MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




قراءة دستورية في الحقوق والحريات

     

ذ. سعيد رحو



قراءة دستورية في الحقوق والحريات



هناك مبدأ متعارف عليه عند المختصين في الحقلين القانوني والقضائي، مفاده أنه كلما خصت الوثيقة الدستورية مجالا محددا بأحكام وقواعد دستورية، كلما تم تبرير ذلك بأهمية القيمة القانونية التي يحظى بها المجال، وهذا من شأنه أن يسهل وظيفة المؤسسات الأخرى الحامية له، كالقضاء الذي يعمل على فرض احترام الحريات والحقوق وفقا للدستور والقانون من خلال الرقابة القضائية، والقضاء الدستوري عبر رقابة دستورية القوانين ومدى مطابقتها لأحكام ومقتضيات الدستور.

ولما كان الإصلاح الدستوري الأخير يعتبر على حد الخطاب التحليلي والتقييمي الذي ساد في المرحلة التي تلت دستور 2011، مرحلة مهمة في تاريخ النظام الدستوري والسياسي المغربي، من الأجدر الوقوف على بعض الأفكار النظرية المتعلقة بالحقوق والحريات في الدستور، لا سيما ما يتعلق بالتحديد الدستوري لهذه الحقوق والحريات، سواء قبل دستور 2011، أو خلال الفترة اللاّحقة لدستور 2011.

أولا: التحديد الدستوري للحقوق والحريات قبل دستور 2011

بالعودة السريعة إلى الوثيقة الدستورية لسنة 1962، باعتبارها التجربة التأسيسية الأولى للنظام السياسي بالمغرب، سيتأكد الباحث من أن مجال الحقوق والحريات، بقي محصورا في الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذْ تم تخصيص الفصول من 8 إلى 12 لحقوق المواطن السياسية، والفصول من 13 إلى 15 لحقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه من الناحية الهندسية، تم إلحاق جل هذه الحقوق بالباب الأول المتعلق بالأحكام العامة أو المبادئ العامة.


قد يسود الاعتقاد لدى بعض الفقهاء بأن هذا التعداد الحصري للحقوق والحريات هو الذي أبقت عليه الدساتير التي تتابعت وهي دستور 1970-72-92-96، اللهم ما تعلق بالفصل 10 من دستور 1970، حيث تم استبدال عبارة “الحبس” التي أوردها دستور 1962 بعبارة “الاعتقال”. ومن هذا المنطلق، أمكن القول إن المشرع الدستوري حرص منذ أول وثيقة دستورية على تقرير حقوق المواطن السياسية والاجتماعية الاقتصادية، وأضفى عليها طابع السمو، ولعل الهدف من ذلك عدم ترك النقاش مفتوحا للمجادلة حول قيمتها القانونية وإبعادها عن صفة الإلزام أو كونها قواعد أخلاقية مجردة. وهو نهج سلكته غالبية الدساتير الحديثة لا سيما تلك الدول التي اعتنقت الحرية والاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية وحصلت على سيادتها المطلقة على جل أقاليمها.

كما سَيُلاحَظ أن المشرع خلال هذا المسار الدستوري، قد أَقرّ هذه الكتلة الحقوقية ونص عليها في صلب الوثيقة الدستورية وبشكل واضح، وليس ضمن ديباجات أو إعلانات مستقلة لتجنب وتفادي المنازعة في قيمتها من جهة، وحتى لا يسمح بتعديل المكتسبات الحقوقية في هذا المجال أو يغير منها إلا طبقا للقانون، إذا اعتبرنا أن الدستور المغربي من الدساتير الجامدة التي يتطلب تعديل نصوصها اتباع مساطر وإجراءات معقدة وأكثر صعوبة، تفوق تلك التي تتبع في تعديل القوانين العادية، لأن الغاية من تقرير هذا الجمود هو إعطاؤه نوعا من الثبات والاستقرار، ولهذا تحاط قواعده وأحكامه بسياج قوي يضمن لها قدرا من السمو ويدرأ عنها التغييرات التي قد تتم دون روية وتدبر وتفكير، وبالتالي فهذا التنصيص من شأنه حماية استقرار القاعدة القانونية التي تحمي الحقوق والحريات، على خلاف بعض الأنظمة السياسية خاصة إنجلترا، التي نهجت أسلوبا مغايرا لتقرير حقوق وحريات المواطنين، حيث تم التنصيص عليها ضمن قوانين عادية لتتيح للمواطنين إمكانية قانونية لتعديل هذه الحقوق كلما أرادوا ذلك بالزيادة منها أو العدول عنها.

ثانيا: التحديد الدستوري للحقوق والحريات بعد دستور 2011

شكل خطاب 9 مارس مرحلة حاسمة لاهتمام الحوار العمومي الذي شهدته مراجعة الدستور، حيث التقت غالبية مكونات الحركة الحقوقية في نقطة الدعوة إلى اعتماد باب خاص بالحقوق والحريات داخل الوثيقة الدستورية، على أساس أن يكون صريحا، تفصيليا، غير ملتبس، لغته واضحة، لا تحتمل الضمني والفوق دستوري، ولا التأويلات المقيدة للحقوق والحريات ولفصل السلط وللمسؤولية على حد تعبير بعض الكتابات المتخصصة.

ولعل عودة الباحث المتأنية إلى دستور 2011، سيجد أن المشرع الدستوري خصص بابا كاملا للحديث عن الحقوق والحريات، وهو الباب الموسوم بـ”الحريات والحقوق الأساسية”، تضمن من الناحية الكمية 22 فصلا، كما يحتوي من الناحية النوعية على مختلف الحقوق والحريات التي اهتدت إليها الدراسات المهتمة بالمجال، حيث أتى على ذكر بعض الحقوق السياسية والمدنية فضلا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كما أشار إلى أن هذا التحديد لا يقف عند هذا الباب، بل يمتد ليشمل باقي المقتضيات الدستورية المعبرة عن الحقوق والحريات الخارجة عنه، والواردة في الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، كما جاء في تصدير الدستور أن الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نظام أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة.

ومن أول وهلة، يبدو أن الدستور المغربي لسنة 2011، استعمل مصطلح الحريات والحقوق الأساسية، فهل المقصود من هذا الاستعمال أن الحريات والحقوق التي وردت داخل هذا الباب هي التي تحمل صفة “الأساسية” وما دون هذا الباب لا يحمل هذه الصفة؟ أم أن صفة “الأساسية” تشمل جميع الحقوق والحريات حتى خارج الباب الثاني من الدستور؟

إن الإجابة على هذه القضايا، تستلزم الوقوف على بعض وجهات النظر الفقهية التي عالجت الموضوع، وفي هذا الإطار قدم الفقه معيارين لتحديد أساسية الحرية وهما؛ المعيار الشكلي، حيث إن العبرة في تحديد ما إذا كانت حرية ما أساسية من عدمه، هو المكانة التي يحتلها النص القانوني المقرر لها ضمن هرم تدرج القواعد القانونية، حيث كلما كانت الحرية مكفولة بمقتضى نص له قيمة فوق تشريعية “une valeur supra-législative”، أي دستورية أو اتفاقية وجب اعتبارها حرية أساسية، وفي المقابل كل حرية غير معترف بها في الدستور أو الاتفاقيات الدولية ليست حرية أساسية، ومن أنصار هذه المقاربة نذكر الفقيه “Louis Favoreau”، حيث يقول “الحقوق والحريات الأساسية تعني ببساطة الحقوق والحريات المحمية بواسطة قواعد دستورية أو دولية لا أكثر ولا أقل”.

فضْلا عن ذلك يوجد معيار مادي، حيث يقتصر من وجهته، النظر لمفهوم أساسية الحرية، إلى مضمونها أو موضوعها وليس إلى قيمة النص القانوني المكرس لها كما ذهب إلى ذلك الاتجاه الشكلي، وتوصف الحرية بكونها أساسية في هذا المقام، حينما تؤدي إلى إشباع حاجات جوهرية أو تحمي مصالح سياسية في المجتمع بغض النظر عن مكانة النص الضامن لها، ولعل من أنصار هذا التوجه نجد الفقيه “Etienne Picard”، حيث يقول في هذا المضمار إن صفة الأساسية “لا تتأتى في الواقع من النص الشكلي الذي يكرس الحق المعتبر، إذا كانت غير كامنة في النص فإنها تكمن بالتأكيد في القيمة الخاصة للحق ذاته”.

إنّ الانتصار للاتجاه الأول -الشكلي- لإطلاق صفة “الأساسية” على الحق أو الحرية له ما يبرر اعتماده بالأولوية في التبني، إذا تم التسليم بأن المشرع من الناحية الهندسية يضع تصنيفا وترتيبا منطقيين لموضوعات التنظيم، إذْ يتحكم في الصياغة انطلاقا من مجموعة من المبادئ، لعل من بينها مبدأ التدرج، وأمام هذا المعطى، يبدو من غير المقبول الاعتداء على حرية أو حق واردٍ في الدستور من قبل أي شخص كان، طبيعيا أو معنويا إلا بقانون، وفي الإطار نفسه، لهذا التبرير ما يضعفه، لا سيما إذا تم اعتباره قيْدا على بعض الاجتهادات القضائية سواء في المادة الدستورية أو المادة الإدارية، من خلال غل يد القاضي الدستوري أو القاضي الإداري وحتى العادي، على استخدام ملكات الإبداع والاجتهاد؛ إذ أن إطلاق صفة الأساسية على بعض الحريات والحقوق دون الأخرى قد يشل الإبداع القضائي في هذا المجال.

كما أن الإقرار بالتوجه المقابل -الموضوعي- بالذات، قد يضع الباحث والمختص أمام صعوبة منهجية في فهم موضوعات الحقوق والحريات الأساسية من عدمها، لا سيما إذ تم اعتبار أن الحقوق والحريات التي تتعلق بالقيم العليا التي تحمي المصالح العامة ذات مقاصد ومعان فضفاضة ونسبية إلى حد كبير.

ومن جانب ثانٍ، يلاحظ أن الدستور الحالي قارب موضوع الحقوق والحريات بإرادة قوية، حيث تم تحصينها من التعديل وفي هذا الإطار يمكن استحضار الفصل 175 من الدستور، حيث قضت أحكامه بعدم تناول المراجعة للأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وباختيارها الديمقراطي وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور.

إن القدرة التشريعية والمؤسساتية لمجال الحقوق والحريات سواء في ما يخص المجهود الدولي أو الوطني تطورت بشكل تصاعدي، داخل البلدان التي تراهن على تحقيق الرفاهية والبناء الديموقراطي الذي يصبح فيه الفرد مواطنا يؤمن بواجباته تجاه السلطة ومنتجا في الآن نفسه. لذلك، يمكن القول بمعنى أدق، إن مقاربة الحصيلة الفكرية والنظرية والتشريعية والمؤسساتية تبدو منطقية ومقبولة في ظل التطورات الحاصلة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتغيرات الطارئة على الأدوار والوظائف الإنسانية.



الخميس 4 يوليوز 2024

عناوين أخرى
< >

الخميس 4 يوليوز 2024 - 22:19 العملات الرقمية


تعليق جديد
Twitter