مقدمة
في دولة موحدة كما هو الشأن بالنسبة للمملكة المغربية، يفرض إحداث هياكل إدارية ترابية على السلطات العمومية أن تأخذ بعين الاعتبار عاملين متكاملين ومتساويين في الأهمية، ألا وهما من جهة توفير حد أدنى من التجانس على مستوى العمل الإداري الممارس على مجموع التراب الوطني وذلك للحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى تعزيزها، ومن جهة أخرى اعتبار وجود طموحات خاصة ببعض أطراف التراب الوطني.
وفي الحقيقة فعلى الإدارة أن تعمل على مسايرة وتوجيه وضع الأشخاص والأنشطة (1).
لقد عرفت الدولة في السنوات الأخيرة تحولا عميقا على مستوى بنياتها التنظيمية والهيكلية، وكذا على صعيد وظائفها وتدخلاتها. ومن الطبيعي أن يكون لهذه التحولات، انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على تطور الإدارة المغربية حيث لم تعد تطغى عليها الهيمنة المركزية، وذلك انطلاقا من أنه لايمكن لأي إدارة مركزية، مهما بلغت مستواها وكفاءتها، أن تقوم بتدبير الشؤون العامة الوطنية والمحلية بإتقان، مالم تشرك إلى جانبها هيئات إدارية موازية وفق ما تستوجبه المصلحة العامة، وكذا ما يتطلبه نظام الحكم القويم أو الرشيد (2).
ومن بين الآليات المهمة التي اهتدى إليها المشرع تلك المتعلقة بسن نظام اللاتركيز الإداري الذي أصبح مطلبا وطنيا، وإجراء استعجاليا، له عدة فوائد وانعكاسات إيجابية سواء على المستوى الأفقي (علاقة الدولة بمصالحها اللامتمركزة) أو المستوى العمودي (علاقة اللاتركيز باللامركزية)، دون أن ننسى أهميته بالنسبة للمواطن من حيث تقريب الخدمات (3).
ولهذا الغرض شرع المغرب في تطبيق نظام اللاتركيز منذ السنوات الأولى للاستقلال حيث تأكد أن هذا النظام مبدأ ثابت في الخطاب الرسمي وطموح مستمر لتخفيف أعباء نظام المركزية التقليدية وتفادي نتائجها السلبية، باعتبار أن اللاتركيز نظام أساسي لتكملة اللامركزية الإدارية (4).
وبالفعل فإن اللاتركيز يشكل ضرورة لتعزيز الأولويات الحكومية وذلك بسبب الدور الجوهري الذي يمكن أن يلعبه هذا النظام لإعادة تنظيم الإدارة وإعادة توزيع السلط بين أشغال المركز والمحيط بقصد تحسين تدبير الشأن العام وإعادة تقييم المرفق العمومي وتأهيله للمساهمة في تحقيق التنمية المحلية، وهكذا فإن مسلسل اللاتركيز بالمغرب تطور عبر مرحلتين أساسيتين :
المرحلة الأولى : تمتد من بداية الاستقلال إلى أواسط السبعينات، حيث اتجهت الجهود بصفة أساسية إلى تحقيق اللاتركيز العضوي الصرف ؛
أما المرحلة الثانية : فتمتد من 1975 إلى الآن، وتميزت بتعبئة الجهود من أجل تحقيق تركيز سلطة القرار والموارد.
بصفة عامة فإصلاح الإدارة وتطوير مسلسل اللاتركيز بالأخص يكونان المواضيع الرئيسية التي تطرقت لها الخطب الملكية (5). وترمي التوجيهات السامية للعاهل إلى تحقيق ملائمة مستمرة لهياكل المصالح العمومية ومهماتها مع الحتميات والتحديات الاقتصادية وتطور المجتمع وحاجيات المواطنين (6).
وهكذا مثلا بمناسبة انعقاد أشغال المناظرة الوطنية الرابعة للجماعات المحلية ( الدار 29 يونيو 1989) صرح الملك الراحل الحسن الثاني بما يلي :
« وذكرت هنا الديكتاتورية لا من ناحية التعامل أو الناحية السياسية أو القانونية، بل ذكرتها بمعنى الديكتاتورية في اختيار العيش وطريق العيش وأساليب العيش، وها نحن نرى في البلاد كيفما كان حجهما وقدرها التي يتقرر كل شيء في عاصمتها أن ازدهارها قد انقرض وأن نموها قد توقف وأن الأفكار قد عقمت وهذه هي الديكتاتورية في قرننا العشرين المطل على بعده، إنها وهي ديكتاتورية قاتلة أكثر من الديكتاتورية السياسية فلا حق لجماعة من الناس في عاصمة ما أن يشرعوا ويوزعوا لهذه وذلك سكان الجبال وسكان السهول دون أن يطلعوا ودون أن يعرفوا حاجاتهم. ومن المعبر عن الحاجات ومن هو أعرف الناس بتلك الحاجات ؟ » (7).
وفي رسالته الموجهة إلى وزير الدولة، وزير الداخلية يوم 19 نونبر 1993 بشأن اللامركزية و اللاتركيز أكد الملك الراحل الحسن الثاني مايلي :
« فإنك تعرف مدى تعلقنا باللامركزية وعزمنا منذ أمد بعيد على اتخاذها قاعدة لنظام التدبير المحلي، في المجالين القروي والحضري. وذلك هو ما حملنا على توسيع اختصاصات المجالس القروية والبلدية تدريجيا خلال العقدين السالفين يهدف توفير كافة الوسائل القانونية التي من شأنها أن تمكن المستشارين من القيام بمهمتهم وخدمة مصالح من أولوهم ثقتهم.
ولقد كان هذا النظام سيبقى ناقصا لو أننا أبقينا، في مؤازرة معه، على عاصمتنا مركزا وحيدا للقرارات الإدارية » (8).
وأخيرا تتضح جليا الأهمية التي تعار لموضوع اللاتركيز في البرامج الحكومية المتعاقبة إلى اليوم التي أعطته دفعة قوية.
في هذا الصدد نشير إلى التصريح الذي قدمه السيد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران للبرنامج الحكومي أمام البرلمان في 19 يناير 2012 الذي جاء فيه : « اعتماد مشروع طموح للاتمركز الإداري يواكب الجهوية المتقدمة واللامركزية، وذلك من خلال التعجيل بإصدار الميثاق الوطني للاتمركز باعتباره ورشا مهيكلا يروم تحقيق تحول نوعي في أنماط الحكامة وتوجها مهما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، وإعادة تنظيم الإدارة الترابية بما يكفل تناسق عملها والاستجابة عن قرب للحاجيات المعبر عنها محليا، وذلك بتخويلها السلط والصلاحيات والإمكانيات التي من شأنها وضع نظام فعال للإدارة اللامتمركزة التي سيتم تجميعها في بنيات لتحقيق التكامل والاندماج بين مختلف القطاعات العمومية... » (9).
كل هذه المعطيات جعلت المشرع المغربي يرتقي بتجربة اللاتركيز الإداري من خلال إصدار دستور جديد للبلاد لسنة 2011 (10)، الذي ترجم اختيار المملكة المغربية في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة.
ولهذه الغاية ينص الفصل 145 من الدستور المغربي لسنة 2011 على مايلي :
« يمثل ولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم، السلطة المركزية في الجماعات الترابية.
يعمل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية.
يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.
يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها ».
إضافة إلى ماسبق، فقد أوصى تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية في مجال اللاتركيز بما يلي :
تنسيق الاختصاصات والانتشار الترابي للمصالح الخارجية للإدارة والهيئات العمومية اللامركزية العاملة في قطاعات أساسية مثل التربية والتكوين والماء والبنيات التحتية للنقل والسكن والتعمير ؛
السهر على تصويب أو تجنب تداخل الاختصاصات و ازدواجية الهيئات والاستعمال غير الملائم أو غير الرشيد للموارد البشرية والمادية بين مختلف أنواع المصالح والهياكل اللاممركزة واللامركزية المكلفة بالعمل اليومي الميداني (11).
يكرس ويفعل المبدأ التالي :
تضطلع الإدارة المركزية بمهام التوجيه والتصور والتنشيط والمواكبة والمساعدة والتقييم والمراقبة في اتجاه تفويض موسع بالتدريج للمهام الإجرائية و التدبيرية للمصالح الخارجية القريبة من السكان؛
تناط بالإدارة الجهوية مهام التنسيق وتحقيق التماسك بين برامج وأعمال المصالح والهيئات العمومية، وأيضا مهمة التعاقد مع الإدارة المركزية وتتبع التفعيل ؛
تقوم إدارات العمالات والأقاليم بمهام إخراج الأعمال والمشاريع إلى حيّز التطبيق وبالصيانة والتدبير اليومي (12).
إن دراسة المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز يبقى ناقصا إذا لم يتم التطرق إلى المفاهيم المستعملة في هذا الموضوع :
I. يمكن تعريف مفهوم الدستور، كعبارة عن وثيقة أو عدة وثائق قانونية تصدر عن هيئة مختصة وفقا لإجراءات معينة وتتضمن القواعد المتصلة بنظام الحكم في بلد معين وفي زمن معين (13).
وبعبارة أخرى فالدستور يعد القانون الأساسي للدولة، وهو قانون تخضع لمقتضياته على حد سواء السلطات التشريعية، التنفيذية، والقضائية، وعليه فأحكام القانون الإداري والسلطات الإدارية ملزمة باحترام مقتضياته (14).
II. أما اللاتركيز فيعني تخويل بعض موظفي الوزارة في العاصمة أو في الأقاليم بصفة فردية أو في شكل لجان، تعين الحكومة أعضاءه، حق البت نهائيا في بعض الأمور دون حاجة إلى الرجوع إلى الوزير المختص، لاسيما في المسائل التي لا تحتاج إلى مجهود خاص في إنجازها. وذلك لتخفيف العبء قليلا عن الوزير ولتحقيق السرعة في إنجاز بعض أمور الوظيفة الإدارية خاصة بالنسبة للأماكن البعيدة عن العاصمة. وسلطة البت هذه لا تعني استقلال الموظفين عن الوزير وإنما يخضعون بالرغم من ذلك إلى إشرافه وإلى رؤسائهم الإداريين أي في نطاق السلطة الرئاسية (15).
وتظهر صورة اللاتركيز الإداري أساسا في التفويض الإداري الذي تتزايد أهميته في الوقت الحاضر (16).
أ. التفويض في الاختصاص
يقصد بهذا التفويض أن يعهد صاحب الاختصاص بممارسة جانب من اختصاصاته سواء في مسألة معينة أو في نوع معين من المسائل إلى فرد آخر أو سلطة أخرى طبقا لما تقتضيه.
ب. التفويض في التوقيع
يتنوع التفويض إلى : تفويض السلطة
(Délégation de compétence)
وهو الذي سبق أن تعرضنا له، يرتكز دور تفويض التوقيع
(Délégation de signature )
بخلاف التفويض في الاختصاص على مجرد توقيع المفوض إليه على بعض القرارات الداخلة في اختصاص الأصيل ولحسابه وتحت رقابته.
تكتسي دراسة المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز مناسبة مهمة للتعرف على المقتضيات الدستورية الجديدة في مجال اللاتركيز وكذا لوضع آفاق ترمي إلى تعزيز مسلسل اللاتركيز.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ماهي المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز وآية آفاق يمكننا تصورها للاتركيز ؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية :
كيف ارتقى الدستور المغربي الجديد بسياسة اللاتركيز ؛
أية آفاق يمكننا استشرافها لسياسة اللاتركيز.
تبعا لذلك، فقد قررنا تناول موضوع مستجدات الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز وفق المبحثين الآتيين :
مستجدات الدستور المغربي الجديد في اللاتركيز ؛
آفاق تطوير اللاتركيز الإداري
المبحث الأول
مستجدات الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز
هناك شبه إجماع لدى علماء الإدارة على أن إصلاح اللاتمركز الإداري يعد جزءا لا يتجزأ من إصلاح الدولة، و لايمكن اعتباره مجرد بعد من أبعاد الإصلاح الإداري. والسبب في ذلك يعود إلى أن نهج اللاتمركز يؤدي إلى التخفيف من المركزية ومن الدور الذي تضطلع هذه الإدارات المركزية ومن الدور الذي تضطلع به هذه الإدارات في تصريف شؤون المجتمع، وفي المقابل يفضي اللاتمركز إلى تقوية المصالح الخارجية المتواجدة على مقربة من الساكنة ومن المنتخبين المحليين. كما أن اللاتمركز يؤدي إلى تخليص الإدارات المركزية من الانشغالات التنفيذية ويدفع بها إلى التركيز على الوظائف الإستراتيجية والتوقعية. وأخيرا فإنه يؤدي على الخصوص إلى جعل الإدارات المركزية تش (تغل بشكل أفضل فيما بينها لأنه يفضي، في نهاية المطاف، إلى تعزيز التنسيق الأفقي بين القطاعات الحكومية وتنمية العمل البين الوزاري والتكامل والانسجام بين السياسات العمومية القطاعية (17).
تبعا لما سبق، فقد سعى الدستور المغربي إلى تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز بمنحهم صلاحيات واسعة في هذا المجال وكذا الارتقاء بوضعية مندوبيات الوزارات من المصالح الخارجية إلى المصالح اللامتمركزة تجسيدا لسياسة اللاتركيز.
من هذا المنطلق، سنتناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز ( المطلب الأول)، والارتقاء بوضعية مندوبيات الوزارات على المستوى الترابي ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز
إن وظيفة رجل السلطة (18) لا تقتصر على تمثيل الدولة في الجماعة التي يتواجد بها، بل له من الاختصاصات ما يجعله بحق أحد الفاعلين الأساسيين في المجال الاقتصادي. ويتبين ذلك من خلال مشاركته في جل القرارات ذات الطبيعة الاقتصادية المتخذة على المستوى المحلي (19).
يتوفر الوالي أو العامل على اختصاصات متنوعة وكثيرة يستمد مشروعيتها من الإطار الدستوري الذي يخول لهم صفة ممثل الدولة في الجهات والعمالات والأقاليم (20).
وبذلك أصبحت لهم وظائف تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية. كما يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها (21).
لم يعد ممثلي الدولة في الجهات والعمالات والأقاليم يمارسون أعمال إدارية فحسب، بل أصبحوا بالإضافة إلى ذلك مكلفون بالتنسيق بين المصالح اللامتمركزة للإدارات المدنية التابعة للدولة والمؤسسات العمومية المتواجدة داخل النفوذ الترابي للولايات أو العمالات. غير أن دورهم لا ينحصر فقط في التنسيق بل يمتد كذلك إلى المبادرة والنهوض بتلك الأعمال والمصالح والإشراف عليها وتتبعها، وذلك بتنسيق متبادل بينهم وبين السلطات المركزية حول المشاريع المزمع إنجازها في تراب الولاية أو العمالة، وكذا مستويات تنفيذ تلك المشاريع.
الأكثر من ذلك، أجاز مرسوم 20 أكتوبر 1993 (22) الذي عولت عليه كثيرا السلطات المغربية في تحديث الإدارة (23) للوزراء إمكانية للعمال لتدبير بعض الأمور الداخلة في اختصاصاتهم، وأن يتولوا التوقيع باسمهم أو التأشير على جميع القرارات المتعلقة بأعمال المصالح الخارجية التابعة لهم ضمن الحدود الداخلة في اختصاصاتهم الترابية (24).
ولضمان نوع من التنسيق في المشاريع المراد إنجازها، لاسيما أن تراب الولاية أو العمالة تضم العديد من المتدخلين إلى جانب رجال السلطة، من ممثليات الوزارات والمؤسسات العمومية الجهوية أو المحلية والمجتمع المدني والقطاع الخاص، فإن الضرورة ألحت إيجاد وسيلة عمل تجمع كل هؤلاء المتدخلين، ومن هنا جاء التنصيص على اللجنة التقنية التي تضم إضافة إلى العامل بصفته رئيسا، الكاتب العام للعمالة أو الإقليم ورؤساء الدوائر، ورؤساء المصالح الخارجية للإدارات المركزية التابعة للدولة، مديري المؤسسات العامة المتواجدة بتراب العمالة أو الإقليم، كل شخص من ذوي الدراية والأهمية والذي بإمكانه تقديم خدمات في هذا الإطار.
إضافة إلى تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز، فإن الدستور المغربي لسنة 2011 قد ارتقى بالوضعية القانونية لمندوبيات الوزارات على المستوى الترابي من المصالح الخارجية إلى المصالح اللاممركزة تعزيزا لسياسة اللاتركيز.
المطلب الثاني : الارتقاء بوضعية مندوبيات الوزارات على المستوى الترابي
إن اختيار المشرع المغربي لمصطلح « المصالح اللاممركزة » بدل مصطلح « المصالح الخارجية » يدل على الأهمية التي يحظى بها تدعيم نظام اللاتركيز الإداري ببلادنا.
هذا الاختيار جاء نتيجة للعوامل التالية :
نهج سياسة لتجميع المصالح غير الممركزة على مستوى الجهة، وذلك في اتجاه التخلي عن التموقع على المستوى الإقليمي لفائدة التموقع على المستوى الجهوي (25) ؛
يرى العديد من الدارسين أن الجهة ستشكل مجالا مفضلا لإحلال سياسة عدم التركيز، وستتيح للإدارة المركزية مراقبة وتأمين استمرارية أنشطة مصالحها غير الممركزة ليس فقط عن طريق مندوبيها الجهويين، ولكن أيضا عن طريق العامل كممثل للدولة من جهة، وباعتباره مسؤولا عن تنفيذ القرارات الحكومية من جهة أخرى، وقائما على ضمان التنسيق بين مختلف أنشطة هذه المصالح (26) ؛
إن رهان التنمية الجهوية يفرض على الإدارات المركزية في إطار سياسة اللاتركيز الإداري، إحداث مصالح غير ممركزة على مستوى الاختصاصات والموارد بكل الجهات، حتى تتمكن هذه الأخيرة بواسطة والي الجهة وعمال الأقاليم النظر في توزيع هذه المصالح بالتوازي على باقي التراب الوطني (27) ؛
اللاتركيز بمثابة لازمة للامركزية، بحيث أنه لتوفير النجاح لهذا المبدأ كان على الدولة أن تؤكد التزامها المحلي بوضع المؤسسات الغير متمركزة من أجل إقامة حوار بين المنتخبين المحليين والممثلين المحليين للدولة (28).
بعد استعراض المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو آية آفاق يمكننا استشرافها لتطوير اللاتركيز الإداري ببلادنا ؟
تبعا لذلك، فقد قررنا التطرق إلى آفاق تطوير اللاتركيز الإداري في المبحث الثاني من هذا الموضوع.
المبحث الثاني
آفاق تطوير اللاتركيز الإداري
إن تطوير اللاتركيز الإداري ببلادنا يمثل ورشا حيويا لتطوير وتحديث هياكل الدولة والنهوض بالتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا وتعزيز سياسة القرب.
وتدعيم هذا الورش يقتضي التعجيل بإصدار الميثاق الوطني للاتمركز يتوخى إقامة نظام فعال لإدارة لا ممركزة، يشكل قطيعة حقيقية مع نظام المركزية المتحجرة، نظام يعتمد مقاربة ترابية ويقوم على نقل صلاحيات مركزية للمصالح الخارجية وانتظامها في أقطاب تقنية جهوية.
كما يتعين تضمين هذا الميثاق الآليات القانونية الملائمة لحكامة ترابية تخول للولاة والعمال الصلاحيات اللازمة للنهوض بمهامهم، ولا سيما ما يتعلق منها بالإشراف على نجاعة ممارسة اختصاصات أجهزة الدولة وتناسق عمل كافة المتدخلين على المستوى الترابي الإقليمي والجهوي (29).
وأخيرا يجب تعزيز اللاتركيز ببلادنا عن طريق اعتماد تقسيم ترابي ناجع قائم على التناسق والتفاعل في نطاق حكامة ترابية ناجعة (30).
تبعا لذلك، فقد تقرر تناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : ضرورة إصدار الميثاق الوطني للاتركيز ( المطلب الأول)، ووجوب اعتماد تقسيم ترابي ناجع (المطلب الثاني).
المطلب الأول : ضرورة إصدار الميثاق الوطني للاتركيز
إن من شأن إصدار الميثاق الوطني للاتركيز أن يساهم في نظام فعال للإدارة لاممركزة وذلك عن طريق تفعيل مايلي :
إن النقطة المركزية الأولى في الميثاق المرتقب تتعلق بالقضية الجوهرية المرتبطة بتوزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والمصالح اللاممركزة. وفي هذا السياق، سيصبح اللاتمركز القاعدة العامة في توزيع المهام والوسائل بين مختلف المستويات الإدارية التابعة للدولة (31) ؛
تقتضي عملية إعادة النظر في بنيات إدارة الدولة استخدام أساليب جديدة وحديثة للتدبير والتسيير، أي أن التطورات المتلاحقة التي تعرفها أساليب التدبير الإداري تفرض نفسها على الإدارة المغربية، إذ هي أرادت أن تواكب التطورات والتحولات في مجال الممارسة الإدارية خصوصا على مستوى تدبير الموارد البشرية التي تعتبر أساس الممارسات والعمليات الإدارية على اعتبار عقلنة تدبير وتسيير الموارد البشرية بالأساليب الرشيدة والمتطورة يسمح للإدارة بتحقيق النجاعة والفعالية والجودة لتقديم خدماتها للمواطنين وذلك عبر التكوين المستمر والتوجيه والمراقبة والجزاء عند الاقتضاء (32)، كما يجب اعتماد آلية التدبير التوقعي للموارد البشرية (33) ؛
ومن المنطقي أن تعزيز اللاتمركز سيساهم في أقلمة الدولة مع المجال الجهوي. فإذا كان على الجهة أن تمارس مهامها مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الأساسي الذي تلعبه الدولة، فعلى الدولة كذلك أن لا تتجاهل الجهة وسيرورتها، ذلك أن الجهوية الموسعة تقتضي وجود ممثلين للدولة، أي ولاة وعمال، قادرين على العمل في إطار تشاوري مع المؤسسات الجهوية. كما يتعين على موظفي الدولة أن يعتبروا الجهة كمحور أساسي لتدخلاتهم وأن يتخلصوا من نزوعهم نحو التدبير المركزي المفرط الذي نعته الخطاب الملكي « بالمركزية المتحجرة » (34) ؛
إن هذا التوجه يتطلب معالجة إشكالية اللاتمركز بشكل شمولي وأفقي وعدم اختزال المسألة وحصرها في الاهتمام بالوالي أو الولاية وهو ما يعني ضرورة الانكباب على تنظيم باقي مكونات منظومة اللاتمركز الإداري، وتحديد علاقتها ببعضها البعض بما في ذلك وضعية المصالح اللاممركزة المتواجدة على المستويات الإقليمية (35).
إذا كان إصدار الميثاق الوطني للاتركيز سيساهم في وضع نظام فعال للإدارة فإنه اعتماد تقسيم ترابي ناجع من شأنه أن يساعد كذلك على التطبيق الأمثل لمقتضيات هذا الميثاق حال صدوره.
المطلب الثاني : وجوب اعتماد تقسيم ترابي ناجع
يشكل التقطيع الترابي جانبا أساسيا من مشروع الإصلاح الجهوي. فمن بين ما أشار إليه صاحب الجلالة من الأهداف في خطاب 3 يناير 2010 إبراز « جهات قابلة للاستمرار »، متماسكة ومستقرة تقام على أعلى المعايير وجاهة (36).
كما يوضح خطاب 6 نونبر 2008 أن « نجاح الجهوية رهين باعتماد تقسيم ناجع يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة اجتماعيا وثقافيا ». فحسب الخطاب الملكي، يرتبط نجاح هذا الورش بنجاعة التقسيم الجهوي كأساس للإصلاح على المستويين البنيوي والوظيفي.
ويبدو أن السلطات العمومية ستتخلى عن الخريطة الجهوية الحالية، وأنها مدعوة لتحديد معايير سوسيو اقتصادية وديموغرافية وجغرافية لاعتماد تقسيم جديد من شأنه تعزيز دور الجهة في كل الميادين.
وقد ركز الخطاب على فئتين من المعايير الواجب أخذها في الاعتبار. ويتعلق الأمر، أولا، بالمعايير الاقتصادية والجغرافية التي تشكل مراجع موضوعية ترتبط بالمستقبل وتجسد الجهوية العلمية، ثم ثانيا بالمعايير الاجتماعية والثقافية التي تعد من المراجع الذاتية ذات الصلة بالماضي والتي تجسد الجهوية العاطفية. والإشكالية التي يطرحها الخطاب بطريقة ضمنية تكمن في ضرورة التوفيق بين التكامل الاقتصادي والجغرافي بين الجهات من جهة والانسجام الاجتماعي والثقافي من جهة أخرى (37).
لذا يجب على أي تقسيم جديد ألا تطغى عليه الاعتبارات الإدارية وحدها بل يجب أن يراعى في المقام الأول الاعتبارات التي تمليها عملية تشريع وتعجيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة إلى جانب الاعتبارات الإدارية، الطبيعية والعوامل الاجتماعية والتاريخية وذلك بشكل إنعاش أي جهة رهين باستعمال وتطوير إمكانياتها الذاتية أولا ورهين تعاون جهوي تفرضه ضرورة التكامل على الصعيد الوطني خدمة لما فيه مصلحة جميع جهات البلاد ثانيا (38).
إن ما يميز مشروع التقسيم الجهوي المقترح من طرف اللجنة الاستشارية للجهوية هو تحديد عدد الجهات الواجب إحداثها بغية تعزيز الحكامة الترابية والذي اقترح في 12 جهة مقسمة على الشكل التالي :
1. طنجة- تطوان ؛
2. الشرق والريف ؛
3. فاس – مكناس ؛
4. الرباط- سلا- القنيطرة ؛
5. بني ملال- خنيفرة ؛
6. الدار البيضاء- سطات ؛
7. مراكش- أسفي ؛
8. درعة- تافيلالت ؛
9. سوس- ماسة ؛
10. كلميم- وادي نون ؛
11. العيون- الساقية الحمراء ؛
12. الداخلة- وادي الذهب.
إن هذا التقسيم المقترح من شأنه أن يحقق نوعا من التكامل بين مختلف الجهات حيث سيضمن توزيعا عادلا للمصالح اللامتمركزة التي ستساهم في تقريب الإدارة من المواطنين وجعل هذه المصالح تتمتع بصلاحيات واسعة في مجال اتخاذ القرار لما فيه تحسين صورة العمل الإداري على المستوى الترابي وتخفيفا للآثار السلبية الناتجة عن المركزية المتحجرة.
خاتمة عامة
وفي الختام، يتضح لنا جليا أن الدستور المغربي الجديد قد ارتقى باللاتركيز الإداري حيث عزز في هذا الصدد من دور الولاة والعمال بجعلهم ممثلي السلطة المركزية والعاملين باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، وممارسة المراقبة الإدارية.
كما أن الدستور الجديد لبلادنا قد استعمل لأول مرة في تاريخ المغرب منذ الاستقلال مصطلح « المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية »، تعبيرا عن رغبة المشرع المغربي في تعزيز مسار اللاتركيز كنمط لتكريس إدارة القرب من المواطنين.
إلا أنه هذه المستجدات الدستورية تبقى ناقصة إذا لم تسارع الحكومة إلى إصدار الميثاق الوطني للاتركيز واعتماد تقسيم ترابي ناجع من أجل الرقي بالممارسة الإدارية ببلادنا وجعلها أكثر مرونة وفعالية.
الهوامش
(1) اللاتركيز لازمة اللامركزية، وزارة الداخلية، المناظرة السابعة للجماعات المحلية : تحت شعار : اللامركزية وعدم التركيز، الدار البيضاء، 19-20-21 أكتوبر 1998، ص.5.
(2) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية : 2007-2008، ص.452.
(3)HARSI Abdellah : « La gouvernance locale au Maroc entre la décentralisation et déconcentration », in « Gouvernance locale au Maghreb », n°46, 2004, p.77.
(4) حنين محمد : « المدخل لدراسة القانون الإداري »، طبعة : دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، 2005، ص.57.
(5)FIKRI Mostapha : « La bonne gouvernance administrative au Maroc : Mission possible », Édition espace art culture, 2005, p.62.
(6) اللاتركيز لازمة اللامركزية، مرجع سابق، ص.8.
(7) أشغال المناظرة الرابعة للجماعات المحلية، تحت شعار : المسؤولية، الدار البيضاء، يونيو 1989.
(8) اللاتركيز لازمة اللامركزية، مرجع سابق، ص.9.
(9) البرنامج الحكومي، المملكة المغربية، رئيس الحكومة، يناير 2012، ص.21.
(10) ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور، ج.ر عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 شعبان 1432 ( 30 يوليو 2011)، ص.3600.
(11) تقرير حول الجهوية المتقدمة، اللجنة الاستشارية للجهوية، ص.44.
(12) نفس المرجع، ص.44-45.
(13) بوديار حسني : « الوجيز في القانون الدستوري »، دار العلوم للنشر والتوزيع، عنابة، 2003، ص.17.
(14) الأعرج محمد : « القانون الإداري المغربي»، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة»، عدد 66، 2010، ص.39.
(15) نفس المرجع، ص.72.
(16)HAMIDI Houmad : « Délégation de signature et délégation de pouvoir », REMALD, n°86, Mai-juin 2009, p.87.
(17) زياني إبراهيم « نظام اللاتمركز ورهانات تنظيم الدولة في أفق الجهوية المتقدمة »، مجلة مسالك، عدد مزدوج 17-18، 2011، ص.26-27.
(18)BASRI Driss : « L’agent de l’autorité », Mémoire de DES, Université Mohammed V, collection de la faculté des sciences juridiques, économiques et sociales, série de langue française, n°25, Imprimerie Royale, 1975, p.13.
(19) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب، مرجع سابق، ص.412.
(20) الفقرة الأولى من الفصل 145 من الدستور المغربي لسنة 2011.
(21) الفقرة الثانية والأخيرة من نفس الفصل من الدستور المغرب ي لسنة 2011.
(22) مرسوم رقم 2.93.625 صادر في 4 جمادى الأولى 1414 (20 أكتوبر 1993) في شأن اللاتركيز الإداري، ج.ر عدد 4227 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1414 (3 نوفمبر 1993)، ص.2209.
(23) EL YAAGOUBI Mohammed : « La déconcentration administrative à la lumière du 20 octobre 1993 », REMALD, n°10, 1995, p.43.
(24) الصروخ مليكة : « القانون الإداري : دراسة مقارنة »، منشورات مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة ، 1996، ص.155.
(25) مجيدي محمد : « الجهة بالمغرب : البنية ووسائل العمل – دراسة مقارنة »، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس- السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية : 1997-1998، ص.155.
(26) بخنوش عبد الكريم : « عدم التركيز الإداري بين العمالة والإقليم »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 52، 2006، ص.41-42.
(27) مبعوث عبد الواحد : « التنمية الجهوية بين عدم التركيز واللامركزية الإدارية »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية : 1999-2000، ص.422.
(28) زروق عادل : « الجهوية بالمغرب بين حدود التجربة الراهنة وآفاق الوضع المتقدم »، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام : تخصص : القانون العام والعلوم الإدارية، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- طنجة، السنة الجامعية : 2009-2010، ص. 129.
(29) خطاب جلالة الملك محمد السادس الذي وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين للمسيرة الخضراء، مراكش، 6 نونبر 2008 مأخوذ من الموقع الإلكتروني www.maroc.ma
(30) اليعكوبي محمد : « الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية »، مجلة مسالك، عدد مزدوج، 17-18، 2011، ص.19.
(31) نفس المرجع، ص.20.
(32) طالبي عبد الحق : « مؤسسة الوالي أو العامل بين المركزية وعدم التركيز : دراسة مقارنة »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- أكدال، السنة الجامعية : 2003-2004، ص.187.
(33) اعبيزة عبد الغني : « منطلقات أولية لإعادة تنظيم البنيات الإدارية وعدم التركيز بالمغرب »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، العدد 32، 2001، ص.128.
(34) اليعكوبي محمد : « الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية»، مرجع سابق، ص.22.
(35) زياني إبراهيم : « نظام اللاتمركز ورهانات تنظيم الدولة في أفق الجهوية المتقدمة »، مرجع سابق، ص.28.
(36) تقرير حول الجهوية المتقدمة مرفوع إلى العناية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، مرجع سابق، ص.54-55.
(37) اليعكوبي محمد : « الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية »، مرجع سابق، ص.16.
(38) البورقادي فاطمة وكناني آمال : « تطور الجهة بالمغرب »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 8، 1996، ص.40.
في دولة موحدة كما هو الشأن بالنسبة للمملكة المغربية، يفرض إحداث هياكل إدارية ترابية على السلطات العمومية أن تأخذ بعين الاعتبار عاملين متكاملين ومتساويين في الأهمية، ألا وهما من جهة توفير حد أدنى من التجانس على مستوى العمل الإداري الممارس على مجموع التراب الوطني وذلك للحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى تعزيزها، ومن جهة أخرى اعتبار وجود طموحات خاصة ببعض أطراف التراب الوطني.
وفي الحقيقة فعلى الإدارة أن تعمل على مسايرة وتوجيه وضع الأشخاص والأنشطة (1).
لقد عرفت الدولة في السنوات الأخيرة تحولا عميقا على مستوى بنياتها التنظيمية والهيكلية، وكذا على صعيد وظائفها وتدخلاتها. ومن الطبيعي أن يكون لهذه التحولات، انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على تطور الإدارة المغربية حيث لم تعد تطغى عليها الهيمنة المركزية، وذلك انطلاقا من أنه لايمكن لأي إدارة مركزية، مهما بلغت مستواها وكفاءتها، أن تقوم بتدبير الشؤون العامة الوطنية والمحلية بإتقان، مالم تشرك إلى جانبها هيئات إدارية موازية وفق ما تستوجبه المصلحة العامة، وكذا ما يتطلبه نظام الحكم القويم أو الرشيد (2).
ومن بين الآليات المهمة التي اهتدى إليها المشرع تلك المتعلقة بسن نظام اللاتركيز الإداري الذي أصبح مطلبا وطنيا، وإجراء استعجاليا، له عدة فوائد وانعكاسات إيجابية سواء على المستوى الأفقي (علاقة الدولة بمصالحها اللامتمركزة) أو المستوى العمودي (علاقة اللاتركيز باللامركزية)، دون أن ننسى أهميته بالنسبة للمواطن من حيث تقريب الخدمات (3).
ولهذا الغرض شرع المغرب في تطبيق نظام اللاتركيز منذ السنوات الأولى للاستقلال حيث تأكد أن هذا النظام مبدأ ثابت في الخطاب الرسمي وطموح مستمر لتخفيف أعباء نظام المركزية التقليدية وتفادي نتائجها السلبية، باعتبار أن اللاتركيز نظام أساسي لتكملة اللامركزية الإدارية (4).
وبالفعل فإن اللاتركيز يشكل ضرورة لتعزيز الأولويات الحكومية وذلك بسبب الدور الجوهري الذي يمكن أن يلعبه هذا النظام لإعادة تنظيم الإدارة وإعادة توزيع السلط بين أشغال المركز والمحيط بقصد تحسين تدبير الشأن العام وإعادة تقييم المرفق العمومي وتأهيله للمساهمة في تحقيق التنمية المحلية، وهكذا فإن مسلسل اللاتركيز بالمغرب تطور عبر مرحلتين أساسيتين :
المرحلة الأولى : تمتد من بداية الاستقلال إلى أواسط السبعينات، حيث اتجهت الجهود بصفة أساسية إلى تحقيق اللاتركيز العضوي الصرف ؛
أما المرحلة الثانية : فتمتد من 1975 إلى الآن، وتميزت بتعبئة الجهود من أجل تحقيق تركيز سلطة القرار والموارد.
بصفة عامة فإصلاح الإدارة وتطوير مسلسل اللاتركيز بالأخص يكونان المواضيع الرئيسية التي تطرقت لها الخطب الملكية (5). وترمي التوجيهات السامية للعاهل إلى تحقيق ملائمة مستمرة لهياكل المصالح العمومية ومهماتها مع الحتميات والتحديات الاقتصادية وتطور المجتمع وحاجيات المواطنين (6).
وهكذا مثلا بمناسبة انعقاد أشغال المناظرة الوطنية الرابعة للجماعات المحلية ( الدار 29 يونيو 1989) صرح الملك الراحل الحسن الثاني بما يلي :
« وذكرت هنا الديكتاتورية لا من ناحية التعامل أو الناحية السياسية أو القانونية، بل ذكرتها بمعنى الديكتاتورية في اختيار العيش وطريق العيش وأساليب العيش، وها نحن نرى في البلاد كيفما كان حجهما وقدرها التي يتقرر كل شيء في عاصمتها أن ازدهارها قد انقرض وأن نموها قد توقف وأن الأفكار قد عقمت وهذه هي الديكتاتورية في قرننا العشرين المطل على بعده، إنها وهي ديكتاتورية قاتلة أكثر من الديكتاتورية السياسية فلا حق لجماعة من الناس في عاصمة ما أن يشرعوا ويوزعوا لهذه وذلك سكان الجبال وسكان السهول دون أن يطلعوا ودون أن يعرفوا حاجاتهم. ومن المعبر عن الحاجات ومن هو أعرف الناس بتلك الحاجات ؟ » (7).
وفي رسالته الموجهة إلى وزير الدولة، وزير الداخلية يوم 19 نونبر 1993 بشأن اللامركزية و اللاتركيز أكد الملك الراحل الحسن الثاني مايلي :
« فإنك تعرف مدى تعلقنا باللامركزية وعزمنا منذ أمد بعيد على اتخاذها قاعدة لنظام التدبير المحلي، في المجالين القروي والحضري. وذلك هو ما حملنا على توسيع اختصاصات المجالس القروية والبلدية تدريجيا خلال العقدين السالفين يهدف توفير كافة الوسائل القانونية التي من شأنها أن تمكن المستشارين من القيام بمهمتهم وخدمة مصالح من أولوهم ثقتهم.
ولقد كان هذا النظام سيبقى ناقصا لو أننا أبقينا، في مؤازرة معه، على عاصمتنا مركزا وحيدا للقرارات الإدارية » (8).
وأخيرا تتضح جليا الأهمية التي تعار لموضوع اللاتركيز في البرامج الحكومية المتعاقبة إلى اليوم التي أعطته دفعة قوية.
في هذا الصدد نشير إلى التصريح الذي قدمه السيد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران للبرنامج الحكومي أمام البرلمان في 19 يناير 2012 الذي جاء فيه : « اعتماد مشروع طموح للاتمركز الإداري يواكب الجهوية المتقدمة واللامركزية، وذلك من خلال التعجيل بإصدار الميثاق الوطني للاتمركز باعتباره ورشا مهيكلا يروم تحقيق تحول نوعي في أنماط الحكامة وتوجها مهما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، وإعادة تنظيم الإدارة الترابية بما يكفل تناسق عملها والاستجابة عن قرب للحاجيات المعبر عنها محليا، وذلك بتخويلها السلط والصلاحيات والإمكانيات التي من شأنها وضع نظام فعال للإدارة اللامتمركزة التي سيتم تجميعها في بنيات لتحقيق التكامل والاندماج بين مختلف القطاعات العمومية... » (9).
كل هذه المعطيات جعلت المشرع المغربي يرتقي بتجربة اللاتركيز الإداري من خلال إصدار دستور جديد للبلاد لسنة 2011 (10)، الذي ترجم اختيار المملكة المغربية في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة.
ولهذه الغاية ينص الفصل 145 من الدستور المغربي لسنة 2011 على مايلي :
« يمثل ولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم، السلطة المركزية في الجماعات الترابية.
يعمل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية.
يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.
يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها ».
إضافة إلى ماسبق، فقد أوصى تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية في مجال اللاتركيز بما يلي :
تنسيق الاختصاصات والانتشار الترابي للمصالح الخارجية للإدارة والهيئات العمومية اللامركزية العاملة في قطاعات أساسية مثل التربية والتكوين والماء والبنيات التحتية للنقل والسكن والتعمير ؛
السهر على تصويب أو تجنب تداخل الاختصاصات و ازدواجية الهيئات والاستعمال غير الملائم أو غير الرشيد للموارد البشرية والمادية بين مختلف أنواع المصالح والهياكل اللاممركزة واللامركزية المكلفة بالعمل اليومي الميداني (11).
يكرس ويفعل المبدأ التالي :
تضطلع الإدارة المركزية بمهام التوجيه والتصور والتنشيط والمواكبة والمساعدة والتقييم والمراقبة في اتجاه تفويض موسع بالتدريج للمهام الإجرائية و التدبيرية للمصالح الخارجية القريبة من السكان؛
تناط بالإدارة الجهوية مهام التنسيق وتحقيق التماسك بين برامج وأعمال المصالح والهيئات العمومية، وأيضا مهمة التعاقد مع الإدارة المركزية وتتبع التفعيل ؛
تقوم إدارات العمالات والأقاليم بمهام إخراج الأعمال والمشاريع إلى حيّز التطبيق وبالصيانة والتدبير اليومي (12).
إن دراسة المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز يبقى ناقصا إذا لم يتم التطرق إلى المفاهيم المستعملة في هذا الموضوع :
I. يمكن تعريف مفهوم الدستور، كعبارة عن وثيقة أو عدة وثائق قانونية تصدر عن هيئة مختصة وفقا لإجراءات معينة وتتضمن القواعد المتصلة بنظام الحكم في بلد معين وفي زمن معين (13).
وبعبارة أخرى فالدستور يعد القانون الأساسي للدولة، وهو قانون تخضع لمقتضياته على حد سواء السلطات التشريعية، التنفيذية، والقضائية، وعليه فأحكام القانون الإداري والسلطات الإدارية ملزمة باحترام مقتضياته (14).
II. أما اللاتركيز فيعني تخويل بعض موظفي الوزارة في العاصمة أو في الأقاليم بصفة فردية أو في شكل لجان، تعين الحكومة أعضاءه، حق البت نهائيا في بعض الأمور دون حاجة إلى الرجوع إلى الوزير المختص، لاسيما في المسائل التي لا تحتاج إلى مجهود خاص في إنجازها. وذلك لتخفيف العبء قليلا عن الوزير ولتحقيق السرعة في إنجاز بعض أمور الوظيفة الإدارية خاصة بالنسبة للأماكن البعيدة عن العاصمة. وسلطة البت هذه لا تعني استقلال الموظفين عن الوزير وإنما يخضعون بالرغم من ذلك إلى إشرافه وإلى رؤسائهم الإداريين أي في نطاق السلطة الرئاسية (15).
وتظهر صورة اللاتركيز الإداري أساسا في التفويض الإداري الذي تتزايد أهميته في الوقت الحاضر (16).
أ. التفويض في الاختصاص
يقصد بهذا التفويض أن يعهد صاحب الاختصاص بممارسة جانب من اختصاصاته سواء في مسألة معينة أو في نوع معين من المسائل إلى فرد آخر أو سلطة أخرى طبقا لما تقتضيه.
ب. التفويض في التوقيع
يتنوع التفويض إلى : تفويض السلطة
(Délégation de compétence)
وهو الذي سبق أن تعرضنا له، يرتكز دور تفويض التوقيع
(Délégation de signature )
بخلاف التفويض في الاختصاص على مجرد توقيع المفوض إليه على بعض القرارات الداخلة في اختصاص الأصيل ولحسابه وتحت رقابته.
تكتسي دراسة المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز مناسبة مهمة للتعرف على المقتضيات الدستورية الجديدة في مجال اللاتركيز وكذا لوضع آفاق ترمي إلى تعزيز مسلسل اللاتركيز.
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ماهي المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز وآية آفاق يمكننا تصورها للاتركيز ؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية :
كيف ارتقى الدستور المغربي الجديد بسياسة اللاتركيز ؛
أية آفاق يمكننا استشرافها لسياسة اللاتركيز.
تبعا لذلك، فقد قررنا تناول موضوع مستجدات الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز وفق المبحثين الآتيين :
مستجدات الدستور المغربي الجديد في اللاتركيز ؛
آفاق تطوير اللاتركيز الإداري
المبحث الأول
مستجدات الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز
هناك شبه إجماع لدى علماء الإدارة على أن إصلاح اللاتمركز الإداري يعد جزءا لا يتجزأ من إصلاح الدولة، و لايمكن اعتباره مجرد بعد من أبعاد الإصلاح الإداري. والسبب في ذلك يعود إلى أن نهج اللاتمركز يؤدي إلى التخفيف من المركزية ومن الدور الذي تضطلع هذه الإدارات المركزية ومن الدور الذي تضطلع به هذه الإدارات في تصريف شؤون المجتمع، وفي المقابل يفضي اللاتمركز إلى تقوية المصالح الخارجية المتواجدة على مقربة من الساكنة ومن المنتخبين المحليين. كما أن اللاتمركز يؤدي إلى تخليص الإدارات المركزية من الانشغالات التنفيذية ويدفع بها إلى التركيز على الوظائف الإستراتيجية والتوقعية. وأخيرا فإنه يؤدي على الخصوص إلى جعل الإدارات المركزية تش (تغل بشكل أفضل فيما بينها لأنه يفضي، في نهاية المطاف، إلى تعزيز التنسيق الأفقي بين القطاعات الحكومية وتنمية العمل البين الوزاري والتكامل والانسجام بين السياسات العمومية القطاعية (17).
تبعا لما سبق، فقد سعى الدستور المغربي إلى تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز بمنحهم صلاحيات واسعة في هذا المجال وكذا الارتقاء بوضعية مندوبيات الوزارات من المصالح الخارجية إلى المصالح اللامتمركزة تجسيدا لسياسة اللاتركيز.
من هذا المنطلق، سنتناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز ( المطلب الأول)، والارتقاء بوضعية مندوبيات الوزارات على المستوى الترابي ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز
إن وظيفة رجل السلطة (18) لا تقتصر على تمثيل الدولة في الجماعة التي يتواجد بها، بل له من الاختصاصات ما يجعله بحق أحد الفاعلين الأساسيين في المجال الاقتصادي. ويتبين ذلك من خلال مشاركته في جل القرارات ذات الطبيعة الاقتصادية المتخذة على المستوى المحلي (19).
يتوفر الوالي أو العامل على اختصاصات متنوعة وكثيرة يستمد مشروعيتها من الإطار الدستوري الذي يخول لهم صفة ممثل الدولة في الجهات والعمالات والأقاليم (20).
وبذلك أصبحت لهم وظائف تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية. كما يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها (21).
لم يعد ممثلي الدولة في الجهات والعمالات والأقاليم يمارسون أعمال إدارية فحسب، بل أصبحوا بالإضافة إلى ذلك مكلفون بالتنسيق بين المصالح اللامتمركزة للإدارات المدنية التابعة للدولة والمؤسسات العمومية المتواجدة داخل النفوذ الترابي للولايات أو العمالات. غير أن دورهم لا ينحصر فقط في التنسيق بل يمتد كذلك إلى المبادرة والنهوض بتلك الأعمال والمصالح والإشراف عليها وتتبعها، وذلك بتنسيق متبادل بينهم وبين السلطات المركزية حول المشاريع المزمع إنجازها في تراب الولاية أو العمالة، وكذا مستويات تنفيذ تلك المشاريع.
الأكثر من ذلك، أجاز مرسوم 20 أكتوبر 1993 (22) الذي عولت عليه كثيرا السلطات المغربية في تحديث الإدارة (23) للوزراء إمكانية للعمال لتدبير بعض الأمور الداخلة في اختصاصاتهم، وأن يتولوا التوقيع باسمهم أو التأشير على جميع القرارات المتعلقة بأعمال المصالح الخارجية التابعة لهم ضمن الحدود الداخلة في اختصاصاتهم الترابية (24).
ولضمان نوع من التنسيق في المشاريع المراد إنجازها، لاسيما أن تراب الولاية أو العمالة تضم العديد من المتدخلين إلى جانب رجال السلطة، من ممثليات الوزارات والمؤسسات العمومية الجهوية أو المحلية والمجتمع المدني والقطاع الخاص، فإن الضرورة ألحت إيجاد وسيلة عمل تجمع كل هؤلاء المتدخلين، ومن هنا جاء التنصيص على اللجنة التقنية التي تضم إضافة إلى العامل بصفته رئيسا، الكاتب العام للعمالة أو الإقليم ورؤساء الدوائر، ورؤساء المصالح الخارجية للإدارات المركزية التابعة للدولة، مديري المؤسسات العامة المتواجدة بتراب العمالة أو الإقليم، كل شخص من ذوي الدراية والأهمية والذي بإمكانه تقديم خدمات في هذا الإطار.
إضافة إلى تقوية دور الولاة والعمال في مجال اللاتركيز، فإن الدستور المغربي لسنة 2011 قد ارتقى بالوضعية القانونية لمندوبيات الوزارات على المستوى الترابي من المصالح الخارجية إلى المصالح اللاممركزة تعزيزا لسياسة اللاتركيز.
المطلب الثاني : الارتقاء بوضعية مندوبيات الوزارات على المستوى الترابي
إن اختيار المشرع المغربي لمصطلح « المصالح اللاممركزة » بدل مصطلح « المصالح الخارجية » يدل على الأهمية التي يحظى بها تدعيم نظام اللاتركيز الإداري ببلادنا.
هذا الاختيار جاء نتيجة للعوامل التالية :
نهج سياسة لتجميع المصالح غير الممركزة على مستوى الجهة، وذلك في اتجاه التخلي عن التموقع على المستوى الإقليمي لفائدة التموقع على المستوى الجهوي (25) ؛
يرى العديد من الدارسين أن الجهة ستشكل مجالا مفضلا لإحلال سياسة عدم التركيز، وستتيح للإدارة المركزية مراقبة وتأمين استمرارية أنشطة مصالحها غير الممركزة ليس فقط عن طريق مندوبيها الجهويين، ولكن أيضا عن طريق العامل كممثل للدولة من جهة، وباعتباره مسؤولا عن تنفيذ القرارات الحكومية من جهة أخرى، وقائما على ضمان التنسيق بين مختلف أنشطة هذه المصالح (26) ؛
إن رهان التنمية الجهوية يفرض على الإدارات المركزية في إطار سياسة اللاتركيز الإداري، إحداث مصالح غير ممركزة على مستوى الاختصاصات والموارد بكل الجهات، حتى تتمكن هذه الأخيرة بواسطة والي الجهة وعمال الأقاليم النظر في توزيع هذه المصالح بالتوازي على باقي التراب الوطني (27) ؛
اللاتركيز بمثابة لازمة للامركزية، بحيث أنه لتوفير النجاح لهذا المبدأ كان على الدولة أن تؤكد التزامها المحلي بوضع المؤسسات الغير متمركزة من أجل إقامة حوار بين المنتخبين المحليين والممثلين المحليين للدولة (28).
بعد استعراض المستجدات التي جاء بها الدستور المغربي الجديد في مجال اللاتركيز، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو آية آفاق يمكننا استشرافها لتطوير اللاتركيز الإداري ببلادنا ؟
تبعا لذلك، فقد قررنا التطرق إلى آفاق تطوير اللاتركيز الإداري في المبحث الثاني من هذا الموضوع.
المبحث الثاني
آفاق تطوير اللاتركيز الإداري
إن تطوير اللاتركيز الإداري ببلادنا يمثل ورشا حيويا لتطوير وتحديث هياكل الدولة والنهوض بالتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا وتعزيز سياسة القرب.
وتدعيم هذا الورش يقتضي التعجيل بإصدار الميثاق الوطني للاتمركز يتوخى إقامة نظام فعال لإدارة لا ممركزة، يشكل قطيعة حقيقية مع نظام المركزية المتحجرة، نظام يعتمد مقاربة ترابية ويقوم على نقل صلاحيات مركزية للمصالح الخارجية وانتظامها في أقطاب تقنية جهوية.
كما يتعين تضمين هذا الميثاق الآليات القانونية الملائمة لحكامة ترابية تخول للولاة والعمال الصلاحيات اللازمة للنهوض بمهامهم، ولا سيما ما يتعلق منها بالإشراف على نجاعة ممارسة اختصاصات أجهزة الدولة وتناسق عمل كافة المتدخلين على المستوى الترابي الإقليمي والجهوي (29).
وأخيرا يجب تعزيز اللاتركيز ببلادنا عن طريق اعتماد تقسيم ترابي ناجع قائم على التناسق والتفاعل في نطاق حكامة ترابية ناجعة (30).
تبعا لذلك، فقد تقرر تناول هذا المبحث وفق المطلبين الآتيين : ضرورة إصدار الميثاق الوطني للاتركيز ( المطلب الأول)، ووجوب اعتماد تقسيم ترابي ناجع (المطلب الثاني).
المطلب الأول : ضرورة إصدار الميثاق الوطني للاتركيز
إن من شأن إصدار الميثاق الوطني للاتركيز أن يساهم في نظام فعال للإدارة لاممركزة وذلك عن طريق تفعيل مايلي :
إن النقطة المركزية الأولى في الميثاق المرتقب تتعلق بالقضية الجوهرية المرتبطة بتوزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والمصالح اللاممركزة. وفي هذا السياق، سيصبح اللاتمركز القاعدة العامة في توزيع المهام والوسائل بين مختلف المستويات الإدارية التابعة للدولة (31) ؛
تقتضي عملية إعادة النظر في بنيات إدارة الدولة استخدام أساليب جديدة وحديثة للتدبير والتسيير، أي أن التطورات المتلاحقة التي تعرفها أساليب التدبير الإداري تفرض نفسها على الإدارة المغربية، إذ هي أرادت أن تواكب التطورات والتحولات في مجال الممارسة الإدارية خصوصا على مستوى تدبير الموارد البشرية التي تعتبر أساس الممارسات والعمليات الإدارية على اعتبار عقلنة تدبير وتسيير الموارد البشرية بالأساليب الرشيدة والمتطورة يسمح للإدارة بتحقيق النجاعة والفعالية والجودة لتقديم خدماتها للمواطنين وذلك عبر التكوين المستمر والتوجيه والمراقبة والجزاء عند الاقتضاء (32)، كما يجب اعتماد آلية التدبير التوقعي للموارد البشرية (33) ؛
ومن المنطقي أن تعزيز اللاتمركز سيساهم في أقلمة الدولة مع المجال الجهوي. فإذا كان على الجهة أن تمارس مهامها مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الأساسي الذي تلعبه الدولة، فعلى الدولة كذلك أن لا تتجاهل الجهة وسيرورتها، ذلك أن الجهوية الموسعة تقتضي وجود ممثلين للدولة، أي ولاة وعمال، قادرين على العمل في إطار تشاوري مع المؤسسات الجهوية. كما يتعين على موظفي الدولة أن يعتبروا الجهة كمحور أساسي لتدخلاتهم وأن يتخلصوا من نزوعهم نحو التدبير المركزي المفرط الذي نعته الخطاب الملكي « بالمركزية المتحجرة » (34) ؛
إن هذا التوجه يتطلب معالجة إشكالية اللاتمركز بشكل شمولي وأفقي وعدم اختزال المسألة وحصرها في الاهتمام بالوالي أو الولاية وهو ما يعني ضرورة الانكباب على تنظيم باقي مكونات منظومة اللاتمركز الإداري، وتحديد علاقتها ببعضها البعض بما في ذلك وضعية المصالح اللاممركزة المتواجدة على المستويات الإقليمية (35).
إذا كان إصدار الميثاق الوطني للاتركيز سيساهم في وضع نظام فعال للإدارة فإنه اعتماد تقسيم ترابي ناجع من شأنه أن يساعد كذلك على التطبيق الأمثل لمقتضيات هذا الميثاق حال صدوره.
المطلب الثاني : وجوب اعتماد تقسيم ترابي ناجع
يشكل التقطيع الترابي جانبا أساسيا من مشروع الإصلاح الجهوي. فمن بين ما أشار إليه صاحب الجلالة من الأهداف في خطاب 3 يناير 2010 إبراز « جهات قابلة للاستمرار »، متماسكة ومستقرة تقام على أعلى المعايير وجاهة (36).
كما يوضح خطاب 6 نونبر 2008 أن « نجاح الجهوية رهين باعتماد تقسيم ناجع يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا ومنسجمة اجتماعيا وثقافيا ». فحسب الخطاب الملكي، يرتبط نجاح هذا الورش بنجاعة التقسيم الجهوي كأساس للإصلاح على المستويين البنيوي والوظيفي.
ويبدو أن السلطات العمومية ستتخلى عن الخريطة الجهوية الحالية، وأنها مدعوة لتحديد معايير سوسيو اقتصادية وديموغرافية وجغرافية لاعتماد تقسيم جديد من شأنه تعزيز دور الجهة في كل الميادين.
وقد ركز الخطاب على فئتين من المعايير الواجب أخذها في الاعتبار. ويتعلق الأمر، أولا، بالمعايير الاقتصادية والجغرافية التي تشكل مراجع موضوعية ترتبط بالمستقبل وتجسد الجهوية العلمية، ثم ثانيا بالمعايير الاجتماعية والثقافية التي تعد من المراجع الذاتية ذات الصلة بالماضي والتي تجسد الجهوية العاطفية. والإشكالية التي يطرحها الخطاب بطريقة ضمنية تكمن في ضرورة التوفيق بين التكامل الاقتصادي والجغرافي بين الجهات من جهة والانسجام الاجتماعي والثقافي من جهة أخرى (37).
لذا يجب على أي تقسيم جديد ألا تطغى عليه الاعتبارات الإدارية وحدها بل يجب أن يراعى في المقام الأول الاعتبارات التي تمليها عملية تشريع وتعجيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة إلى جانب الاعتبارات الإدارية، الطبيعية والعوامل الاجتماعية والتاريخية وذلك بشكل إنعاش أي جهة رهين باستعمال وتطوير إمكانياتها الذاتية أولا ورهين تعاون جهوي تفرضه ضرورة التكامل على الصعيد الوطني خدمة لما فيه مصلحة جميع جهات البلاد ثانيا (38).
إن ما يميز مشروع التقسيم الجهوي المقترح من طرف اللجنة الاستشارية للجهوية هو تحديد عدد الجهات الواجب إحداثها بغية تعزيز الحكامة الترابية والذي اقترح في 12 جهة مقسمة على الشكل التالي :
1. طنجة- تطوان ؛
2. الشرق والريف ؛
3. فاس – مكناس ؛
4. الرباط- سلا- القنيطرة ؛
5. بني ملال- خنيفرة ؛
6. الدار البيضاء- سطات ؛
7. مراكش- أسفي ؛
8. درعة- تافيلالت ؛
9. سوس- ماسة ؛
10. كلميم- وادي نون ؛
11. العيون- الساقية الحمراء ؛
12. الداخلة- وادي الذهب.
إن هذا التقسيم المقترح من شأنه أن يحقق نوعا من التكامل بين مختلف الجهات حيث سيضمن توزيعا عادلا للمصالح اللامتمركزة التي ستساهم في تقريب الإدارة من المواطنين وجعل هذه المصالح تتمتع بصلاحيات واسعة في مجال اتخاذ القرار لما فيه تحسين صورة العمل الإداري على المستوى الترابي وتخفيفا للآثار السلبية الناتجة عن المركزية المتحجرة.
خاتمة عامة
وفي الختام، يتضح لنا جليا أن الدستور المغربي الجديد قد ارتقى باللاتركيز الإداري حيث عزز في هذا الصدد من دور الولاة والعمال بجعلهم ممثلي السلطة المركزية والعاملين باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، وممارسة المراقبة الإدارية.
كما أن الدستور الجديد لبلادنا قد استعمل لأول مرة في تاريخ المغرب منذ الاستقلال مصطلح « المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية »، تعبيرا عن رغبة المشرع المغربي في تعزيز مسار اللاتركيز كنمط لتكريس إدارة القرب من المواطنين.
إلا أنه هذه المستجدات الدستورية تبقى ناقصة إذا لم تسارع الحكومة إلى إصدار الميثاق الوطني للاتركيز واعتماد تقسيم ترابي ناجع من أجل الرقي بالممارسة الإدارية ببلادنا وجعلها أكثر مرونة وفعالية.
الهوامش
(1) اللاتركيز لازمة اللامركزية، وزارة الداخلية، المناظرة السابعة للجماعات المحلية : تحت شعار : اللامركزية وعدم التركيز، الدار البيضاء، 19-20-21 أكتوبر 1998، ص.5.
(2) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية : 2007-2008، ص.452.
(3)HARSI Abdellah : « La gouvernance locale au Maroc entre la décentralisation et déconcentration », in « Gouvernance locale au Maghreb », n°46, 2004, p.77.
(4) حنين محمد : « المدخل لدراسة القانون الإداري »، طبعة : دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، 2005، ص.57.
(5)FIKRI Mostapha : « La bonne gouvernance administrative au Maroc : Mission possible », Édition espace art culture, 2005, p.62.
(6) اللاتركيز لازمة اللامركزية، مرجع سابق، ص.8.
(7) أشغال المناظرة الرابعة للجماعات المحلية، تحت شعار : المسؤولية، الدار البيضاء، يونيو 1989.
(8) اللاتركيز لازمة اللامركزية، مرجع سابق، ص.9.
(9) البرنامج الحكومي، المملكة المغربية، رئيس الحكومة، يناير 2012، ص.21.
(10) ظهير شريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور، ج.ر عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 شعبان 1432 ( 30 يوليو 2011)، ص.3600.
(11) تقرير حول الجهوية المتقدمة، اللجنة الاستشارية للجهوية، ص.44.
(12) نفس المرجع، ص.44-45.
(13) بوديار حسني : « الوجيز في القانون الدستوري »، دار العلوم للنشر والتوزيع، عنابة، 2003، ص.17.
(14) الأعرج محمد : « القانون الإداري المغربي»، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة»، عدد 66، 2010، ص.39.
(15) نفس المرجع، ص.72.
(16)HAMIDI Houmad : « Délégation de signature et délégation de pouvoir », REMALD, n°86, Mai-juin 2009, p.87.
(17) زياني إبراهيم « نظام اللاتمركز ورهانات تنظيم الدولة في أفق الجهوية المتقدمة »، مجلة مسالك، عدد مزدوج 17-18، 2011، ص.26-27.
(18)BASRI Driss : « L’agent de l’autorité », Mémoire de DES, Université Mohammed V, collection de la faculté des sciences juridiques, économiques et sociales, série de langue française, n°25, Imprimerie Royale, 1975, p.13.
(19) الميري سعيد : « التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب، مرجع سابق، ص.412.
(20) الفقرة الأولى من الفصل 145 من الدستور المغربي لسنة 2011.
(21) الفقرة الثانية والأخيرة من نفس الفصل من الدستور المغرب ي لسنة 2011.
(22) مرسوم رقم 2.93.625 صادر في 4 جمادى الأولى 1414 (20 أكتوبر 1993) في شأن اللاتركيز الإداري، ج.ر عدد 4227 بتاريخ 18 جمادى الأولى 1414 (3 نوفمبر 1993)، ص.2209.
(23) EL YAAGOUBI Mohammed : « La déconcentration administrative à la lumière du 20 octobre 1993 », REMALD, n°10, 1995, p.43.
(24) الصروخ مليكة : « القانون الإداري : دراسة مقارنة »، منشورات مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة ، 1996، ص.155.
(25) مجيدي محمد : « الجهة بالمغرب : البنية ووسائل العمل – دراسة مقارنة »، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة محمد الخامس- السويسي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية : 1997-1998، ص.155.
(26) بخنوش عبد الكريم : « عدم التركيز الإداري بين العمالة والإقليم »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 52، 2006، ص.41-42.
(27) مبعوث عبد الواحد : « التنمية الجهوية بين عدم التركيز واللامركزية الإدارية »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية : 1999-2000، ص.422.
(28) زروق عادل : « الجهوية بالمغرب بين حدود التجربة الراهنة وآفاق الوضع المتقدم »، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام : تخصص : القانون العام والعلوم الإدارية، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- طنجة، السنة الجامعية : 2009-2010، ص. 129.
(29) خطاب جلالة الملك محمد السادس الذي وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين للمسيرة الخضراء، مراكش، 6 نونبر 2008 مأخوذ من الموقع الإلكتروني www.maroc.ma
(30) اليعكوبي محمد : « الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية »، مجلة مسالك، عدد مزدوج، 17-18، 2011، ص.19.
(31) نفس المرجع، ص.20.
(32) طالبي عبد الحق : « مؤسسة الوالي أو العامل بين المركزية وعدم التركيز : دراسة مقارنة »، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- أكدال، السنة الجامعية : 2003-2004، ص.187.
(33) اعبيزة عبد الغني : « منطلقات أولية لإعادة تنظيم البنيات الإدارية وعدم التركيز بالمغرب »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، العدد 32، 2001، ص.128.
(34) اليعكوبي محمد : « الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية»، مرجع سابق، ص.22.
(35) زياني إبراهيم : « نظام اللاتمركز ورهانات تنظيم الدولة في أفق الجهوية المتقدمة »، مرجع سابق، ص.28.
(36) تقرير حول الجهوية المتقدمة مرفوع إلى العناية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، مرجع سابق، ص.54-55.
(37) اليعكوبي محمد : « الجهوية المتقدمة في الخطب الملكية »، مرجع سابق، ص.16.
(38) البورقادي فاطمة وكناني آمال : « تطور الجهة بالمغرب »، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة « مواضيع الساعة »، عدد 8، 1996، ص.40.