شُرع الطلاق باعتباره أبغض الحلال إلى الله، لا يلجأ إليه إلا على سبيل الاستثناء وللضرورات القصوى التي يفترض أن تقدر بقدرها، لكونه شرع على خلاف الأصل الذي هو دوام العشرة الزوجية بما فيها من مودة ورحمة ([1])، فإذا انعدم أحدهما كان الآخر كفيلا بإبقاء العلاقة الزوجية، ومتى انتفيا شفعا كان مآل العلاقة الزوجية إلى زوال، فتغدو المستحقات المحكوم بها لفائدة الزوجة السبيل الفريد لجبر الضرر المادي والمعنوي الناتج عن فك عرى الزوجية، وعن عطاء موصول مبذول خدمة للأسرة واحتباس واستمتاع ([2]) وتربية وإرضاع وإشراف وتوجيه وإفناء لزهرة العمر ولربيع الشباب تلبية لحاجيات الزوج والأبناء، فيكفي الزوجة والحالة ما ذكر أن تبتلى بالفراق، أما أن تبتلى برزيتي الفراق والحرمان من المستحقات، فذاك ما يأباه الشرع والطبع والوضع، وهذا الفهم إن صدر عن قضاء الموضوع فيمكن أن نلتمس له الأعذار ([3])، أما أن يصدر عن قضاء محكمة النقض فذاك ينبئ عن وجود اختلال بنيوي في فهم محكمة القانون لبنود وتنصيصات المدونة ولغاية المشرع من إقرارها بعد نسخ القانون الأسري السابق. وكنا نأمل من المجلس الأعلى بحكم مكانته الاعتبارية السامقة في نفوس القضاة ودوره في تشكيل العقل الجمعي في القضاء المغربي وقيادته، وكونه محكمة قانون، والجهة التي تنتهي إليها الأحكام، لتغدو حائزة لقوة الشيء المقضي به، أن يتدخل لرفع التخبط الذي يعتري أحكام محاكم الموضوع بخصوص مواضيع أسرية كثيرة سيئ فهمها، واختلف في إنفاذ نصوصها، فأضحت كثير من المكتسبات حبيسة متون النصوص لا تفي بالغرض ولا تحقق غايات صياغتها، فيكون من صميم اختصاص المجلس الأعلى الموقر ومبنى رسالته السامية، إعطاء التفسير الصحيح للنص القانوني المجسد لإرادة الشارع الأعظم والمشرع لنصوص القانون.
فمحكمة النقض وهي المقام القضائي السامي الذي يحوي شيوخ وأساطين القضاة ونخبتهم ([4])، مدعوة لأن تمارس دورها كاملا غير منقوص في قيادة القضاء المغربي بثبات نحو إصدار أحكام معيارية رصينة، بهمة قضاتها وشموخ قضائها، دون أن يغطي على دورها تدخل وزارة العدل عبر توجيه مناشير أو دوريات لقضاء الموضوع ظاهرها الإعلام وباطنها الإلزام، فتصدر محكمة النقض اجتهادات سديدة منسجمة مع إرادة المشرع العامة والخاصة، الشاخصة من خلال استقراء نصوص مدونة الأسرة جمعا وإفرادا، فالشيء من مأتاه لا يستغرب، والتي بمقتضاها يتعين المحافظة ابتداء على لحمة الأسرة مع رفع الظلم على من وقع عليه، ثم المحافظة على حقوق جميع أفرادها حال استحكام الخلاف، وكون فك عرى العلاقة الزوجية آخر الدواء وآخره الكي، وهو ما يستلزم التيسير الموضوعي والإجرائي لاقتضاء تلك الحقوق بسرعة ويسر دون تغليب لكفة طرف على آخر بغير وجه حق، مع تحكيم المصلحة الفضلى للأسرة بقاءً أو طلاقا.
ولا ريب أن موضوع التطليق للشقاق يعد في طليعة المواضيع الأسرية التي أسيل المداد الغزير من أجلها مراجع ومقالات ورسائل وأطاريح، باعتباره مستجدا تشريعيا ومكتسبا أقرته مدونة الأسرة، عندما خولت للزوجين أو أحدهما إنهاء العلاقة الزوجية دون سوق أسباب مؤيدة بأدلة ظاهرة، والاكتفاء بادعاء وجود خلاف مستحكم ليس إلا. بيد إنه وباعتبار الاختصار المخل في المقتضيات القانونية المنظم لهذه المسطرة، والتي لا تنيف عن أربعة مواد، ولا تجسد بحال أهميتها وكم التوسل بها ([5])، فإن هذا الأمر أفضى إلى اختلاف في التطبيق القضائي، للاختلاف في الفهم الناتج عن الغموض والإرسال والاختصار المخل في النصوص الأربعة المسنونة. وهكذا اختُلف في كثير من كليات وجزئيات هذه المسطرة، من قبيل مدى جواز الحكم برفض طلب التطليق للشقاق لعدم الإثبات، ومدى قانونية إصدار حكم تمهيدي بوجوب الإيداع القبلي للمستحقات الناتجة عن التطليق للشقاق حال تقديم الطلب من لدن الزوج؟.
والحق يقال أن موضوع مدى جواز حصول طالبة التطليق للشقاق على كافة مستحقاتها المترتبة عن التطليق للشقاق، لم يكن يطرح كبير إشكال، وكان محل اتفاق بين مختلف محاكم الموضوع من غير شذوذ، حسب المستفاد من استقراء الأحكام والقرارات الصادرة في مادة الشقاق، إلى أن صدر قرار المجلس الأعلى عدد 433 وتاريخ 21/9/2010 ملف عدد 623/2/1/2009 ([6]) لينص في اجتهاد غريب على أن الزوجة لا تستحق المتعة حال سلوكها مسطرة التطليق للشقاق، مؤسسا قضاءه ذاك على طائفة من المسوغات القانونية والفقهية بعضها سيق باحتشام في ثنايا القرار، وإبان التعليق عليه من لدن رئيس الغرفة مصدرة القرار[7]، والبعض الآخر نسوقه بيانا لتنكبه الصواب وافتقاره إلى ما يعضده من الأسانيد والمؤيدات، وهكذا سنعرض ابتداءً لأدلة المانعين ثم لأدلة المجيزين.
المطلـب الأول:
أدلـة المانعيــن ومناقشتــها.
استدل المانعون على صحة مذهبهم القائل بعدم استحقاق الزوجة للمتعة حال طلبها التطليق للشقاق بعدة مؤيدات قانونية وفقهية، أهمها:
أن المستحقات لا يقضى بها إلا حال تقديم الطلب من لدن الزوج طلاقا أو تطليقا، وهذا الأمر كانت تنص عليه مدونة الأحوال الشخصية المنسوخة بوضوح غير محتمل في الفصل 52 مكرر، والذي جاء فيه: " يلزم كل مطلق بتمتيع مطلقته إذا كان الطلاق من جانبه بقدر يسره وحالها، إلا التي سمي لها الصداق وطلقت قبل الدخول، إذا ثبت للقاضي أن الزوج طلق بدون مبرر مقبول، تعين عليه أن يراعي عند تقدير المتعة ما يمكن أن يلحق الزوجة من أضرار ". ويترتب على ذلك بالمفهوم المخالف أمران أولهما عدم وجوب المتعة إذا كان الطلاق مقدما من لدن الزوجة كما في حالة الطلاق المملك، وثانيهما عدم وجوب المتعة في كل تطليق تتقدم به.
وهو فهم يطبق أيضا في ظل مدونة الأسرة حال تطبيق مسطرة الشقاق، لأن المشرع أحال بمقتضى المادة 94 من المدونة عند تحديد المستحقات المترتبة على التطليق للشقاق على المادة 79 منها، وهذه المادة تحدد المستحقات حال طلب الطلاق من لدن الزوج ([8])، فيسري الأمر ذاته على مسطرة الشقاق والتي لا يقضى فيها بالمستحقات خاصة المتعة إلا حال تقديم الطلب من لدن الزوج، وإلا انتفت غاية المشرع من تلك الإحالة ففي تمكين الزوجة من المستحقات قول بما لم يقله المشرع. أن الزوجة طالبة التطليق للشقاق إذا كانت محقة في طلبها فإنه يقضى لها بالتعويض عن جسامة الضرر اللاحق بها ولا يقضى لها بالمتعة، ولا مشاحة في الاصطلاح لأن العبرة والاعتداد بالمبالغ المتحصل عليها لا بالتسميات التي تعطى لها.
أن الحكمة من تشريع المتعة أمران:
أولهما مواساة الزوجة وتطييب خاطرها بعد حملها على ترك بيت الزوجية، ففك عرى الزوجية لا يعني نبذ المرأة وقطع كل صلة بها وحرمانها من حقوقها المالية والشخصية. وثانيهما التخفيف من حدة الأسى والحزن والكراهية التي يحدثها الفراق الناتج عن طبيعة المرأة وخصوصيتها الفيزيولوجية، متمثلة في عاطفتها الجياشة وقابليتها للتأثر بكل قرار يمس الاستقرار الأسري الذي تعيش في كنفه، وذلك وفق مسلمات علمية ثابتة ([9]) وعن الطبيعة البشرية بصفة عامة ولا غرابة، فالنفس البشرية أمارة بالسوء، والإنسان يقدم عند الطمع ويحجم عند الفزع، وإذا مسه الخير منوعا، وإذا مسه الشر جزوعا، ولا ريب أن التعويض يمكن أن يقوم مقام المتعة في تحقيق كل تلك غايات الجبر النفسي.
أن ما يؤكد التوجه المذكور تنصيص مدونة الأحوال الشخصية الملغاة بمقتضى صريح عددناه آنفا، على أن المتعة لا يحكم بها لفائدة الزوجة إلا حال تقديم طلب الطلاق من لدن الزوج، وهو الأمر نفسه المكرس في ظل مدونة الأسرة السارية التي لم تأت على ذكر مستحق المتعة إلا عند تنظيمها لمسطرة الطلاق التي هي بعهدة الزوج، فتكون إرادة المشرع قد انصرفت إلى أنه لا متعة إلا حال تقديم طلب الطلاق أو التطليق للشقاق من لدن الزوج.
أن هذا التوجه يزكيه الفقه الإسلامي المعمول به المحال عليه بمقتضى المادة 400 من المدونة، وهو صريح في أكثره في عدم إيجاب المتعة في غير الطلاق الذي هو في عهدة الزوج. فإجماع الفقهاء منعقد على عدم تمكين الزوجة من مستحقاتها المترتبة عن التطليق إذا كان الفراق بسببها، قال صاحب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" مبينا المعنى الذي نرمي إليه: " قال الشافعي هي (يريد المتعة) واجبة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول، وعلى هذا جمهور العلماء" ([10]).
المطلـب الثانـي:
أدلـة المجيزيـن ومناقشتهـــا.
لما كان من القيود المنهجية المعروفة أن الفكرة تحترم والرأي يناقش، أقول دون تزيد، إن ما ساقه المجلس الأعلى من مؤيدات قانونية وفقهية يعتوره اعتلال ويغشاه فساد في الاستدلال وعسف في الاستنتاج، ذلك أن مسايرة اجتهاده المذكور من شأنه مناقضة إرادة المشرع والقول بما لم يقله بناء على تأويلات متعسفة وفهم فيه تكلف ظاهر وارتداد عن إنفاذ مكتسب قانوني وإعراض عن تطبيقه، وتنكب لإرادة الشارع الأعظم ومصادرة لحق أصيل من حقوق المرأة في الحصول على كافة مستحقاتها كاملة غير منقوصة لمجرد استعمالها لمكنة تشريعية واضحة غير محتملة، وهو اجتهاد مناكب للصواب ولحقيقة مقتضيات المواد. عمدتنا في ذلك أسانيد قانونية وفقهية وواقعية تظافرت كلها لتدل على عدم توفق الاجتهاد القضائي محل التعقيب، وهو فهم ما كان ليغفل عن أنظار قضاة المجلس الأعلى وفهمهم السديد ولا يجوز لمثلهم ذلك، لكن الكلام حمال أوجه وكلّ يؤخذ من كلامه ويرد، والاجتهاد البشري مشوب بالقصور، آية ذلك أن المجلس الأعلى نفسه كثيرا ما يعدل عن بعض قراراته، عمدته في ذلك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فقرينة الصحة المفترضة في قرارات المجلس الأعلى قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس، بدليل وحجة ومراعاة لأدب الكلام في حضرة العلم ولفضيلة الاختلاف لا الخلاف، والابتعاد عن التعصب للرأي مكابرةً و توهماً بأنه الصواب.
وإذا كان الإفحام يكون بسوق الأدلة ونحن في حضرة ومقام القضاء، وهو ميدان تمحيص الأدلة وغربلة البراهين، فإن تعويلنا لتعضيد صحة مذهبنا سيكون بجلب الأدلة وضعا وشرعا وطبعا، فالزوجة تستحق كافة المستحقات حال تقديمها طلب التطليق للشقاق قولا واحدا، دليلنا في ذلك طائفة من المسوغات القانونية والفقهية، كلها تدل على سداد توجهنا ومطابقته لإرادة الشارع الأعظم والمشرع انطباقا مكينا، أبرزها:
أن من شأن تبني الاجتهاد المذكور من لدن محاكم الموضوع المساس بالسلم الاجتماعي والأمن القانوني، إذ من الصعب التراجع عن مكتسب تشريعي واضح هام أكده قضاء الموضوع بمقتضى اجتهادات متواترة، وأقره عليه الفقه القانوني واستحسنه، لرفعه مظالم عن المرأة والتي حررت من عقال وجوب اللجوء إلى الطلاق الخلعي كحل فريد إن أرادت رفع الحيف الواقع عليها، فخوّلت حق طلب التطليق للشقاق جمعا بين حقها في فك عرى العلاقة الزوجية (إذ الرضا شرط في انعقاد الزواج وفي دوامه) ([11])، وحقها في الحصول على المستحقات التي تزيد أو تنقص بحسب وجاهة طلبها ومدى كونه مؤسسا على أسباب سائغة ومعقولة، أو أنه مشوب بالعسف والصلف.
أن من شأن مسايرة توجه المجلس الأعلى التمييز بين الرجل والمرأة في استعمال مكنة شرعية وتشريعية، وتيسيرها على الزوج، وتصعيبها على الزوجة بحرمانها من حقوقها المالية متى عمدت إلى المكنة المذكورة.
أن ثبوت حق الزوجة في المتعة مؤسس على كون الزوج قد تمتع بها في جميع الأحوال طال أمد الزواج أم قصر، فلا معنى لمصادرة حقها الأصيل في الحصول عليها لمجرد أنها تقدمت بطلب التطليق، فلا يسقط حقها ذاك بالإسقاط من غير إرادتها الطائعة المختارة الدالة على ذلك بوضوح لا يغشاه احتمال أو يكتنفه ظنٌ.
أن حق الزوجة في الحصول على المتعة يكون حتى حال كونها متعسفة في طلبها، لكن يتأثر مقدارها بمقدار تعسفها في استعمالها حقها ذاك، ولأجل ذلك وضع المشرع أربعة محددات لإفراد المتعة، بمقتضى المادة 84 من المدونة، منها دخل الزوج ومدة الزواج وأسباب التطليق والطرف المتعسف في إيقاعه، ففي رفض طلب تمتيع الزوجة في مطلق الأحوال إذا كانت مدعية في دعوى الشقاق عدم الاعتداد بأحد أبرز محددات المتعة، وهي المدة التي قضتها الزوجة بمعية زوجها، طالت أو قصرت وكلاهما مظنة لرفع مستحقات الزوجة ([12])، ولانتفت بذلك الغاية من تحديده، لكن يسوغ في أحايين معينة عدم تمكين الزوجة البتة من المتعة وإسقاط حقها فيها، أيا كان طالب التطليق للشقاق، إذا كان الفراق بخطأ فريد منها، بشرط ثبوت ذلك بيقين بإقرار طائع مختار أو بحكم قضائي مبرم ونحوه، كإدانتها بجرم الخيانة الزوجية ([13])، فتقدر كل حالة بقدرها.
أن هناك حالات تكون فيها الزوجة محقة في طلبها الرامي إلى التطليق، فكيف لا تمتع؟!.
أن من شأن عدم تمتيع الزوجة حال كونها طالبة التطليق حمل الأزواج على إجبار زوجاتهم على طلب التطليق كرها تهربا من دفع المستحقات، رغم عدم رغبتهن في ذلك، بل يفعلن ذلك تحت وطأة الإكراه المادي أو المعنوي ([14]) المباشر من لدن الأزواج استغلالا لمكنة تشريعية أو لفهم قضائي متعسف لها.
أن القول بأحقية الزوجة بتقديم طلب التعويض ليس إلا، حال كونها طالبة التطليق وكونها محقة في طلبها ذاك، أمر لا يتأتى ذلك إلا إذا تفطنت له الزوجة، إذ ما العمل إذا لم تتقدم الزوجة بطلب التعويض؟، ولا يملك القاضي أن ينذرها بذلك لأن فيه خروجا عن حياده المفترض، وكونه ملزم بالبت في حدود طلبات الأطراف، فتخرج الزوجة خالية الوفاض ومبتلاة برزيتين، التجريد من رباط الزوجية والحرمان من مستحقاتها المالية التي تمكنها من مواجهة متطلبات الحياة منفردة.
أن الاجتهاد المذكور يفتقر إلى السند القانوني المجيز، إذ لو أراد المشرع النص على هذا الأمر لفعل تصريحا، فيكون من حق الزوجة تأسيسا على ما ذكر الحصول على المستحقات في كافة الأحوال، تمسكا بقاعدة لا اجتهاد مع مورد النص ووضوحه، وركونا إلى قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة.
تنظيم المشرع لمسطرة الطلاق الخلعي الذي تتنازل فيه المرأة بإرادة طائعة مختارة عن مستحقاتها نظير فك عصمتها، يدل إعمالا للمفهوم المخالف على إمكان حصولها على كافة المستحقات في باقي أنواع الطلاق والتطليق الأخرى، ومنها حتما التطليق للشقاق.
أن المادة 94 واضحة في وجوب الحكم بالمستحقات بعد الاستجابة لطلب التطليق دون تمييز جنسي بين رجل وامرأة في استعمال هذه السبيل التشريعية.
أن المتعة تجب للزوجة في مطلق التطليقات التي عدّدها المشرع في القسم الرابع من المدونة، فكيف يستثنى التطليق للشقاق منها بدون موجب استثناء معروف؟!.
أنه لو جاز الركون إلى منطق المجلس الأعلى والتمسك به، لما وجب على الزوج طالب التطليق للشقاق المتعة، لكونها إنما تجب عليه حال الطلاق لا التطليق، وهو ما لا يقوم به عاقل أو حتى غير عاقل.
أن التسوية بين التطليق للشقاق والطلاق الخلعي في إسقاط مستحقات الزوجة حال كونها المدعية قياسا هو قياس مع وجود الفارق، طالما أن المرأة في الطلاق الخلعي إنما تتنازل عن مستحقاتها بإرادة طائعة مختارة.
أن هذا الاجتهاد يجسد حقيقة رسوخ فكرة كون العبرة في الاجتهاد القضائي بشخصية القاضي وليس بموضوعية القانون. والمعنى تأويل النص القانوني بما يراه مفسره لا بما أراده مشرعه، ولو كانت الصياغة ظاهرة تَعِنُّ لكل ذي نظر، بأدنى جهد وبقراءة عرضية وظاهرية للنص محل التفسير ([15]).
أن الاجتهاد المذكور لا يلزم محاكم الموضوع لعدم صدوره عن غرفتين من غرف المجلس الأعلى، أو بمجموع غرفه حتى تذعن له محاكم الموضوع إذعانا أدبيا وعمليا لا تعقيب بعده، إذ لا معنى لمخالفة اتجاه محكمة النقض إذا كان مآله الإلغاء من قبلها.
أن هذا الاجتهاد لم يصدر بمناسبة اختلاف في اجتهاد محاكم الموضوع، بل أقره المجلس الأعلى بمناسبة ردّه على وسيلة للطعن بالنقض، ولم يكن هناك خلاف بنيوي بين محاكم الموضوع فصل فيه المجلس الأعلى كدأبه نهوضا بواجبه، إذ كانت كلها تسير على هدي واحد، موجب لمستحقات الزوجة حال طلبها التطليق للشقاق، فكان اجتهاد المجلس الأعلى بذلك جزءً من المشكلة وليس سببا في الحل.
أن تأخر المجلس الأعلى في إقرار هذا الاجتهاد بعد ست سنوات من صدور مدونة الأسرة، يدل على أنه لم يكن مؤسسا على فكرة ظاهرة منبلجة تشخص في متن النص القانوني الأسري دون تأويل، وتظهر لكل ذي عينين، دون إجالة للفكر أو إعمال للنظر، فكان التأخر في تبني الاجتهاد مظنة على ضمور مرتكزاته وضعف أسسه.
أن في إنفاذ الاجتهاد المذكور تراجعا عن مكتسب تشريعي هام مقرر لمصلحة المرأة، منتزع بعد جهود موصولة وحراك مجتمعي وسجال فكري، ومثل ذلك يفضي إلى الوقوع في انتكاسات حري بالقضاء أن يربأ بنفسه عن المساهمة المباشرة في وقوعها وهو الذي كثيرا ما يُرمى عن باطل بكونه يقف أمام نفاذ مكتسبات المدونة والحكم بعقلية ذكورية ومحافظة.
علما بأن المقتضى المذكور إنما يتعلق بمقدار الصداق الذي تستحقه المطلقة بقطع النظر عن المتعة التي تستحق إثر كل طلاق، سواء وقع عقب دخول أو بعد خلوة، لأن العقد قد حصل وستغدو مطلقة عقب إنهائه، فتستحق المتعة والحالة ما ذكر في مطلق الحالات. وهذا الأمر ينسجم مع مقتضيات الوضع وأحكام الشرع، فمظنة استحقاق المتعة ليست التمتع دائما، بل تجب لمجرد العقد وهو مذهب الظاهرية الذي تبناه مشرع المدونة.
فليس هناك مقتضى قانوني يحظر تمتيع المفارقة متى طلقت قبل الفرض والبناء والمادة 32 إنما تتعلق بقدر الصداق المستحق حال الطلاق قبل البناء، وذلك لا ينفي استحقاق المتعة في سائر أحوال الطلاق.
ثم إن أدلة الشرع قرآنا وسنة أوجبت تمتيع كل مفارقة، قال الحق سبحانه: (يأيها الذين آمنوا إذا أنكحتم المومنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا.) ([17]).
وفي ذلك تحقيق لحكمة تشريع المتعة وهي تكريم الزوجة وجبر الضرر الحال الواقع لها في العاجل والآجل، إذ يلحقها بالطلاق ابتذال وصدود عنها، وقلة الرغبة فيها فلزم أن تمتع بما يخفف مصابها ويقلل فجيعتها ([18]).
أن اجتهاد المجلس الأعلى لم يكن مؤسسا على أدلة نقلية فقهية معتبرة، إذا لم يسق أقوالاً فقهية معتمدة مفحمة تبيّن سداد اتجاهه، رغم إلمام قضاته الأثبات بالنقول الفقهية واتساع عارضتهم في ذلك، واقتصر بدل ذلك على التوسل بعبارات عامة وألفاظ مرسلة من قبيل الإشارة إلى أن اجتهاده يجد سنده في الفقه الإسلامي ([20])، دون ذكره اسما وعينا حتى يتأتى الوقوف على درجة قوته راجحا أو مشهورا أو جرى به العمل، ومناقشة جدواه و مدى صلاحية تطبيقه في زمننا.
أن الذي قد يحمل بعض قضاة الموضوع على الإذعان لاجتهاد المجلس الأعلى محل التعقيب والالتزام به، هو تجنب نقض الحكم بعد عرضه على أنظاره، لا التبني الناتج عن الاقتناع الفقهي والقانوني بسداده وصحته والتسليم بجدواه وسلامة مؤيداته ومن هنا ميّز علماء الأصول بين الرضا والتسليم، أي الرضا الطوعي والتسليم الاضطراري.
أن ما وقع من سجال مرده إلى الغموض الذي يكتنف صياغة المادة 94 من المدونة، والاختصار المخل في النصوص المعقودة لتنظيمها، والمحصورة في أربع مواد عامة مرسلة لم تشرح مغلقاتها، ولم تحط بكليات وجزئيات مسطرة التطليق للشقاق التي استغرقت باقي التطليقات التي أضحت تدخل في عدادها ومسماها، لتغدو بلا منازع أبرز أنواع التطليق المثيرة للجدل ([19]).
أنه ليس من صميم اختصاص القضاء التدخل للتخفيف من أثر تطبيق بعض السبل التشريعية والشطط في استعمالها، ومنها الشقاق الذي أفرط في استعماله من لدن الزوجات بداع مقبول، أو لمجرد الكيد والإضرار بالزوج، بل إن ذلك من اختصاص المشرع التزاما بمبدأ فصل السلطات، فيكون القاضي ملزما بتطبيق النصوص على علاتها دون مجادلة، لكن يسوغ له من خلال إسهاماته الفقهية الجهر ودونما مواربة أو مجاملة وجاهية بحقيقة رأيه في النصوص المسنونة، مبينا مثالبها وقوادحها.
ومعلوم أنه قد اختلف في التأصيل الفقهي للمتعة، هل هي تعبدية استأثر الحق سبحانه بمعرفة علل وضعها، أم أنها معقولة الغايات والعلل؟.
والقول بالأولى يقتضي وجوب التمتيع في كافة الأطلقة والتطليقات أخذا بعموم السند الشرعي متمثلة في الآية القرآنية المجيزة، أما القول بالثانية فيقتضي التمييز بين الحالات وارتباط المتعة ارتباطا شرطيا مع تقديم طلب الطلاق أو التطليق من لدن الزوج ليس إلا.
مع أني أجنح إلى القول بأن المتعة تجب للزوجة في كلا القولين، وحتى مع القول بأن المتعة معقولة العلل فإن الزوجة تستحق المتعة حال كونها طالبة التطليق متى كانت محقة في طلبها بشكل كلي أو جزئي.
ما الغاية من قصر حق المرأة على التعويض دون المتعة حال كونها طالبة التطليق للشقاق؟، وهل كان فقهاء الإسلام يعرفون التعويض إسما ومعنى؟، وهل كانوا يمنحونه للزوجات حال طلبهن التطليق؟. فكيف يؤسس المجلس الأعلى قضاءه على مقتضيات الفقه الإسلامي التي لا تعرف بحال مسمى التعويض؟، وإنما هو اصطلاح قانوني وضعي خالص، أم أن التعويل عليه كان فقط للقول بأنه لا مستحقات إلا حال طلب الطلاق من لدن الزوج؟. فتنتقي منه الشاهد دون ذكر سياقه ومناسبته، والمناسبة شرط كما هو مقرر عند سادتنا الفقهاء.
ولا مراء في أن القرار محل الشرح لم يوضح المعنى الذي عناه الفقهاء عند قولهم بحرمان طالبة التطليق من المتعة إذا كان الطلاق بسببها، وهو ما يقتضي منا شرح مغلقات المعنى المذكور، من خلال بيان الحكم الشرعي للمتعة، وتحديد محلها. فمذهب جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنابلة استحباب المتعة، دليلهم في ذلك حصر السند المجيز لها على المتقين والمحسنين، قال الحق سبحانه:(متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) ([21])، وقال تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين)([22]) وأيضا لعدم تقدير المتعة، فلو كانت واجبة لبيّنها الشارع مقدارا وأنصبة، ومذهب الشافعية الوجوب لا الاستحباب ([23]).
وفي مخالفة للمذهب المالكي المنتسب إليه، قال ابن العربي في أحكامه ([24]) والإمام القرطبي في جامعه ([25])، وآخرون من كبار فقهاء المذهب، هي واجبة لعدم التسليم بالاستدلال المساق من لدن جمهور الفقهاء، لعموم الأمر بالامتاع في قول ربّنا: (متعوهن)([26])، وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله تعالى: (وللمطلقات متاع) ([27]) أظهر في الوجوب من الندب، ويؤكد ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: (حقا على المتقين)([28]). وحكم الوجوب هذا يستدل عليه من تعريف ابن عرفة صاحب الحدود والتعريفات للمتعة بأنها:"ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه إياها" ([29])، وهو حكم يدل على صحة وسداد مذهبنا القائل بوجوب تمكين الزوجة من مستحقاتها طالبة كانت أو مطلوبة في دعوى التطليق.
أما محل المتعة فهو عند جمهور الفقهاء كل مطلقة إلا المختلعة والمطلقة قبل البناء المفروض لها الصداق، ومذهب الأحناف عدم وجوبها إلا للمطلقة قبل الدخول وبعد الفرض، وذلك تبعا لتفسيرهم للآيات المجيزة ([30]).
ومذهب الظاهرية وجوب المتعة لكل مطلقة لعموم قول الحق سبحانه: (وللمطلقات متاع بالمعروف)، فلم يخص مطلقة دون أخرى ([31])، وبه قال الإمام ابن تيمية ([32])، ولم يستثن الشافعية من ذلك إلا المطلقة بعد الفرض وقبل الدخول ([33])، ودونها تجب لكل مطلقة، وهو القول الذي يحقق المصلحة والعدل في زمننا ويتعين من ثمة الحكم وفقه وبمقتضاه وفق شواهد عددناها في ثنايا التعقيب، دون غلو أو اقتصاد.
فإذا كان مبنى قرار المجلس الأعلى استناده إلى انعقاد إجماع أكثر المذاهب على أنه لا متعة إذا كانت الفرقة من الزوجة وبسببها، كردتها أو فسخ الزواج بعيبها أو لعانها. فإن الباحث بالمعنى المعياري هو الذي يحرر محل النزاع، وتحريره يقتضي منا تبيان المعنى الذي أراده الفقهاء، فلا حرمان من المتعة إلا عندما تكون المرأة المتسببة الوحيدة في الطلاق أو التطليق، وقد لا تكون كذلك ولو سعت إليه، وكانت الطرف المبادر إليه والمعنى أن السعي إلى الطلاق أو التطليق لا يعني التسبب فيه، فقد يكون السعي بغير ذنب جنته و قد يكون الزوجان مسؤولين عنه بنسب متساوية أو متفاوتة، والتطليق السبيل الفريد إلى الخلاص ورفع الظلم الجزئي أو الكلي الواقع عليها، خاصة إذ أبى الزوج استعمال حقه في الطلاق تعنتا ونكاية في الزوجة، فكيف لا تمتع؟!، بل تُمَكَّنُ منها ويجزى لها العطاء معاقبة للزوج بنقيض قصده، وسوء سعيه وذلك عين العدل.
- أن ما يعضد ما سقناه حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنما كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقين ([34])، والشاهد في الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم مولاه تمكين مفارقته من جهاز وكسوة وهي بلا خلاف ضَرْبٌ من المتعة، رغم أن الطلاق كان من جانبها وبسعي منها، والحديث صحيح صريح في إيجابه ذلك، وهو حجة من خلال جمعه بين السنة القولية والفعلية وقد ثبت أيضا أن النبي طلق وكان المبادر إليه ومتع مفارقته رغم كونه منزه عن الخطأ في استعمال هذه السبيل، فدل ذلك على وجوب المتعة للزوجة في سائر الحالات، بقطع النظر عن المراكز القانونية للزوجين في الدعوى، بل وبقطع النظر عن مسؤوليتها عن وقوع الفراق.
- أن المشرع المغربي أوجب بمقتضى المادة 84 من المدونة تمتيع كل مطلقة ولم يستثن من ذلك الزوجة طالبة التطليق للشقاق، فيتعين بذلك التمسك بعموم مقتضيات المادة المذكورة أخذا بقاعدة أن العام يبقى على عمومه إلى أن يرد دليل يخصصه ([35]). ولا اعتداد بما كانت تنص عليه مدونة الأحوال الشخصية المنسوخة لفهم إرادة المشرع بل العبرة بمقتضيات مدونة الأسرة وبما تحويه من مكتسبات واجبة النفاذ دون ارتداد أو رجوع إلى قانون ملغى للشرح والتفسير، وإلا انتفت الغاية من صياغة قوانين جديدة.
أنه حتى في حالة تأسيس المجلس الأعلى قضاءه على بعض النقول الفقهية، فإنه يتعين عدم الوقوف عندما قرره فقهاء السلف بإمعة كأنه ضرب من المسلمات التي لا يأتيها الباطل تمسكا بمنهج استقرائي متجاوز، بل لابد من البحث في العلل والغايات وإجالة الفكر وإطلاق النظر تمسكا بمنهج استنباطي ومنهج تركيبي، فإنتاج المعرفة لا يحدث إلا بذلك ونظيره، خاصة وأن هذا الأمر لا يعد من جملة الأمور التوقيفية التي لا يجوز أن تنتهك بالاجتهاد، فالتطليق لم يكن معروفا عند فقهاء الإسلام كما هو الحال في زمننا، وغني عن البيان أن الحكم يدور مع علته وجودا وانتفاء وَتَغَيُّراً.
أن الاجتهاد المذكور سبب انقساما وشرخا على مستوى قضاء الموضوع، بين اتجاه متبني له وآخر معرض عنه، بعد أن كان القضاء يسير على نسق واحد موجب لمستحقات الزوجة حال تقديمها لطلب التطليق، فتنقض بذلك غاية المجلس الأعلى في توحيد اجتهاد محاكم الموضوع، فيصدر اجتهاده عقب تضاد وتخبط فيزيله، لا أن يتسبب فيه، فيهدم مبدأ الاستقرار أو الأمن القضائي الذي يعد القضاء حارسه الأمين.
أن الاجتهاد المذكور قد يكرس فكرة وجود عقلية ذكورية وخلفية محافظة سائدة في القضاء، تقف أمام نفاذ مكتسبات المدونة وتجعلها حبيسة متون النص الأسري، وهي معاذير من يتربص بالقضاء ويرميه بالريبة وينعته بالتخلف وضيق الأفق، فالحكم القضائي باعتباره منتوجا قضائيا وعنوانا للحقيقة، يجب أن يكون بعيدا عن كل تجاذب عقدي أو سياسوي أو تقاطب فصيلي أو فئوي حتى يذعن له الجميع وضيعا ورفيعا.
أن من شأن ذلك حمل الأزواج على الطعن في جميع الأحكام و القرارات التي لم تذعن لقرار المجلس الأعلى، أو حتى تلك التي صدرت قبل إقرار التوجه المذكور متى كانت آجال الطعن سارية سواء تعلق الأمر بالطعن بالاستئناف أو الطعن بالنقض.
ومثل ذلك سيمس لا محالة بالاستقرار القانوني لوجود اتجاهات قضائية متضاربة الأمر الذي يزعزع الثقة بالقضاء والقيمين عليه، فجهة قضائية تمنح المستحقات للزوجة وجهة أخرى تنزعها منها، وقد يفضي الأمر إلى وقوع صعوبات في التنفيذ عند إرادة استرجاع المبالغ المحكوم بها لفائدة الزوجة، والتي قد تكون صرفت إيفاءً لمتطلبات الحياة ولا سبيل لإرجاعها، كما أن ذلك يؤدي إلى تطويل الإجراءات ومساطر التقاضي بوجوب عرض النزاع على أكثر من جهة قضائية، خاصة أمام محكمة النقض، ومن ثمة استيفاء مراحل التقاضي كاملة، مع ما يعنيه ذلك من تكبد لمصاريف التقاضي وأتعاب الدفاع، وانتفاء الغاية من جعل التطليق للشقاق انتهائيا في الشق المنهي للعلاقة الزوجية فضلا عن الزيادة في عدد الملفات المعروضة على أنظار محكمة النقض وإشغالها عن رسالتها الكبرى بتفاريع و سفاسف هي في حلّ عن الانشغال بمثلها. أن هذا الأمر قد يحمل الزوجات المقيمات في أرض المهجر بمعية أزواجهن على اختيار القضاء الأجنبي وطلب التطليق أمامه للحصول على مستحقات مجزية، ما دام أن القضاء المغربي يحرمهن من هذه الإمكانية، ولا يقضي لهن إلا بتعويض قد لا يسد خلة ولا يجبر ضررا ولا يشفي غليلا، فيغدو القضاء الأجنبي في نظرهن منصفا وعادلا.
أن مشاركة قضاة محكمة النقض في صياغة بنود مدونة الأسرة بأكثر من إسم وقامة باعتبارهم صفوة القضاة ونخبتهم، ممن خبروا نصوص القانون ودلالتها منطوقا ومفهوما، ظاهرا وباطنا، وكونهم الأعرف بأثر القاعدة القانونية على الواقع، يجعلهم الأقرب إلى تحديد إرادة المشرع العامة والخاصة، ولا عذر لهم في تنكب الإرادة المذكورة أو التأخر في فهمها كما حدث بالنسبة للإشكال محل التعقيب، وكان حريا بهم أن يصدعوا برأيهم عند مناقشة بنود المدونة لا بعد غدوها قانونا واجب النفاذ، فيتأولوا معاني غير مرادة، لا تجهر بها النصوص الأسرية المصاغة، فيغدو القاضي مشرعا ويُنتهك مبدأ فصل السلطات المكرس دستوريا ويُخرق جهارا نهارا.
أن اتجاه محكمة النقض يعتريه تناقض، فالغرفة الجنائية رامت حماية الحقوق المالية للمطلقة، من خلال التوسع في مفهوم النفقة التي يترتب على الامتناع عن أدائها اقتراف جرم إهمال الأسرة، عبر اعتبار امتناع الزوج عن أداء مستحقاتها المترتبة عن الطلاق يشكل جريمة إهمال الأسرة ([36])، والغرفة الشرعية تحرم الزوجة من مستحقاتها المترتبة عن التطليق متى كانت مدعية، وكلاهما تأول وتكلف للوصول إلى اجتهاد يعتبره يحقق المصلحة والعدل رغم أن الحق واحد، ونهج محكمة النقض يجب أن يكون واحدا واجب الإذعان من لدن مختلف غرفها، لأنه مؤسس على فهم معين لصحيح القانون وإدراك لإرادة المشرع وغايات التشريع التي هي واحدة لا يعتريها تعارض.
أن اجتهاد المجلس الأعلى يبين بأن الاجتهاد القضائي لم يستقر بعد بخصوص بعض إشكالات مدونة الأسرة، رغم مرور ما يقارب تسع سنوات على صدورها، وهي في العرف الفقهي والقضائي مدة كافية لاستقرار الاجتهاد القضائي وتوحيده عبر إعطائه التفسير السديد للنص القانوني الأسري، القابل للتنفيذ واقعا، المتلقى من زمرة الخاصة والعامة بقبول حسن، لا ترميه العين بالريبة أو تكتنفه بالاستغراب.
فبعض الإشكالات الأسرية لا تزال تتجاذبها اتجاهات قضائية مختلفة، وهو أمر غير مستساغ، إذ إن إرادة المشرع واحدة والحق واحد وهو أحق أن يتبع ويلزم، فاستحكام التخالف يورث الريبة والتشكك في ذهن أرباب الدعاوى، والذين قد يتوهمون الأمر على أنه فساد وبيع وشراء للذمم بغير وجه حق، فتهتز الثقة في محراب العدالة وترتج. أن صدور القرار عن المجلس الأعلى لا يعني دائما التوفق في الاجتهاد فالقرارات المسطورة بخط يمين بشر مشوبة بالقصور، ولا غرابة أن تتعرض بعض اجتهاداته لانتقاد الفقه القضائي المتتبع للعوار والمثالب التي قد تعتري عمله، المشخص للنواقص، المقترح للبديل الذي يكمل النواقص ويسد الخلل، ويحق له ذلك، كونه يعد من صميم عمله وحقيقة رسالته، وبقدر قوة الفقه القضائي ورصانته تكون قوة الاجتهاد القضائي، ولأجله فنحن جديرون بقضاء ضامن للحقوق والحريات، منشد للحقيقة الواقعية والقانونية، ينقاد له الجميع وضيعا ورفيعا بذلة وتهيب، وبفقه رصين لا يصدر أحكام قيمة (إذ التعميم خطيئة منهجية)، وقاف على القضايا الكبرى الجديرة بالمدارسة، غير منشغل بتفاريع أو مماحكات أو سفاسف، فمن اهتم بالحواشي ما حوى شيئا، خاصة في زمننا هذا، زمن إدبار ربيع العلم والذي انشغل فيه عن الكليات بالجزئيات وحمل فيه شعار إصلاح القضاء بحق وبغير حق.
وخير منه النقاش الذي ينفذ إلى مباني الإشكال، بأناة دون تعالم أو مناقشة بمعايير الصواب والخطأ وبعقلية استعلائية أو متعصبة حاجبة للحقائق، أو حجر على العقول والوصاية عليها، واحتكار المعرفة أو ادعاء الوكالة الحصرية لتمثيل إرادة المشرع واستغلال فارق الامتياز العمري في الاستقراء والخبرة الميدانية، لتسفيه الآراء المخالفة والتوجس من إجراء مراجعات فكرية، فمن استبد برأيه ضل وأضل، فقرينة السداد مفترضة في قرارات محكمة النقض، لكنها قرينة قابلة للأخذ والرد بحجة وسكينة تعقل كل اندفاع، ونقاش علمي رصين هادئ يتولاه أهله، فالمعرفة تتطور بالخطأ، ثم إن القاضي يتسع صدره لما تضيق به صدور الناس، وتضيق ذمته لما تتسع به ذمم الناس. أن رئيس الغرفة الشرعية مصدرة القرار وهو قامة قضائية سامقة، برر من خلال تعليقه على القرار تأخر المجلس الأعلى في إقرار الاجتهاد المذكور، بمقولة أنه لأول مرة يعرض على أنظاره مثل هذا النزاع ([37])، وهو زعم يفنده واقع الحال الثابت من خلال شواهد عملية، ذلك أن المجلس الأعلى قد بت في مئات النوازل موضوعها الرئيس الطعن في المستحقات التي قضت بها محاكم الموضوع، بل إن مبنى عمله وأساس نظره في دعوى الشقاق هو موضوع المستحقات، طالما أن الحكم في شقه المنهي للعلاقة الزوجية لا يقبل أي طعن، والمستقرئ للمجلات الصادرة عن المجلس الأعلى أو مطلق المجلات القضائية يلف شواهد واضحة تدل على صحة ما سقناه، فكيف يقال بعد ذلك تبريرا للتأخر الزمني في تبني الاجتهاد محل التعقيب أنه لأول مرة تتاح للمجلس الأعلى فرصة البت في مسألة استحقاق المستحقات حال تقديم طلب التطليق من لدن الزوجة؟، أي بعد انصرام ما ينيف عن ست سنوات من صدور المدونة وقت صدور القرار. وقد سقت نماذج من قرارات المجلس التي لم تنقض القرارات التي قضت للزوجة المدعية بالمتعة بل بكافة المستحقات ولم تنكر عليها ذلك، ومقام المقال لا يساعد على التفصيل والإيغال في عرض الشواهد. ومن ذلك القرار عدد 427 وتاريخ 10/9/2008 ملف عدد 61/2/1/2007 ([38])، فهل المقصود بأول فرصة أنه لأول مرة يعرض نظير هذا الضرب من الأقضية الأسرية على المجلس باعتباره محكمة قانون، أي أن الأمر كان مرتبطا بالسياق الزمني ليس إلا؟، أم المراد اكتمال تصور المجلس الأعلى بخصوص هذا الموضوع بعد أخذ ورد من لدن أعضاء الغرفة الشرعية، واستقصاء لإرادة مشرع المدونة، ووقوف على مختلف اجتهادات محاكم الموضوع قبل الخلوص إلى اجتهاد سديد يعتبر ظاهر الحق وعين الصواب، تنقاد له سائر المحاكم دون صدود؟!. وكان حريا بالمجلس الأعلى كعهدنا به أن يحرر معنى فكرته بإفحام وإطالة نفس لمعرفة أسباب تأخره في إقرار هذا الاجتهاد، لنقتنع فنلتزم.
أن القول بإمكان تعويض الزوجة طالبة التطليق للشقاق بدل تمتيعها أمر غير سديد، لأنه لا يقضى بالتعويض إلا للمدعى عليه في دعوى الشقاق لا المدعي الذي يطلب ذلك بمقتضى مقال أصلي أو إضافي، وذلك تمسكا بصريح المادة 94 من المدونة والتي لا تعطي تلك المكنة إلا للمطلوب في الشقاق زوجا أو زوجة ([39])، فيقضى له بالتعويض جبرا للضرر الذي لحق به عن جره إلى ساحة الخصومة القضائية بلا موجب، أساسه تعسف المدعي في استعمال حقه في التطليق، فلا تعويض والحالة ما ذكر للمدعي في دعوى الشقاق، بل إنه حق أصيل للمدعى عليه يكون له على سبيل الاختصاص الذي لا يزاحمه فيه غيره، تمسكا بمقتضيات نص قانوني واضح وصريح لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره إلا بتكلف بيّن ظاهر[40].
أن في إنفاذ هذا الاجتهاد مَسَاساً محققا بالأمن الاقتصادي للمطلقات اللائي يحرمن من المورد المالي للاستمرار في الحياة بصفة منفردة وفي الحديث الشريف: "من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها" ([41]).
كيف تسوى المتعة بالتعويض ولكل واحد منهما محدداته الخاصة؟. ولأجل ذلك أجاز مشرع المدونة الحكم بهما جمعا، فلا يستغرق أحدهما الآخر، فالمتعة تجب لمجرد الطلاق أو التطليق، والتعويض يجب حال ثبوت وقوع الضرر جرّاء فك عرى الزوجية فالأساس مختلف، فكيف يستويان مثلا؟!.
ولا شك في أن المتعة ذات أصل فقهي خالص، وأما التعويض فاصطلاح مدني مستقى من القانون الوضعي، ففي إفراد المتعة وتمكين الزوجة منها بقطع النظر عن مقدارها مواساة نفسية لها وجبر معنوي لما لحق بها من ضرر جراء الفراق سواء سعت إليه طوعا، أو حُمِلَت عليه كرها، وفي منحها إياها رفع من شأنها ومن ميثاق الزواج الذي أنشأته بمعية الزوج. والتعويض لا يمكن أن يقوم مقامه بحال، لأن عقد الزواج أشرف وأسمى من أن يكون عقدا عاديا ([42])، يترتب على إنهائه تعويض الزوجة عن عملها السابق ببيت الزوجية أو عن ما أسدته من خدمات إبان قيام العلاقة الزوجية، وكأنه عمل نظير مقابل مادي قائم بين أجير ومأجور.
ثم إن التعويض أيا كانت قيمته لا يمكن أن يجبر الضرر اللاحق بالزوجة عن إنهاء العلاقة الزوجية، وعن الرزء الفادح والمصاب الجلل الذي منيت به وتكبدته جراء ذلك، وعن المساس بحقوقها المادية والمعنوية حاضرا ومستقبلا، وبالاستقرار الذي كانت تنعم به، وقد لا تستطيع الزواج بعد ذلك مطلقا توجسا منها بعد طلاقها، فترمى كمطلقة بالريبة وتلصق بها قرينة السوء، وهو حكم قيمي مرتبط في مجتمعنا و مخيالنا بعادات مستحكمة يصعب تجاوزها، بخلاف الزوج الذي يكون له الزواج عقب الطلاق بسهولة ويسر ومثنى وثلاث ورباع دون التزام بعدة أو اعتداد بقيود مجتمعية أو محاذير عرفية([43]).
أن القرار محل التعليق لم يُجَلِّ فكرة القرار الرئيسة بشكل كاف، فلم يقنع أحدا لأن الإقناع كما يقول المناطقة يكون بما يقنع، علما بأن منطوق أي قرار يعد محمولا على أسباب وحيثيات مقنعة يستند عليها ليفحم، آية ذلك أن محكمة النقض عابت على محكمة القرار أنها منحت للزوجة طالبة التطليق للشقاق المتعة رغم مطالبتها إياها بالتعويض، أي أن محكمة الموضوع لم تلتزم بالقاعدة الذهبية الموجبة البت في حدود طلبات الأطراف دون زيد أو نقص، وكان حريا بمحكمة النقض أن تبين بوضوح غير محتمل أن المحكمة أخطأت عند تمتيع الزوجة وكان جديرا بها أن تقضي بالتعويض لا المتعة، دون توارٍ وراء عبارة أن المحكمة قضت بما لم يطلب منها وخرقت القاعدة المومأ إليها، لأنه من المتفق عليه فقها وقانونا وقضاءً أن المتعة يقضى بها تلقائيا وبغير طلب تمسكا بمقتضيات المادة 79 من المدونة، والمحكمة عندما تقضي بذلك لا تنقض القاعدة المذكورة، وإنما تطبق وتلتزم بمقتضيات المادة المذكورة التي تجيز للمحكمة إعمال تلك المكنة تلقائيا، ومن ثمة تمكين المفارقة من المستحقات إثر الطلاق أو التطليق ولو بغير طلب صريح ([44])، فيكون ما عابه المجلس الأعلى على محكمة القرار هو تعبير بأسلوب صحيح عن فكرة ملتبسة، أو لعلها بكل أدب ووقار واحترام فكرة مجافية للصواب.
أن القول بأن الإحالة على مقتضيات المادة 79 من المدونة الخاصة بتحديد مستحقات الطلاق، الواردة بمقتضى المادة 94 منها الخاصة بالتطليق للشقاق، تدل على أن تحديد المستحقات إنما يكون حال تقديم الزوج لطلب التطليق للشقاق قياسا على الطلاق الذي بعهدة وزمام الزوج، ويترتب على ذلك عملا بمفهوم المخالفة أن الزوجة لا يقضى لها بمستحقات التطليق حال تقديم الطلب من قبلها، هو فهم مناكب للصواب ومخالف لحقيقة مقتضى المواد، فالمادة 94 إنما أحالت على المادة 79 فيما يخص تحديد المستحقات تجنبا للوقوع في عيب تكرار النصوص، ولا يعني ذلك بحال حرمان الزوجة من المستحقات حال كونها مدعية في دعوى الشقاق، إذ لو أراد المشرع ذلك لنص عليه بصفة صريحة في متن المقتضى القانوني دون مواربة أو التباس، لأن مقام النصوص القانونية هو مقام عقل وضبط للمصطلحات، ولعله أراد بذلك تمكين الزوجة من كافة مستحقاتها حال كونها طالبة التطليق للشقاق، آية ذلك تنصيص المشرع الصريح بمقتضى المادة 94 على أن المحكمة تحكم بالتطليق والمستحقات أيا كان الطالب، وهو عين الصواب وظاهر إرادة المشرع التي لا تقبل أي تأويل متعسف، وهو فهم أراده المشرع وعناه باعتباره مكتسبا جديدا حملته مدونة الأسرة في ثناياها، فلا يصح أن يتجاوز مهما كانت المعاذير الفقهية والقانونية والذرائع الواقعية ([45]).
وهو ضابط مرن يمكن قاضي الموضوع من إلباس كل حالة لبوسها، إنصافا للمظلوم وردعا للظالم، منحا للمتعة حال ثبوت الموجبات كثرة وقلة، ومنعا لها حال ثبوت الموانع، كإدانتها بمقتضى مقرر قضائي نهائي بجرم الخيانة الزوجية وعداه. أما حرمان الزوجة من المتعة قولا واحدا، فإنه لا يترك للقاضي سبيلا وهامشا معتبرا لتقدير كل حالة بقدرها، وكثير من الحالات تستحق فيها الزوجة المتعة كونها محقة في طلبها، فكيف السبيل إلى تمتيعها وتخفيف الأسى الواقع عليها؟!. معلوم أن ركنا الاجتهاد، العلم بالنصوص وإدراك الواقع.
وأنّى لنا أن نسلب من القاضي وهو محط الأمل ومعقد الرجاء أهم ما أعطاه المشرع؟، ونجرده من أبرز أدوات ومباني عمله متمثلة في السلطة التقديرية لإعمال مقتضى الحال، فيغدو القضاء بريدا لرسائل محافظة أو حداثية. وبعد ذلك يطلب القضاء تقوية سلطاته وإطلاق يده لحسن أداء رسالته وهو الذي يتنازل عنها طوعا ([46]).
وقد كان حريا بالمشرع رفعا لكل التباس، التنصيص تصريحا على أحقية المرأة في الحصول على المتعة متى وقع عليها ضرر بقطع النظر عن مركزها القانوني، مدعية أو مدعى عليه في دعوى الشقاق، فالمبادرة إلى رفع الدعوى للإيهام بوجود ضرر واقع على الزوج المدعي والاستفادة من هذا المركز القانوني لا تعد قرينة قاطعة على ذلك وتحديد المسؤول عن الفراق غير مرتبط ارتباطا شرطيا بالمدعي أو المدعى عليه، فلا يضير الزوجة المدعية أن تحصل على المتعة والزوج على تعويض أقل أو أكثر منها بحسب الحالات، ولا يعد ذلك جمعا بين الدائنية والمدينية في الآن عينه، لاختلاف موجبات وأسباب كل واحد منهما، ولأن إنفاذ ذلك يحقق نوعا من التوازن بين حقوق كل واحد من طرفي العقد ([47]). ثم إن المتعة واجبة في مطلق الأحوال نزوعا لما ذهب إليه المشرع، وإنما تقل أو تكثر بحسب مسؤولية الزوجة عن الفراق ومدة الزواج ودخل الزوج، وأما التعويض فيحكم به لجبر الضرر اللاحق بالزوج الآخر، دون تمييز تكريسا لمبدأ المساواة الذي حرصت المدونة على جعله أبرز مكتسباتها.
وقد أثبتت التجارب العملية أن الزوجة لا تطلب التطليق في أغلب الأحيان إلا كرها باعتباره أخف الأضرار، لإدراكها لآثاره الرهيبة، كونها الخاسر الأكبر من انفصام العلاقة الزوجية ماديا ومعنويا، حتى أضحى لفظ المطلقة في العقل الجمعي المغربي قرينا للانحراف الأخلاقي ووصمة عار للعائلة كلها، فتهجر المطلقة اجتماعيا حتى من أخص قرابتها فتصاب بأدواء نفسية، اكتئابا وإحساسا بالمظلمة والنبذ والإقصاء.
لذلك ولغيره أقول إن التواري وراء بعض مقتضيات الفقه الإسلامي التي لا تُمكِّن الزوجة من المستحقات حال كونها طالبة التطليق، والركون إلى أعراف مُحَكَّمة عفا عنها الزمان، ومحاولة القضاء الحدّ من الإفراط في طرق هذه المسطرة من لدن الزوجات هو ارتداد وإعراض عن تطبيق نص قانوني واضح صريح وقول بما لم يقله المشرع، وتيه مع فقه لم يكن كله متفقا على حرمان الزوجة من مستحقاتها حال طلبها فك عرى الزوجية، فلكل فقه زمانه وفتواه ورجاله، وفقه القرن الثالث أو الرابع الهجري قد لا يصلح لزمننا هذا، فلا غرابة أن يوسم بعض فقهاؤنا بالجمود والتخلف وضيق الأفق وبعض قضاتنا بكونهم المانع من إقرار مكتسبات المدونة وإنفاذها واقعا، من خلال القضاء بعقلية ذكورية وفكر محافظ لا يُحكّم المآلات والمقاصد، بل يقف عند حدود وعتبات نقول فقهية منثورة ومنظومة وضعت لزمن قضى ومضى، فكل ذلك تعب كبير في نفع صغير.
وخير منه أن تجعل المصلحة والعدل مناطا للاجتهاد الراشد، ولأجله عدّ علماء الأصول المصلحة قاعدة الفقه، واعتبروا عن صواب أنه حيثما عنّت المصلحة وظهرت حالا أو مآلا فتم شرع الله، فيدور النص الشرعي والتشريعي مع المصلحة حيثما دارت ولا غرابة فالشريعة الغراء تروم مصالح المكلفين في العاجل والآجل، وهذه المصلحة ليست حبيسة نص فقهي أو قول مأثور موضوع لزمان ومكان كما يدّعي أصحاب الصدور الضيّقة والعقول المتزمتة.
فلا ضير إذن من الركون إلى الفقه الظاهري الذي يوجب المتعة لكل مطلقة أخذا بعموم قول الحق سبحانه و تعالى: "ومتعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره" ([48]). بل والركون إلى أي فقه يحقق المصلحة في زمننا، وليس في ذلك تتبع لرخص المذاهب ([49]) أو تلفيق بينها ([50])، بل إنه إعمال لمكنة الاجتهاد وتوسيع لمحله من خلال التوسل بأي نص فقهي يحقق غاية المصلحة والعدل، والمشرع ذاته نهل من مذاهب مختلفة عند صياغته لنصوص مدونة الأسرة، وخوَّل ذات الحق لقاضي الموضوع بمقتضى المادة 400 منها دون اقتصار على المذهب المالكي والتزام حصري بمقتضياته التي قد تغدو بعضها مهدرة ومتجاوزة بفعل تغير علة الحكم الزمانية أو المكانية.
فلا أسهل من التمسك بالأصل والركون إلى راحة الأخذ بالاستصحاب، والقول من ثمة بالمنع والحظر، دون إجالة للفكر وتقليب للنظر وبحث في أسس الحكم المذكور وغاياته ومقاصده، ورصد تأثيره على الواقع ومدى توفقه في تنظيم الوقائع، إذ لا غرابة أن يؤثر الواقع على كثير من الأحكام الفقهية تعديلا أو إلغاءً كما هو معروف عند علماء الأصول.
إن الاختلاف بين ما رأيناه صوابا وسدادا وما نزع إليه المجلس الأعلى ليس اختلافا في المصطلحات والتسميات بين المتعة أو التعويض وغيرهما من اصطلاحات التشريع وتسميات الفقه، إنه اختلاف في توجهات قضائية معيارية هامة، وفي محدّدات الاجتهاد وغاياته ومحاذيره، وفي فهم إرادة المشرع التي تدل عليها النصوص المصاغة والمعنى أن في إقرار مثل اجتهاد المجلس الأعلى تكريسا لمبدأ أن العبرة والاعتداد بالتطبيقات القضائية وبفهم القضاة للنصوص المسنونة، ولمقتضيات الفقه الإسلامي المرجوع إليه كمصدر تكميلي أو مصدر شارح، وليست العبرة بما تحويه تلك النصوص القانونية من مكتسبات ومعاني ظاهرة. إن اجتهاد المجلس الأعلى ينبئ عن وجود عقيدة قضائية لها فهم خاص سنده النصوص الفقهية لا النصوص القانونية، أو على الأقل تأويل النصوص القانونية بمرجعية فقهية وبعقلية القاضي ومرجعيته هو، لا بفلسفة المشرع ومنطق التشريع، باعتبار أن النص القانوني لا ينطق وإنما ينطق به القضاة ([51])، وهو ما يكرس فكرة استحكام ثقافة الاعتداد بشخصية القاضي وليس موضوعية القانون، والمراد بشخصية القاضي قناعته الفقهية والفلسفية والدينية ومرجعيته المحافظة أو الحداثية، دون اعتداد بالمكتسبات التشريعية وبفحوى النص محل النظر والاجتهاد فكما ينشئ المجتمع قواعد عرفية يستطيع أن يناهض بها أي قاعدة قانونية فيفرغها من محتواها، يستطيع القضاء إنشاء قواعد قانونية بديلة تعويلا على مكنة الاجتهاد فيجعل أي مكتسب قانوني بلا جدوى أو طائل وهذا الأمر يحتاج إلى أبحاث خاصة على الصعيد الأكاديمي رسائل وأطاريح ترصد مظاهره وتجلياته وفق شواهد عملية وبنسب إحصائية.
وإن كان هذا الأمر قد يعزى في أغلبه لاستحكام تقاليد قضائية محافظة وأعراف مرعية على صعيد المجلس الأعلى خاصة على صعيد غرفته الشرعية، وللأمر شواهده المنظورة في القرارات الصادرة عنه، ليس فقط من خلال الإذعان لصيغ وأساليب فقهية خاصة للرد والتعقيب على وسائل الطعن رفضا أو نقضا، أي المحافظة على نسق شكلي وصياغي موحد عند تطريز القرارات وتدبيجها ([52])، بل أيضا من خلال الحفاظ على اتجاهات موضوعية بزعم تعلقها بالنظام العام وبزمرة الأمور التوقيفية التي لا تنتهك بالاجتهاد، دون اعتداد أحيانا بالمكتسبات التشريعية وبالجهود الفقهية والنقاشات القانونية والنضالات الحقوقية والسياسية والسجالات الفكرية المبذولة قبل انتزاع المكتسبات وصياغتها في نص تشريعي يجمع شتاتها، ويفضي إلى إعمالها واقعا، طالما أن الحقوق تنتزع ولا تعطى، لكن العبرة دائما بالمآلات والخواتم الشاخصة في متون الأحكام القضائية، لا بالمكتسبات التي قد تبقى حبيسة النصوص لا تبرحها إلا بإذن من يجب، وهم السادة القضاة أصحاب المقام الرفيع، نواب الإمام في إنفاذ الأحكام.
كل ذلك لا يمنعنا من أن نصدع بأن ابتداع مسطرة الشقاق كان وبالا على المجتمع وصياغتُها باختصار وتلبيس زاد في تخبط اجتهاد المحاكم وتسهيل تقويض صرح الأسرة، ذلك أن هناك خللا تشريعيا بيّنا اعترى صياغة النصوص المنظمة للشقاق. فلم يكن هذا الإرسال الحل الأفضل، وكان حريا وضع ضوابط وقيود تمنع التعسف في استعمال هذه السبيل التي يكتنفها عوار ظاهر موضوعا وإجراءات، فجمع المشرع في تفرد تميّز به بين تقنينات الدنيا ([53]) بين بليتين، الخطأ في التشريع وفي الصياغة، أي الخطأ في الفكرة وفي التعبير عنها، وتم النزوع بغرابة نحو الحل السهل، متمثلا في التفريق، بدل الاستماتة في المحافظة على لحمة الأسرة، ليتم التساؤل عن الغايات التشريعية، هل الجمع أم التفريق؟.
فلكل حق مشترك قيود ترد عليه، ولن يكون بوسعنا ابتداع قواعد جديدة للمسؤولية المدنية تبقي على الغنم دون الغرم، وتجازي على التعسف في استعمال الحق ولا تقيم قيودا على إعمال الحقوق المشتركة وذات الآثار العامة، نظير التطليق بحفظها من الافتيات والشطط.
فحيد والحالة ما ذكر بمسطرة الشقاق عن غاياتها الوقائية وأهدافها الإصلاحية التي تمنع حدوث المآلات، ووقع استعجال ترتيب الآثار والنتائج في موضوع لا يسوغ فيه مثل ذلك، فانتقل بها من آلية جوهرية للصلح والجمع وحل الخلافات الأسرية، إلى سبيل ميسر ومرفه للتطليق والتفريق وإلى وبال على الأسرة والمجتمع، كونها تفضي إلى هدم سهل لصرح متين، بتأسيسها على نتيجة لا على سبب معلوم كما غدت دعوى للاغتناء ومطية للاثراء بغير سبب، والاستثمار في الزواج ([54]) وهاجسا يقض مضجع الأزواج ووسيلة ضغط فعالة بيد الزوجات، فأعرض العزاب عن الزواج توجسا من كل ذلك ([55]) وغدا الأزواج والحالة ما ذكر يُدبرون إكراهات الواقع ومحن القانون بأقل الخسائر الممكنة، فإن الزواج أصبح واجبات بلا حقوق ونقمة بغير نعمة.
فرغبة المشرع في تجاوز صعوبات ومحن إثبات الخطأ الأسري لوقوعه في غرف مُسَوّرة، ومراعاة خصوصية عقد الزواج الذي لا يسوغ أن يستمر إلا برضى طرفيه معا تماما كما بدأ، أفضى إلى محن أخرى أكثر وبالا، من خلال جعل الشقاق سببا عاما أو سبب من لا سبب له، فتوارت بالبداهة والتبع الأسباب الخاصة المتطلبة إثباتا خاصا والإنسان بطبعه ميال إلى تتبع الأيسر، وَأُوجِدَ مفهوم جديد لإنهاء العلاقة الزوجية مبني على التمكين لأي من الزوجين من ممارسة هذا الحق، دون تثريب أو قيود إجرائية أو احترازات موضوعية تقتضي إثبات السبب الذي يبرر فصم عرى العلاقة الزوجية أو حتى سوقه من أساسه، وغدت مسطرة الشقاق بديلا لكل من عسر عليه إثبات سبب خاص للتطليق، فغدت قرينة الشقاق قرينة قضائية مفترضة تتحقق بمجرد اللجوء إلى مجلس القضاء وهي قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس، والنتيجة المترتبة في سائر الأحوال هي إنهاء العلاقة الزوجية، بسبب أو بغير سبب، آية ذلك أيضا جعله سبيلا احتياطيا متى تعذر الإثبات أو احتدم الخلاف في أحوال أخرى لا يكون الموضوع فيها التطليق، كالتعدد والرجعة والطلاق الخلعي والتطليق للضرر وعدم تنفيذ الالتزامات المتبادلة بين الزوجين. وكأن المشرع أحرص من الزوجين على إنهاء العلاقة الزوجية بموجب أو بدونه بتذكيرهما بمناسبة وبغير مناسبة بوجود هذه المسطرة، عوض التذكير بالصلح وتنويع مصادره وتيسير سبله ([56])، بل وَحَمْلُ القاضي على تطبيقها تلقائيا ولو بغير طلب من الخصوم في خرق سافر لمقتضيات الفصل الثالث من قانون المسطرة المدنية، وللقاعدة الجوهرية المعتبرة أن الدعوى ملك الخصوم، وكذا باستعجال ترتيب النتائج وفك عرى العلاقة الزوجية من خلال ضرب أجل معين للبت في دعوى التطليق، رغم أن هذه الزمرة من الدعاوى مبنية على التراخي الذي يتيح إنجاح مسعى الصلح لا الفور الذي قد يستعجل إيقاع الفرقة، فهل رَفْعُ الحيف عن النساء ومراعاة النظام العام الدولي، والتباهي بهذا المستجد في المحافل الدولية، ينهض سببا لاستسهال هدم صرح الأسرة؟. فيقع الانتقال الفجائي من تصعيب كلي للتطليق بالنسبة للنساء إلى استسهال كلي له، دون تدرج مرشد ودون مراعاة طبيعته الاستثنائية وعظم آثاره الفردية والجماعية.
فَجُرِّد القضاء والحالة ما ذكر من سلطة مراقبة المشروعية وأجبر على معاينة إنهاء العلاقة الزوجية أمام ناظريه بإرادة أحادية لأحد الزوجين، والإشهاد على ذلك في حكمه وإقراره دون نكير أو تدخل منصف لمن وقعت عليه المظلمة، طالما أن هذه الدعوى تكون حليفة القبول دائما.
لكن رغم كل هذا العوار البيّن الذي جعل هذه المسطرة لا تبقي ولا تدر، فإنه ليس على القضاء أن يتدخل إرجاعا للأمور إلى نصابها من خلال اجتهاد مفتقر إلى المؤيد القانوني ومتجاوز لمقتضى قانوني واضح، سالب لكل حقوق الزوجة، مُصادر على المطلوب، واقع في ذات المثلب الذي وقع فيه المشرع وهو الحِدّية، لكن هذه المرة بأخذه كل شيء أعطي للمرأة، فما هكذا تورد الأمور، فإن الزيادة في كل شيء نقصان، والتعميم خطيئة منهجية، فلكل مقام مقال، فالعسف لا جنس له، فهو يمكن أن يأتي من الزوج أو الزوجة، وليست كل مدعية ترغب في إنهاء العلاقة الزوجية بصلف وشطط، فلابد أن يُمَكَّن القضاء من هامش معتبر يلبس بمقتضاه كل حالة لبوسها تحقيقا للمصلحة والعدل فما أتته محكمة النقض تحت مسمى الاجتهاد هو افتيات وتعد على اختصاص أصيل موكول حصرا للمشرع والذي له وحده أن يمنح أو يمنع، يعطي أو يدع، وهو قد مَكَّن الزوجة من كافة مستحقاتها حال طلبها الشقاق، فلا يسوغ حرمانها من ذلك ([57]).
الهوامش
[1]) هذا الاقتباس مأخوذ من الاستعمال القرآني لدى قول الحق سبحانه وتعالى "وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدًة وَرَحْمَة"، الآية 20 من سورة الروم، و لما كان العطف يقتضي المغايرة عند علماء اللغة فإن المودة هي غير الرحمة، والمراد بالأولى عند غير واحد من المفسرين المحبة و قيل العطف، وأما الرحمة فمعناها الشفقة على المرأة من أن يصيبها سوء بالفراق، والرجل يمسك المرأة في كلتا العاقبتين، إما محبة لها أو رحمة بها من عوادي الزمن حال الفراق، أو هما معا، فإذا انعدم أحدهما يكون الآخر كفيلا بإبقاء العلاقة الزوجية. ولمزيد استقصاء حول هذا الموضوع، يراجع تفسير القرطبي ط دار الفكر (د.ت) 14/17.
[2]) المساواة تقتضي القول بأن المرأة قد تمتعت بزوجها أيضا، وفق مسلمات علمية ثابتة ولا عيب أو نقيصة في ذلك، فمنافع البُضع كما يقول الفقهاء مشتركة بين الزوجين، فالمقصود الأصلي من الزواج شرف عقده وليس منافع بضع المرأة، لكن يتحرى في بيان المتسبب في منع دوام التمتع الشرعي المذكور، ينظر: "روضة الطالبين". تحقيق عادل عبد الموجود، نشر دار عالم المكتبات، د. ت، 7/257.
[3]) أي أعذار المبتدئين من قضاة الموضوع، أما المنتهون من قضاة محكمة النقض، فلا عذر لهم لإلمامهم بنصوص القانون موضوعا وإجراءات، وتمكنهم من صنعة القضاء ومعرفتهم بفقه الواقع و إكراهاته بحكم فارق الامتياز العمري الذي لهم.
[4]) معلوم أن القاضي لا يصل إلى تلك المثابة حتى يعركه الدهر عرك الرحى، بعد أن يمر بسائر درجات المحاكم وبكافة أصقاع المغرب أقاصيه وأدانيه، فلا غرابة أن يفوق قاضي النقض أترابه حنكة بفقه القانون وفقه الواقع، فيصيب كبد الحقيقة القانونية والواقعية وهما أعز ما يطلب.
[5]) رغم أهمية التطليق للشقاق تلك وكونه أكثر أنواع التطليق طرقا وذيوعا، نجد أن النصوص القانونية المنظمة لبعض أنواع التطليق الأخرى قد تفوق تلك المنظمة للتطليق للشقاق، كالتطليق للعيب، رغم أنه صار بدلا لا يلجأ إليه إلا على سبيل الاستثناء في ظل وجود مسطرة التطليق للشقاق التي استغرقت باقي التطليقات الأخرى، لكونها مؤسسة على نتيجة وهي متمثلة في الشقاق، وهو متحقق في سائر أنواع الأطلقة والتطليقات، فغدت داخلة في عموم ومسمى التطليق للشقاق.
[6]) منشور بمجلة القضاء و القانون عدد 72، ص: 83.
[7]) التعليق منشور بذات المجلة والعدد، ص: 87 وعقبها.
[8]) جاء في هذا المقتضى: "يجب على من يريد الطلاق أن يطلب الإذن من المحكمة بالإشهاد به لدى عدلين منتصبين لذلك بدائرة نفوذ المحكمة التي يوجد بها بيت الزوجية، أو موطن الزوجة، أو محل إقامتها أو التي أبرم فيها عقد الزواج حسب الترتيب".
[9] ) فالمرأة تتأثر بكل ما ينقض الاستقرار الأسري الذي تنعم به، وتنساق وراء انفعالاتها تأثرا بعاطفتها ولو كانت هي من اتخذ القرار بالانفصال، وتنقاد لهذا الأمر عند اتخاذ مطلق القرارات، بخلاف الرجل الذي يحكم عقله أكثر من عواطفه ويقدر المآلات والعواقب، ويقيم حسابات الربح والخسارة قبل إتيان أي فعل أو الإحجام عنه، وقد أثبتت عديد من الدراسات العلمية أن الرجل يستعمل أكثر فص دماغه الأيسر وهو ما يعرف بشق المنطق، بينما تستعمل المرأة أكثر الفص الأيمن وهو شق الأحاسيس، وهو ما يفسر اختلاف التفكير بين الرجل والمرأة، فمن أسباب فشل العلاقات الزوجية تعامل الرجل مع المرأة على أساس أنها رجل وتلبيته حاجاتها وفق تفكيره هو، وكذلك تفعل المرأة حيث تقدم للرجل ما يحتاجه وفق تفكيرها، فتقع القطيعة الفكرية نتيجة لكل ذلك، لمزيد تفريع يراجع: فوزية العطية، "المرأة والتغير الاجتماعي في الوطن العربي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم"، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 1403ه/1983م مؤسسة الخليج للطباعة والنشر الصفاة الكويت، ص: 87.
[10] ) ابن رشد الحفيد، "بداية المجتهد و نهاية المقتصد". ، مطبعة الاستقامة القاهرة 1952، الجزء الثاني ص: 97
[11] ) إن الزواج وكما عبرت عن ذلك المادة الرابعة من مدونة الأسرة ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة، فإذا انعدم التراضي فلا ترابط، وقد انصرفت إٍرادة المشرع إلى إظهار أنه لا زواج إلا بتراضي صاحبيه ولا استمرار له إلا بامتداد ذلك التراضي شفعا، والقول بغير ذلك هو تكليف بما لا يطاق ومناقضة لميثاق الزواج الذي لا يكون البتة بالجبر والإكراه، وأزعم أن تعبير المشرع هو أكثر من تعبير لفظي صياغي، إنه تغير في المفاهيم والمقاصد والمآلات المترتبة عن ذلك، ولعل لابتداع مسطرة الشقاق ارتباط بتغير مفهوم الرضا.
وهو معنى لحظه ابن العربي عندما اعتبر الرضا ركنا ركينا في انعقاده وفي بقائه أسوة بسائر عقود الأبدان حيث قال ما نصه: "فإن قيل ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد، قلنا: هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة." "أحكام القرآن" . ط دار الفكر د.ت 1/425.
وهو معنى لحظه ابن العربي عندما اعتبر الرضا ركنا ركينا في انعقاده وفي بقائه أسوة بسائر عقود الأبدان حيث قال ما نصه: "فإن قيل ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد، قلنا: هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة." "أحكام القرآن" . ط دار الفكر د.ت 1/425.
[12]) هذه المحددات تشبه تلك التي نص عليها المشرع المصري بمقتضى المادة 18 مكرر من قانون الأحوال الشخصية رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985، حيث جاء في نص هذه المادة: "الزوجة المدخول بها... تستحق فوق نفقة عدتها متعة تقدر بنفقة سنتين على الأقل، وبمراعاة حال المطلق يسرا أو عسرا، وظروف الطلاق ومدة الزوجية".
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا المقتضى بيانا لأسباب النزول: "ولما كان الأصل في تشريع المتعة هو جبر خاطر المطلقة وكانت مواساتها من المروءة التي تطلبتها الشريعة. وكان من أسس تقديرها قوله تعالى في سورة البقرة :"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره...." وعلى هذا وضع نص المادة 18 مكررا بمراعاة ضوابط أقوال هؤلاء الأئمة وللقاضي أن ينظر في تقديرها عدا ما سبق إلى ظروف الطلاق وإلى إساءة استعمال هذا الحق ووضعه وألا تقل في تقديرها عن نفقة سنتين وتخفيفا على المطلق أجاز النص له سداد المقرر للمتعة على أقساط". أحمد نصر الجندي: "الطلاق والتطليق وآثارهما". مطابع شتات مصر، 2004، ص: 716.
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لهذا المقتضى بيانا لأسباب النزول: "ولما كان الأصل في تشريع المتعة هو جبر خاطر المطلقة وكانت مواساتها من المروءة التي تطلبتها الشريعة. وكان من أسس تقديرها قوله تعالى في سورة البقرة :"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره...." وعلى هذا وضع نص المادة 18 مكررا بمراعاة ضوابط أقوال هؤلاء الأئمة وللقاضي أن ينظر في تقديرها عدا ما سبق إلى ظروف الطلاق وإلى إساءة استعمال هذا الحق ووضعه وألا تقل في تقديرها عن نفقة سنتين وتخفيفا على المطلق أجاز النص له سداد المقرر للمتعة على أقساط". أحمد نصر الجندي: "الطلاق والتطليق وآثارهما". مطابع شتات مصر، 2004، ص: 716.
[13]) أحمد نصر الجندي، "النفقات والحضانة والولاية على المال في الفقه المالكي"، دار الكتب القانونية، طبعة2006، ص60.
[14]) الإكراه في اللغة اسم من كرهت الشيء أكرهه كرها، وهو خلاف الرضى والمحبة. (ابن فارس، معجم مقاييس اللغة طبعة دار الفكر،1979، ج5، ص: 173). وفي الاصطلاح الفقهي: حمل الغير على فعل ما لا يرضاه بالوعيد أو الإلزام على إتيان ما يكره طبعا أو شرعا أو وضعا لو ترك ونفسه. ينظر أيضا: "التعريفات" للشريف الجرجاني، ط. دار الكتب العلمية، 1403ﻫ 1983 م، طبعة أولى، بيروت، لبنان، ص: 50.
[15]) خلاف ما إذا كان المقتضى القانوني مركبا أو مجملا أو غامضا، فيسوغ إذاك الاجتهاد تلمسا لإرادة المشرع الخفية التي لم يُسعف في الكشف عنها ظاهر النص القانوني، وذلك تعويلا على طائفة من أدوات الاجتهاد، منها قراءة النصوص جمعا وإفرادا للوقوف على نهج المشرع، والرجوع إلى المذكرات الإيضاحية للقوانين، ومضابط الجلسات في البرلمان، المتضمنة مناقشات مختلف الفرق البرلمانية لمشروع القانون.
علما بأن اتساع دائرة الاجتهاد تعتبر أحد أبرز سمات القوانين الشخصية حيث يكون فيها للقاضي هامشا متسعا للتفسير والتأويل والتقدير، بخلاف القوانين الأخرى حيث يضيق الهامش المذكور لفائدة قيود إجرائية وموضوعية أكثر صرامة.
علما بأن اتساع دائرة الاجتهاد تعتبر أحد أبرز سمات القوانين الشخصية حيث يكون فيها للقاضي هامشا متسعا للتفسير والتأويل والتقدير، بخلاف القوانين الأخرى حيث يضيق الهامش المذكور لفائدة قيود إجرائية وموضوعية أكثر صرامة.
[16]) محمد عبد الفتاح الشهاري، "الأسرة في الدنيا والحياة"، سلسلة كتاب ع 131، مطبعة المعارف القاهرة، د ت، ص: 32.
[17]) الآية 49 من سورة الأحزاب.
[18]) للتفصيل أكثر في الموضوع، ينظر وفاء معتوق وحمزة فلالي، "الطلاق وآثاره المعنوية والمالية في الفقه الإسلامي" مكتبة القاهرة للكتاب، الطبعة الأولى، 2000، ص: 284.
[19]) لعل الإحصائيات المنجزة سنويا من لدن وزارة العدل تشي بهذه الحقيقة الصادمة، فقد اكتسح هذا النوع من التطليق التطليقات الأخرى، حيث بلغت نسبة التطليق للشقاق سنة 2005 مثلا 56.25% من مجموع التطليقات، مجلة قضاء الأسرة، العدد الثالث دجنبر 2006 م.س، ص:41، وبلغت نسبته سنة 2010 %59 من مجموع التطبيقات محتلا بذلك المرتبة الأولى ثم يليه التطليق للغيبة. إحصائيات حول نشاط أقسام قضاء الأسرة خلال سنة 2010، صادر عن وزارة العدل والحريات.
2) جاء في ثنايا التعليق المدبج من لدن رئيس الغرفة الشرعية: "وخلاصة القول، فإن قرار المجلس الأعلى رقم 433 الصادر في 21/9/2010 في الملف عدد 623/6/1/2009 قد بين بشكل واضح أن المتعة لا يحكم بها إلا في حالة الفراق الذي يطلبه الزوج، وهذا هو المعمول به في المذهب المالكي....".مجلة القضاء والقانون، م س، ص: 87.
[21]) الآية 263 من سورة البقرة.
[22]) الآية 241 من سورة البقرة.
[23]) للوقوف على تفاصيل الموضوع يراجع موطأ الإمام مالك، نشر دار الكتاب العربي بيروت ط 1-1331 هـ 4/.88 والدسوقي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير طبعة دار إحياء الكتب العربية، طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه،د.ت. 2/425 والمدونة الكبرى برواية سحنون، طبعة المكتبة الخيرية بالقاهرة 1324 هـ 2/229 وابن رشد الجد "المقدمات الممهدات". 1/549. و "المهذب في فقه الإمام الشافعي" للشيرازي. طبعة دار الفكر بيروت 2/63.
[24] ) أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة. 1/217.
[25]) القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن"، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة . ط.2 ، 1987م ، 3/200.
[26]) الآية 234 من سورة البقرة.
[27]) الآية 240 من سورة البقرة.
[28]) ذات الآية والسورة.
[29]) الشيخ زروق على الرسالة 2/36.
[30]) السرخسي شمس الدين، "المبسوط"، طبعة دار المعرفة، بيروت، لبنان 3/61.
[31]) ابن حزم الأندلسي، "المحلى"، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د ت، 10/245
[32]) ابن تيمية، "الفتاوى"، جمع وترتيب عبد الرحمان بن محمد العاصمي الحنبلي، طبعة مشرقية، د ن 32/27.
[33]) شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي، "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج"، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان نشر المكتبة الإسلامية، (د.ت)، 6/258.
[34]) صحيح البخاري كتاب الطلاق، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم الحديث 5216.
[35]) إن المشرع المغربي في فرضه المتعة لكل مطلقة أخذ بالمذهب الظاهري الذي يأخذ بعموم قوله تعالى:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، الآية 235 من سورة البقرة، فالحق سبحانه إنما أكد على أن للمطلقة قبل المس نصف الفريضة أما المتعة فتستحقها كاملة، قال ابن حزم منتصرا لرأي مذهبه:" المتعة فرض على كل مطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو آخر ثلاث وطئها أو لم يطأها فرض لها صداقا أو لم يفرض لها شيئا..." المحلى طبعة دار الآفاق الجديدة بيروت 10/245. وكان حريا بالمشرع إن أراد تبني مقتضيات الفقه المالكي أن ينص صراحة على وجوب المتعة لكل مطلقة مدخول بها، لكنه لم يفعل، بيد أن القضاء المغربي تبنى أحكام الفقه المالكي استنادا إلى مقتضيات المادة 400 من المدونة مخصصا بذلك الإجمال الوارد في مقتضيات المادة 84 من المدونة، وآخذا بعين الاعتبار أحكام المادة 325 من المدونة التي لا توجب سوى نصف الصداق للمطلقة قبل البناء.
وبالنسبة للقوانين المقارنة فإن القانون الأسري التونسي والمصري والجزائري أوجبوا المتعة للمطلقة المدخول بها متى طلقت بدون رضاها ودون اقترافها لسبب.
وأما المشرع الأردني فقد خوّل تمتيع المطلقة التي لم يسم لها صداق وطلقت قبل الدخول، والمشرع السوري قصر ذلك على المطلقة قبل الدخول والخلوة، والمشرع المغربي لم يبسط كغيره من التقنينات المقارنة القول في موضوع المتعة، إذ لم يفرد للمتعة سوى مقتضى فريد وهي المادة 84 من مدونة الأسرة، وهو حيز قانوني لا يعكس أهمية المتعة الرمزية والقيمية، ولا يحيط بسائر متعلقاتها الفقهية الأمر الذي يفضي إلى إشكالات قضائية حقيقية.
ولا ريب أن التنازع حول موضوع التعليق، أي مدى وجوب المتعة لطالبة التطليق الشقاق من آثار الإرسال والغموض الوارد في صياغة المادة 84 المومأ إليها، وعدم الإحاطة بكليات وجزئيات موضوع المتعة الذي يعد من كبريات المواضيع الأسرية لملامسته الجانب المادي والمعنوي عند المطلقات والمطلقين.
وبالنسبة للقوانين المقارنة فإن القانون الأسري التونسي والمصري والجزائري أوجبوا المتعة للمطلقة المدخول بها متى طلقت بدون رضاها ودون اقترافها لسبب.
وأما المشرع الأردني فقد خوّل تمتيع المطلقة التي لم يسم لها صداق وطلقت قبل الدخول، والمشرع السوري قصر ذلك على المطلقة قبل الدخول والخلوة، والمشرع المغربي لم يبسط كغيره من التقنينات المقارنة القول في موضوع المتعة، إذ لم يفرد للمتعة سوى مقتضى فريد وهي المادة 84 من مدونة الأسرة، وهو حيز قانوني لا يعكس أهمية المتعة الرمزية والقيمية، ولا يحيط بسائر متعلقاتها الفقهية الأمر الذي يفضي إلى إشكالات قضائية حقيقية.
ولا ريب أن التنازع حول موضوع التعليق، أي مدى وجوب المتعة لطالبة التطليق الشقاق من آثار الإرسال والغموض الوارد في صياغة المادة 84 المومأ إليها، وعدم الإحاطة بكليات وجزئيات موضوع المتعة الذي يعد من كبريات المواضيع الأسرية لملامسته الجانب المادي والمعنوي عند المطلقات والمطلقين.
[36]) قرار محكمة النقض عدد 175/2010 وتاريخ 28/1/2009 ملف جنائي عدد 18687/6/10/2008، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 71، ص: 415.
[37] ) حيث قال ما نصه: "يمكن القول بأنه لأول مرة تتاح فرصة للمجلس الأعلى ليبين حالات الحكم بالمتعة في الفراق بين الزوجين، و حالات الحكم بالتعويض لمن يلحقه ضرر من الآخر." مجلة القضاء والقانون العدد السابق ص: 87.
2) مجلة القضاء المدني العدد الثالث السنة الثانية شتاء وربيع 2011 ص: 176 وما يليها. فالمحكمة الابتدائية قضت لطالبة التطليق للشقاق بالمستحقات وأيد حكمها استئنافيا، والمجلس الأعلى لم يعب عليها ذلك، ومن ثمة رفض طلب الطعن بالنقض المؤسس على كون محكمة القرار لم تعلل قرارها القاضي بمنح التعويض للزوج، وكان بإمكان المجلس الأعلى أن يتدخل كما فعل بالنسبة للاجتهاد محل تعليقنا، و ينص في معرض رده على وسيلة الطعن بالنقض المتعلقة بالتعويض على أن الزوجة لا تستحق المتعة وغيرها من المستحقات لكنه لم يفعل، واقتصر على رفض طلب الطعن بالنقض لكون المحكمة بنت سلطتها على الوثائق المستدل بها على ذمة القضية وعلى البحث الذي أجرته النازلة. وانتهت من ثمة إلى مسؤولية الزوجة الكاملة على طلب التطليق للشقاق انطلاقا من تشبت الزوج بزوجته ورفع دعوى الرجوع لبيت الزوجية في مواجهتها وكونها الطرف المصر على التطليق دون سوق أسباب سائغة تطمئن المحكمة إلى صدقها ووجاهتها.
[39]) جاء في نص هذه المادة:" إذا طلب الزوجان أو أحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق، وجب عليها أن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين طبقا لأحكام المادة 82 أعلاه."
[40]) غني عن البيان أن التعويض عن الضرر الناتج عن الطلاق كان مستبعدا تماما في ظل مدونة الأحوال الشخصية، ولم يكن ممكنا الحكم له بصفة مستقلة عن المتعة. للاستزادة يراجع: ربيعة بنغازي، "التطليق للضرر من خلال الاجتهاد القضائي المغربي". أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، كلية الحقوق الرباط، 2000-2001، ص: 342.
[41]) رواه البخاري في الأدب المفرد، الحديث رقم 300، ورواه الترميذي في السنن رقم الحديث 2346 وقال حسن غريب وقال الشيخ الألباني رحمه الله بعد تخريجه الحديث عن جماعة من الصحابة، وبالجملة فالحديث حسن بمجموع حديث الأنصار وابن عمر السلسلة الصحيحة رقم 2318.
[42]) ركن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى هذه العلة عند ردّه على الاستفسارات المثارة أثناء مناقشة مشروع المدونة أمام مجلس النواب، وتعقيبه على الاقتراح المقدم من قبل أحد الفرق البرلمانية الرامي إلى التوسل بلفظ التعويض بدل "المتعة" الواردة في المادة 84 من المدونة، معتبرا أن المتعة هو لفظ قرآني يدل على تكريم المرأة، وهو أوفى بالغرض من لفظ التعويض، فضلا على كون المتعة تحقق أيضا غاية التعويض. وزارة العدل، "المقتضيات الجديدة لمدونة الأسرة"، من خلال أجوبة السيد وزير العدل ووزير الأوقاف عن أسئلة والاستفسارات المثارة أثناء مناقشة مشروع المدونة أمام مجلس البرلمان، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الشروح والدلائل، العدد 4/2004 الطبعة الأولى، ص: 128.
[43]) لأجل كل ذلك طالبت عديد من المنظمات النسوية بأن يكون سن الزوجة من بين المحددات المعتبرة في تحديد المتعة فالنساء المتقدمات في السن ليس بوسعهن الزواج عقب طلاقهن، بخلاف غيرهن ممن هنّ دون السن المذكور. للوقوف على تفاصيل أكثر، يراجع فاطمة سرحان، "المسؤولية والتعويض في مسطرة الشقاق"، مناقشة فكرية وقانونية حول موضوع: "التطليق للنساء"، الجمعية المغربية لمناهضة العنف ضد النساء، 2007 ص: 31. ولعل جعل مدة الزواج ضابطا في التحديد يغني عن اعتبار سن الزوجة أحد الضوابط لدخوله في عداد الضابط الأول، فتراعي المحكمة سن الزوجة ضمنيا عند مراعاة مدة الزواج.
[44]) رغم وضوح هذا الأمر إلا أنه أحيانا يكون محل منازعة، وتأسيسا على ذلك اعتبرت محكمة الاستئناف بمراكش أن مستحقات التطليق للشقاق تحددها المحكمة تلقائيا، ولا تتوقف على تقديم طلب في الموضوع. قرار مؤرخ في فاتح فبراير 2005 ملف شرعي رقم 3955-8-2004. منشور بمؤلف، "التطليق للشقاق في عمل أقسام قضاء الأسرة دراسة توثيقية إحصائية وتحليلية لسبع سنوات من التطبيق"، لعبد الهادي البطاح، ص: 212.
[45]) معلوم أن تأثير فقه الواقع على مقتضيات القانون محدود لا يمكن بحال أن يفضي إلى تغييرها تعديلا أو إلغاءً وإلا انتفت جدوى التشريع وفقدت القاعدة القانونية أبرز خصائصها وهي الإلزام، طالما أن للقاضي سلطة الإعمال والإهمال، فيهدم بذلك مبدأ الأمن القانوني.
فمخالفة النص التشريعي للنصوص الفقهية المعتبرة، واستفحال بعض الظواهر الاجتماعية، واستعمال بعض المساطر بعسف وشطط لا تبرر تعطيل العمل بنص قانوني واضح آمر واجب النفاذ ولو كان لا يحقق المصلحة المؤملة.
فمخالفة النص التشريعي للنصوص الفقهية المعتبرة، واستفحال بعض الظواهر الاجتماعية، واستعمال بعض المساطر بعسف وشطط لا تبرر تعطيل العمل بنص قانوني واضح آمر واجب النفاذ ولو كان لا يحقق المصلحة المؤملة.
[46]) أحيانا يسيئ القضاء استعمال سلطته التقديرية، وأخرى يجعلها موقوفة التنفيذ أو يسندها لغيره، أو يراها تسلب منه جهارا نهارا وتمنح لجهات تنفيذية دون أن يحرك ساكنا أو يسكن متحركا رغم أنه من صميم رسالة النقابات المهنية للقضاة وكذا المجلس الأعلى للقضاء إثارة هذا الأمر ومناقشة سبل تلافيه.
[47]) يرى كثير من الباحثين بأن الجمع بين التعويض والمتعة يعد جمعا بين صفة الدائنية والمدينية، وذلك غير سديد للأسباب التي سقناها. لمزيد تفصيل يراجع على سبيل المثال: عبد الواحد الرحماني، "مسطرة الشقاق في ضوء مدونة الأسرة والعمل القضائي"، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة التكوين والبحث في الأسرة والطفولة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، السنة الجامعية: 2005-2006، ص: 78.
[48]) الآية 234 من سورة البقرة.
[49] ) الترخص معناه طلب الأيسر في كل مذهب، وقد اعتبره الإمام الشاطبي من المفاسد التي تجعل الدين سيالا لا ينضبط فينخرم قانون السياسة الشرعية كونه يؤدي إلى الاضطراب في الأحكام. "الموافقات في أصول الشريعة"، شرح عبد الله دراز، دار الكتب العلمية بيروت. د ت مجلد 2 4/147 و ما بعدها.
[50]) التلفيق معناه انتقاء أحكام فقهية من مذاهب مختلفة لوضع حكم جديد جامع لها، و قد جوزه الإمام العز بن عبد السلام سلطان العلماء، بشرط ألا يتضمن ذلك ما يخالف نصا محكما أو إجماعا صريحا أو قياسا جليا. "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، مؤسسة الريان 2/135.
[51]) هذا الأمر يسري أيضا على النص الشرعي، ولأجله روي في الأثر أن سيدنا علي قال، إن النص القرآني لا ينطق وإنما ينطق به الرجال، يريد المفسرين.
[52]) إن أهمية الأساليب والمحامل والصيغ لا تجحد، وقديما قال الفقهاء آفة الأخبار روايتها،كناية عن أهمية اللغة والأسلوب في التعبير عن الأفكار، ثم إن الإذعان لنسق شكلي وصياغي معين عند تدبيج القرارات القضائية يحول دون الوقوع في فوضى المصطلحات والتسميات ومثل ذلك لا يجوز، لأن مقام الأحكام هو مقام الوضوح، ومقام عقلٍ وضبطٍ للمصطلحات منعا من الوقوع في قادح الإجمال والإرسال والغموض،فتضيع الحقائق وتغمط الحقوق في خضم كل ذلك، وما لذلك جعلت الأحكام، التي تصان بها الحقوق وتحفظ، وتعصم بها الدماء وتحقن.
[53]) إن المشرع المغربي لم يتفرد بإحداث مسطرة الشقاق بل تبنتها قبله عديد من التشريعات الأسرية العربية، كقانون الأحوال الشخصية الأردني بمقتضى المادة 132 منه وقانون الأسرة الجزائري من خلال المادة 53 منه، ولعله اقتبسها منها، رغم أنها كانت عبئا على هذه التشريعات، فلم يعتبر بل لعله تفرد بإرسال هذه المسطرة بلا ضابط مانع من العسف والشطط.
[54]) إذ يكون بوسع الزوجة الحصول ابتداءً على صداق معتبر وانتهاء على مستحقات مجزية حال التطليق، وعلى دخل شهري منتظم حال وجود أبناء، طالما أن على المفارق أداء نفقة أبنائه وأجرة حضانتهم وواجب سكناهم شهريا، وتحل الدولة بمقتضى صندوق التكافل العائلي محل الأب المعدم أو الممتنع في الأداء الدوري لواجب النفقة.
[55]) فكان من أبرز آثار مسطرة الشقاق وبركاتها إعراض العزاب عن خوض تجربة الزواج خوفا من الافتقار إن ووجهوا بهذه المسطرة، وبعضهم أجَّله إلى حين إلغاء أو تعديل النصوص المنظمة لها.
[56]) الأصل في الأطلقة والتطليقات عدم إظهارها بشكل متكرر ومنبلج بما يوحي بشبهة التشجيع عليها، وكذا التنويع والاستكثار منها وجعلها طوع اليمين بحسب الطاقة والوسع، يجد فيها كل مريد أو طالب ما يشتهي، فلا يرجع إلا وقد اختار أحدها سبيلا لإنهاء العلاقة الزوجية، وهذا الأمر له تقنية تشريعية معينة تراعى عند الصياغة، فلا تظهر الاستثناءات أو تُضخم بما يفوق طبيعتها أو تُواري الأصول بما يبخسها حقها في قلب للحقائق وتلبيس بيّن.
[57]) إن منح القاضي سلطة إنشاء قاعدة قانونية دون ضوابط هادية ومرشدة من شأنه أن يفضي إلى انسياق القاضي وراء قناعاته الفقهية والفلسفية والدينية، فيغدو لكل قاض تشريعهُ ويقع تجاوز النص التشريعي الملزم بأدنى نظر وبجرة قلم فتضيع الحقائق في خضم ذلك، ويقع المساس بمبدأ الأمن القانوني.
ثم إن في تخويل القضاء سلطة الإنشاء شبهة اختلاط السلطة التشريعية بالقضائية، وجمعا بين ما لا يجمع.
فلابد والحالة ما ذكر أن تكون القاعدة القانونية معبرة عن الإرادة الشعبية التي تعهد بها الأمة إلى ممثليها في البرلمان وليس إلى القضاة مهما أوتوا علما وتجردا وفقها ووقارا. فالمجتمع يختار ممثليه في البرلمان للتعبير عن إرادته في القوانين، فلا يسوغ أن تحرف بتأويل من أي جهة وتحت أي معاذير، فتأسيس الحكم القضائي على غير نص قانوني، كقواعد العدالة والإنصاف والأخلاق والمنطق يجعل الحكم مؤسسا على شرعية خارجية عامة تتنافى وحسم ووضوح نصوص القانون فيصبح لكل قاض قانونه و مبادؤه، ونقع في محظور تحكم القضاة، الذين يضطرون في أحايين معينة إلى التوسل بهذه المكنة سدا لفراغ تشريعي بيّن، فسلطة الإنشاء لا تعد ترفا أو منّة بل آلية مخولة للقاضي لحسن أداء رسالته، أي لضرورات تحقيق العدالة، فافتقاد التشريع لميزة التوقع والمواكبة يجعل المشرع يتوسل بتقنية التفويض الضمني للقاضي في خلق قواعد قانونية مؤقتة، أو لعلها تحديدا قواعد قضائية، وذلك حال انعدام النص القانوني أو حال نقصه أو غموضه، طالما أنه من المستحيل توقع حوادث مستقبلية والتشريع القبلي لها، فالحق الذي بطبيعته متحرك يصعب تقييده في قاعدة قانونية بطبيعتها جامدة فيعمد المشرع إلى تقنيات تشريعية معينة فيسهل على النص التشريعي مواكبة المستجدات ما أمكن، وبقدر حسن التوفيق بين الثابت والمتحرك يتوقف المشرع في صياغة نص تشريعي سديد.
ثم إن في تخويل القضاء سلطة الإنشاء شبهة اختلاط السلطة التشريعية بالقضائية، وجمعا بين ما لا يجمع.
فلابد والحالة ما ذكر أن تكون القاعدة القانونية معبرة عن الإرادة الشعبية التي تعهد بها الأمة إلى ممثليها في البرلمان وليس إلى القضاة مهما أوتوا علما وتجردا وفقها ووقارا. فالمجتمع يختار ممثليه في البرلمان للتعبير عن إرادته في القوانين، فلا يسوغ أن تحرف بتأويل من أي جهة وتحت أي معاذير، فتأسيس الحكم القضائي على غير نص قانوني، كقواعد العدالة والإنصاف والأخلاق والمنطق يجعل الحكم مؤسسا على شرعية خارجية عامة تتنافى وحسم ووضوح نصوص القانون فيصبح لكل قاض قانونه و مبادؤه، ونقع في محظور تحكم القضاة، الذين يضطرون في أحايين معينة إلى التوسل بهذه المكنة سدا لفراغ تشريعي بيّن، فسلطة الإنشاء لا تعد ترفا أو منّة بل آلية مخولة للقاضي لحسن أداء رسالته، أي لضرورات تحقيق العدالة، فافتقاد التشريع لميزة التوقع والمواكبة يجعل المشرع يتوسل بتقنية التفويض الضمني للقاضي في خلق قواعد قانونية مؤقتة، أو لعلها تحديدا قواعد قضائية، وذلك حال انعدام النص القانوني أو حال نقصه أو غموضه، طالما أنه من المستحيل توقع حوادث مستقبلية والتشريع القبلي لها، فالحق الذي بطبيعته متحرك يصعب تقييده في قاعدة قانونية بطبيعتها جامدة فيعمد المشرع إلى تقنيات تشريعية معينة فيسهل على النص التشريعي مواكبة المستجدات ما أمكن، وبقدر حسن التوفيق بين الثابت والمتحرك يتوقف المشرع في صياغة نص تشريعي سديد.