندسة المجالية للحزب قائمة على مبدأ الانتخاب، حيث أن الكاتب الجهوي للحزب يتم انتخابه من لدن المؤتمر الجهوي (م56)، والكاتب الإقليمي ينتخبه المؤتمر الإقليمي (م69)، بينما الكاتب المحلي يتم انتخابه من قبل المؤتمر المحلي (م81)، وهذه الهندسة المجالية تنضبط لها الأجهزة الترابية بإرادتها بعيدا عن الإكراه، لأنها تضمن لهم صلاحية التقرير الذاتي بالشكل الذي يسمح لكل الهيئات المجالية للحزب بالحفاظ على هامش حريتها في الفعل والمناورة، فمثلا نجد بأن المؤتمر الجهوي للحزب هو أعلى هيئة تقريرية على صعيد الجهة، والمؤتمر الإقليمي أعلى هيئة تقريرية على المستوى الإقليمي يليه المؤتمر المحلي باعتباره أعلى هيئة تقريرية للحزب على صعيد الفرع المحلي، وهي نفس الهندسة المطبقة على أجهزة الانضباط الحزبي التي تخضع بدورها لأسلوب اللامركزية من خلال هيئات التحكيم الجهوية وإمكانية إحداث هيئات تحكيم بين جهوية (م89).
هذه الهندسة المجالية اللامركزية، تضمن هامشا من حرية التقرير للأجهزة المجالية للحزب، ونجدها غائبة في العديد من الأحزاب التي تشدد أنظمتها على فكرة المركزية، وهذا حال حزب الإستقلال، بحيث نجد بأن المجلس الإقليمي يقوم بتوجيه شؤون الحزب الإقليمية في نطاق قرارات المجلس الوطني وتوجيهات اللجنة التنفيذية (ف39)، وأكثر من هذا نجد بأن صلاحية اللجنة التنفيذية تمتد لتعيين مفتش (ة) في كل عمالة وإقليم مهمتهم تبليغ توجيهات اللجنة التنفيذية للحزب (ف 44 و45)، وهذا الأسلوب الذي يفقد الفاعل على المستوى المحلي هامش حريته يسري حتى على المجلس الجهوي الذي يتولى صلاحية تنسيق أنشطة الحزب بالجهة في نطاق قرارات المجلس الوطني وتوجيهات اللجنة التنفيذية (ف48).
نفس الأمر ينطبق على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي بالرغم من كون نظامه الداخلي ينص على اعتماد أسلوب الديمقراطية، إلا أن فكرة المركزية حاضرة، بحيث أنه يتعين على الأجهزة التنفيذية الأدنى الانضباط لقرارات الأجهزة التنفيذية الأعلى، وتتشكل هذه المركزية نزولا من المكتب السياسي إلى الكتابة الجهوية إلى الكتابة الإقليمية ثم مكتب الفرع، بل بإمكان الجهاز الأعلى أن يحل محل الجهاز الأدنى (م24). صحيح أن المؤتمر الجهوي هو أعلى هيئة تقريرية بالجهة (م69)، والمؤتمر الإقليمي هو أعلى هيئة تقريرية للحزب بالإقليم (م89)، غير أنه بإمكان المكتب السياسي حل الأجهزة التنفيذية الجهوية أو الإقليمية (م54)، هذا علما بأن الكاتب الأول يعتبر الرئيس التسلسلي للإدارة الحزبية يوقع التزكيات للترشيح وتزكيات إيداع الملف القانوني للكتابات الجهوية للحزب (م46).
إن النزوع للمركزية يمكن قبوله في حالة ما كان الانتخاب يسري على جميع هياكل التنظيم، والحال أن بعض الأحزاب تزاوج بين التعيين والانتخاب، فحزب التجمع الوطني للأحرار يمكن لمكتبه السياسي منح العضوية الشرفية لشخصيات أسدت للحزب خدمات (م1)، أو منح العضوية لمغاربة الخارج (م5)، وإن كان مجلس اتحادية المدينة ومجلس اتحادية المقاطعة ينتخب من بين أعضائه كاتبا عاما ونوابا، فإن منسقي الاتحادية والاتحادية الإقليمية والمنسق الجهوي للحزب يتم تعيينهم من قبل الرئيس (م34)، وهذا التعيين يجعلهم يستمدون سلطتهم من رئيس الحزب، وبالتالي عدم خضوعهم للهيئات المجالية.
وهذا أيضا حال حزب الحركة الشعبية، بحيث يتم تعيين منسقي الحزب بالأقاليم والعمالات بقرار من الأمين العام للحزب (م36)، أوبالرغم من كون النظام الداخلي للحزب ينص على عدم تدخلهم في عمل الفروع المحلية أو الإقليمية (م38)، إلا أنه يسمح لهم في نفس الآن بإمكانية التدخل في حدود ما تسمح به أنظمة الحزب، وبطبيعة الحال ليس هناك ما يمنعهم من التدخل في عمل التنظيمات المجالية، وهنا تطرح إشكالية حرية التقرير المجالي، إذ كيف لجهاز معين أن يراقب جهاز منتخب، أليس هذا إجراءا منافيا لهامش حرية الفاعل الذي نادى به كروزييه؟، وتزداد هذه الازدواجية المتمثلة في التعيين والانتخاب داخل حزب الإستقلال، حيث يضعف مفعول الانتخاب، ليحل محله التعيين خاصة حينما يتعلق الأمر بانتقاء أطر الحزب من قبيل جهاز المفتشين (الفصل 44)، ومجلس الرئاسة (57).
2- قوة نابعة من انضباط فريقه البرلماني
بالإضافة إلى ما سبق يتميز حزب العدالة والتنمية بانضباط فريقه البرلماني بالمؤسسة التشريعية، حيث تجدهم ملتزمين بالحضور الدائم للجلسات العمومية على مستوى الغرفة التشريعية، ومن نتائج هذا الانضباط كون حزب العدالة والتنمية هو الحزب الوحيد الذي لم يتأثر بظاهرة الترحال السياسي، خلال كل الولايات التشريعية، بحيث استطاع الحفاظ على تماسك فريقه النيابي، ومما أدل على ذلك هو أن الولاية التشريعية الثامنة (2007-2012) التي عرفت أكبر نسبة انتقال في صفوف النواب في إطار ما يسمى بظاهرة "النواب الرحل"، وبعد فترة زمنية قصيرة من المصادقة على الصيغة النهائية للقانون رقم 36.04 المتعلق بالأحزاب السياسية، الذي منع في مادته الخامسة هذه الظاهرة، غير أن الحزب لم يسجل أية عملية خاصة بحركية نوابه برسم جميع السنوات التشريعية بدءا من السنة الأولى (2007-2008) مرورا بالثانية والثالثة وصولا إلى السنة التشريعية الرابعة (2010-2011).
السنة التشريعية الثالثة | السنة التشريعية الثانية | السنة التشريعية الأولى | الفريق البرلماني |
2009- 2010 | 2008-2009 | 2007- 2008 | |
54 | 54 | 53 | الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية |
45 | 46 | 46 | فريق العدالة والتنمية |
33 | 42 | 44 | الفريق الحركي |
42 | 80 | 41 | فريق التجمع الوطني للأحرار |
40 | 41 | 40 | الفريق الاشتراكي |
56 | - | 36 | فريق الأصالة والمعاصرة |
20 | 22 | 27 | فريق تحالف القوى التقدمية الديمقراطية |
24 | 27 | 27 | فريق الاتحاد الدستوري |
السنة التشريعية الرابعة 2010- 2011 | الفريق البرلماني | ||
70 | فريق التجمع الدستوري الموحد | ||
55 | فريق الأصالة والمعاصرة | ||
52 | الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية | ||
46 | فريق العدالة والتنمية | ||
40 | الفريق الاشتراكي | ||
32 | الفريق الحركي | ||
21 | فريق تحالف القوى التقدمية الديمقراطية |
بحسب كروزييه يرتبط الرهان ارتباطا عضويا بالأهداف أو القضايا التي أجلها يقوم الفاعل ببناء إستراتيجيته تجاه الآخرين والنسق العام، والرهانات تتميز بالتَّغَيُّر والتَّحَوُّل، بحسب الحالة التي يوجد فيها الفاعل وهي إما حالة الربح أو الخسارة، وهنا تحضر العقلانية للتمييز بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، والإستراتيجية تبقى محكومة باختيار الوقت والهدف والسلوك المناسبين، وسلوك الفاعل، بحسب كروزييه، يجب أن يكون عقلانيا ومرتبطا بأهداف واضحة، فحتى وإن لم يكن عقلانيا في علاقة مع الأهداف فهو عقلاني على الأقل مع السياق، والفاعل يكون إما في حالة هجوم وإما أن يكون في حالة دفاع.
في حالة الهجوم تكون الغاية هي تحسين وضعيته الشيء الذي يستلزم من الفاعل تنظيم الفرص واستثمارها. وهكذا، نجد بأن حزب العدالة والتنمية طوال تواجده بصف المعارضة منذ سنة 1997، استثمر بشكل ذكي وفعال تواجده بالمؤسسة التشريعية، وأدرك قواعد المناورة السياسية، صحيح أنه كان شبه "معزول" من ناحية التنسيق معه بالبرلمان، ولكنه في مقابل ذلك عرف كيف يشتغل واستفاد من أخطاء باقي الفاعلين وعرف أيضا كيف يستغل السياق السياسي لصالحه، خاصة في ظل التغييرات السياسية التي شهدتها بعض الدول المجاورة سنة 2011، لأن الفاعل، بحسب "كروزييه"، هو الذي يملك القدرة على التدخل والمشاركة في مشكلة ما، خصوصا إذا ما كان لديه شكل من أشكال التأثير في الفعل الجماعي.
اختار حزب العدالة والتنمية الوقت والسياق السياسي المناسبين، وتبنى استراتيجية هجومية من داخل منطقة الارتياب، "كروزييه"، بهدف تحسين موقعه وموضعه في النسق السياسي مستثمرا المستجدات الإقليمية والداخلية، ليمارس نوعا من "الضغط" على باقي الفاعلين، وقد استغل فقدان المواطن للثقة في السياسة والسياسيين، ونجح في توظيف هذا المورد الهام لصالحه، فالفاعل الذي يتحكم جيدا في منطقة الشك/الارتياب، يكون له تأثير ونفوذ، ومن الصدفة أنْ تزامن هذا مع تولي شخص يحسن فن "المناورة" السياسية لمهام الأمانة العامة للحزب (بنكيران)، وذلك عبر جر خصومه السياسيين لساحة السجال السياسي، بحيث الكل يتذكر الإستراتيجية الهجومية التي قادها الأخير تجاه فاعلين ممن لا يحسنون هذه اللعبة إما لحداثة ولوجهم للعمل السياسي وإما لطبيعة تكوينهم الفرنكوفوني الشيء لم يساعدهم في مجاراته إعلاميا لتَحْييده والحد من الشعبية التي اكتسبها من هذا الهجوم.
فهذا الحزب استفاد في فترة كانت فيها باقي الأحزاب منشغلة بالكيفية التي يمكن بها محاصرة أمينه العام، وهذا الانشغال بدا جليا بمناسبة تقديم أمناء عامين لبعض الأحزاب طلبات للهاكا للرد على تصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، سنوات 2013 و2014 و2015 و 2016، وهو ما تكرس مع حزب الأصالة والمعاصرة، بتاريخ 3 دجنبر 2015، من خلال تمكينه، من حق الرد على تصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبر قناة (Medi1TV)، وتكرر كذلك مع حزب الإستقلال الذي طالب بدوره القناتين الأولى والثانية، بتمتيع أمينه العام بممارسة حق الرد على تصريحات رئيس الحكومة المتعلقة بحزب الاستقلال وبأمينه العام.
بعد أن نجح هذا التنظيم هجوميا، انتقل لمرحلة الخطاب التبريري والدفاع عن تحصين المكتسبات التي حققها والحفاظ على موقعه الجديد في صدارة المشهد السياسي، خاصة عندما اكتشف بأنه من الصعب تحقيق الوعود التي سبق وسطرها في برنامجه الانتخابي، وبناء تحالفات سياسية جديدة، والكل لاحظ كيف أن رئيس الحكومة نسج علاقات مع من كان يعتبرهم حتى عهد قريب أعداء وبحث عن حلفاء من داخلهم وممن خاض ضدهم معارك سياسية، وكيف تبنى خطاب المظلومية واستعمل مفاهيم دخيلة عن القاموس السياسي "التماسيح والعفاريت".
4- قوة نابعة من الرهان على فئة ناخبة غير مُسَيَّسَة
إن تموقع حزب العدالة والتنمية في صدارة المشهد السياسي، لا يمكن فهمه بدون استحضار مراهنة هذا الفاعل الحزبي على استهداف كتلة ناخبة غير مُسَيَّسَة، فهذا التنظيم استفاد من هيئة ناخبة تمت تعبئتها بشكل مقصود، حيث جند كافة تنظيماته المجالية من أجل التغلغل داخل الفئات غير المُسَيَّسَة وتوجيه سلوكها الانتخابي لفائدته مستعينا بمفاهيم بسيطة في التواصل معهم وبأسلوب يفهمونه وباستعمال كلمات تلامس معيشهم اليومي، فهذا الحزب سَخَّرَ كل موارده من أجل استهداف جزء كبير من الرأي العام، خاصة عبر ترديد عبارات المظلومية من خلال لقاءاته وأنشطته التواصلية كالمهرجانات الخطابية التي أطرها أمينه العام .... وهكذا، استطاع هذا الحزب إيجاد رأسمال بشري جديد ينحدر من فئات شعبية فاقدة للثقة في من تناوبوا على تدبير الشأن العام بخلاف التنظيمات الأخرى، التي لم تجدد آلياتها التواصلية ولا زالت تشتغل بأدوات قديمة في محاولة منها لتحقيق توازن سياسي وانتخابي مع حزب نجح في استقطاب فئة من غير المُسَيَّسِين وأنتج من داخلهم دينامية سياسية، بخلاف الفاعلين الآخرين اللذين لا زالوا يراهنون على إواليات تواصلية قديمة.
5- قوة نابعة من ضعف المعارضة البرلمانية
تشكلت المعارضة في الولاية التشريعية التاسعة (2011- 2016)، من أحزاب اعتادت أصلا المشاركة في الأغلبية الحكومية أكثر من ممارسة المعارضة، وبالتالي فهي أحزاب لا تتوفر على تجربة في المعارضة، وهذا حال حزب الإستقلال الذي اعتاد التواجد في الأغلبية، أما حزب الأصالة والمعاصرة فهو حزب وُجد من أجل محاصرة حزب العدالة والتنمية، وإن نجح نسبيا في هذه المهمة على المستوى القروي بالاعتماد على الأعيان وباستعمال رمز الجرار وما يرمز له من دلالات في تَمَثُّل المواطن القروي، إلا أنه في مقابل ذلك، لم ينجح في ذلك حضريا حيث نسبة الوعي السياسي مرتفعة مقارنة بالمجال القروي.
فنتائج الانتخابات التشريعية لسنة2011، أماطت اللثام عن ضعف الأحزاب الأخرى، لأنها اعتادت التواجد ضمن الأغلبية ولم تكن مهيأة للقيام بدور المعارضة، لذلك ظل دورها محدودا خصوصا فيما يتعلق بمراقبة الحكومة، وما يمكن ملاحظته على المعارضة التي مارسها حزب الأصالة والمعاصرة تجاه الحكومة المنبثقة عن انتخابات 2011 هو أنها لا مضبوطة أو معارضة من أجل المعارضة، فعلى الرغم من تواجد حزب الأصالة والمعاصرة أشد حزب معارض للعدالة والتنمية بجانب أطياف سياسية مختلفة في المعارضة، فإنه لم ينجح في جعلها معارضة موحدة وملتئمة، بل هناك معارضات تناقضاتها مثل التناقضات الموجودة بين الأغلبية، فالمعارضة الممارسة ضد حزب العدالة والتنمية لم تجمعها قواسم مشتركة بخصوص المواقف السياسية من الأغلبية، بل ما وَحَّدَها هو كونها توجد في موقع المعارضة، حيث سيادة عنصر التباعد في المواقف وعدم الانسجام وعدم التنسيق فيما بينها، وغياب التجانس بين مكونات المعارضة استفاد منه حزب العدالة والتنمية، وذلك بالرغم من كون دستور2011 يمنح المعارضة العديد من الحقوق، إلا أنه لوحظ غياب التقارب بين مكوناتها، فضلا عن الخليط الهجين للأحزاب التي تشكلت منها المعارضة، فقوة هذه الأخيرة تنبع من قدراتها على التوافق بغض النظر عن الاختلافات الإيديولوجية والسياسية، لأن التنسيق أحد عوامل قوتها ضد الأغلبية الحكومية التي تستفيد من الامتياز الحكومي لتهميش المعارضة وإضعاف شوكتها وجعلها غير قادرة على مجاراة العمل الحكومي.
6- قوة نابعة من استثمار الجانب الإعلامي
عادة ما توظف الأحزاب قنواتها الإعلامية من أجل الدعاية والتواصل أو كمنبر لتسليط الضوء على الأنشطة التي يقوم بها الحزب واللقاءات التي يترأسها أمينه العام تشملها أيضا تغطية مكثفة يتم من خلالها التركيز على تدخلاته. وأمام انفتاح وسائل الإعلام على الأحزاب، ثم استغلال مجموعة من البرامج الإعلامية لتسليط الأضواء على شخص الأمين العام للحزب وقدراته في الرد على أسئلة الصحافيين ونوعية الشخصيات السياسية التي حضرت وتابعت باهتمام ما قاله من كلمات التي تُقَابل بتصفيقات الجمهور كل هذه الوسائل عادة ما تزيد من ترسيخ مكانة الفاعل الحزبي وتقوي مكانته السياسية في المخيال الشعبي، خاصة لدى الشخص العادي، وهذا واقع حال حزب العدالة والتنمية الذي روج، خلال مرحلة عبد الإله بنكيران، بشكل مكثف لكل خرجاته الإعلامية ولقاءاته مع الصحافة الوطنية، وكذا تدخلاته السياسية على مستوى المؤسسة التشريعية بمناسبة أجوبته على أسئلة النواب.