نسخة للتحميل
إن الهدف الأسمى الذي جاء من أجله القانون، هو حماية المجتمع من الإنحراف، ومنع التعدي على حقوق الآخرين، وهو الهدف نفسه الذي يسعى المشرع إلى تكريسه وذلك من خلال إصدار مجموعة من المقتضيات القانونية قصد تقنين حقل قانوني معين.
من بين هذه الحقول القانونية، نجد الحقل الاجتماعي وما يطرحه لنا من إشكالات سواء على مستوى النص القانوني أو على مستوى الواقع العملي، إذ كانت أولى محاولات المشرع المغربي تقنين هذا المجال بارزة إثر إخراجه لمدونة الشغل لحيز الوجود بعد أن تأكدت لديه حتمية إصدار القانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل في 11 شتنبر 2003، بحيث كان هذا المجال محكوما فيما قبل بقواعد الفقه الإسلامي والأعراف والظهائر إبان فترة الحماية، الشيء الذي عكس سلبا على حسن تقنين هذا المجال.
إن حساسية المجال الاجتماعي اضطر من خلالها المشرع المغربي إلى تحريك ترسانته القانونية للحيلولة دون نشوب نزاعات بين الأجير والمشغل وذلك لما لهاذين الأخيرين مصالح مختلفة ومتداخلة وكل يسعى لتحقيقها، الشيء الذي دفع بالمشرع المغربي إلى تنظيم هذه العلاقة وخلق آليات قانونية لإيجاد حلول للنزاعات المحتملة قبل اللجوء إلى القضاء، وهذا الأخير يكون ملاذا حين فشل هذه الآليات في تحقيق مرادها وهو حل النزاع القائم بين الأجير والمشغل.
لقد عرف لنا المشرع المغربي نزاعات الشغل من خلال المادة 549 من مدونة الشغل بأنها كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل، و التي يكون أحد أطرافها منظمة نقابية للأجراء أو جماعة من الأجراء، ويكون هدفها الدفاع عن مصالح جماعية، مهنية، لهؤلاء الأجراء، كما تعد نزاعات الشغل الجماعية كذلك كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل و التي يكون أحد أطرافها مشغل واحد، أو عدة مشغلين،أو منظمة مهنية للمشغلين أو منظمة مهنية للمشغلين المعنيين.
نظرا للآثار السلبية التي تنجم عن هذه النزاعات سواء على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي، كان من الضروري إحداث آليات ووسائل بديلة عن القضاء لإيجاد حلول سلمية للخلافات التي تنشأ بين الأجراء وأرباب العمل، ربحا للوقت من جهة ومن جهة ثانية تفاديا لتعقيد العلاقة بين طرفي النزاع، أو انتهائها بضرر لأحد الطرفين.
• فأين يتجلى دور جهاز مفتشية الشغل في فض النزاعات الناشئة عن عقد الشغل ؟
إلماما منا لمعالجة هذه الإشكالية، وعلى ضوء الندوة العلمية الوطنية في موضوع ''الوسائل البديلة لفض المنازعات وأثرها على حفظ مصالح الطرف الضعيف في عقد الشغل'' المنظمة من طرف كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية أيت ملول، إرتأينا تقسيم هذا الموضوع وفق التصميم المومأ إليه أسفله:
المطلب الأول: دور مفتشية الشغل في حل منازعات الشغل.
المطلب الثاني: فعالية تدخل مفتش الشغل في حل النزاعات الجماعية.
المطلب الأول: دور مفتشية الشغل في حل منازعات الشغل
باستقراء المادة 551 من مدونة الشغل، نجد أنها قد أشارت لعدة مستويات للمصالحة، وقد أوكل المشرع المغربي، على غرار مجموعة من القوانين المقارنة ، مهمة المصالحة إلى هيئات متعددة بالنظر إلى رقعة النزاع، فإذا كان الخلاف يشمل أكثر من مقاولة، فإن محاولة التصالح أمام المندوب الإقليمي المكلف بالشغل، أما إذا كان النزاع يشمل مقاولة واحدة فإن محاولة التصالح تجرى أمام العون المكلف بتفتيش الشغل.
بالنسبة لنزاعات الشغل الجماعية، فإن ظهير 19 يناير 1946 الملغى المنظم لمسطرة المصالحة والتحكيم، لا يسند لعون تفتيش الشغل مهمة المصالحة بالنسبة للنزاعات الجماعية، لكن الواقع العملي أبان عن مدى مساهمة تدخل مفتش الشغل في التقليل من عدد النزاعات الجماعية، والحد من إغلاق المؤسسات وكذا توقيف الإضرابات ، التي لا تخدم الاقتصاد الوطني .
فالنزاعات الجماعية هي كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل والتي يكون أحد أطرافها مشغل واحد، أو عدة مشغلين، يكون هدفها الدفاع عن مصالح المشغل أو المشغلين أو المنظمة للمشغلين المعنيين ،وتعتبر نزاعات الشغل الجماعية من أصعب النزاعات التي تعرفها علاقات الشغل، الأمر الذي يفرض التعامل معها بحذر ومرونة تفاديا لما يمكن أن يترتب عنها من انعكاسات سلبية على أطراف العلاقة الإنتاجية ،فهي نتيجة حتمية لتعارض المصالح بين الأجراء الذين يربون في تحقيق مطالبهم والدفاع عنها والمشغل الذي يطمح إلى المحافظة على دوره القيادي في تسيير المؤسسة .
من هنا أضحى تدخل جهاز مفتش الشغل في النزاعات الجماعية منصوص عليه بمقتضى مدونة الشغل.
يكتسي تعريف نزاعات الشغل الجماعية أهمية كبرى، لكونه مرتبط بأنماط وآليات فض النزاعات ولا يكفي كون النزاع جماعيا، إلا اذا استجمع شرطين أساسيين، ويتعلق الأمر بموضوع النزاع وأطرافه، فإذا كان الفقه في جمهوره يتفق على أن النزاع الجماعي هو ذلك الذي يجمع بين مشغل واحد أو مجموعة من المشغلين من جهة، وبين أجراء أو فريق منهم من جهة ثانية، فإن هذا الإجماع لايحسم الجدل حول ما إذا كان جانب الأجراء يجب أن يكون منظما قانونيا، أم يكفي أن يكون منظما تنظيما فعليا فقط، وبمعنى آخر اختلف الفقه حول ما إذا كان يجب انضمام الأجراء إلى نقابة مهنية حتى يكونو طرفا في النزاع الجماعي، أو أن هذا الشرط غير ضروري لاضفاء صفة الجماعي على ماقد يثار بينهم وبين مشغليهم من نزاعات.
فإذا كان تدخل مفتش الشغل في حل خلافات الشغل الفردية، فعالا رغم عدم وجود نص تشريعي يخوله ذلك، وكذا الانتقادات الموجهة في هذا الإطار، فإن فشل الطرق القانونية التقليدية لتسوية النزاعات الشغل الجماعية وعدم نجاعتها، دفع بالفرقاء الاجتماعيين إلى اعتماد وسائل بديلة، آخذين بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمعطيات الاجتماعية للسماح بتدخل مفتشية الشغل مرة ثانية لتسوية هذه النزاعات .
ومن مبررات تدخل مفتشية الشغل بحيث لم يخول له المشرع أي دور لتسوية خلافات الشغل الجماعية، من مبرراته فرض الواقع لهذا التدخل من خلال الممارسة اليومية لعملية المراقبة كما في نزاعات الشغل الفردية، بحيث يلعب مفتش الشغل دورا هاما في تسوية النزاعات الجماعية من خلال العمل على تقارب وجهات النظر، وذلك بوضع حد للخلاف أو على الأقل إيجاد نوع من الرضى فيما يتعلق ببعض نقط الخلاف ، بالنظر إلى الخصائص التي يتميز بها مفتشو الشغل واحتكاكهم اليومي بالأجراء ومشاكلهم، وهذا ما يؤهلهم أكثر للوقوف على ماهية النزاع .
هكذا وانطلاقا من مقتضيات المادة 551 من مدونة الشغل، فإن كل خلاف بين الشغل، من شأنه أن يؤدي إلى نزاع جماعي، يكون موضوع محاولة للتصالح، تتم حسب حجم ومستوى النزاع الجماعي، إما أمام العون المكلف بتفتيش الشغل أو أمام المندوب المكلف بالشغل لدى العمالة أو الإقليم، أو أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة ، أو أمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة.
ويمكن القول أن مفتشي الشغل قد نجحوا نسبيا في تخفيف العبء عن القضاء، وذلك بحل النزاع قبل أخذه أشكال أخرى وكذا قدرته على ثني الأطراف عن الدخول في نزاعات الشغل الفردية، بل حتى في نزاعات الشغل الجماعية التي صار أعوان التفتيش يعتبرون تدخلهم لتفاديها أو حلها عند نشوبها، من الاختصاصات الجوهرية في وظيفتهم، وإن كان ذلك بدون سند قانوني.
وقد جرت العادة وكما هو الحال بالنسبة لخلافات الشغل الفردية أن تعرض كل النزاعات الجماعية على مفتشية الشغل بالرغم من عدم اختصاصها، إما بطلب من مندوبي العمال أو النقابات أو بطلب من أرباب العمل .
المطلب الثاني : فعالية تدخل مفتش الشغل في حل النزاعات الجماعية.
تعتبر تسوية النزاعات المهنية على يد مفتشية الشغل من المواضيع التي أثارت وما تزال تثير جدلا ونقاشا، دون التوصل إلى الحسم نهائيا بين مساندي ومعارضي فكرة قيام هذا العون بدور المصالحة .
فبخصوص فعالية مفتشية الشغل في هذا الإتجاه، سنخصص النقطة الأولى المتمثلة في الفعالية من خلال خصوصيات مفتشية الشغل (الفقرة الأولى)، بنما
نشير لفعالية مفتشية الشغل من خلال الإحصائيات الرسمية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الفعالية من خلال خصوصيات مفتشية الشغل.
يلعب مفتش الشغل دورا مهما في تسوية نزاعات الشغل الجماعية من خلال العمل على إيجاد تقارب لوجهات النظر، وذلك بوضع حد للخلاف أو على الأقل إيجاد نوع من الرضى فيما يتعلق ببعض نقط الخلاف، بالنظر إلى الخصائص التي يتميز بها مفتشوا الشغل واحتكاكهم اليومي بالأجراء ومشاكلهم، وهذا ما يؤهلهم أكثر للوقوف على ماهية النزاع وحقيقته، وبالتالي محاولة التوصيل إلى جانب الأطراف لإيجاد حل للنزاع المطروح .
وتبرز أهمية الدور الذي تقوم به مفتشية الشغل من خلال لجوء الأطراف إليها خاصة وان المصالحة التي تتم أمامها تبقى بعيدة عن أية شكليات أو مساطر خاضعة لقوانين معينة، لذلك فالأطراف يحبذون الابتعاد عن كل ما هو إداري ومقنن بحيث يمكن أن يفرض عليهم حلولا لا تناسب مطالبهم، فالمفتش حين يقوم بدور المصالحة يقوم به انطلاقا من المؤهلات التي اكتسبها من ممارسته اليومية لسلطاته ومن تجارب المفتشين الذين سبقوه في ممارستهم لهذه الوظيفة حتى أصبحت عرفا بينهم، فوجوده داخل الصراع اليومي لأطراف العلاقة الشغلية، يجعله ذو كفاءة وقدرة على التوصل إلى حقيقة النزاع والحلول الممكنة سواء لحله أو لتفاديه، إذ ما عرض عليه النزاع قبل اندلاعه .
ومما يزكي هذا الدور الفعال لمفتش الشغل تواجده باستمرار رهن إشارة الأطراف وإمكانية الإتصال به بكيفية مباشرة وسريعة، إضافة إلى الثقة التي يضعها فيه الأطراف انطلاقا من واجب الحياد والإستقلال وكذا المحافظة على أسرار المهنة، فالملاحظ أن أرباب العمل يفضلون اللجوء إلى مفتش الشغل حفاظا على سمعة مؤسساتهم وأسرارها ومناقشة مشاكلهم ونزاعاتهم مع أجرائهم في إطار من السرية والكتمان .
الفقرة الثانية: الفعالية من خلال الإحصائيات الرسمية.
إن دور جهاز تفتيش الشغل في الحفاظ على السلم الإجتماعي، وفي إقرار الحقوق الأساسية للآلاف من العمال من ضمان اجتماعي وبطاقات الشغل وأجور ووسائل الوقاية والسلامة، دور مهم لكنه مجهول لدى الرأي العام، فنسبة الإضرابات التي يتم تفاديها عن طريق تدخل جهاز التفتيش تتجاوز بكثير تلك التي يتم خوضها، ليساهم بذلك في تحقيق التوازن الإجتماعين وتطوير القانون الخاص بتشريع الشغل، حيث يتمكن وبنجاح من تدبير وحل ثلثي النزاعات الجماعية المسجلة سلميا، دون لجوء العمال إلى شن الإضراب عن العمل، وعليه فإنه خلال التسعينات يمكن تسجيل الإحصائيات التالية:
(1990-2000)
العدد الإجمالي للنزاعات العدد الإجمالي للعمال العمال المضربون المعدل السنوي للنزاعات فالمائة
النزاعات الإجمالية 15093 1331473 - 1367 -
الإضرابات المجتنبة 10983 781132 - 998 73
الإضرابات المسجلة 4056 550341 323274 368 27
يتضح من خلال هذا الجدول أنه تمت تسوية نسبة 73 فالمائة من النزاعات التي لم تتحول إلى الإضراب في حين أن النزاعات التي وصلت إلى التوقف عن العمل بلغت فقط 27 فالمائة .
وقد أكد وزير التشغيل بخصوص النزاعات الجماعية ، ''... أوضح خلال جلسة الأسئلة الشفهية بمجلس المستشارين، عشية يوم الثلاثاء فاتح دجنبر2020، أنه تم تفادي 1525 إضرابا في 1300 مؤسسة التي يشتغل بها ما مجموعه 160122 أجيرا، مضيفا أنه تم خلال الثلاثة أشهر الأولى من سنة 2020 إبرام 06 اتفاقيات جماعية للشغل'' .
إن ما ينبغي التأكيد عليه، هو أن مفتش الشغل لعب دورا مهما وإيجابيا في استقرار السلم الإجتماعي، وتطوير التنمية الإقتصادية وضمان استمرارية المقاولة، حيث كان يقوم بمهمة المصالحة عرفيا، ودون أي سند قانوني، إلى أن جاءت مدونة الشغل ونصت صراحة على ذلك. لذلك حاولنا في هذا البحث المتواضع أن نحيط علما جميع الجوانب الإشكالية في هذا الموضوع، مبينين الدور الهام لمفتش الشغل في فض النزاعات الناشئة عن عقود الشغل.