على بُعد يوم على من الإطلاق المرتقب لاستراتيجية الرقمنة الوطنية 2030 من قبل وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، جاء مؤشر الرقمنة العالمي لعام 2024 كصدمة قوية. فعلى الرغم من الجهود الحكومية. يمكن ملاحظة أن مؤشر الرقمنة العالمي لعام 2024 وضع المغرب في فئة "المبتدئين" بدرجة 34.3، وهو ما يعكس فجوة بين التطلعات والواقع. هذا التصنيف يدعو إلى تسريع الجهود في تحسين البنية التحتية الرقمية، حيث أن التأخر في نشر شبكات الجيل الخامس ومراكز البيانات يمثل عقبة رئيسية أمام تحقيق أهداف الرقمنة.
فتحليل مؤشر الرقمنة العالمي لعام 2024 يوضح أن المغرب يصنف ضمن فئة "المبتدئين" في عملية الرقمنة. فما هي أهم النقط التي تضمنها هذا التقرير؟.
أولا: على مستوى البنية التحتية الرقمية المتأخرة
يشير التقرير إلى أن البنية التحتية الرقمية في المغرب لا تزال غير متطورة بما يكفي لدعم تحول رقمي واسع النطاق، خاصة فيما يتعلق بشبكات الجيل الخامس (5G) ومراكز البيانات. ضعف التغطية العالية السرعة يعد أحد أكبر العوائق أمام تحسين الخدمات الرقمية وتقديم تجربة موحدة للمستخدمين في مختلف مناطق البلاد.
فأحد أكبر التحديات التي يواجهها المغرب هو التغطية غير المتساوية لشبكات الإنترنت ذات السرعة العالية. على الرغم من توفر الإنترنت في المدن الكبرى، لا تزال المناطق الريفية تعاني من نقص شديد في التغطية، ما يجعل جزءاً كبيراً من السكان غير قادر على الاستفادة من الخدمات الرقمية بشكل فعال.
بالإضافة إلى ذلك، تشير البيانات إلى أن نسبة تغطية الألياف البصرية لم تصل إلى المستوى المطلوب لضمان سرعة واتساع التغطية، مما يؤدي إلى فجوة في تجربة المستخدمين بين المناطق الحضرية والريفية. هذا النقص يؤثر على قدرة البلاد على جذب الاستثمارات في القطاعات الرقمية الجديدة أو توفير الخدمات الحكومية الرقمية بشكل فعال.
في الوقت الذي تتسابق فيه الدول المتقدمة والعديد من الدول النامية الأخرى لنشر شبكات الجيل الخامس، لا يزال المغرب متأخراً بشكل ملحوظ في هذا المجال. تقنية الجيل الخامس تعتبر أساسية ليس فقط لتسريع الإنترنت وإنما لدعم العديد من الابتكارات مثل المدن الذكية، السيارات ذاتية القيادة، وتحليل البيانات الضخمة، وهو ما يجعل تأخر نشرها يعوق فرص المغرب في مواكبة التحولات التكنولوجية العالمية.
زيادة على أن البنية التحتية لتخزين ومعالجة البيانات تمثل تحدياً آخر. بحيث يتطلب التحول الرقمي الفعال القدرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات في مراكز بيانات متطورة وقادرة على تلبية متطلبات الحوسبة السحابية. يشير التقرير إلى أن الاستثمار في مراكز البيانات في المغرب لا يزال متواضعاً، مما يضعف قدرة الشركات والمؤسسات الحكومية على تبني حلول رقمية مبتكرة، ويزيد من الاعتماد على المراكز الخارجية لمعالجة البيانات. هذا النقص يضع المغرب في موقف ضعيف مقارنة بالدول الأخرى التي استثمرت بشكل مكثف في هذه البنية الأساسية.
بالإضافة إلى العوائق التقنية، فإن التكاليف المرتفعة للاشتراك في خدمات الإنترنت ذات السرعة العالية، خاصة في المناطق الريفية، تمثل حاجزاً آخر. حيث تشير البيانات إلى أن تكلفة الإنترنت في المغرب مرتفعة نسبياً مقارنة بالدخل الفردي، مما يجعل الوصول إلى الخدمات الرقمية محدوداً للكثير من الفئات الاجتماعية.
ثانيا: على مستوى التأخر في استخدام الذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء
يسلط التقرير الضوء على عدم وجود خطة واضحة ومتكاملة لدمج الذكاء الاصطناعي في الاستراتيجية الرقمية الوطنية. في الوقت الذي تتجه فيه الدول الرائدة نحو تقنيات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، يبدو أن المغرب لم يستفد بعد بشكل كامل من هذه الفرص، ما يؤثر سلباً على سرعة التحول الرقمي.
فالتأخر في استخدام الذكاء الاصطناعي (AI) والطاقة الخضراء في المغرب هو أحد الجوانب الرئيسية التي سلط عليها مؤشر الرقمنة العالمي لعام 2024 الضوء كعائق أمام التحول الرقمي الشامل. يعتبر كلا العنصرين ضروريين لتحقيق تحول رقمي مستدام وشامل في مختلف القطاعات.
ففي الدول التي تتصدر مؤشرات الرقمنة، يمثل الذكاء الاصطناعي حجر الأساس في العديد من العمليات الرقمية المتقدمة مثل تحليل البيانات الضخمة، الأتمتة الذكية، والتعلم الآلي. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز الكفاءة في مجموعة متنوعة من المجالات مثل الصحة، التعليم، الزراعة، والصناعة، بالإضافة إلى كونه محركاً رئيسياً للابتكار الاقتصادي. ومع ذلك، يعاني المغرب من غياب واضح لخطة وطنية متكاملة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات. في الوقت الذي تستثمر فيه دول أخرى في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي وتطوير المواهب والخوارزميات المتقدمة، يظل المغرب في مرحلة أولية حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل محدود في بعض القطاعات مثل البنوك والتجارة الإلكترونية.
زيادة على ذلك، يعتمد التحول الرقمي بشكل متزايد على استخدام الطاقة الخضراء بسبب الحاجة إلى تقليل البصمة الكربونية الناجمة عن مراكز البيانات والتقنيات الرقمية مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. تتطلب هذه التكنولوجيا الحديثة كميات هائلة من الطاقة، مما يجعل التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة ضرورة لضمان التنمية المستدامة.
فعلى الرغم من أن المغرب قد حقق خطوات كبيرة في مجال الطاقة المتجددة، خاصة من خلال مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح (مثل مشروع نور للطاقة الشمسية في ورزازات)، إلا أن التكامل بين هذه الطاقات النظيفة والتحول الرقمي لا يزال ضعيفًا. التقرير يشير إلى غياب خطط واضحة تربط بين التحول الرقمي واستخدام الطاقة الخضراء لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة من القطاعات الرقمية
إن التأخر في دمج الطاقة الخضراء بشكل أكبر في القطاعات الرقمية يمثل فرصة ضائعة أخرى. فاستخدام الطاقة المتجددة لتشغيل مراكز البيانات والبنية التحتية الرقمية يمكن أن يقلل بشكل كبير من التكاليف البيئية والاقتصادية على المدى الطويل، ويساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
على سبيل المثال، في دول أخرى مثل الدنمارك وفنلندا، يتم تشغيل مراكز البيانات الكبيرة بالطاقة المتجددة، مما يساعد هذه الدول على تحقيق التزاماتها بخفض الانبعاثات الكربونية ويمنحها ميزة تنافسية في السوق الرقمي العالمي. يمكن للمغرب أن يستفيد من إمكانياته الكبيرة في الطاقة المتجددة لدعم التحول الرقمي وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
ثالثا: على مستوى الموارد البشرية والكفاءات
يشير التقرير إلى وجود فجوة واضحة بين الإمكانيات البشرية المتاحة وحجم الاستفادة الفعلية منها في دعم التحول الرقمي. حيث يظهر التقرير مجموعة من التحديات والفرص المرتبطة بالموارد البشرية والكفاءات في المغرب، والتي تؤثر بشكل مباشر على قدرة البلاد على تحقيق الأهداف الرقمية والطموحات الاقتصادية.
إذ يتميز المغرب بقدرة على إنتاج عدد كبير من الخريجين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، وهي الكفاءات الأساسية التي تحتاجها أي دولة لدعم التحول الرقمي. الجامعات والمعاهد التقنية المغربية توفر برامج قوية في هذه التخصصات، وهو ما يخلق قاعدة قوية من الكفاءات الشبابية القادرة على المساهمة في بناء اقتصاد رقمي متقدم.
وعلى الرغم من أن المغرب ينتج عددًا كبيرًا من خريجي STEM، إلا أن نسبة تحويل هؤلاء الخريجين إلى محترفين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) لا تزال منخفضة. هذا يعني أن هناك فجوة بين التعليم النظري والتطبيق العملي في سوق العمل. أسباب هذا التحول الضعيف يمكن أن تشمل عدم وجود برامج تدريبية أو تأهيلية مهنية كافية، بالإضافة إلى نقص في الفرص الوظيفية المحلية التي تلبي طموحات هؤلاء الخريجين.
كما أن أحد أبرز التحديات التي يواجهها المغرب هو "هجرة العقول"، حيث يضطر العديد من الخريجين الشباب إلى البحث عن فرص عمل في الخارج بسبب نقص الفرص المناسبة في السوق المحلية. هذا يؤدي إلى فقدان البلاد لكفاءات عالية في مجال التكنولوجيا والرقمنة، مما يعمق الفجوة بين الموارد البشرية المتاحة محليًا والحاجة المتزايدة إلى مهنيين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة.
فالهجرة إلى الخارج تحرم المغرب من فرص الاستفادة من خبرات هؤلاء الشباب في مجالات الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، وتحليل البيانات، وهي مجالات أساسية لبناء اقتصاد رقمي قوي.
خلاصة القول، يواجه المغرب تحديات كبيرة في استغلال موارده البشرية والكفاءات المتخصصة في مجال الرقمنة. على الرغم من توفر قاعدة واسعة من خريجي STEM، إلا أن ضعف التحول إلى محترفين في تكنولوجيا المعلومات وهجرة العقول تؤدي إلى إهدار فرص كبيرة في تحقيق التحول الرقمي. بالإضافة إلى ذلك، يعاني المغرب من غياب بيئة محفزة تدعم تطوير المهارات الرقمية وتعزز الابتكار.
لتجاوز هذه التحديات، يحتاج المغرب إلى استثمارات استراتيجية في البنية التحتية الرقمية، وتحفيز قطاع التكنولوجيا من خلال دعم الشركات الناشئة وتقديم حوافز للابتكار. كما يجب تحسين الروابط بين التعليم وسوق العمل من خلال برامج تدريبية مهنية تركز على المهارات الرقمية الحديثة. إذا تم تطبيق هذه الإجراءات، يمكن للمغرب بناء قاعدة قوية من المهنيين الرقميين، وتعزيز موقعه في الاقتصاد الرقمي العالمي، وتحقيق تنمية مستدامة قائمة على التكنولوجيا.
ففي ظل اقتراب إطلاق الاستراتيجية الوطنية لسنة 2030، يُلقي هذا التقرير بظلاله على الطموحات الحكومية. بدون استجابة سريعة، قد يجد المغرب نفسه عالقاً في دوامة من التأخر الرقمي، في وقت تسارع فيه الدول الناشئة الأخرى نحو تحول رقمي مستدام.