للقضاء مكانة متميزة، كأحد المرافق التقليدية للدولة، يمثل بحق رمز سيادتها ورمز سلطتها. فهو حامي الحقوق والحريات، ويقع على عاتقه رسالة سامية، في إرساء دعائم العدل والفصل في المنازعات. لذا أحاط المشرع رجال القضاء بسياج من الضمانات، التي تكفل لهم تحقيق أكبر قدر من الاستقلال والاطمئنان بما يكفل عدم التسرع والوقوع في الخطأ، بالإضافة إلى تنظيم طرق الطعن في الأحكام.
ورغم ذلك، ونظرا لأن رجال القضاء يمارسون عملهم في ظل ظروف صعبة. لذا يمكن في بعض الأحيان أن يصدر عنهم أخطاء، فهم بشر قد يترتب على تلك الأخطاء إلحاق أضرار مادية ومعنوية بالأفراد في حياتهم أو حرياتهم أو أموالهم.
فليس بغريب أن يقع القضاء في خطأ لكن الخطأ خصوصا خطأ القاضي الجنائي ليس ككل الأخطاء لأنه ينبثق من رحم العدالة التي يفترض أن تتولى مهمة إنزال كلمة القانون في النزاع، فقد يقع إنسان بريء يملك كل صفات النزاهة والشرف ضحية خطأ قضائي، فتدمر حياته بكل جوانبها المادية والمعنوية، وقد يفقد حياته في حالة الحكم عليه بالإعدام، فيصاب المجتمع في قيمه بعقاب البريء وتبرئة المذنب.
وكانت القاعدة التقليدية السائدة قديما هي عدم مسؤولية الدولة عن أعمال القضاء، وقيل تبريرا لذلك بالفكرة السائدة عن سيادة الدولة، وحجية الأمر المقضى به والرغبة في حماية حرية القاضي وعدم عرقلة سير العدالة[1].
وقد سادت تلك القاعدة في كل من فرنسا والمغرب وكانت الدولة غير مسؤولة عن الأضرار الناتجة عن أعمال السلطة القضائية، إلا في الحالات الاستثنائية التي ينص فيها المشرع صراحة على ذلك.
إلا أن هذه القاعدة قد تغيرت تماما في فرنسا بعد صدور قانون 5 يوليوز 1972 حيث قرر المشرع الفرنسي قاعدة جديدة بإقراره لمسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي دون حاجة إلى التماس إعادة النظر أو إلى دعوى المخاصمة، فاقترب بذلك من نظام مسؤولية الدولة عن أعمالها الإدارية فأصبحت القاعدة هي مسؤولية الدولة عن أعمالها الإدارية. فأصبحت القاعدة هي مسؤولية الدولة عن الأعمال القضائية والاستثناء هو عدم المسؤولية.
أما في المغرب لم يبقى حتى الأمس القريب خارج إطار هذه المسؤولية إلا مرفق القضاء حيث كانت السلطة العامة لا تعتبر مسؤولة عن نشاطه، باعتبار القضاء سلطة. والقاضي يجسد العدالة والحقيقة، إذ كان ينطبق عليه القول المأثور "لا يمكن للقاضي أن يخطئ".
ويعد اليوم تقرير مسؤولية الدولة عن أعمالها القضائية، بالرغم من نطاقه المحدود استكمالا لمبدأ مساءلة الدولة عن أعمال سلطاتها الثلاث بعد أن تقررت المسؤولية عن الأعمال الإدارية والتشريعية، وأصبحت تلك المبررات التي تقوم عليها قاعدة عدم مسؤولية الدولة عن أعمالها القضائية غير كافية للإبقاء عليها.
فدسترة تقرير مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي يعد مستجدا متطورا بحيث سينتقل بالوضع الذي كان سائدا في بلادنا تشريعا وقضاءا من عدم تقرير مسؤولية الدولة عن أخطاء القضاء كقاعدة عامة إلا في حالات استثنائية ضيقة وضمن نطاق معين وفق مساطر خاصة، دعوى مخاصمة القضاة المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية ضمن فصولها من 391 إلى 401 ومسطرة المراجعة الواردة أحكامها من الفصول 565 إلى 575 من قانون المسطرة الجنائية والفصل 81 من ق ل ع.
إلا أن النص جاء عاما ويطرح عدة إشكالات بخصوص شروط وإجراءات هذا النوع من المسؤولية؟ كما أن قواعد المسؤولية الإدارية هي التي تطبق في الغالب بصدد منازعات مسؤولية الدولة بالرجوع لمقتضيات الفصلين 79 و80 من قانون ق ل ع ويستوي في ذلك أن ينعقد الاختصاص بنظر النزاع للقاضي الإداري أو القاضي العادي، وبحيث ما إذا كان الخطأ مرفقيا أو شخصيا، وما إذا كانت الأعمال القضائية محل الخطأ القضائي منفصلة عن الوظيفة القضائية أم مرتبطة بها؟ كما أن هذا الخطأ القضائي الموجب للمسؤولية يشمل معنى أوسع مما يدعو عليه الحال في القانون المسطري والمدني فإلى جانب كونه خطأ شخصيا أو مرفقيا نتيجة السير المعيب لمرفق القضاء، قد يتقمص الخطأ صورة الإخلال بمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، أو نكون أمام خطأ مفترض عندما تؤسس مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي على أساس نظرية المخاطر؟
حداثة تقرير مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي
الفقرة الأولى: الخطأ القضائي الناشئ للمسؤولية
يكتسي الخطأ المنشئ للمسؤولية مظهرين فإما خطأ مصلحي ينسب للموظف ويتحمل فيه المسؤولية أو ينفصل عن ممارسة وظيفته وناتج عن تدليس وجسيم الفصل 80 ق ل ع يسمى بالخطأ الشخصي لكن الصعوبة تكمن في معرفة متى يكون شخصيا فيسأل عنه الموظف ومتى يكون مرفقيا فتسأل عنه الدولة.
القاضي كموظف عمومي ملزم بالقيام بوظيفته وضمن الشروط العامة التي يخضع لها الموظفون العموميون وأساس مسؤوليته هو الخطأ الذي يرتكبه أثناء ممارسة عمله. أما الأخطاء التي يرتكبها خارج العمل فيسأل عنها كشخص عادي.
فخطأ القاضي يتخذ عدة صور فقد يكون مدنيا أو جنائيا أو تأدبيا ومن هنا يتضح أن المسؤولية المدنية هي مسؤولية شخصية للقاضي في مواجهة الخصوم طبقا لمادة 81 من ق ل ع. فالأساس القانوني لهذه المسؤولية لا يختلف عن أساس مسؤولية أي موظف عام عن عمله كما لا ننسى المادة 400 من ق م م.
كما تقوم مسؤولية القاضي التأدبية على فكرة الخطأ عند إخلاله بواجباته الوظيفية وفقد الثقة والاعتبار الواجبي حيث يتعرض بمقتضى المادة 58 من النظام الأساسي لرجال القضاء لعقوبات تأدبية مقابل ذلك نجد المشرع الفرنسي قد أقر نفس التفرقة السائدة في القانون الإداري بين الخطأ الشخصي والمرفقي بخصوص مسؤولية الدولة عن خطأ القاضي فقرر مسؤولية الدولة عن الأخطاء المرفقية والتي تتمثل في الخطأ الجسيم وإنكار العدالة، والمسؤولية الشخصية المبنية على الخطأ الشخصي المتصل بمرفق العدالة ولا تقرر إلا بدعوى ترفع ضد الدولة، وإرجاع هذه المسؤولية للقواعد العامة للمسؤولية[2] حيث تحل الدولة محل المسؤولية الشخصية للقاضي في مواجهة المضرور من جراء الأخطاء الشخصية مع حقها في الرجوع على القاضي الذي تسبب في الضرر إذ أحل المشرع الفرنسي محل نظام المخاصمة نظاما شبيها بمسؤولية موظفي الإدارة عن أعمالهم وترك تحديد أخطاء القضاة للمعايير المختلفة التي قبلت بشأن تحديد الأخطاء الشخصية لرجال الإدارية[3] مما من شأنه أن يدعم مبدأ دولة الحق والقانون وتحقيق ضمانة أساسية لحقوق الأفراد وحرياتهم.
لذا نجد أنه أصبح باتا لتدخل المشرع المغربي بعد دستور يوليوز 2011 الذي يشكل خطوة مهمة في تاريخ القانون لتجاوز العمل بمسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي كاستثناء وإخضاع أعمال القضاء للقواعد العامة في المسؤولية من حيث التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي.
حيث لم يعد هناك في ظل الدستور الجديد ما يبرر تخصيص النشاط القضائي بنظام قانوني خاص يعفي القائمين عليه من المسؤولية أو يقرر هذه المسؤولية بصفة استثنائية.
الفقرة الثانية: دسترة الخطأ القضائي
يشكل الدستور المغربي الجديد قطيعة مع الدساتير السابقة على مستويات متعددة سواء من حيث المنهجية أو الشكل أو المضمون أو الهندسة، جاء ليكرس المبادئ السامية للعدالة. وقيم حقوق الإنسان والمثل العليا من خلال دسترته لكافة حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا بكل آليات حمايتها وضمان ممارستها، وأهم هذه الحقوق الذي حاول الدستور تكريسها الحق في الحرية مع ضمان المحاكمة العادلة حيث يشكل الحق في الحرية والحياة والكرامة مقدمة هذه الحقوق.
فضلا عن ذلك مافتئ المغرب أن يفي بالتزاماته الدولية ومن بينها أن يجعل تشريعه الداخلي يستجيب للمواثيق الدولية التي قبلها وصادق عليها، خاصة المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي نصت على أنه حينما يكون قد صدر على شخص ما حكم نهائي يدينه بجريمة ثم أبطل هذا الحكم، أو أصدر عفو خاص عنه على أساس واقعة جديدة أو حديثة الاكتشاف يحمل الدليل القاطع على وقوع الخطأ قضائي، فإنـه يستوجب تعويض الشخص الذي أنزل به العقاب نتيجة تلك الإدانة وذلك وفقا للقانـون، ما لم يثبت أنه يتحمل كليا أو جزئيا المسؤولة عن عدم إفشاء الواقعة المجهولة في الوقت المناسب[4].
ومواكبة الدستور لتحصين الحقوق والحريات والضمانات القانونية استحدث ضمن أحد فصوله الفصل 122 الذي ينص بما يلي: "يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة" قاعدة ذهبية كانت غائبة في الدساتير السابقة والقوانين المغربية، قاعدة ستمكن المتقاضي صحبة الخطأ القاضي من مقاضاة الدولة للمطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عن الخطأ القضائي، والشاهد أن هذا المبدأ الدستوري ينطبق على جميع الأخطاء القضائية بدون تميز بين المواد المدنية والجنائية بمعنى أن الخطأ في أعمال النيابة العامة أو أعمال القضاة يدخل أيضا في مفهوم الفصل 122 من الدستور المغربي الجديد ليوليوز 2011 حيث يسجل بكل إيجابية في هذه المرحلة باعتبار لأول مرة الدستور المغربي ينص على مبدأ المسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي بعدما أثار هذا الموضوع نقاشا فقهيا وقانونيا وقضائيا.
فهذا المقتضى الجديد المتضمن في الفصل 122 من الدستور له أبعاد يمكن رصدها من خلال الباب المتعلق بالسلطة القضائية، وضمن هذه المقتضيات هناك باب يتعلق بقواعد سير العدالة وحقوق المتقاضين ابتداءا من الفصل 117 من الدستور إلى الفصل 128 الذي يتحدث عن قواعد سير العدالة التي قام بدسترتها حيث سنجد ضمن هذا الباب الفصل 122[5].
كما نسجل ضمن الدستور وبكل إيجابية أن الأحكام أصبحت تصدر باسم جلالة الملك وطبقا للقانون الفصل 124 منه. فهل طبقا لهذا المقتضى يمكن مساءلة الدولة عن الأخطاء القضائية؟
فأصبح لزاما لمواكبه هذا المقتضى إدخال تعديلات على مقتضيات قوانين المسطرة المدنية والجنائية وقضاء القرب إلى جانب الإجتهادات القضائية سواء الصادرة عن المحاكم الإدارية أو الاستئناف الإدارية أو الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى وكذلك مسطرة المراجعة وما يثير من إشكال في القانون وفي الاختصاص بخصوص التعويض هل يدخل ضمن اختصاص المحاكم الإدارية لأن الأمر يتعلق بمسؤولية الدولة أم يندرج ضمن اختصاص القضاء الجنائي طبقا لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية.
الفقرة الثالثة: تقرير القضاء المغربي لمبدأ مسؤولية الدولة
إن القضاء كلما بدا له هناك مساسا بمقومات الحق وبدعائم العدل فإنه يأخذ قصد السبق ويقر قواعد قانونية أملتها متطلبات الحياة وفرضتها ثوابت العدل.
فالنظام القضائي والفقهي بالمغرب والدول المماثلة، على عكس احتكار السلطة وعلى خلفية الافتراض، ويقر بضرورة وقوع الخطأ القضائي. لذلك شرعت طرق الطعن وحالات استثنائية وبتصريح القضاء لمسؤولية الدولة عن الأضرار التي تلحق المتضرر بسبب إدانته خطأ وقضائه لمدة في السجن والحكم عليها بالتعويض لفائدته.
بناءا على المادة 573 من قانون المسطرة الجنائية المغربية إذ تنص على أنه "يمكن استنادا على المقرر الجديد المترتبة عنه براءة المحكوم عليه، وبناء على طلبه الحكم له بتعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب الإدانة" حيث قضت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 15/11/2006 تحت عدد 144/2006 بأن الدولة مسؤولة عن أعمال السلطة القضائية بظهور واقعة أو مستندات جديدة بعد الحكم النهائي بالإدانة لم تكن معروفة من قبل وتثبت براءة المحكوم عليه مما يترتب الحق على الحصول على تعويض من الدولة التي تقع على عاتق الدولة المغربية على أساس الخطأ.
أما استئنافية إدارية الرباط قضت كذلك بمسؤولية الدولة والتعويض عن أعمال القضاء ولو بدون خطأ من جانبها استنادا لنظرية المخاطر، الذي يجعل المسؤولية قائمة على حق الإدارة مما يجعل طالب التعويض ضحية الخطأ القضائي غير ملزم بإثبات الخطأ من جانب الدولة المغربية[6].
وبالتالي كمسؤولية هذه الأخيرة قائمة بحصول الضرر للضحية المرحوم عبد الواحد المولى الذي صدر في حقه قرار عن غرفة الجنايات بالجديدة بالسجن المؤبد من أجل جناية العمد وقضائه لمدة تفوق ثمان سنوات ثم عرف أثناء تنفيذه للعقوبة الجاني الحقيقي وإلغاء القرار السابق من خلال مسطرة المراجعة التي آلت بصدور قرار 5962/2005 والحكم له بالبراءة. وهذا الأخير وجه طلب ضد الدولة المغربية كمسؤولة عن أعمال السلطة القضائية لكون هذا الخطأ القضائي كان السبب في حرمانه من أغلى ما يملكه الإنسان وهي حريته التي فقد معها سمعته وعلاقته مع عائلته وأفراد أسرته وأصدقائه وأحبائه وهي أضرار ناتجة عن الخطأ القضائي الذي ضحيته وهو ما يبرر وجود علاقة سببية بين الخطأ والضرر الذي تتحمله الدولة المغربية، والتي حددت التعويض بناء على سلطتها التقديرية في مبلغ 1.500.000,00 درهم كتعويض وتحميل الخزينة العامة الصادر بناءا على مقتضيات قانون 90/41 المحدث للمحكمة الإدارية والفصل 573 من قانون المسطرة الجنائية:
كما قضت إدارية الدار البيضاء بتاريخ 28/02/2007 ضد الدولة في شخص الوزير الأول لكل من الضحايا بتعويض لا يقل عن 1.000.000 درهم عما لحق بهم من أضرار ناتجة عن الخطأ القضائي المتمثل في الحكم عليهم من طرف الغرفة الجنائية بتاريخ 05/04/2001 بست سنوات سجنا من أجل السرقة الموصوفة وهتك العرض بالعنف ثم تبرءتهما من هذه الأفعال من طرف غرفة الجنايات بتاريخ 30/04/2003 بعد ظهور الجناة الحقيقيين عبر مسطرة المراجعة وبعد قضائهما قرابة سنتين من العقوبة[7].
الفقرة الرابعة: الاختصاص النوعي للبث في تعويض ضحية الخطأ القضائي
يلاحظ أن الاختصاص النوعي في الحكم بالتعويض لفائدة ضحية الخطأ القضائي، يرجع للغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى حسب قرار غرفته الإدارية تحت عدد 558 في 27/06/2007 والأحوال الواردة في المادتين 571 و576 من المسطرة الجنائية.
فخلال هذا التاريخ كانت محاكم الاستئناف الإدارية قد شرعت في ممارسة اختصاصها النوعي للبث في استئناف الأحكام الصادرة عن المحاكم الإدارية، طبقا للمادة 121 من القانون المحدث للمحاكم الاستئناف الإدارية 80.03 التي نصت على أن أحكامه تدخل حيز التنفيذ بعد مرور شهر على نشر المرسوم.
غير أن المجلس الأعلى في قراره هذا وجد أمامه استئنافا صادرا عن محكمة إدارية في قضية ولم يثير فيها الدفع بعدم الاختصاص النوعي فجعل من الاستئناف قاعدة وأعطى لنفسه اختصاصا نوعيا يتنافى مع قانون إحداث محاكم الاستئناف الإدارية عموما ومع صراحة المادة 12 و13 من قانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية.
فالمجلس الأعلى تصدى للبث في حكم عاد قضى بالتعويض بدل الدفع بعدم الاختصاص، وهو ما يعتبر تعديا على الاختصاص النوعي لمحكمة الاستئناف الإدارية وتجاوزا لحدود الاستثناء المرسومة في المادة 13 من قانون 90-41، الذي لا يمكن أن تصبح قاعدة التي تبقى مقتضياتها سارية المفعول في شأن استئناف الأحكام الصادرة في الاختصاص النوعي ويحيل المجلس الأعلى الملف بعد البث فيه إلى المحكمة المختصة.
مقابل ذلك أصدر المجلس الأعلى قرارا مخالفا تحت عدد 906 بتاريخ 28/11/2007 في الملفين 41/06/2006 و 128/06/2006 بتأييد الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالتعويض وعلل اختصاص القضاء الإداري نوعيا للبث في التعويض بما يشكل ردا على ما قرره المجلس الأعلى في قضية لا يملك في الواقع اختصاص الخوض فيها. وأن محكمة الاستئناف الإدارية هي المختصة للبث في استئناف يثار ضد الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالتعويض والذي لا رائحة فيه لإثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي.
حيث قضت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في حكم لها "حيث يعيب المستأنف بخرق قواعد الاختصاص النوعي على اعتبار أن الجهة المختصة بالتعويض عن الضرر اللاحق بمن صدر قرار المراجعة لفائدته استنادا للمادة 573 من قانون المسطرة الجنائية هي القضاء الجنائي وليس القضاء الإداري"، لكن عبارة يقبل طلب التعويض في سائر مراحل مسطرة المراجعة الواردة في الفقرة الثالثة في المادة 573 لا تفيد حتما أن اختصاص القضاء الجنائي للبث في طلب التعويض عن الضرر الناتج عن الخطأ القضائي المقدم من قبل من صدر قرار المراجعة لفائدته، هو اختصاص مانع لا يزاحمه فيه القضاء الإداري بل إن صدور هذا القرار لا يمنع المتضرر من تقديم طلب التعويض أمام المحكمة الإدارية استنادا للمادة الثامنة من القانون رقم 41/90 التي تمنح الاختصاص للمحاكم الإدارية للبث في دعاوي التعويض عن الأضرار التي سببتها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام، بدليل أن هذه المادة استثنت فقط الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات يملكها شخص من أشخاص القانون العام. ولم تستثني الأضرار الناتجة عن الخطأ القضائي وسينتج من ذلك أن المتضرر من هذا الخطأ الخيار بين تقديم طلب التعويض أمام القضاء الجنائي في إطار مسطرة المراجعة أمام المجلس الأعلى أو أمام المحكمة الإدارية بعد صدور قرار المراجعة لفائدته".
رغم أن هذا القرار قد أقر باختصاص القضاء الإداري بناء على تعليل صحيح فيما يخص الإرتكاز على مقتضيات المادة الثامنة من قانون 90.41 المؤسس للمحاكم الإدارية فإنه مقابل ذلك أخذ بمنح الخيار لضحية الخطأ القضائي بين سلوك مسطرة التعويض أمام القضاء الإداري أو سلوكها أمام القضاء الجنائي[8].
ومن جهة أخرى مشرع المسطرة الجنائية حدد اختصاص الغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى فيما يخص مسطرة المراجعة إذ أنها إما أن تبطل القرار المشوب بالخطأ القضائي بدون إحالة، وإما أن تقضي بالإحالة عملا بالفصل 570 وما يليه من المسطرة الجنائية.
إذن فالغرفة الجنائية مسيجة الاختصاص بالبث في قيام أو عدم قيام سبب من أسباب المراجعة عملا بالفصل 566 من نفس المسطرة، إذن فهي محكمة لا يتجاوز اختصاصها البث في تسرب الخطأ إلى الحكم الصادر في الدعوى العمومية أو عدم تسربه لأن ذلك مسند لمحكمة الإحالة عملا بالفصل 572 من ق م ج.
فكيف إذن نريد لهذا الاختصاص أن يتجاوز ذلك إلى الحكم بالتعويض لفائدة ضحية الخطأ القضائي ضدا على الحدود المرسومة بالنص فمثل هذا المنحنى يتنافى مع العبارة الصريحة المحددة في الفصل 570 وما يليه من الفصول التي وزعت اختصاص النظر في القانون والواقع ما بين الغرفة المذكورة ومحكمة الإحالة، فاختصاص البث في التعويض لو أراد المشرع ذلك لأسنده لأحد الجهتين والسكوت عن الشيء في القانون يفسر بالمنح فالعبارة الواردة في الفصل 573 لم تسند الاختصاص لا للغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى ولا لمحكمة الإحالة.
أما بخصوص مسطرة المخاصمة المنصوص عليها في الفصل 391 وما يليه من قانون المسطرة المدنية فتختص بها غرف المجلس الأعلى مجتمعة للقول بالمسؤولية المدنية للدولة والحكم بالتعويض. إذا ادعى ارتكاب القاضي التدليس أو الغش أو بغدر أو قضي نص تشريعي بجواز المخاصمة أو بمسؤولية القضاة يستحق عنها تعويض، ويسأل كذلك القاضي مدنيا إذا أخل بمقتضيات منصبه في الحالات التي يجوز فيها مخاصمته طبقا للفصل 81 من ق ل ع والفصل 391 من قانون المسطرة المدنية.
من ناحية أخرى إذا كان المشرع أعطى سابقا الاختصاص للقضاء العادي للحكم بتعويض المتضرر من الخطأ القضائي وهو لم يفعل، فإن ذلك لا يغير من الحقيقة القانونية وهي احتكار القضاء الإداري لاحقا لذلك الاختصاص خصوصا بعد تأسيس قضاء إداري متخصص بمقتضى قانون 90/41 استهدافا لازدواجية القضاء من خلال فصله الثاني الذي جاء صريحا إلى جانب مقتضيات الفصل 474 من قانون الإلتزامات والعقود الذي هو الشريعة العامة وما تتضمنه تلك المقتضيات من النص على نسخ القانون اللاحق للسابق، إن كان متعارضا معه أو منظما لكل الموضوع الذي ينظمه؟
إن الأمر يبدو في غاية الوضوح من الناحية القانونية، فالقضاء الإداري هو صاحب الاختصاص وحده ولا سند حتى للأخذ بخيار الضحية بين طلب التعويض لدى القضاء العادي أو الإداري[9] لأنه يضرب في الصميم ازدواجية القضاء.
مما يتطلب من المشرع الإسراع بالتدخل قصد التنزيل السليم لمقتضيات الدستور خاصة مقتضى المادة 122 بإصدار قانون ينظم التعويض وطلب التعويض والجهة المختصة نوعيا للنظر في مسألة التعويض عن الخطأ القضائي ووضع حد لإشكالية الاختصاص النوعي للبث في الحكم بالتعويض عن الخطأ القضائي خصوصا وأن الدولة طرفا في الدعوى.
خلاصات:
ختاما ندعو التشريع المغربي بالانصراف عن الإطار الضيق الذي قيد فيه نفسه بالالتزام بالخضوع لقواعد دعوى المخاصمة ومسطرة المراجعة، وإدخال إصلاحات على مجموعة من نصوص القانون الجنائي والمسطرة المدنية وتبسيط إجراءات المسطرين في حالة الإبقاء على تنظيمها لمسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي، وأن نطالب بقانون تنظيمي يوضح شروط وإجراءات مساءلة الدولة عن الخطأ القضائي.
واعتبار القضاء الإداري هو صاحب الاختصاص ولا سند للأخذ بخيار الضحية لأنه يضرب في ازدواجية القضاء والقول باختصاص القضاء الجنائي من شأنه أن يحرم ضحية الخطأ القضائي من التعويض بمرور أجل المراجعة من خلال نظر الغرفة الجنائية في المراجعة أو محكمة الإحالة.
كما نقترح تخصيص لجة مختصة بالتعويض على مستوى محكمة النقض تدعى لجنة التعويض ومنحها طابع جهة قضائية وأن تتشكل من قضاة وتجتمع في غرفة مشورة بين القضاة. وتصدر قراراتها في جلسة علنية وألا تكون قابلة للطعن ولها القوة التنفيذية من حيث شمولها بالنفاذ المعجل مع تحديد أجل معقول لطلب التعويض، إلا أن الإشكال يتضح مع القضاء الجماعي بخصوص تحمل المسؤولية في حالة دعوى المخاصمة، وإن كانت هناك آراء فقهية ذهبت لكون كل قاضي من قضاة هيأة الحكم يتحمل المسؤولية بناء على ملاحظاته المعبر عنها في منطوق الحكم.
وبالرغم من ذلك يجب الاحتفاظ بهبة ووقار الهيئة القضائية وأعضائها باعتبارها حصنا منيعا لدولة الحق وعماد الأمن القضائي كما جاء في خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب الذي على ضوئه لا ينبغي الإساءة للقاضي أو المؤسسة التي يعمل تحت أحضانها في حالة حدوث خطأ قضائي.
وكسؤال ألا يمكن اعتبار خرق القانون الداخلي والشطط على استعمال السلطة وخرق الإجراءات الجوهرية للمسطرة أخطاء ارتكبت من طرف أعضاء السلطة القضائية ينبغي مساءلة الدولة بشأنها مع إمكانية الرجوع بها على هؤلاء؟ وهل يعد الاعتقال الاحتياطي خطأ قضائي يندرج ضمن الفصل 122 من الدستور أم يضاف ضمن الجرائم الخطيرة حسب الفصل 23 من الدستور؟
المراجع المعتمدة
- محمد الأعرج: المنازعات الإدارية والدستورية في تطبيقات القضاء المغربي منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة عدد 78 لسنة 2012.
- محمد الأعرج: الاختصاص في طلبات التعويض عن الصرر الناتج عن الخطأ القضائي منشور بمجلة فقه المنازعات الإدارية، العدد 1 لسنة 2011.
- محمد الأعرج: مداخلة في الندوة الوطنية قواعد المحاكمة العادلة في ظل الدستور الجديد يوليو 2011، 18-19 ماي 2012 المنظمة بفاس.
- علي العلوي الحسني: مسألة الاختصاص النوعي المتعلق بالبث في تعويض ضحية الخطأ القضائي منشور بمجلة المحاكمة في 2008.
- محمد الوزاني: القضاء الإداري قضاء التعويض مطبعة النجاح الجديدة لسنة 2004.
- عبد الله دروس: مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي إلى أعلى مدى؟ مقال منشور بمجلة رحاب المحاكم أكتوبر 2010.
- هشام إبراهيم السعيد: المسؤولية المدنية لمعاوني القضاة دار قباء القاهرة غياب سنة الطبع.
- إبراهيم محمد علي: الاتجاهات الحديثة في مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية، مطبعة قباء القاهرة سنة 2001.
الهوامش
[1] - إبراهيم محمد علي: الاتجاهات الحديثة في مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية، مطبعة دار القباء لسنة 2001 ص61-63.
[2] - هشام إبراهيم السعيد: المسؤولية المدنية لمعاوني القضاء، دار القباء القاهرة، غياب سنة الطبع، ص 195.
[3]- زاني: القضاء الإداري قضاء التعويض ... ص209.
[4] - عبد الله دروش: مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي إلى أية مدة: مقال منشور بمجلة رحاب المحاكم عدد 8 أكتوبر 2011.
[5] - محمد الأعرج: مداخلة تحت عنوان "مسؤولية الدولة عن الأخطاء القضائية بالندوة الوطنية المنظمة حول قواعد المحاكمة العادلة فهي طرق حماية الدستور الجديد 18-19 ماي 2012 بفاس.
[6] - محمد الاعرج: الاختصاص في طلبات التعويض عن الخطاء القضائية: مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية سلسلة مواضيع الساعة عدد 2012.78 ص171.
[7] - قرار المحكمة الإدارية بالدار البيضاء رقم 134/2006 بتاريخ 15/11/2006 منشور بمجلة الملف العدد 10 أبريل 2007.
[8] - علي العلوي الحسيني: مسألة الاختصاص النوعي للتعويض مقال منشور بمجلة المحاكم العدد 115 يوليوز غشت 2008 ص 178.
[9] - محمد الأعرج: المنازعات الإدارية والدستورية في تطبيقات القضاء المغربي، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة عدد 78 لسنة 2012 ص172.