MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




فلسطين و الصهيونية : تقاطعات بين "قوة الحق" و "حق القوة": -قراءة في تاريخ الصهيونية و فلسفتها

     

الحبيب استاتي
باحث في السياسات العمومية
كلية العلوم القانونية و الاقتصادية والاجتماعية- سطات-



فلسطين و الصهيونية : تقاطعات بين "قوة الحق" و "حق القوة": -قراءة في تاريخ الصهيونية و فلسفتها
عرفت الأرض الواقعة جنوب سوريا باسم "أرض كنعان" نسبة إلى سكانها الكنعانيين العرب، الذين استوطنوها في الألف الرابع قبل الميلاد قادمين من الجزيرة العربية . وظلت كذلك حتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، عندما قدم الفلسطينيون إلى أرض كنعان، واستقروا فيها فأصبحت تعرف باسم "فلسطين " .
تتوسط فلسطين العالم العربي وتشغل الأرض التي تصل آسيا بإفريقيا، يحدها من الشمال سوريا ولبنان ومن الشرق سوريا وشرق الأردن،ومن الجنوب والجنوب الغربي جزيرة العرب وشبه جزيرة سيناء ، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسـط . فهي تطل على البحر المتوسط والبحر الأحمر. فأصبحت تتمتع بموقع جغرافي إستراتيجي هام، فهي تقع عند نقاط "المفارق السيئة" بين إفريقيا وآسيا وأوربا .

هكذا وجدت نفسها في موقع حدد قسما كبيرا من تاريخها.كما أنها شكلت ممرا طمعت فيه الإمبراطوريات الكبرى لمصر والشرق الأوسط،وفي الوقت نفسه ملتقى الطرق التجارية الآتية من مصر وبلاد مابين النهرين وبحر إيجه .

هذا هو السبب في أن الدول الكبرى،المأخوذة بهذا الموقع،حاولت على الدوام السيطرة على فلسطين والهيمنة عليها،أو على الأقل إدخالها ضمن نطاق نفوذها.وغـدت فلسطين على مدى تاريخها،مسرحا لحروب تثيرها دول أخرى تارة،وطورا ساحة سلام تتجاور فوقها ثقافات وأديان وحضارات مختلفة .
وتـؤكد أحداث التاريخ أن فلسطين لم تسلم من نشوب حروب دامية على أراضيها منذ الآشوريين إلى يومنا هذا، حيث لازالت مسرحا للصراع بين الفلسطينيين و الإسرائيليين.

في هذه المقالة، سنحاول الوقوف عند تاريخ الإسرائيليين، وتحديدا الحركة الصهيونية، من حيث نشأتها وتطورها، من حركة دينية إلى حركة سياسية، استطاعت تعبئة محبي الصهيونية لاستعادة أمجاد الأجداد.

ظلت جماعة قليلة من اليهود مقيمة في فلسطين بعد أن أصبحت جزءا من الدولة العربية الإسلامية،وكان معظمهم من المتدينين الذين اقتصرت رغبتهم على ممارسة شعائرهم الدينية من منطلق إيمانهم بفكرة بعث الدولة اليهودية في فلسطين بحدوث معجزة إلهية،يظهر معها المسيح المنتظر الذي سيعيد بناء "هيكل سليمان" ويقود العالم نحو الخير والسلام .وأصبح مركزهم الرئيسي هو منطقة الجليل شمال فلسطين سابقا،حيث أقاموا في فترة من الفترات مدارس دينية.ولكن مركز التجمع اليهودي،كان قد انتقل إلى بلاد مابين النهرين قبل الإسلام بعدة قرون،وظل هنالك عندما خضعت تلك البلاد التي عرفها العرب باسم العراق للحكم العربي الإسلامي.ثم انتقل إلى إسبانيا،وكانت وقتئذ تحت حكم العرب المسلمين أيضا.وفي العصور الحديثة،أصبح مركز التجمع اليهودي في شرق أوربا،وبخاصة الأقاليم المحيطة بمدينة بنسك Pinsk الروسية،وهي تقع في أوكرانيا في أقصى غرب الاتحاد السوفيتي وقريبة من حدود بولندا ورومانيا والمجر ويوغوسلافيا.وبقيت الأقاليم المحيطة بمدينة بنسك،وتقع داخل دائرة مركزها هذه المدينة وقطرها 600 كيلو متر حولها ،مركز تجمعات يهودية كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين .

و قد تعرض اليهود الذين نزحوا إلى أوربا للاضطهاد منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، بسبب رفض الجماعات اليهودية المتدينة الاندماج في المجتمع الروماني.وبعد انتشار المسيحية في أوربا لم يتوقف اضطهاد اليهود،إذ اعتبر هؤلاء مسؤولين عن دم السيد المسيح .ويرجع مجموعة من الباحثين أحقاد اليهود وعداءهم تجاه غير اليهود، وجريهم الدائم وراء المكاسب المادية التي تعود إلى نشاطهم التجاري والمالي وما يتصل به من عمليات الإقراض والربا الفاحش، لتلك العقائد العنصرية المزيفة التي يؤمنون بها،وخير شاهد نسوقه على سبيل المثال لا الحصر هو وصيتهم الجامعة في كتبهم الدينية ( أهدم كل قائم،لوث كل طاهر،أحرق كل أخضر،كي تنفع يهوديا بفلس) . لذلك قلما يمضي زمن إلا ونسمع أو نقرأ عن مجازر لليهود على أيدي الشعوب الأخرى كنتيجة لسلوكهم العدائي وضغينتهم لتلك الشعوب.وقد رافق رد الفعل هذا التوجس وعدم الاطمئنان إلى ولاء وإخلاص اليهود،وطبيعي أن يتخذ اضطهادهم في أوربا "مظهر الدفاع عن النفس" .
وأخذ الاضطهاد ال
ذي مس اليهود كما يشير إسماعيل أحمد ياغى صورا شتى حيث فرضـت عليهم قيود اجتماعية واقتصادية وسياسية،كما حرم عليهم امتلاك الأراضي ومزاولة الكثير من المهن الحرة،فضلا عن حرمانهم من الحقوق السياسية،وعدم السماح لهم بالإقامة في بعض المدن،مما نتج عنه جميعه انعزال اليهود عن الحياة انعزالا تاما في أقاليم خاصة بهم،بل وأقاموا في المدن في أحياء مخصصة لهم،عرفت باسم "الجيتو" Ghetto.وفي معظم الحالات كانت تحيط بهذه الأحياء أسوار وحوائط عالية،كان الدخول والخروج منها محدودا،إن لم يكن معدوما.وفي الحالات النادرة،التي كان يتجول فيها أحد أفراد "الجيتو" خارج الأسوار،فإنه لم يكن يحس بالأمان التام،إذ كان العالم خارج هذه الأسوار ،وهو يختلف تماما عما هو بداخلها،عالما لا يمكن أن يأمن له . وكانت التعاليم الدينية اليهودية دوماً وراء هذه العزلة، لأنّها تحضُّ على الاستعلاء والتخوف من الأغيار، وعدم الاختلاط بالشعوب وضرورة التقّيد بالقوانين والأنظمة الدينية الصارمة، وقد لعب الحاخامون والأثرياء اليهود دوراً هاماً في تكريس هذه العزلة وتعميق الشعور بالانتماء إلى عرق متضامن متفوق ، فأنشأوا في أحيائهم المغلقة تلك كلّ أسباب التعلّق بهذه التعاليم والالتزام بها، كالمعبد والمقابر الخاصة والطقوس والذبائح والأزياء الخاصّـة . ومعنـى هذا أن الطمأنينة والأمان لا يوجدان خارج هذه الأسوار،فالعيش داخل هذه الأخيرة هو الكفيل وحده - في اعتقادهم- بتحقيق الاستقرار المادي والمعنوي،وهو ما حذا بهم إلى الانكفاء على أنفسهم، يجترون ذكريات الاضطهاد ومرارة الماضي، خاضعين لقوانين وعادات قديمة جعلتهم معزولين عن المجتمعات التي يعيشون في ظلها.وقد جاء شعورهم بالتفوق، بأنهم شعب الله المختار، ورفضهم الاندماج في قوميات البلاد التي عاشوا فيها، من كون اليهودية ليست في نظرهم دينا فحسب، بل كانت قومية تلقن للناشئة اليهودية وفق منهاج ديني و بيداغوجي منظم؛فالمعبد هو المركز الدّيني والثقافي والتعليمي والاجتماعي، وقوانين "الشولحان عاروخ " تنّظم اللوائح الأخلاقية للحياة الخاصّة، ومدارسهم التعليمية تبدأ بـ" الحيدر" وهو المدرسة الابتدائية حيث يتعّرف الطفل خلالها وهو في سن الرابعة على هويته وأسلافه ويدرّب على الاحتراز من الأغيار وعدم مخالطتهم وتزرع في عقله الباطن فكرة التفوق والاختيار والقداسة، ويتعّلم الأبجدية العبرّية وقصص أسلافه وأعمالهم المجيدة وفتوحاتهم وما أصابهم من النفي والتشريد على أيدي "الكفرة"، فينشأ الطفل حاقداً مؤمناً بعدالة قضيته وصحة انحداره من أعـرق الأصول. وفي سـن المراهقة يستّمر نظام التعليم اليـهودي مـع " تلمود توراة" وتتوّج بـ" اليشيفا"، الأكاديمية التلمودية التي تماثل الدراسات العليا، فيتشبّع اليهودي بالأفكار الدينية التعصبية، وتتبلور شخصيته الانعزالية المتوجسة، والمؤهلة لتقبّل العدوان .

من خلال هذا التعليم الديني الممزوج بالغيبية والعنصرية، يقف اليهودي من الدولة التي يقيم فيها موقف اليهودي المتفّوق المقدّس المعارض للقومية الحقيقية بقوميته الوهمية التي لقنها له حاخاموه على أنهّا حقيقة ثابتة، ويشعر أنّ من حّقه الانفصال عن سائر البشر والاستعلاء عليهم.‏

وهذا ما ضاعف نزعتهم الانطوائية،وعمق الهوة بينهم وبين الأوربيين الذين كان ينظر إليهم من طرف اليهود ككفار على حد تعبير واصف منصور .ونظير ذلك كان من الطبيعي أن تكون نظرة الأوربيين إلى اليهود كما سبق الذكر مشوبة بعدم الثقة في قوم يعتقد أن مصلحة الوطن الذي يأويهم أدنى مرتبة من مصالحهم الخاصة.لذلك ،كان بين الفينة والأخرى، تهاجم أحياؤهم ويقتحم العالم الخارجي أسوارهم لنهب واعتقال وتعذيب قاطنيها.

ولا غرابة أن تقوم المذابح ضد اليهود كرد فعل على ما اقترفوه من أعمال وحشية ومجازر ضد المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي يطلعنا رفيق شاكر النتشة على بعض منها،ففي سنة 214 ميلادية قتل اليهود مئتي ألف مسيحي في روما وكل النصارى في قبرص.وفي زمن البابا كلمان قتل اليهود في روما وخارجها مجموعة من النصارى بأعداد كبيرة.وفي سنة 115 ميلادية ذبح اليهود من المسيحيين مئتي ألف في ليبيا و240 ألف في قبرص.وفي عام 155 ميلادية قتل الإمبراطور جميع النصارى في روما بناء على دسائس الحاخام "يهودا" . ونتيجة لذلك، لاقى اليهود معاملة سيئة سمتها الإقصاء والتنكيل من قبل الدول الأوربية؛ فبريطانيا طردتهم منذ أوائل القرن السادس للميلاد ومنعت دخولهم إليها مدة ثلاثة قرون.وفي فرنسا طرد اليهود وحرق تلمودهم في عهد لويس التاسع عشر بسبب كيدهم للشعب الفرنسي،كما طردوا من إسبانيا والبرتغال وحرموا من الدخول إلى البلاد منذ عام 1492 وذلك بسبب ما ألحقوه بالمسيحيين من ضرر وبسبب محاولاتهم لهـدم الكاثوليـكية و الهزؤ والسخرية منها،وقد دام هذا الطرد خمسة قرون . والغريب في الأمر أن مساس اليهود بالرموز الدينية المسيحية لم يقتصر على هذه الحقبة من الزمن،ولم يثنهم ما عانوه من تهميش من التطاول عليها وجعلها مجرد وسيلة للمقايضات والمزايدات السياسية ،والشاهد على ذلك ما تداولته مختلف المنابر الإعلامية العربية منها والمسيحية،في شهر فبراير من هذه السنة،حول تهكم ليؤور شلاين،أحد مقدمي البرامج الساخرة في القناة التلفزية الإسرائيلية العاشرة،على السيد المسيح وأمه مريم العذراء كرد فعل على إنكار المسيحيين للمحرقة النازية، ولعل هذا البعد الميكيافلي في الفكر اليهودي لطالما تسبب ويتسبب في طردهم من بلدان أوربية عديدة أشرنا لبعضها سابقا.

وهنا لابّد من لفت الانتباه إلى أنَّ اليهود في البلاد العربية والإسلامية وعلى الرغم من عزلتهم داخل أحياء خاصّة، كانوا يلقون معاملة تختلف تماماً عن يهود أوروبا من حيث الانخراط في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت كلّ الظروف متاحة لهم للذوبان في مجتمعاتهم هذه، نظراً لتسامح العرب والإسلام تجاه الأديان السماوية ،والأمثلة على ذلك كثيرة سنقتصر على ذكر بعض منها.

ففي اليمن تطورت حياتهم ونمت تجارتهم وثقافتهم واتسعت ممتلكاتهم وانتشرت معتقداتهم لدرجة اعتنق فيها ملك اليمن" أبو كريبه أسد طوبان" وابنه ذو نواس، ديانتهم حوالي القرن الخامس بعد الميلاد. وقد استمّر وجود هذه الطائفة في اليمن حتى العصر الحاضر الذي تدخلّت فيه الحركة الصهيونية واقتلعتهم من أماكنهم .
كما كانت تتمّتع الجالية اليهودية بالإسكندرية في مصر بكامل حقوقها المدنية والدينية، وكان عددها يفوق كل الجاليات اليهودية في العالم، وقد أدارت ظهرها لصهيون، واستمرت في حياتها الهادئة المستقّرة تمارس شعائرها الدينية في معابدها الخاصّة. وخلال النصف الأوّل من القرن العشرين أطلقت أيديهم في الصحافة المصرية فضلاً عن الصحافة اليهودية،فكان لهم أساتذة في المعاهد المصرية، ولعبوا دوراً هاماً في مجال المال والاقتصاد، فاغتنى عدد كبير منهم، كما كان لهم مقاعد في مجلس النواب المصري، وفي عام 1924 عيّن وزير يهودي للمالية في الحكومة المصرية هو:"يوسف قطاّوي باشا" .

وفي الأندلس رحّب بهم الخلفاء ومنحوهم حقوقاً متساوية وحرّية كاملة وذلك عندما هاجروا من بغداد إثر الغزو المغولي لها . وحمل علماء المدرستين العراقيتين كتبهم وآثارهم وتلامذتهم معهم إلى الأندلس. وهناك وصل كثير منهم إلى مناصب عالية في الدّولة مثل "جسداي بن شبروط " الذي دخل في خدمة الخليفة عبد الرحـمن الثالث طبيباً ومستشاراً، وعمل كسفير للخليفة كونه يجيد العربية والّلاتينية والعبرّية . وأيضا ً"صموئيل بن تغدلة " الذي لعب دوراً مشابهاً في غرناطة التي كانت تسّمى "مدينة اليهود" لكثرة عدد اليهود فيها والتي ما زالت أحياؤهم قائمة فيها .

وقد برز علماء وفلاسفة يهود في هذه الحقبة شاركوا العرب المسلمين في التدوين والترجمة للكتب اليونانية مثل:" إبراهيم بن داود " من طليطلة. ثم بزغ نجم الفيلسوف "موسى بن ميمون"،وقد صاحب المفكر العربي الأندلسي ابن رشد ، وسكنا في بيت واحد وأظهرا الاتجاهات الإنسانية نفسها. وعندما استقرّ في الفسطاط بمصر اتخذه صلاح الدين الأيوبي طبيباً له .

وعندما تقدّمت الجيوش المسيحية في إسبانيا نحو الجنوب سنة 794هـجرية الموافقة لـسنة1391 ميلادية، جرت حملة دامية لإخراج اليهود من شبه الجزيرة الإسبانية، فلجأ الكثيرون منهم إلى الجزائر، فأسرع السكان العرب الجزائريون إلى بناء بيوت خشبية مرتجلة لإيواء مجموع اللاجئين وإغاثتهم . وبعد سنوات قليلة أصبح هؤلاء اللاجئون أغنى تجاّر المنطقة ينقلون البضائع بين غربي إفريقيا وسواحل البحر الأبيض المتوسط حتّى سمّي طريق تلمسان التجاري عبر الصحراء" طريق اليهود " .

حظي اليهود بنفس المكانة والمعاملة في البلاد العربية الأخرى فكان منهم الوزراء مثل الدكتور بنزاكين في المغرب وأندريه بسيس وأندريه باروخ في تونس، وتشير مجموعة من المصادر التاريخية أنّ ملك المغرب محمد الخامس وقف إلى جانب اليهود ضدّ حكومة فيشي الفرنسية الخاضعة لألمانيا الهتلرية عندما حاولت أن تضطهد يهود المغرب، حيث دافع عنهم مؤكداً أنّهم مواطنون عرب مغربيون .

عموما، ففي الضفة الأخرى ظل اليهود موضع ازدراء وكراهية المجتمعات الأوربية حتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى حين رفع شعارات جديدة حملت معاني إنسانية نبيلة احتوت كل الخلافات كنتيجة لانتشار مبادئ الحرية والمساواة والإخاء في أعقاب الثورة الفرنسية (1848-1850) التي أعلت من قيمة الإنسان بصفة عامة وقيمة المواطن الفرنسي بصفة خاصة،وهو ما ترجمته مواد إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي يعتبر من أهم وثائق الثورة الفرنسية الأساسية التي حددت فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة للفرنسية آنذاك ، وهو لا يزال من الوثائق المرجعية في مجال المواطنة وحقوق الإنسان .وهيأ هذا المناخ الفكري الذي طال أوربا وقتئذ فرصة لتحرير اليهود من الاضطهاد والتمييز سيما وأن الفصل الثاني من بيان حقوق الإنسان والمواطن أكد على أن "الهدف من كل تنظيم سياسي هو الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية والمقدسة، والمتمثلة في الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة الاضطهاد" .هكذا،تحرر اليهود من عزلتهم للاندماج في المجتمعات التي تأويهم سيما وأن مجتمعات أوربا الغربية إلى جانب إقرارها بأحقية الأقليات في العيش بسلام كمواطنين عاديين اتجهت نحو العلمانية لتضع سدا منيعا بين الدين والدولة في إشارة منها لاعتناق النهج الليبرالي والديمقراطي الذي هيمن بشكل كبير على الفكر السياسي الأوربي الحديث .
ومنذ أواخر القرن الثامن عشر و مطلع القرن التاسع عشر،اختفت الاضطهادات ضد اليهود في غرب أوربا،أو قلت إلى حد كبير.وباختفاء الاضطهاد والتفرقة في غرب أوربا،تكسرت الحواجز التي كانت تفصل بين اليهود وغيرها،مما سهل عمليات التفاعل والانصهار الاجتماعيين وتحطم نظام "الجيتو" .ونتيجة لهذا الانفراج السياسي والفكري تحسنت أحوال اليهود في أوربا الغربية ليصبحوا دستوريا واقتصاديا مواطنين عاديين بعدما ألغيت القوانين المقيدة لحرياتهم منذ سنة 1791 في فرنسا،ثم في جل الدول الأوربية.

أما في شرق أوربا ،فقد ظلت التجمعات اليهودية على غرار الأقليات في روسيا القيصرية، ترزح تحت وطأة التمييز والاضطهاد المستمر من جانب القياصرة الروس.وكان اغتيال القيصر اسكندر الثاني في 13 مارس 1881،والذي حملت السلطات الروسية اليهود مسؤولية اغتياله،هو الشرارة التي أشعلت فتيل الأعمال الانتقامية من اليهود،أو ما أطلق عليه "حركة معاداة السامية" The anti_Sementic Movement .فلم تمض بضعة أسابيع على اغتيال القيصر،حتى فتحت أبواب الجحيم على مصاريعها لتبتلع اليهود .ولعل من أبرز مظاهر الحركة السالفة الذكر في روسيا ،مذبحة كيشينيف Kishinev سنة 1903 ثم مرة أخرى عام 1905 بواسطة الحكم القيصري ضد يهود المدينة والمناطق المجاورة.وظلت وضعية اليهود في أوربا الشرقية على هذا الحال من التنكيل والتعذيب إلى نشوب الثورة البلشفية عام 1917 ،الأمر الذي أوجد ما عرف "بالمشكلة اليهودية"،ويقصد بها إمكانية بقاء اليهود دون اضطهاد في المجتمعات التي تأويهم.ذلك أنه بعد التفوق المالي الذي أحرزه اليهود ،والنزعة الاستقلالية والعنصرية التي كانت تتحكم في تصرفاتهم ،تولدت نقمة ضدهم في الأوساط الأوربية،وأصبحت مقاومتهم هدفا قوميا وواجبا وطنيا في كثير من البلدان .والجدير بالذكر أن هذه المشكلة لم يشعر بها يهود شرق أوربا، حيث سادت العزلة والإقصاء حياتهم.في حين أن يهود غرب أوربا كانوا قد قطعوا أشواطا مهمة نحو الانصهار في المجتمعات الغربية،وأصبح من حقهم أن يتقلدوا وظائف الدولة التي كانت حكرا على المواطنين الأصليين ،فضلا عن ممارسة الأعمال التي يشاءون والسكن حيث يريدون.وبلغ الأمر أن أصبح أحد اليهود رئيسا للوزراء في انجلترا،وهو بنيامين دزرائلي Disraeli صاحب القولة الشهيرة التي تنزع عن العلاقات الدولية طابعها الأخلاقي:"إنه لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة،بل مصلحة دائمة".كما نشأت بيوت مالية لهم في فرنسا وانجلترا ،من أكبرها بيت روتشيلد Rothschild،وأصبح لهم شأن كبير في الحياة الاقتصادية والمالية . وبفضل ذلك سارعوا إلى تجسيم صورة الاضطهاد -استنادا إلى ما يمتلكونه من فن الدعاية والإعلام بأنواعه المختلفة- الذي عاشوه لاستمالة أصحاب القرار والمفكرين والكتاب والمؤرخين ونيل التعاطف حيال الحياة المأساوية التي تكبدها اليهود ، والتي كانت مشوبة بطبيعة الحال –حسب زعمهم- بالمظالم.فبادرت صيحات من مناطق مختلفة من أوربا تدعو إلى حل مشكلة اليهود من خلال دعم عودتهم إلى أرض الميعاد أي فلسطين، واحتوت هذه الصيحات "الصهيونية" Zionism وجسدتها إلى واقع عملي ملموس . ففي تلك الأحياء اليهودّية المنعزلة بالطقوس والتعاليم الدينية الغيبية والعنصرية، حصدتْ الحركة الصهيونية ثمارها بعد أن لمستْ تأثير هذه التربية الدينية على عقلية النشء اليهودي.‏ وعلى الرغم من أنّ حركة التنوير اليهودية" الهسكالاه" التي ظهرت في العصر الحديث قد دعتْ إلى التحرّر من الأفكار الغيبية التي تنتظر الخلاص الذي سيأتي على يد المسيح، وطالبت أن تكون الدراسات في مدارس التلمود مقصورة على الحاخاميين وحدهم، وأن يرسل أولاد اليهود إلى مدارس الأغيار حتى يتّقنوا كلّ فنون العلمانية، فإنّها أي " الهسكالاه" لم تكن لتريد التخّلي عن التعاليم الدينية ، بل كانت تسعى لتحقيق الخلاص بالاعتماد على الذات دون انتظار المسيح، ونقل الأفكار الدينية إلى حيّز الواقع.

لقد أرادت هذه الحركة أن تدفع اليهودي للتحرّر من الأفكار الغيبية ويتطلع إلى رؤية روابطه مع الماضي اليهودي متداخلة مع ميوله نحو قيم الثقافة العلمانية، فهي لم تطالبه أن يتخّلى عن إرثه الثقيل ويرفض تبعيته لهذا الإرث. إنّما أرادت أن يحافظ على ذاتيته بطريقة جديدة ، وهذا ما تلقّفته الحركة الصهيونية وعلى أساسه رفعت شعارها" لنكن شعباً مثل سائر الشعوب" وذلك عن طريق خلق" جيتو" دولي كبير، فبدلاً من محاولة الاندماج يجب على اليهود أن يتحولوا إلى شعب يماثل الشعب الإنجليزي، بإنشاء وطن قومي له يغدو فيه سيدا . فما المقصود بالصهيونية؟ من أين تستمد أصولها ؟وما هي دواعي مطالبتها بفلسطين تحديدا منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ؟

 تعريف الصـهـيونية :


إن كلمة الصهيونية منسوبة إلى صهيون، التي تعني "الأرض الموعودة"، وهي أصلا تسمية لأحد الجبال الواقعة في الجنوب الغربي من القدس.ولعل تعبير الصهيونية ورد لأول مرة على لسان الكاتب اليهودي الألماني (ناتان بيرنباوم) عام 1893،وهو أحد زعماء جمعية (أحباء صهيون) ، لتدل على الحـركة الهادفة إلى تجميع "اليهود" في أرض فلسـطين .وكان غرض اليهودية العالمية من اختياره،هو إثارة الشعور الديني والعنصري في يهود العالم واكتساب تأييد العناصر المسيحية الغربية وعطفها .
والصهيونية حركة عنصرية سياسية استعمارية أسبغت على اليهودية صفة القومية والدلالة الجنسية ،وزعمت أن الشعب اليهودي يُكَون عرقا نقيا ، وطالبت بحل للمشكلة اليهودية من منطلق معارضتها لفكرة اندماج اليهود في أوطانهم الأصلية،ودفعتهم للهجرة إلى فلسطين بدعوى أن لهم فيها حقوقا تاريخية ودينية،وتلاقت مطامع الصهيونية بأهداف الاستعمار في إقامة دولة يهودية في فلسطين عن طريق إرهاب وطرد شعبها العربي الأصيل ،لتدمر علاقات التعايش السّلمي التي كان اليهود يتمتعون بها في الدول العربية، واقتلعتهم من مناطقهم عن طريق إثارة الخوف من الاضطهاد،فسحبت حوالي (650000) يهودي من العراق واليمن وسورية ومصر وتونس والجزائر ومراكش وغيرها من الدول العربية الأخرى، فقد كان يسكن في العراق وحدها حوالي مئة ألف يهودي عند قيام الكيان الصهيوني .

 أصول وتصورات الصهيونية :

تستقي الصهيونية أصولها من الفكر الصهيوني الذي ينهل من كتابين اعتبرا المصدر الرئيسي للديانة اليهودية ولكل شؤون الحياة اليهودية،وهما التوراة وشرائع التلمود ، تلك العقائد التي جعلت المستعمرين على مدار التاريخ يسعون لاستغلال اليهود وتوريطهم للعودة إلى ما يسمونه زورا وبهتانا أرض الميعاد،كما جعلت اليهود في العالم يحملون عداء دائما لغيرهم من الناس .كما تستمد الصهيونية حيويتها من ارتباط الفكر الصهيوني بعقائد دينية وعنصرية ثابتة في أذهانهم ،والشاهد على الاستثمار الأقصى للدين وجعله غطاء لمشروع استيطاني استعماري ما قاله هرتزل في كتابه الشهير "الدولة اليهودية" كما سـنرى لاحقا : "سوف يقوم حاخامونا، الذين نتوجه إليهم بنداء خاص ، بتكريس جهودهم وطاقاتهم لخدمة فكرتنا ، وسوف يغـرسونها في نفـوس الرعية اليهودية عن طريق الوعظ والإرشاد من فوق منابر الصلاة " .
وجذير ذكره أنه لما كانت الصهيونية استمدت إيديولوجيتها من التوراة،فقد قررت إيلاء الأبحاث والدراسات الخاصة بالتوراة اهتماما يحظى برضا كل اليهود.وحول هذه النقطة يثير انتباهنا المؤرخ العربي حسن عبيد عيسى إلى أن التنقيبات أثبتت أن التوراة شكلت كما ضخما من السرقات الفكرية لإبداعات وجهود العراقيين والسوريين والمصريين القدماء.فقد أعيدت صياغة أساطير تلك الشعوب لتتحول على أيدي الحاخامات إلى أسفار مقدسة .ويضيف أن المكتشفات الآثارية التي نجحت بإخراج مئات الألوف من الرقيمات من تحت طبقات الأرض العراقية المزدحمة بالوثائق الطينية،أعادت الأساطير اليهودية (ذات المظهر الديني المقدس) إلى جذورها وأصولها الوثنية العراقية،حيث كانت التنقيبات في هذا المجال وسيلة دحض للدعاوى الصهيونية وليست وسيلة إثبات،وهذا أمر ذو أهمية وخصوصية،فهي إما منتحلة بشكل مباشر من الحضارات الرافيدينية،وإما مقتبسة من الحضارة الفينيقية(الكنعانية) المستوردة للنتاج الحضاري العراقي القديم،إضافة إلى اقتباس ماهو نتاج حضاري فينيقي خالص .
ولقد حاول البعض التكتم على السرقة اليهودية الضخمة للنتاج الحضاري العراقي والفينيقي (الكنعاني)،وتعليل وجود الرموز الوثنية والروايات الأسطورية العراقية والعادات الفينيقية وغيرها من أسفار التوراة على أنه بسبب تهود البابليين والفينيقيين،وليس نتيجة السطو الحاخامي على تراث هذين الشعبين.
إن الاسترسال في هذه المقارنة يستغرق مجلدات كاملة،لذا لسنا متحمسين بصدد المضي قدما فيه،ولكن ما نريد أن نوضحه هنا أن الصهيونية ما هي إلا امتداد طبيعي وتطور تاريخي للعقيدة اليهودية المزيفة، والتي تجعل من التلمود عماد الدولة وفلسفتها التي تقوم بالأساس على فكرتي :

1) شعب الله المختار : إنّ النظرة اليهودية التلمودية تميّز اليهود عن الأغيار، الأمم غير اليهودية، فهم الشعب المختار والزرع المقدّس. هم البشر وما عداهم أرواح شيطانية شبيهة بأرواح البهائم والحيوانات، فالإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة .بمعنى أنها اعتبرت العنصر اليهودي مميزا عن باقي البشر(الجوييم)،وأن الله قد خلق "الجوييم" لخدمة شعبه المختار وسخرهم له ؛وما يكرس هذه النظرة الدونية هو أقوال الفقهاء اليهود في التلمود ، فنقرأ قول الرابي حنينا: "إذا ضرب الوثنّي يهودّياً استّحق الموت". ويقول أيضاً :" من ضرب إسرائيلياً على فكّه كأنّه اعتدى على الحضرة الإلهيّة." . كما يشير فقهاء التلمود إلى أنّه لا يجوز للطبيب "الحكيم" اليهودي الماهر أن يعالج أحداً من بقية الأمم ولو بالأجرة. أمّا إذا كان الطبيب اليهودي غير ماهر بصنعة الطّب فيجب عليه أن يتعّلم بمعالجة بقية الأمم للتعّلم فقط. وحرام عليه أحد من اليهود طالما بقي غير ماهر بصنعة الطب . ونقرأ أيضاً في سفر التثنية أنّه لا يجوز لليهودي أن يتعامل بالرّبا مع أخيه اليهودي بينما يباح له أن يمتصّ غيره من الأمم والشعوب، وأن يسرقه وأن يشهد بالزّور عليه وأن يقتلـه أو يكذب عليه أو يغدر به أو يغصبه أو ينتقم منـه أو يشتهي امـرأته أو بيته. فالمحرمات التي نجدها في سفر الخروج تخـصّ بني إسـرائيل وحدهـم: " لاتشهد على قريبك شهادة زور ولا تشته بيت قريبك ، لا تشته امرأة قريبك ولا أمته ولا ثوره ولا حماره"،" للأجنبي تقرض بربا. لكن لأخيك لا تقرض بربا" .
هذه بعض من النماذج وغيرها كثير مما يجسد رؤية اليهود العدائية بشكل عام لغيرهم من الأمم سيما كونهم يؤمنون بأنهم أمة واحدة وشعب واحد وجنس وحيد سامي رغم أن عددا كبيرا منهم اختلطوا بغيرهم- في أماكن متفرقة- من البلدان التي عاشوا بين ظهرانيها حتى أن بعضهم لازالت تحتضنه تلك البلدان،ومنها بعض الدول الإسلامية والأوربية وغيرهما.

2) المسيح(الماشيح) المنتظر : من أهم العقائد اليهودية عقيدة الماشيح،وهو-عندهم- ملك من نسل داود سيأتي في نهاية التاريخ(أو سبت التاريخ) ليجمع شتات اليهود المنفيين،ويعود بهم إلى الأرض المقدسة،ويحطم أعداء إسرائيل،ويتخذ أورشليم عاصمة له،ويعيد بناء"هيكل سليمان" ،ويحكم العالم من جبل صهيون،وهذا مرده كما سبق الذكر إيمانهم بفكرة بعث الدولة اليهودية في فلسطين بحدوث معجزة إلهية،يظهر معها المسيح المنتظر الذي سيعيد بناء الهيكل ويقود العالم نحو الخير والسلام.وقد أضعفت عقيدة الماشيح من انتماء اليهود لأي حضارة،وزادت من انفصالهم عن الأغيار،لأن انتظار الماشيح يلغي الإحساس بالانتماء الاجتماعي والتاريخي، والرغبة في العودة تضعف إحساس اليهودي بالمكان وبالانتماء الجغرافي.
ومهما يكن، فالصهيونية واليهودية صنوان لا يفترقان،وإن كانت الصهيونية قد تحولت إلى حركة سياسية بشكلها الحالي على يد اليهودي الهنغاري تيودور هرتزل Theodor Herzel (1860-1904) ، الذي أصدر عام 1896 كتابه (الدولة اليهودية) باللغة الألمانية،والذي ألقى فيه تبعة اضطهاد اليهود على شعوب العالم،وطالب بأن تكون لليهود السيادة على جزء من الأرض،وتترك لهم الحرية في تقرير مصيرهم بأنفسهم .
ولما كان هرتزل يعتقد أن خطة إقامة الدولة اليهودية لا يمكن أن يتحقق على يد رجل واحد،فقد دعا إلى عقد مؤتمر صهيوني عالمي لوضع سياسة محكمة للحركة الصهيونية ومناقشة الأفكار التي طرحها في كتابه"الدولة اليهودية".وبعد جهد بالغ ومعارضة يهودية قوية (باعتبار أن أهداف الصهيونية تتعارض مع الرسالة الإسرائيلية المقدسة)،استطاع أن يعقد المؤِتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية من 29 إلى 31 أغسطس عام 1897،وحضره مائتان وأربعة من كبار يهود العالم يمثلون جمعيات وهيئات صهيونية مختلفة .وكان هرتزل مهندسه الحقيقي،وقد أسفر المؤتمر عن تبني أربع قرارات هامة عرفت ببرنامج بازل،وكانت تهدف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين يدعمه القانون العام من خلال :

• تشجيع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين على أسس مناسبة من قبل العمال الزراعيين والصناعيين اليهود،وكذلك العمل على إنشاء مستعمرات زراعية وعمرانية في فلسطين .
• إنشاء منظمة تربط يهود العالم وتعمق الصلات بينهم، وذلك عن طريق منظمات محلية تابعة لها في كل بلد يتواجد فيه اليهود.
• تنمية وتقوية الروح القومية لدى اليهود.
• اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الدول حيث يكون ذلك ضروريا لتحقيق الصهيونية.

بعد أن حددت الحركة الصهيونية هدفها المرحلي في المؤِتمر الصهيوني الأول، تكونت في بازل المنظمة الصهيونية العالمية،وطبيعي أن ينتخب هرتزل الذي يعتبر بحق مؤسس الصهيونية الحديثة رئيسا لها،وانطلق في العمل من أجل الحصول على حق شرعي معترف به دوليا لبدء عملية تنفيذ الاستعمار الاستيطاني في فلسطين إذ أثناء المؤتمر اكتشفت الحركة الصهيونية أن تجسيد حلمها،أي خلق وطن قومي يهودي في فلسطين،يمر حتما بمساع لدى الحكومات الأوربية ونيل دعمها .وقد وضعت الحركة لأجل إنجاح ذلك برنامجا عمليا لأجرأة هذا المخطط يرتكز على ثلاثة خطـوط :التنظـيم،والاستـعمار أو الاستيـطان،ثم الدبلوماسيـة أو المفاوضات .

ولتنفيذه عملت الصهيونية على بناء أجهزة ومؤسسات الحركة الصهيونية للقيام بمهام إرساء دعائم الدولة، فأنشأت جمعيات صهيونية أعلنت تعاطفها مع المنظمة الصهيونية العالمية،كما عملت على خلق أدوات الاستعمار الصهيوني المنظم،ومنها المصرف اليهودي للمستعمرات (صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار) الذي لم يعمل بشكل جدي إلا في سنة 1901،كما أقيم سنة 1906 الصندوق القومي اليهودي قصد الحصول على أراضي في فلسطين؛ونص القانون الأساسي لهذا الصندوق على اعتبار الأراضي التي يشتريها ملكية أبدية للشعب اليهودي لا يجوز بيعها أو التصرف فيها ، كما حصلت المنظمة على امتياز مجلة دي فيلت لتكون لسان حال المنظمة .وأنشئت سنة 1898"لجنة الاستعمار"،كما أنشئ عام 1908 "مكتب فلسطين" وعام 1909 شركة تطوير الأراضي ،وكان هدف هذه المؤسسات جميعها التخطيط لعملية الاستعمار اليهودي .

ورغم النجاح الذي حققه هرتزل في خلق هذه الآليات التنفيذية للمخطط الصهيوني،فإنه فشل في الحصول على الأرض التي سيقيم عليها الوطن القومي اليهودي،حيث رفض السلطان العثماني عبد الحميد الثاني السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين التي كانت تحت حكمه ،وسمح للمهاجرين اليهود في المقابل بعد مفاوضات مطولة بالاستقرار متفرقين في جميع الولايات الآسيوية التابعة للدولة العثمانية باستثناء فلسطين،ولسوف يمنح المهاجرون اليهود الرعوية العثمانية ،ويطالبون بدفع جميع الضرائب المدنية،بما فيها الخدمة العسكرية،كما أنهم سيخضعون لجميع قوانين البلاد .كما فشل في إقناع الإنجليز لأسباب عملية بإعطائه منطقة العريش المصرية لتكون نواة دولتهم المقترحة ومن تم قاعدة لانطلاقهم إلى فلسطين .ويوضح الدكتور إسماعيل أحمد ياغى هذه النقطة بقوله أن الحكومة البريطانية رفضت تعضيد مطامح الصهيونية في فلسطين،خشية إغضاب الدولة العثمانية-وسنرى فيما سيأتي دوافع هذه الحيطة البريطانية-مما جعل هرتزل يعرض مشروعات بديلة.فاقترح على جوزيف تشمبرلين Joseph Chamberlain وزير المستعمرات أن يسمح لليهود باستيطان جزيرة قبرص،فرفضت بريطانيا طلبه،كما رفضت طلبا آخر باستيطان اليهود في العريش .وإزاء فشل مشروع العريش،عرضت بريطانيا على هرتزل أوغندا كمكان لاستيطان اليهود فيها.وقد أبدى هرتزل موافقته معتبرا إياه كملجأ ليلي لوقت الشدة بالرغم من معارضة كثيرين من زعماء الصهيونية لمشروع أوغندا في المؤتمر الصهيوني السادس الذي انفض بعد أن أوصى بإرسال بعثة استكشافية إلى أوغندا لدراسة إمكانية استعمارها على أن ترفع تقريرها للمؤتمر السابع ،غير أن "أب" الصهيونية العالمية تيودور هرتزل كان قد توفي في 3 يوليو 1904 أي قبل انعقاد المؤتمر و دون أن يحقق نتائج كبيرة تثمن الآمال التي كانت معلقة على تفعيل برنامج بازل.

والحـقيقة أن الخلاف الذي نشب بين أنصار المنظمة الصهيونية حول مشروع أوغـندا ،إلـى جانب وفاة هرتزل زعزعـا العزائم والطموحات الصهيونية،إلـى أن عقد مـؤتمر كامبل بانرمـان Bannerman Campbell عام 1906 في بريطانيا، تشكلت بموجبه لجنة عرفت باسم"لجنة الاستعمار"،تتكون من خبراء في كل التخصصات من مختلف الدول الأوربية،لبحث مستقبل الحضارة العالمية.وأصدروا تقريرا جاء فيه(أن الحضارة الوحيدة المؤهلة لترث الحضارة الأوربية،هي حضارة الشعوب من تراث عظيم ولغة واحدة وتاريخ مشترك ودين واحد وثروات طبيعية ضخمة.و لابد أن نسعى منذ الآن لنحول دون نمو وتطور شعوب هذه المنطقة، كما لابد من إهدار ثرواتها وتمزيقها بكل الوسائل.ولتحقيق هذه الغاية،فإنها –أي الدول الغربية-ستسعى لزرع شعب غريب عن أهل المنطقة،عدوا لها وصديقا للغرب-شرق قناة السويس.ولا تنطبق هذه الصفات إلا على اليهود...فليكن) .

ويجمع مجموعة من الباحثين أن التوصيات التي خرج بها هذا المؤتمر-التي شكلت رسالة كامبل بانرمان بوصلته- فتحت الأبواب أمام الصهيونية من خلال :
1. توصل اللجنة في تقريرها إلى أن منطقة البحر الأبيض المتوسط، هي مصدر الخطر الذي يهدد الإمبراطوريات الاستعمارية ، باعتبارها همزة الوصل بين الشرق والغرب، وفي حوضها نشأت الأديان وأعرق الحضارات ، وخصوصاً في شواطئها الجنوبية والشرقية حيث العالم العربي الممتد من الرباط – غزة – مرسين وأظنه، كما تضم هذه المنطقة برزخ السويس حيث تتصل آسيا بإفريقيا وفيها قناة السويس شريان الحياة لأوروبا ، وفيه أيضاً شواطئ البحر الأحمر وعدن وخليج العرب، حيث الطريق إلى الهند والمستعمرات .

2. دراسة التقرير للمنطقة موضحاً كيف يقطنها شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللغة والثقافة والآمال وجميع المقومات للتجمع والترابط والاتحاد، كما تتوافر لهذا الشعب، كل أسباب القوة والنهوض والتحرر، بسبب نزعاته التحررية وثرواته الطبيعية الكامنة وموارده البشرية المتزايدة.

3. تقديم اللجنة لعدة تساؤلات تتعلق بالمنطقة العربية في حال وحدتها، ودخول الوسائل الحديثة إليها ، وانتشار التعليم والثقافة فيها، واستفادة شعبها من مواردها.

4. التأكيد على خطورة تحقق هذه الوحدة على الإمبراطوريات الاستعمارية.

5. تطرق التقرير إلى الوسائل التي تحول دون توقيع هذا الخطر، فدعا الدول ذات المصالح المشتركة إلى أن تعمل على استمرار وضع هذه المنطقة المجزأة المتأخرة وإلى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل و تناحر .

6. اقتراح اللجنة في تقريرها العمل على إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط آسيا بإفريقيا ، ويربطهما معاً بالبحر المتوسط بحيث يشكل الحاجز البشري ، وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة.ولا شك أن هذه المنطقة المقصودة بإقامة الحاجز البشري الغريب عليها هي الجزء الجنوبي من سوريا (فلسطين) .

والجدير بالذكر أن الحكومة البريطانية كانت من أكثر المتحمسين والعاملين على إنجـاح هذا التقريـر أو بالأحرى البرنامج كرد فعل وقائي يقابل خطر وحدة العالم العربي والإسلامي الذي جسدته حملة إبراهيم باشا ابن محمد علي حاكم مصر على بلاد الشام وتركيا عام 1838 ،وعمدوا إلى منع تحقيق هذه الوحدة بفلسفة ميكيافلية تجعل الغاية المنشودة تبرر الوسيلة المتخذة، فوجدوا في الحركة الصهيونية المتلهفة إلى فكرة إنشاء وطن قومي يجمع اليهود في فلسطين، ضالتهم المبتغاة.

وعلى ذلك، فإن بريطانيا عندما أصدرت وعد بلفور في 2 نونبر 1917، أعطته استمرارا منها في سياساتها تجاه المنطقة.وقد وافق عليه الرئيس الأمريكي ولسون قبل نشره،كما صادقت عليه فرنسا وإيطاليا بعدة فترة قصيرة،مما يفيد للوهلة الأولى أن الوعد وإن التصق تاريخيا ببريطانيا آنذاك فهو يعد في الحقيقة بمثابة مؤامرة تشترك فيها تلك الدول الاستعمارية.لكن هذا لا يعني البتة استبعاد مسؤولية الحكومة البريطانية بشكل أخص في تمهيد الطريق أمام الفكر الصهيوني بحكم وزنها ومصالحها في المنطقة العربية.ومن جهتها نشطت الحركة الصهيونية في استمالة القوى الامبريالية،حيث نجحت في تقوية نفوذها أثناء الانتداب البريطاني لفلسطين،واستطاعت استثمار هذا الدعم لتحوله إلى واقع أثمر عن ميلاد الدولة الإسرائيلية التي لم تتورع منذ مغادرة الحكومة البريطانية للأراضي الفلسطينية سنة 1948 عن التنكيل بالسكان الأصليين لثنيهم عن التشبث بأرضهم،والغريب في الأمر أن الحرب الإسرائيلية غالبا ما يغلب عليها الطابع الديني باعتبار أن هذا الأخير يشكل سندا فكريا لاستمالة عقول الجنود الإسرائيليين وإقناعهم بكون الحرب ما هي إلا دفاع عن الحق واستجابة لنداء الرب،وقد تختفي هذه الغرابة إذا علمنا وزن الأحزاب الدينية داخل الكيان الإسرائيلي لدرجة قدرتها على الإطاحة بالحكومة الإسرائيلية إذا رفضت الإذعان لمطالبها،وهنا يشير أحد الكتاب الإسرائيليين إلى أن النفوذ الديني زاد بعد إنشاء الدولة بظهور الحزب الديني الوطني المؤيد للصهيونية وانضمامه إلى الكنيست.وبالرغم من كونهما متنافسين حقيقيين،إلا أن تعاضد الحزبين الدينيين الكبيرين وتعاونهما لتحقيق أهداف عامة قد ضغط على أول حكومة في الدولة الجديدة للعمل على تسوية الخلافات.وكان من عادة بن غوريون أن يعد بوضع قوانين لصالح الأحزاب الدينية،ثم يماطل ويماطل ويعترض إلى أن تسقط الحكومة ،ويضيف أن مما طبق من القوانين تقييد السفر والتجارة أيام السبت،ومنع بيع لحم الخنزير،بيد أن فرض القوانين بالقوة أضحى مستحيلا بسبب الأغلبية العلمانية التي رفضت الانصياع لأقلية دينية بغض النظر عن قوة القانون الذي وقف بجانبها .ما يهمنا من هذه الإشارة هو تغذية العقائد الصهيونية العدائية للسياسة الإسرائيلية،الأمر الذي يسهل معه بناء هذه الأخيرة على مبدأ القوة قبل السلام ،وطبيعي أن تتمخض عن سياسة القوة هاته انتهاكات إنسانية جسيمة في حق الشعب الفلسطيني على امتداد ما يفوق خمـسين سنة.فكـما عاشت الطائفة اليهودية تحت وقع التقتيل والحرق والتنكيل الأوربي، وكما استعملت الدول الأوربية الاستعمارية القمع والعنـف و التمييز العنصري ضد شعوب المستعمرات في آسيا وإفريقيا لبسط هيمنتها ونفوذها على مستعمراتها، أسقطت الحركة الصهيونية الفكر الاستعماري نفسه على الفلسطينيين،وقد انكشف هذا الأسلوب بشكل ملفت للانتباه في الحروب الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني.


سيتم ادراج نسخة الهوامش لاحقا




الخميس 18 أكتوبر 2012
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter