كثيرا ما يرتبط نشاط الإدارة بالتنمية والحكامة الجيدة، لكن نادرا ما يتم الخوض في العلاقة القائمة بين فعالية نشاط الدولة و الوسائل المعتمدة للوصول إلى تحقيقغايات الحكامة، و من تم الوصول إلى التنمية في جميع تجلياتها في ضوء مقومات التدبير الجيد القائم على النتائج.
و يعتبر المرفق العمومي أبرز تجسيد حقيقي لنشاط الدولة، باعتباره شكلا من أشكال تدخل الدولة في الميادين الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية...عن طريق تقديم خدمات- تتسم بعمومية الطلب عليها-تسعى إلى إشباع حاجات و رغبات الأفراد و الجماعات.فالمرفق العمومي مقياس ناجع لدرجة تحقيق سياسة القرب، طالما أن الإدارة وضعت أصلا تحت تصرف السلطة التنفيذية على غرار ما جاء في الفصل 89 من الدستور المغربي، وذلك لضمان تنفيذ القوانين و استمرارية تقديم الخدمات العمومية دون توقف.
ومعلوم أن هاجس تحقيق المصلحة العامة جعل المشرع المغربي يقيد المرفق العمومي بمجموعة من المبادئ الضابطة التي تحكم تدبيره، ولعل من أهمها مبدأ استمرارية المرفق العمومي في أداء خدماته بانتظام و اضطراد، لأن أي إخلال بسيره كفيل بالمساس بمصالح المواطنين. و لكن يحدث غالبا أن نجد الإدارة تظهر بمظهرالحارس و المدافعالشرس عن استمرارية المرفق العام، من خلال التصدي لكل محاولة للإخلال بذلك. وإن كان مرد ذلك إبداء الموظف العمومي(1)لرغبته في متابعة دراساته العلياعلى سبيل المثال لا الحصر. وفي هذا الصدد صدر حكم للمحكمة الإدارية بمكناس عدد 16/2001/3 بتاريخ 1 مارس 2001 ( ادريس العلوي ضد وزير الداخلية(2)، حيث تتلخص وقائع هذه القضية في رفع موظف جماعي(3) لدعوى الإلغاء ضد قرار رئيس جماعة شرقاوة قيادة انزالة بني اعمار دائرة زرهون عمالة مكناس، و القاضي برفض الترخيص له بمتابعة دراسته العليا على اعتبار أنه معيب بعيب الانحراف في استعمال السلطة و بغياب السبب. حيث خلص القاضي لكون قرار الرفض -و بالرغم من استناده على السلطة التقديرية للإدارة التي تظل في منأى عن رقابة قاضي الإلغاء باستثناء حالات محدودة كحالة الغلو أو الخطأ الفادح في التقدير- لم يبرز الأسباب القانونية أو الموضوعية التي ارتكز عليها حرمان الموظف من حقه الدستوري في متابعة دراسته الجامعية(4).كما ذهب القاضي الإداري إلى كون الإدارة في هذه النازلة لم تستطع إثبات عدم إمكانية جمع الموظف بين متطلبات المرفق العمومي و الحق في متابعة الدراسة الشيء الذي جعل قرارها مشوبا بعيب تجاوز السلطة و بالتالي كان مصيره الإلغاء.
إن حكم المحكمة الإدارية المشار إليه أعلاه يحيلنا إلى إشكالية غاية في الأهمية، تهم فئات عريضة من موظفي الدولة و الجماعات الترابية تتمثل في : إلى أي حد يمكن للترخيص بمتابعة الدراسة الجامعية أن يحد من استمرارية المرفق العمومي في أداء خدماته بانتظام و اضطراد؟
الجواب عن هذه الإشكالية يستوجب منا اتباع خطة قوامها تقسيم الموضوع إلى مبحثين، سنخصص الأول للحديث عن المرفق العمومي وهاجس الاستمرارية، في حين سنتطرق لمتابعة الموظف لدراسته بين الحق الدستوري و قيود الإدارة في المبحث الثاني.
أولا:المرفق العمومي وهاجس الاستمرارية
يرتبط المرفق العمومي بوجود المنتفعين من خدماته، ويبقى دائما الهاجس الأول للإدارة متمثلا في تحسين جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين. فهو مشروع تحدثه الدولة لأداء خدمة اجتماعية أو لتحقيقمصلحة عامة، وتبقى أنشطة هذاالمرفق خاضعة لسلطة الدولة أو من ينوب عنها.فبالنسبة لمفهوم المرفق العمومي نجد أنهيتجاذبه تيارين:
و لقد خصص الدستور المغربي المعدل لسنة 2011 بابا كاملا للحكامة الجيدة، تم من خلاله التأسيس لثقافة جديدة للمرفق العام(6) تقوم على مجموعة من العناصر من أهمها:
ثانيا: متابعة الموظف للدراسة بين الحق الدستوري و قيود الإدارة
لا يمكن تصور مرور يوم من العمل الإداري دون أن تتخذ السلطات الإدارية المركزية أو الإقليمية أو المحلية عددا من القرارت الإدارية، باعتبارها تصرفات قانونية منفردة تسعى عادة لتحقيق المصلحة العامة، و تدخل في إطار ذلك في علاقات غير متكافئة مع الخواص(7). فتظهر لنا آنذاك معادلة صعبة بين طرف يمثل المصلحة العامة و طرف أخر يمثل المصلحة الخاصة. و هذا ما يظهر لنا جليا في الحكم موضوع الدراسة، حيث سلكت الإدارة طريق المنع و تصدت لرغبة الموظف الجماعي في متابعة دراسته الجامعية. و لا أحد منا يمكن أن ينكر أن التعليم حق من الحقوق الأساسية التي ينبغي للإنسانأن يتمتع بها بغض النظر عن وضعيته، و هذا ما يستفاد من حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 541-5-2012 بتاريخ 2 ماي 2013 (8):"...وحيث لما كان الحق في التعليم يعد أحد أهم الحقوق الأساسية للأفراد بالنظر لارتباطه بباقي الحقوق والحريات بحكم أنه يشكل دعامة لها ويسهم في توطيدها، فإنه يحظى برعاية دستورية من خلال الفصل 31 الذي حمل الدولة الالتزام بتعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج، فضلا على أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ:10 دجنبر 1948 نص في المادة السادسة والعشرين منه على أنه: "لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة،كما أن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نص في المادة 13 منه على أنه:
"1. تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم ....
2. وتقر الدول الأطراف في هذا العهد بأن ضمان الممارسة التامة لهذا الحق يتطلب:
أ.........
ب........
ج. جعل التعليم العالي متاحاً للجميع علي قدم المساواة، تبعاً للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة ".
علما أن الدولة تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا وفق ما هو وارد بتصدير الدستور الذي يشكل جزءا لا يتجزأ منه" .
هذا ولم تعط الإدارة أسبابا مقنعة تشكل أساس اتخاذ هذا القرار الإداري، نلمس ذلك أيضا في حكم آخر للمحكمة الإدارية بمراكش تحت عدد بتاريخ 31/10/2001 ( أحمد احبيبي ضد جماعة تمزوزت)"(9)".... سلطة الإدارة في منح أو رفض الترخيص لموظفيها من أجل التفرغ لمتابعة التكوين أو الدراسة..... ليست سلطة مطلقة و إنما تخضع لرقابة القضاء فيما يخص صحة و مشروعية السبب المعتمد في الرفض متى أعلنت عنه في صلب القرار أو كشفت عنه أمام القضاء."
و قدد عزز هذا المبدأ في حكم اخر عدد 41 بتاريخ 17/4/2002 لنفس المحكمة الإدارية (مالك أمسيفي ضد وزير التربية الوطنية)(10) ." ...من المجمع عليه فقها و قضاء أن الوظيفة العمومية لم تكن تهدف تأمين مصلحة الموظف و إنما تهدف تأمين المصلحة العامة و التي تقدم على المصلحة الخاصة و إن إمكان المدعي استعمال الإمكانية التي خولها إياه المشرع بطلب إحالته على الاستيداع عملا بمقتضيات الفصل 58 من قانون الوظيفة العمومية......يتعين على الإدارة أن تبين الأسباب التي اعتمدتها في الرفض و إن كانت غير ملزمة الإفصاح عن هذه الأسباب في صلب قرارتها إلا حيثما يحتم عليها القانون ذلك فإن ضرورة قيام قراراتها على سبب تظل قائمة حيث تلزم بالكشف عن هذه الأسباب أمام القضاء و إثباتها و في حالة تقاعسها أو عجزها عن ذلك يعتر قرارها باطلا'"
فكما يشكل رفض تسجيل طالب بالجامعة من أجل متابعة دراسته(11) سببا لإلغاء العديد من القرارات الإدارية لاتسامها بعيب تجاوز السلطة، حاول الحكم موضوع الدراسة إظهار وقوف القاضي الإداري أمام انتهاك أهم حق من الحقوق الأساسية للإنسان عموما و الموظف على وجه الخصوص، تحت ذريعة الحفاظ على استمرارية المرفق العام من احتمال غياب الموظف عن عمله و إخلاله بالتزاماته الوظيفية وكان القاضي الإداري صائبا في إلغائه قرار الإدارة بمنع الموظف من متابعة دراسته.
وما يجب التأكيد عليه في هذا الإطار أيضا، هو محدودية القيمة القانونية للترخيص بمتابعة الدراسة الجامعية، طالما أنه يعتبر وثيقة إدارية عادية يستدل بها عند التسجيل الجامعة و لا تخول للموظف الاستفادة من أية امتيازات كيفما كان نوعها. بالإضافة إلى علم هذا الأخير اليقيني بضرورة استحضار قدرته على الموافقة بين متابعة دراسته و استمرارية المرفق العام في أداء خدماته بانتظام ودون انقطاع،
و تحمله المسؤولية في ذلك تحت طائلة المتابعات التأديبية التي يمكن أن تطاله في حالة ثبوت تقاعسه عن القيام بوظيفته و ترجيح كفة الدراسة الجامعية على أداء وظيفته .
آن الأوان للإدارة المغربية أن تغير من طريقة تقييمها للموظف من خلال تجنب اقتصارها في غالب الأحيان على الحضور اليومي لهذا الأخير، كمؤشر على حسن تدبيره لشؤون وظيفته. الشيء الذي لا يتناسب خاصة مع ارتباط المردودية بمعايير و شروط أخرى لا تختزل عادة عند الحضور الجسدي، بل ينبغي أن ترتبط مثلا بعدد الملفات المعالجة في اليوم وكيفية تدبيرها، و بوثيرة الاستجابة لطلبات المرتفقين و قضاء أغراضهم بالشكل الذي يحقق الغرض من إنشاء المرفق العام و يضمن تجويد الخدمات العمومية.
الهوامش
(1)- عرف النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية في الفصل الثاني الموظف بكونه:" يعدموظفاكلشخصيعينفيوظيفةقارةويرسمفيإحدىرتبالسلمالخاصبأسلاكالإدارةالتابعةللدولة"
و يمكن تعريفه كذلك بكونه" ذلكالشخصالذييشتغلبوظيفةلهامنالحقوق،وماعليهامنالواجباتفيإطارضوابطوقواعدقانونيةمحددة" د.مليكةالصروخ،النظامالقانونيللموظفالمغربي،الطبعةالأولى3777 ،مطبعةالنجاحالجديدة،الدارالبيضاء ص9.
(2) -حكم نشر بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ. أحمد بوعشيق منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16/2004 ص 268.
(3)-ينص الفصل الأول من مرسوم رقم 2.77.738 بتاريخ 27 شتنبر 1977المعتبر بمثابة النظام الأساسي لموظفي الجماعات على أنه “يخول صفة موظف بالجماعة كل شخص يعين في منصب دائم ويرسم بإحدى درجات تسلسل أسلاك الجماعة”.
(4)للاطلاع أكثر على مفهوم التعليل و عيب السبب المرجو الرجوع لمؤلفد. عبد الكريم المساوي القواعد الإجرائية أمام المحاكم الإدارية طبعة 2012 ص 221و 222.
(5)-للاطلاع على قرار المجلس الدستوري الفرنسي رقم 79/105 تاريخ 25 يوليو 1979، زيارة الرابط التالي:http://www.conseil-constitutionnel.fr/conseil-con..decision-n-79-105-dc-du-25-juillet-1979.7724.html=
(6) نجد أيضا أن الفصل 5 من الدستور الفرنسي لسنة 1958 يؤكد على أن رئيس الجمهورية يسهر على احترام الدستور، و يضمن عن طريق تحكيمه السير السليم للسلطات العمومية و كذا استمرارية الدولة، مما يستشف منه الإشارة إلى المكانة التي يحظى بها المرفق العام.
(7)ذ. بوعزاوي بوجمعة انهيار المعيار العضوي في تحديد القرار الإداري بعد دستور 2011 مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 105/106 يوليو2012 ص 27و28. .
(8) الحكم منشور بالمجلة الالكترونية: www.marocdroit.com
(9)-حكم منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ أحمد بوعشيق منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16/2004 ص 270-271
(10)-حكم منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ أحمد بوعشيق منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16/2004 ص 273-274
و يعتبر المرفق العمومي أبرز تجسيد حقيقي لنشاط الدولة، باعتباره شكلا من أشكال تدخل الدولة في الميادين الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية...عن طريق تقديم خدمات- تتسم بعمومية الطلب عليها-تسعى إلى إشباع حاجات و رغبات الأفراد و الجماعات.فالمرفق العمومي مقياس ناجع لدرجة تحقيق سياسة القرب، طالما أن الإدارة وضعت أصلا تحت تصرف السلطة التنفيذية على غرار ما جاء في الفصل 89 من الدستور المغربي، وذلك لضمان تنفيذ القوانين و استمرارية تقديم الخدمات العمومية دون توقف.
ومعلوم أن هاجس تحقيق المصلحة العامة جعل المشرع المغربي يقيد المرفق العمومي بمجموعة من المبادئ الضابطة التي تحكم تدبيره، ولعل من أهمها مبدأ استمرارية المرفق العمومي في أداء خدماته بانتظام و اضطراد، لأن أي إخلال بسيره كفيل بالمساس بمصالح المواطنين. و لكن يحدث غالبا أن نجد الإدارة تظهر بمظهرالحارس و المدافعالشرس عن استمرارية المرفق العام، من خلال التصدي لكل محاولة للإخلال بذلك. وإن كان مرد ذلك إبداء الموظف العمومي(1)لرغبته في متابعة دراساته العلياعلى سبيل المثال لا الحصر. وفي هذا الصدد صدر حكم للمحكمة الإدارية بمكناس عدد 16/2001/3 بتاريخ 1 مارس 2001 ( ادريس العلوي ضد وزير الداخلية(2)، حيث تتلخص وقائع هذه القضية في رفع موظف جماعي(3) لدعوى الإلغاء ضد قرار رئيس جماعة شرقاوة قيادة انزالة بني اعمار دائرة زرهون عمالة مكناس، و القاضي برفض الترخيص له بمتابعة دراسته العليا على اعتبار أنه معيب بعيب الانحراف في استعمال السلطة و بغياب السبب. حيث خلص القاضي لكون قرار الرفض -و بالرغم من استناده على السلطة التقديرية للإدارة التي تظل في منأى عن رقابة قاضي الإلغاء باستثناء حالات محدودة كحالة الغلو أو الخطأ الفادح في التقدير- لم يبرز الأسباب القانونية أو الموضوعية التي ارتكز عليها حرمان الموظف من حقه الدستوري في متابعة دراسته الجامعية(4).كما ذهب القاضي الإداري إلى كون الإدارة في هذه النازلة لم تستطع إثبات عدم إمكانية جمع الموظف بين متطلبات المرفق العمومي و الحق في متابعة الدراسة الشيء الذي جعل قرارها مشوبا بعيب تجاوز السلطة و بالتالي كان مصيره الإلغاء.
إن حكم المحكمة الإدارية المشار إليه أعلاه يحيلنا إلى إشكالية غاية في الأهمية، تهم فئات عريضة من موظفي الدولة و الجماعات الترابية تتمثل في : إلى أي حد يمكن للترخيص بمتابعة الدراسة الجامعية أن يحد من استمرارية المرفق العمومي في أداء خدماته بانتظام و اضطراد؟
الجواب عن هذه الإشكالية يستوجب منا اتباع خطة قوامها تقسيم الموضوع إلى مبحثين، سنخصص الأول للحديث عن المرفق العمومي وهاجس الاستمرارية، في حين سنتطرق لمتابعة الموظف لدراسته بين الحق الدستوري و قيود الإدارة في المبحث الثاني.
أولا:المرفق العمومي وهاجس الاستمرارية
يرتبط المرفق العمومي بوجود المنتفعين من خدماته، ويبقى دائما الهاجس الأول للإدارة متمثلا في تحسين جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين. فهو مشروع تحدثه الدولة لأداء خدمة اجتماعية أو لتحقيقمصلحة عامة، وتبقى أنشطة هذاالمرفق خاضعة لسلطة الدولة أو من ينوب عنها.فبالنسبة لمفهوم المرفق العمومي نجد أنهيتجاذبه تيارين:
- الأول يعتبره مجرد نشاط يهدف لتحقيق النفع العام.
- الثاني يعتبره طريقة للتدبير و التسيير المباشر أو غير المباشر يتحمله شخص من أشخاص القانون العام أو من القانون الخاص تحت رقابة و إشراف الأول.
و لقد خصص الدستور المغربي المعدل لسنة 2011 بابا كاملا للحكامة الجيدة، تم من خلاله التأسيس لثقافة جديدة للمرفق العام(6) تقوم على مجموعة من العناصر من أهمها:
- المساواة في الولوج إلى المرافق العمومية بين جميع المواطنين و المواطنات.
- توخي الإنصاف في تغطية التراب الوطني بالمرافق العامة على اختلاف أنواعها، والاستمرارية في أداء الخدمات.
- خضوع تدبير المرافق العامة لمعايير الجودة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
- إلزام المرافق العمومية بتقديم الحسابات عن طريقة إنفاقها للأموال العمومية.
ثانيا: متابعة الموظف للدراسة بين الحق الدستوري و قيود الإدارة
لا يمكن تصور مرور يوم من العمل الإداري دون أن تتخذ السلطات الإدارية المركزية أو الإقليمية أو المحلية عددا من القرارت الإدارية، باعتبارها تصرفات قانونية منفردة تسعى عادة لتحقيق المصلحة العامة، و تدخل في إطار ذلك في علاقات غير متكافئة مع الخواص(7). فتظهر لنا آنذاك معادلة صعبة بين طرف يمثل المصلحة العامة و طرف أخر يمثل المصلحة الخاصة. و هذا ما يظهر لنا جليا في الحكم موضوع الدراسة، حيث سلكت الإدارة طريق المنع و تصدت لرغبة الموظف الجماعي في متابعة دراسته الجامعية. و لا أحد منا يمكن أن ينكر أن التعليم حق من الحقوق الأساسية التي ينبغي للإنسانأن يتمتع بها بغض النظر عن وضعيته، و هذا ما يستفاد من حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 541-5-2012 بتاريخ 2 ماي 2013 (8):"...وحيث لما كان الحق في التعليم يعد أحد أهم الحقوق الأساسية للأفراد بالنظر لارتباطه بباقي الحقوق والحريات بحكم أنه يشكل دعامة لها ويسهم في توطيدها، فإنه يحظى برعاية دستورية من خلال الفصل 31 الذي حمل الدولة الالتزام بتعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج، فضلا على أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ:10 دجنبر 1948 نص في المادة السادسة والعشرين منه على أنه: "لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة،كما أن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نص في المادة 13 منه على أنه:
"1. تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم ....
2. وتقر الدول الأطراف في هذا العهد بأن ضمان الممارسة التامة لهذا الحق يتطلب:
أ.........
ب........
ج. جعل التعليم العالي متاحاً للجميع علي قدم المساواة، تبعاً للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة ".
علما أن الدولة تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا وفق ما هو وارد بتصدير الدستور الذي يشكل جزءا لا يتجزأ منه" .
هذا ولم تعط الإدارة أسبابا مقنعة تشكل أساس اتخاذ هذا القرار الإداري، نلمس ذلك أيضا في حكم آخر للمحكمة الإدارية بمراكش تحت عدد بتاريخ 31/10/2001 ( أحمد احبيبي ضد جماعة تمزوزت)"(9)".... سلطة الإدارة في منح أو رفض الترخيص لموظفيها من أجل التفرغ لمتابعة التكوين أو الدراسة..... ليست سلطة مطلقة و إنما تخضع لرقابة القضاء فيما يخص صحة و مشروعية السبب المعتمد في الرفض متى أعلنت عنه في صلب القرار أو كشفت عنه أمام القضاء."
و قدد عزز هذا المبدأ في حكم اخر عدد 41 بتاريخ 17/4/2002 لنفس المحكمة الإدارية (مالك أمسيفي ضد وزير التربية الوطنية)(10) ." ...من المجمع عليه فقها و قضاء أن الوظيفة العمومية لم تكن تهدف تأمين مصلحة الموظف و إنما تهدف تأمين المصلحة العامة و التي تقدم على المصلحة الخاصة و إن إمكان المدعي استعمال الإمكانية التي خولها إياه المشرع بطلب إحالته على الاستيداع عملا بمقتضيات الفصل 58 من قانون الوظيفة العمومية......يتعين على الإدارة أن تبين الأسباب التي اعتمدتها في الرفض و إن كانت غير ملزمة الإفصاح عن هذه الأسباب في صلب قرارتها إلا حيثما يحتم عليها القانون ذلك فإن ضرورة قيام قراراتها على سبب تظل قائمة حيث تلزم بالكشف عن هذه الأسباب أمام القضاء و إثباتها و في حالة تقاعسها أو عجزها عن ذلك يعتر قرارها باطلا'"
فكما يشكل رفض تسجيل طالب بالجامعة من أجل متابعة دراسته(11) سببا لإلغاء العديد من القرارات الإدارية لاتسامها بعيب تجاوز السلطة، حاول الحكم موضوع الدراسة إظهار وقوف القاضي الإداري أمام انتهاك أهم حق من الحقوق الأساسية للإنسان عموما و الموظف على وجه الخصوص، تحت ذريعة الحفاظ على استمرارية المرفق العام من احتمال غياب الموظف عن عمله و إخلاله بالتزاماته الوظيفية وكان القاضي الإداري صائبا في إلغائه قرار الإدارة بمنع الموظف من متابعة دراسته.
وما يجب التأكيد عليه في هذا الإطار أيضا، هو محدودية القيمة القانونية للترخيص بمتابعة الدراسة الجامعية، طالما أنه يعتبر وثيقة إدارية عادية يستدل بها عند التسجيل الجامعة و لا تخول للموظف الاستفادة من أية امتيازات كيفما كان نوعها. بالإضافة إلى علم هذا الأخير اليقيني بضرورة استحضار قدرته على الموافقة بين متابعة دراسته و استمرارية المرفق العام في أداء خدماته بانتظام ودون انقطاع،
و تحمله المسؤولية في ذلك تحت طائلة المتابعات التأديبية التي يمكن أن تطاله في حالة ثبوت تقاعسه عن القيام بوظيفته و ترجيح كفة الدراسة الجامعية على أداء وظيفته .
آن الأوان للإدارة المغربية أن تغير من طريقة تقييمها للموظف من خلال تجنب اقتصارها في غالب الأحيان على الحضور اليومي لهذا الأخير، كمؤشر على حسن تدبيره لشؤون وظيفته. الشيء الذي لا يتناسب خاصة مع ارتباط المردودية بمعايير و شروط أخرى لا تختزل عادة عند الحضور الجسدي، بل ينبغي أن ترتبط مثلا بعدد الملفات المعالجة في اليوم وكيفية تدبيرها، و بوثيرة الاستجابة لطلبات المرتفقين و قضاء أغراضهم بالشكل الذي يحقق الغرض من إنشاء المرفق العام و يضمن تجويد الخدمات العمومية.
الهوامش
(1)- عرف النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية في الفصل الثاني الموظف بكونه:" يعدموظفاكلشخصيعينفيوظيفةقارةويرسمفيإحدىرتبالسلمالخاصبأسلاكالإدارةالتابعةللدولة"
و يمكن تعريفه كذلك بكونه" ذلكالشخصالذييشتغلبوظيفةلهامنالحقوق،وماعليهامنالواجباتفيإطارضوابطوقواعدقانونيةمحددة" د.مليكةالصروخ،النظامالقانونيللموظفالمغربي،الطبعةالأولى3777 ،مطبعةالنجاحالجديدة،الدارالبيضاء ص9.
(2) -حكم نشر بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ. أحمد بوعشيق منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16/2004 ص 268.
(3)-ينص الفصل الأول من مرسوم رقم 2.77.738 بتاريخ 27 شتنبر 1977المعتبر بمثابة النظام الأساسي لموظفي الجماعات على أنه “يخول صفة موظف بالجماعة كل شخص يعين في منصب دائم ويرسم بإحدى درجات تسلسل أسلاك الجماعة”.
(4)للاطلاع أكثر على مفهوم التعليل و عيب السبب المرجو الرجوع لمؤلفد. عبد الكريم المساوي القواعد الإجرائية أمام المحاكم الإدارية طبعة 2012 ص 221و 222.
(5)-للاطلاع على قرار المجلس الدستوري الفرنسي رقم 79/105 تاريخ 25 يوليو 1979، زيارة الرابط التالي:http://www.conseil-constitutionnel.fr/conseil-con..decision-n-79-105-dc-du-25-juillet-1979.7724.html=
(6) نجد أيضا أن الفصل 5 من الدستور الفرنسي لسنة 1958 يؤكد على أن رئيس الجمهورية يسهر على احترام الدستور، و يضمن عن طريق تحكيمه السير السليم للسلطات العمومية و كذا استمرارية الدولة، مما يستشف منه الإشارة إلى المكانة التي يحظى بها المرفق العام.
(7)ذ. بوعزاوي بوجمعة انهيار المعيار العضوي في تحديد القرار الإداري بعد دستور 2011 مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 105/106 يوليو2012 ص 27و28. .
(8) الحكم منشور بالمجلة الالكترونية: www.marocdroit.com
(9)-حكم منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ أحمد بوعشيق منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16/2004 ص 270-271
(10)-حكم منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ أحمد بوعشيق منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد 16/2004 ص 273-274